|
البوشية وتحطيم الديمقراطية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2545 - 2009 / 2 / 2 - 08:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في حين كانت الديمقراطية ونشرها الإيديولوجية المشرعة لسياسة إدارة بوش في "الشرق الأوسط"، صغيرا أو جديدا أو واسعا، فإن الحصيلة العملية كانت إضعافا خطيرا للقوى الديمقراطية والفكرة الديمقراطية بالذات في العالم العربي، أعادها ثلاثة عقود إلى الوراء على الأقل، أي إلى أيام ما كانت تحاول إثبات شرعيتها في مواجهة سلطات دكتاتورية وإيديولوجيات شمولية. جرى ذلك بطريقتين. أولا عبر اتكالها الواسع على القوة الأميركية الخام وثقتها بالوسائل العسكرية لحل المشكلات السياسية المعقدة وانزلاقها إلى ضرب من العداء "الحضاري" للعالم الإسلامي..، ما تجلى في احتلالها للعراق وقبله أفغانستان ومثابرتها على دعم متطرف للكيان الإسرائيلي، عبر ذلك كله تسببت في حفز استنفار ثقافي وسياسي في مجتمعاتنا، مضاد للغرب أو مشكك فيه على الأقل وفي كل ما يأتي منه، وأضعفت بالحركة ذاتها نوازع النقد والإصلاح الذاتي فيها. وكمجمل عام، يمكن القول إن العدوانية الأميركية (والإسرائيلية في ركابها) دفعت "المسألة الوطنية" إلى الصدارة و"المسألة الديمقراطية" إلى الخلف. ولم يخفف توسل إدارة بوش للديمقراطية من هذا الأثر، بل إنه أساء إلى سمعة الفكرة ودعاتها، ودفع إلى المطابقة بين التسلطية والوطنية. وتسبب الوضع العراقيى بعد الاحتلال الأميركي، وما مثله من اندلاع فاحش للعنف ومن نزاع طائفي متفجر، في إثارة خوف عام من التغيير في المشرق، وخشية منتشرة من أن تكون الديمقراطية بابا للفوضى وعدم الاستقرار. ولعل هذا المعطى يندرج ضمن "قانون عام" يزيد عمره على قرن ونصف في المشرق، ويقضي بأن الحضور الكثيف لجرم سياسي خارجي كبير يتسبب في زلازل في بنى مجتمعاتنا، تتظاهر ترجيحا في انشقاقات طائفية قد تتفجر حروبا أهلية. وتمثلت أولى حصائل تظاهر هذا القانون اليوم في تغذية النزوع المحافظ السياسي والثقافي، وتعميم الخشية من أن يفضي التغيير إلى تمزق طائفي لبلداننا. وفي المقام الثاني جنحت إدارة بوش في الداخل الأميركي بالذات نحو سياسات أمنية متشددة، تضعف الضمانات القانونية الحامية للمواطنين الأميركيين أنفسهم، فضلا عن المقيمين والزائرين. وانزلقت نحو ممارسات قمعية فظة لا تختلف كثيرا عما يؤخذ على أنظمة عربية موصوفة بحق بالدكتاتورية، مثل سجن غوانتانامو وسجون سرية للمخابرات الأميركية تمارس فيها صنوف مروعة من التعذيب. كل ذلك أتى على القيمة المعيارية للنموذج الديمقراطي، المتمثل في الولايات المتحدة أكثر من غيرها، فأضعف جاذبيته وقلل طاقته الهيمنية. والمفارقة أنه في الوقت الذي كانت إدارة بوش تعلن تعهدها بتصدير الديمقراطية كان ما لديها منها يتدنى إلى حضيض ربما ينحدر حتى عن أيام المكارثية قبل أكثر من خمسين عاما. والواقع أنه قبل أن تعمل البوشية على فرض "التغيير من الخارج" في منطقتنا عملت بجد على فرض التغيير من الخارج في أميركا بالذات. أعني على إضعاف تماسك المؤسسات الديمقراطية الأميركية، وفرض منطق إيديولوجي وسياسي غريب عليها نسبيا (لكن له أصول في بنية الثقافة والمجتمع الأميركيين)، منطق تيارات إيديولوجية متعصبة وانقلابية مثل "المحافظين الجدد" ومجموعات من المسيحيين الإنجيليين الأصوليين. لقد كانت المحافظية الجديدة تحديدا بمثابة "وعي منقول من الخارج" إلى المؤسسات الأميركية، مستفيدا من تدني مناعتها وزيادة حساسيتها وهشاشتها إثر هجمات أيلول 2001 الإرهابية. كل ذلك أسهم في تحويل الديمقراطية إلى إيديولوجية بأتم معنى للكلمة، فكرة منفصلة عن العمليات الواقعية تموّه حقيقة ما يجري. وما نريد ترتيبه على ذلك هو أن رئيسا سيئا للأميركيين أنفسهم يصعب أن يكون رئيسا جيدا لغيرهم. أو لنقل إنه إذا كان بوش كارثة علينا، فقد كان سيئا على بلده قبلنا. لكن هل يعني ذلك أن رئيسا جيدا للأميركيين، قد يكونه أوباما، هو جيد لنا؟ هذا ليس ضروريا. ذلك أن الأمر "علائقي"، يتصل بضروب تفاعلنا مع السياسة الأميركية وضغوطنا عليها ومقاوماتنا لها. وكان يمكن للسياسات البوشية بالذات أن تكون أقل سوءا لو تطورت عندنا سياسات من شأنها تغرّم الأميركيين جزاء تجاوزهم أصولا نعتبرها أساسية. فلن يراعيك أحد إن كانت مراعاتك وعدمها سيان. وهذا المبدأ العام جدا ينطبق على إدارة أوباما طبعا. لكن، من جهة أخرى، ثمة عداء أميركي للعرب، متعدد الطبقات والأصول، تشكل في بنى شعورية وثقافية راسخة، بحيث قد يقتضي الأمر سنوات طوالا، عقودا، لمعاكسة المفعول السياسي لهذه البنى حتى لو تطورت الآن سياسات عربية موفقة جدا. ويتعزز تأثير هذه البنى عبر الاعتناق الأميركي لإسرائيل، وجودا وأمنا وتفوقا وازدهارا، وقد أضحى بند إيمان ثابت للسياسيين الأميركيين الطامحين. ونتكلم على اعتناق وبنى ثقافية متأصلة للقول إن في العلاقة الأميركية الإسرائيلية عنصر ديني، مضاد للديمقراطية والعقلانية معا. فلا تكاد تؤثر عليه تقلبات الرأي العام ولا الحجج والبراهين العقلية. وهذا أيضا يقيد إدارة أوباما مثل غيرها. على أنه لا شك أن استرخاء الأوضاع العالمية والتوقف عن القرع المثير للأعصاب لطبول الحرب وتراجع العناصر الإيديولوجية في توجيه السياسة الأميركية، قد يؤهل شروطا أنسب لتفاعلات سياسية سلمية، وربما لانكفاء الجيوسياسي (الذي يقترن صعوده دوما، عندنا وعند غيرنا، مع صعود التنظميات والإيديولوجيات الأمنية). ومع أن هذا لا يعني عودة تلقائية، وإن تدريجية، إلى أولوية الشأن الداخلي في بلداننا، الشأن الذي قد نتذكر أنه كان ثانويا وهامشيا قبل بوش والبوشية، إلا أن الضرر الهائل الذي تسببت فيه البوشية والمتمثل في دفع قطاعات مهمة من الجمهور الناشط إلى جانب سلطات وعقائد الأمن الوطني، وتسويغ المصادرة التامة للداخل على مذبح ما يفترض أنها "مسألة وطنية"؛ أقول هذا الضرر ربما يخف قليلا. لا يفوتنا القول إن البوشية (وقد استخدمنا العبارة هنا بمعنى واسع، يحيل إلى جملة السياسات الأميركية في منطقتنا في ظل إدارة بوش) ربما تكون ساهمت في كشف فقر التفكير الديمقراطي في العالم العربي، وبالتحديد افتقاره إلى تصر نموذج ديمقراطي ممكن في مجتمعات متعددة الأديان والطوائف. هذه مسألة كبيرة ومفتوحة لمزيد من الوقت والتفكير.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراع الوجودي والصراع العدمي
-
ما وراء -كي الوعي- وما تحت الوعي المكوي
-
في نقد لبنان.. خواطر في شأن بيروت والثقافة والحرية
-
أنهاية الردعية الإسرائيلية؟!
-
كسر حالة اللابديل... فلسطينياً وعربياً
-
.. لكن أين يوجد -العرب-؟!
-
بلى، هناك بديل فلسطيني!
-
قضية عدالة جوهرية، لا تتقادم ولا تستلب
-
مشروع لقتل الناس جميعا!
-
حماس وعبّاس والشيطان
-
في الطائفية والهيمنة والمعرفة السياسية
-
الثقافة والطائفية: شروط إمكان دراسة نقدية
-
الزيدي وبوش والحذاء...سخرية في بطن سخرية!
-
إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
-
في نقد تصور الوطنية القومي العربي
-
بصدد -الأخلاقوية- و-الحضاروية- و.. السياسة
-
ضد إدراج حقوق الإنسان في أجندة العلاقات بين الدول
-
وجهان لدينامية الصراع العربي الإسرائيلي
-
لا حل إسلاميا للمشكلة الطائفية
-
أي نقد للقومية العربية؟
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|