|
زفاف في معبد وثني .......................... قصة قصيرة
أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2545 - 2009 / 2 / 2 - 04:16
المحور:
الادب والفن
النزيل : مِن أيّ النوافذ تريدُ أن تمسك بخيوط الأمل ، وكلّ النوافذ مغلقة بأقفال الخوفِ ، وموصدة بسلاسل الرعب ؟ ومِن حولكَ عساكر مدججّة بالسلاح والمال ، وأنتَ تنوص وحدك هنا ، لا تملكُ حتى وسيلة الانتحار لتـتخـلصَ من نيران عذابـك وعـفـونة جراحك وقسوةِ المرض عليك . قلتَ لهم : أعترفُ بكلّ شيء ، رغم أنك لا تملك ما تعترف عليه . ما مارستَ السياسة يوما ، ولا عرفتَ ألاعيبها ، ولا خضتَ غمارها ، ولا شاركتَ في انقلاب أو مؤامرة ، فبما ذا تعترف ؟ كنتَ تقوم بدور البطل ، وأنتَ جرو صغير لم تتعودْ على النباح في الوقت المناسب بعد ، استهوتكَ شهوة الخطاب ، ونزوة الكلمات التي تختبئُ وراءها ، وتتلاعبُ بجدائلها ، دون أن تعرف أنّ المرصدَ يلتقطُ حتى أنفاس المسلولين ولهاث الخائفين ، فكيفَ وأنتَ تتحدثُ بهذه المباهاة ، مغروراً بسحر الكلمات ، لتوهم الآخرين ، أنكّ القادر على تغيير خارطة الكون ، وخلق المعجزات ، في عالم لا يملك غير دهاليز الدهاء ، وأروقة المكر ، وأنفاق المغامرة ؟ في ساعات الغفلة التي أكلتْ رأسك ، قلتَ ذات أمسية لثـّلة من الرؤوس الموبوءة بحبّ بريق الحرف : ( البئر الذي يتغوط الانتهازيون فيه ، لا يمنحكم ماءً زلالاً ) . وقبل أن تدخلَ زنزانتك هذه ، قرأ المحققُ ما قلته ، وقد أخذتكَ الصاعقة وأنتَ المنسوج من خيوط أوهى من خيوط العنكبوت . الهواءُ المحتبس ُ في رئتيـكَ بدأ يفسدُ ، يتعـفنُ ، يتحولُ إلى غيوم لا تمطر غير القنوط واليأس ، وأنتَ ماذا تفعلُ في زنزانتك المخيفة ؟ . مهشّمٌ أنتّ حد الموت ، متداعي لدرجة الذوبان ، متآكل من العظم إلى العظم . لَـمْ تأخذ بنصيحة من علمّك : ( إنّ السكوتَ من ذهب ) . فلمْ تقـفلْ فـمكَ ، وتردمْ منابع تفكيرك ، وتذبح نوازعك على صخرة الصمت ، كانت الكلمات تنزلقُ من فمـكَ وهي تحملُ نهايتكَ دون أن تفقهَ شيئا ممّا يدور حولك . كنتَ تهمسُ في أذن من تلاقيه : ( الحرية أغلى من الخبز ، لأنها تمنحه درجة الارتقاء إلى قمّة إنسانيته ) . وكانت الآذان التي يدخلها هذيانكَ ، تدركُ ذلك أكثر منك ، لكّـنها لم تمنحْـكَ إشارة ما ، لأنها تعرفُ أنّ محيط الخوف الغارقة فيه ، يحيلُ الحياة إلى بالوعات طافحة بالماء الآسن ، لا يجيد السباحة فيها إلا قراصنة الانحطاط . وأنتَ في قبركَ هذا ، لا فرق بين أن تنهشَ جلدَ الأرض الإسمنتية الرطبة ، أو جلدكَ ، فكلاهما توحّدا في جنس واحد . قد يختلفان في طبيعة الإحساس ، ربمّا الأرض تئنّ ، تتوجَعُ عندما تغرسُ أضافركَ في جلدها ، مثلما أنتَ الآن تصرخُ ، تتألمُ عندما يسيحُ القيح بفعل أضافرك . ذات صباح ، ارتفعَ صوتُ بابَ السجن ، انتابكَ إحساس غامض ، فلم يتعودْ قبركَ هذا الصوت ، وفي مثل هذا الوقت ، بدأ وهمُ الفرج يلوحُ لكَ من بعيد ، لعلهم عرفوا حقيقة ما أنتَ فيه ، وما كنتَ عليه ، والأسباب التي من أجلها جئتَ إلى هنا ، وإذا لم يكنْ كذلكَ ، فلعلهم انتبهوا إلى أنّ الساعة قد أزفِتْ ، ليكنسوا هذه العفونة البشرية من سطح الأرض ، لتكون الدنيا خالية من النفايات الآدمية ، ومع الاحتمالين خلاص لكَ من هذه الدنيا المتفسخة ، لكنكَ فوجئتَ بغير ما توقعتَ ، شخص لا تعرفه يدخلُ عليكَ ، يحملُ على وجهه علامات الوقار ، ويمسكُ في يده حقيبة جلدية صغيرة . كان مهذبا معك ، أطلقَ عليك تحية ما سمعتها قبل هذا الصباح من اللذين مارسوا التحقيق معك ، وعندما دنا منك ، بدأ الاشمئزازُ يحاصره ، لابدّ أنّ رائحتك كريهة إلى حد لا يطاق ، هذا ما أكدّه سؤاله إليك : ــــ منذ متى وأنتَ لمْ تغتسلْ بالماء والصابون ؟ الكلماتُ التي كانت تتوهجُ على شفتيك ماتتْ منذ زمن بعيد ، واللسانُ الذي كان رشيقا وساحرا ، انقلبَ إلى قطعة زائدة في فمك ، كالزائدة الدودية تماماً ، الزائدة الدودية تـُستأصلُ حال وصول المرض إليها ، أمّا اللسان فيُترك دون علاج ، دون اِستئصال وعندما يكون مُعدياً لابدّ من الحجر عليه والتخلص منه ، لم يتوصلْ الطب إلى علاج له ، لكـّنّ أطبّاء السياسة اكتشفوا علاجا ناجحا وسريعا ، يتلخصُ في التخلص من صاحبه ، عند ذاك ينتهي الخطر ، وتكون الحظيرة خالية من الأمراض السارية ، لينعم الجميع بالرفاهة والأمن والاستقرار . نظراتك المنكسرة تتعثرُ على وجه الطبيب ، وحروف كسيحة خرجَتْ من أزقـّـة فـمك الوعرة . طلبَ منكَ أن تكشف عن صدركَ ، لم تذعنْ لطلبه ، بقيَتْ نظراتك شاردة على صفحة وجهه ، اقتربَ منكَ ، رفعَ طرفَ قميصكَ بأطراف أصابعه بتقزز واضح ، التقطَ آلة تشبه السكّين معقوفة النهاية ، غرسَها في صدركَ أولا ، ثمّ تابعَ الفحص على بقيّة جسدك المتآكل ، قال بلهجة مهنية محايدة ، ولكنها مطلية بالحذر : ـــــ سأوصي بضرورة دخولك الحمّام مرّة واحدة كلّ أسبوع . نظراتكَ أخطأت مساراتها ، انتقلتْ إلى يد الطبيب ، تساءلتَ في سرّكَ : ماذا لو اختطفت ما في يد الطبيب ؟ فهل تكون قادرة على تخلصي من العذاب الذي أنا فيه ؟ مرّة أخرى قفزَت نظراتك إلى وجه هذا الزائر الغريب الذي تابعَ يقول : ـــــ وسأمنحكَ علاجا يخففُ عنك آلام الجرب الذي تعاني منه . ابتسامة بلهاء تجولُ على شفتيك عندما ارتطمَ سمعك بكلمة ( الجرب ) ، تحولتَ إلى دمية توقفتْ بفعل استهلاك بطاريتها ، ورغم ما أنتَ فيه ، تدحرَجَتْ كلمات منك دون أن تعلم ، أخذتْ طريقها إلى سمع الطبيب : ــــ لماذا كلّ هذا ؟ رفعَ الطبيبُ رأسه إليك ، وأجابَ ببرود : ــــ لكي تتخلصَ من مرض الجرب ، انه معد وخطير ، ولابدّ من علاجه . دمُكَ يشربه الذهول ، وإرادتكَ يكسرها الخوف ، ونظراتك تهزمها رهبة المكان ، والرجل الذي أمامك متسامح عطوف ، أخذ قطعة من الشاش الأبيض ، سكبَ عليها محلولا فاحَت رائحته الحادة حالَ خروجه من القنينة ، وبدأ يمسحُ الجزء الخلفي من رقبتك ، وبين الاشمئزاز الذي يعيشه من رائحتك الكريهة ورائحة الدواء الخانقة ، تابع يقول : ـــــ هذا المرض عادة ما يصيبُ الإنسان والكلاب . اندفعَ صوتك متشحاً بالذهول والغرابة معا : ـــــ ولماذا الكلاب ، أيها الطبيب ؟ رفعَ رأسه إليك ، صوّبَ نظراته في عينيك ، أرادَ أن يقرأ ما تريد الوصول إليه ، ولمّا تأكّد من انطفاء وجهك ، أجاب : ـــــ الكلابُ هي الأخرى تصابُ بهذا المرض ، ربمّا يجد الميكروب عند الكلاب حاضنة لانتشاره . عاد لسانـُكَ إلى غروره ، أردتَ أن تبيع شطارتك على الطبيب الذي جاءَ ليعالجك ، ومن رؤيتكَ المعتمة ، سألته باستنكار : ـــــ لكنّ الكلابَ عندما تمارسُ النباح ، لا تـُفتح لها السجون ، ولا يمارس معها التعذيب !! أنتَ مشاغبٌ داخل قبركَ ، وجبانٌ في نفس الوقت ، بَدأتَ تفتحُ أبوابَ هذيانك ، لكنّ الوجهَ الذي أمامك ، خائف ومذعور ، عيناه تدوران في فراغ مُفزِع ، سألكَ بريبة وحذر : ـــــ ماذا تقصد ؟ أنتَ لا تريد أن تمنح نفسكَ فرصة التأمل والمراجعة فيما تقول ، انطلقَ لسانـَك كالسهم أمامَ الرجل الذي جاءَ لينقذكَ من آلامكَ : ـــــ أعرفُ أنّ الكلابَ ، بعضها يَغتسلُ بماء الورد ، وبعضها بالماء الساخن والصابون المعطّر ، وبعضها بالشامبو ، أمّا الصنف الآخر من الكلاب ، فيحلو له العمل كيفما يشاء ، يَنبحُ على راحته ، يَدخلُ الأزقـّة ليلا دون أن يطارده أحد ، يُمارسُ عمله الجسدي بلا استحياء ، ولكي تنال الكلاب الحظوة في حياتها ، كانت لها جمعيات ، ودور رعاية ، وعطف متزايد ، فمن أين يأتيها هذا المرض الخبيث ، وهي تتنعمُ بكلّ ملذات الحياة ؟ كنتَ تتحدث بلهجة قاسية ، والكلمات التي تخرجها موتورة حد التأزم ، والطبيب المعالج ما عادَت أصابعه تتحرك ، توقفتْ يده ، دون أن يمنحك شيئا يدفعك إلى مواصلة الحديث ، ورغم هذا فقد خَرجْتَ من دائرة ما أنتَ فيه ، صمامات الأمان ما عادت مقفلة بالخوف ، إنها لحظات التيقظ الخطرة ، لحظات التمرد دون دراسة النتائج ، لسانكَ استطالَ ، تمددَ في كلّ الاتجاهات ، وصوتكَ بدأ يرتفعُ دون أن يحركّه أحد : ـــــ أمّا الإنسان ، فعرضة للإصابة به ، فعندما يفقدُ حريته ، تبدأ الفيروسات بالانتشار ، تتوطنُ في رأسه ، وإذا ما وجدت الفرصة سانحة للخروج ، تهربُ مسرعة من الرأس ، لتدخلَ صاحبها إلى الزنزانات التي يتكاثرُ فيها الجرب . لا أحد يمنعكَ من الحديث الآن ، قلْ ما عندكَ ، وتأكّد أنّ كلّ ما تقوله سوف يدوّن في سجّلات الدولة ، وسوف تفتحُ على ما تقوله سجون أخرى ، قلْ ما عندكَ ، فما الذي بقيَ لديكَ الآن ؟ لا أمل تعيش لأجله ، ولا صحة تخاف عليها ، ولا مال ولا بنون . نظراتك تبحثُ في وجه الطبيب ، وأظافرك تهرشُ جلدك بقوّة ، والرغبة في قذف القيء آخذة بالاندفاع : ــــ سينتشر الجرب في كلّ مكان سيدي الطبيب ، ما دامت الحياة تسيرُ بين شعبين ، شعب يعيش في السجون والمعتقلات ، وشعب يمارس المراقبة والحراسة عليهم ، ولا نبالي بعدها بشيء ، توقفت الحياة أم رجَعَتْ إلى الوراء ، المهم لدينا أن يكون الرأس سالما من كلّ مرض ، معافى من كلّ علّة ، محاطا بإعجاب المقربين إليه ، مانحا بركاته على الجميع . أصابعُ الطبيب ترتعشُ وهي تمّرُ على رقبتك ، وبدون أن يحركّ لسانه ، وضعَ ما أخرجه إلى حقيبته ، ورمى إليك بشريط من الدواء ، وخرجَ مسرعا ، حيث كان بانتظاره هناك ، سلمان الشرطي المكلف بحراستك . لم تأسفْ على خروجه ، كلّ الذي فعلته ، أطلقتَ ضحكة كالعواء الحاد ، تاركا لأضافركَ حرية الهرش على جلدك المتقرح . الحارس :
منذ عشرين سنة التحقتُ بجهاز الشرطة ، بعد اجتيازي مرحلة الابتدائية ، وحصولي على شهادة الفقر والعوز من عائلة لا تعرف غير السعي المتواصل من أجل الحصول على رغيف الخبز ، والدعاء المتواصل لتحقيـق الأمان والعافـية لعائلة منكودة ، أنجَـبَت خمسة أولاد ، واثـنين من الـبنات ، حالهم حال العائلات الفقيرة التي لا تعرف غير التعب والإنجاب في الحياة . ومنذ اليوم الأول من انخراطي في هذا الجهاز ، وأنا أتنقلُ من مكان إلى آخر ، ومن مهمّة إلى ثانية ، منـفذا كلّ الأوامر التي يأمرني بها من هو أعلى مني . عَملتُ في البداية مراسلا عند أحد الضباط الكبار ، فكنتُ كاتما أسراره ، مدافعا عن سمعته ، دقيقا في تنفيذ أوامره ، وعند ترقيته إلى رتبة أعلى ، تمّ نقله إلى بغداد ، فالتحقتُ إلى جماعة الدوريات التي تجوبُ الشوارع ، وتقفُ عند نقاط المراقبة لحفظ الأمن ، بعدها انتقلتُ إلى مناطق وواجبات أخرى ، وفي كلّ مهمّة أقومُ بها ، أكونً مثالا للانضباط والالتزام ، ومع الخيط الأول لترقيتي ، تزوجْتُ من زكيّة بنت المرحوم مبارك الفحّام التي وقعَ نظري منذ كنتُ صغيرا . رزقتُ منها في السنة الأولى بولد أسميته عيسى ، ثمّ توالت علينا الأولاد ، ومثلما وَرثتُ الفقر من أبي ، وَرثتُ منه كثرة الإنجاب ، فأنا الآن أب لتسعة أولاد وثلاث بنات . قبل سبعة أشهر استدعاني الضابط إلى غرفته ، وقبل الاقتراب منه ، أمرني بإغلاق الباب ، ساورَني خوفٌ من هذا الفعل ، أمرني بالجلوس قريبا منه ، بعد أن أغلقَ المذياع الذي كان يلهجُ بأغنية ريفية شائعة . صوبّ لي نظرات جادة ، وحركّ كرسيه ، وأدارَ جَسدَه باتجاه المقعد الذي كنتُ جالسا عليه ، وقال لي بحزم : ـــــ اسمع سلمان ، أنتَ شرطي ممتاز ، وسمعتك طيبة ، ودفترك نظيف . لمْ أتركهُ يستمر في حديثه ، نهضتُ من مكاني ، وأنا أمطره بسيل من عبارات المديح : سيدي الضابط ، كلامُك على رأسي ، الله يحفظك من كلّ مكروه ، ويزيدُ نعمته عليك و... . نظرات الضابط أوقفتْ شريط الاسترسال ، فرجعتُ إلى مكاني يلفنّي خوفي وخجلي ، فلم يمنحْني الضابط فرصة التعبير عن مشاعري ، بل قالَ بلهجة صارمة : ـــــ سلمان ، عندما أتحدثُ إليك لا تقاطعني ، هل فهمت ؟ ـــــ نعم سيدي . قلتها دون جهد ، فقد اعتدتُ عليها منذ عشرين سنة . ـــــ لدينا الآن شخصية سياسية خطيرة ، والدولة تحسب لها ألف حساب وحساب ، وعليكَ أن تقوم بمراقبته وحراسته ، وأن يكون عملك في غاية السرّية والكتمان . وقفتُ من جديد ، أدّيتُ له التحية ، قلتُ بحماس : ـــــ لماذا لا نلقي القبضَ على هذا المجرم الخطير ؟ نهرَني الضابط بكلمات ، جَعلت العَرَقُ ينضحُ من جبهتي ، وواصلَ حديثه : ــــــ هذا المجرم الخطير سجين لدينا هنا ، في السجن الأرضي ، وعليكَ مراقبته ، لا أريدُ أحدا يواجهه إلا أنتَ ، ولا أحد يعرف شيئا عنه إلا أنتَ ، تطعمُه وجبتين في اليوم ، بعدها تمارسُ أعمالك المعتادة ، لا تستلم أوامر من غيري ، حتى ولو جاءت من رتبة أعلى من رتبتي . هل تفهم ما أقول يا سلمان ؟ ـــــ نعم سيدي . ـــــ لتبقَ عيناك مفتوحتين على الدوام ، تأكّد من إقفال باب الزنزانة ، احرصْ على بقاء المفتاح في جيبك ، لا تثرثر أمام أحد ، وإذا ما حصلَ خلاف ذلك ، فسأرسلُ جلدك إلى الدبّاغ ، هل أصبح واضحا ما قلته لك ؟ فتحَ بابا حديدية بمفتاح صغير ، والتقطَ مفتاحا آخر سلمنّي إياه ، محذرّا من جديد : ـــــ هذا المجرم وصَلنا فجر اليوم ، وقد رأيتـُك الشخص المناسب لهذه المهمّة ، إياكَ أن تبوح بشيء ، أو يصيبكَ الفتور في تنفيذ واجبكَ . مدّ يدَه إليّ ، ومَددتَ يدي إليه لاستلام المفتاح ، وأنا مأخوذ بالخوف من هذه الواجب الجديد الذي منحني الضابط إياه ، باعتباري الشرطي المثال من بين الشرطة الآخرين . نظراتُ الضابط توحي لي أنّ المقابلة انتهتْ ، وعليّ مغادرة المكان . حَشرتُ يدي في جيب البنطال العميق ، وفي قعره تماما وضَعتُ المفتاح ، وأدّيت التحية ، وخرجتُ منه دون أن أقول ما اعتدت قوله . لمْ أنمْ ليلتي الأولى ، تقلبتُ على فراشي مرّات عديدة ، أحَسّتْ زكيّة بأنّ شيئا ما يحملُ من الخطورة يدورُ في رأسي ، حاولتْ في البداية معرفته ، فلم تفلحْ ، بعدها بدأت تـَتفـنَن في أساليب الوصول إلى ما تريد ، وصية الضابط وتحذيره لا يزال حاضرا في رأسي ، لكنّه تطايرَ أمام إلحاح زكية ، حدثتها بكلّ شيء ، محذرّا إياها من التحدث إلى أحد من أولادنا ، قلتُ لها سيلتفّ حبل المشنقة على رقبتي إذا عرف أحد بما أقوله لك . سألتني زكيّة بخوف : ــــ وهل التقيتَ به ؟ ـــــ لم التق به ، سوف أقفُ أمامه غدا في سجنه الأرضي . شعرتُ بالخوف يَتربعُ في عيني زكيّة ، وهي تهمسُ في أذني : ـــــ احذر منه ، ربمّا يقـتـلـك داخل زنزانته ، فهولاء لديهم من القوّة ما ليس لغيرهم من الناس . شعرتُ أنّ شيئا ما سقطَ من رأسي عندما أبحْتُ لزكيّة بكلّ المعلومات ، رغم أني خالطني أسف على ما قمت به ، وتساءلتُ بشيء من الاستغراب : ــــ لماذا لا يحكم الرجال سيطرتهم على أسرارهم في الليل ؟ أوشكَ الليلُ على نهايته ، وزكيّة هي الأخرى ، لم يأخذها النوم كما هي في كلّ ليلة ، وعند الصباح ، نهضَتْ لتعد لي الفطور ، وتهمسُ بحذر : ــــ إياك من الاقتراب منه ، ربّما ينفخُ عليك ، أو يمزقـك بأسنانه . دعوتُ ربي أن يكتب لي السلامة ، وأن أجتازَ هذه المحنة دون أن يحدث مكروه . غادرتُ البيت صباحا ، وزكيّة ورائي ، ترشّ الماء بيد ، وفي اليد الأخرى إناء أسود صغير تتصاعدُ منه روائح ، تقولُ أنها تطردُ الشّر وتجلبُ الخير . عند الثامنة صباحا ، أرسلَ الضابط في طلبي ، أمرَني أن أقدّم وجبـتيـن للسجين ، الأولى في الساعة العاشرة صباحا ، والثانية عند الخامسة مساء ، وفي تمام العاشرة صباحا ، أدخلتُ المفتاح في قفل السجن ، دخلَ طيّعا دون تعثر ، وتحرّرَ القفل من قيده دون صعوبة ، شعرتُ بقلبي أقفل بالخوف ، وهو يدّقُ داخل صدري بعنف ، دفعتُ الباب الحديدي الصغير ، ولاحَتْ لي مدرجات السجن ، وهاجمتني رائحة المكان ، فسَرتْ رعشة اختضّت لها ركبتاي في بداية الأمر ، بسملتُ وعوذ لتُ وحوقلتُ ، ودفعتُ قدمي إلى الأمام ، نزلتُ إلى الداخل ، وأنفاسي أطلقها بسريّة تامة خوفا من اكتشاف ضعفي ، فيطمع عدوّي فيّ ، مستغلا حالة الجُبْن التي أعيشها . أنهيتُ النزول ، وصرتُ داخل السجن ، درجات السجن لم تكن كثيرة ، كانت بعدد الأصابع ، لكنّ عبورها مرعبا ، التصقَ نظري في الجهة المقابلة للسجن ، لم أجدْ غير رائحة الرطوبة الثقيلة ، وسكون موحش ، يتحدى كلّ جسارة الرجال وشقاواتهم ، تحركَ رأسي ببطء نحو اليسار ، لم أستطعْ إرسال نظراتي بحرية كافية ، أرسلتها على شكل دفعات ، بالأقساط كانت نظراتي تذهب ، في الركن الآخر ، وقعَ نظري عليه ، ياللفضاعة !!! أنا أمامه وجها لوجه ، التنّين كان نائما ، مكوّرا جسده بعضه على بعض ، فخذاه ملتصقان على صدره ، ويداه متعانقتان بفتور ، وقدماه متشابكان دون حركة ، لم تكن ملامحه واضحة ، شَعْر ذقنه الكثيف ، وشَعْر رأسه الأكثر كثافة ، والعتمة الغارق فيها السجن ، لم تجعلني أتبين ملامحه جيدا ، كان مغمض العينين ، وجبهته واقفة ، كتلّ ترابي تحت أشعة الشمس الحارقة في يوم تموزي خانق أمام وجنتيه الغائرتين تماما ، ضمورهما ، أعطى لجبهته هذا الارتفاع ، شَعْر شاربيه غطّى شفته العليا ، وشفته السفلى تبدو كقطعة من الجلد اليابس المشقق ، لفتَ نظري طول أظافر يديه . كان نائما ، هذه نعمة من الله عليّ ، أبخرة زكيّة لم تذهب هباء ، وضَعتُ رغيف الخبز ، وإناء فيه حبات من البطاطا بالقرب منه ، وأدرتُ وجهي عنه ، خوفا من أن يحسّ بوجودي ، فينقضّ علي ، ويمزقني بمخالبه ، أو بأنيابه ، رغم أن نظري لم يقعْ عليها فقد كان مطبق الشفتين . تحركتُ نحو باب السجن ، قفزتُ درجاته بسرعة ، وعندما صرتُ خارجه ، شعرتُ بثقل الرطوبة وصعوبة التنفس هناك . كانت زكيّة حاضرة في دماغي عند خروجي من السجن ، لم يكن لديّ الوقت الكافي للذهاب إليها ، لأخبرها بما قمتُ به ، بعدما أرسلَ الضابط في طلبي ، قال لي بلهجة جافة : ـــــ هل قمتَ بما أمرتك يا سلمان ؟ أدّيت له التحية بقوّة ، وبصوت منتصر ، أجبته : ـــــ نعم سيدي . ـــــ كيف وجدته ؟ ـــــ كان نائما سيدي ، وضعتُ الطعام بقربه ، وخرجْت . ــــ خُـذ حذرك منه ، فهولاء يتظاهرون بالنوم من أجل مآرب أخرى . ــــ هذا أكيد ، سأكون عند حسن ظنك سيدي . ابتسمَ الضابط لي ، أحسستُ أنه يقلدني وسام البطولة ، بعدها تظاهرَ بتقليب الأوراق التي أمامه ، فخرجتُ . عند الساعة الخامسة مساء ، قمتُ بواجبي ، ولكنّ الخوفَ الذي كنتُ أعيشه في الصباح خفـّت حدته ، وتلاشى صراخه في نفسي ، وجدته كما شاهدته صباحا ، وضَعتُ طعامه ، وتأكدْتُ من وجود الماء ، وخرجتُ قائلا في سرّي : ـــــ عليّ المزيد من الحذر ، فقد قال لي الضابط ، أنه يتظاهرُ بالنوم لكي يحقـّقَ مآرب أخرى . في الليل ، كان الحديث مع زكيّة ساخنا ، أنا أتكلمُ وزكيّة كلها آذان ، وعيناها تدوران في محجريهما ، وشفتاها تتحركان بخمول ، قلت لها مطمئننا : ـــ لا تخافي زكيّة ، يبدو أنه لا يملك شيئا يقتلُ به . ــــ هل لديه أنياب ومخالب ؟ ــــ لديه أظافر طويلة ، ولم ألاحظ أنيابه ، لأنه كان مطبق الشفتين . رفعَتْ رأسها إلى سقف الغرفة ، وهي تقول : ـــــ اللهم ادفع عنّا هذه المصيبة التي نحن فيها . أردتُ أن أبدّد خوفها ، قلتُ لها بصوتٍ خشن : ـــــ أيّة مصيبة هذه يازكيّة . ثمّ أعقبتُ على ما قلته بصوت أكثر خشونة : ــــ الرجالُ معروفون في الشدائد . ابتسَمتْ زكيّة من قولي ، الملعونة تعرفني جيدا ، قـُمنا بواجبنا الليلي ، ونمتُ وسط دعاء زكيّة الذي لا ينقطع . في الصباح ، خرجتُ مُوَدَعاً بإناء من الماء ، سكبته زكيّة ورائي ، ورائحة البخور تملأ أنفاسي ، ودعاء متواصل بالسلامة والأمان . فتحتُ الباب الحديدي لتقديم طعام السجين ، ومع أول خطوة للنزول ، التصقَ الخوفُ في نفسي من جديد ، أتاني سريعاً دون أن أحسب له حساب ، دعوتُ الله على تثبيت قلبي ، واجتزتُ الدرجات الخمس ، كنتُ أحسبها بحذر ، وعندما لامسَتُ أرض السجن ، اصطدمَ نظري به . كان جالساً على الجزء الخلفي من عجيزته ، وقد تلاحَمَتْ يداه فوق ركبتيه ، لم يتحركْ ، ربّما كانت مناورة منه ، الخبيث يهيئُ لي محاولة هادئة ، بعدها يبدأ بالانقضاض ، شعرتُ بالأرض تهتـّزُ تحت قدميّ ، والحياة تتراجعُ في رأسي ، ولابدّ من مناورة أتمكّنَ من خلالها إحباط مشروعه الذي ينوي الإقدام عليه . صرختُ بصوت ، ليس بمقدوري وصفه ، كان صوت مرتعشا ، يوحي لي بقوّة التنفيذ : ـــ ابقَ مكانك ، لا تتحرك . أبقيتُ مسافة كافية بيننا ، تحسبا لما هو طارئ ، لكنّه لم يتحركْ ، دفعتُ إليه الطعام ، كلّ ما فعله ، أنّ رأسه ارتفعَ إلى الأعلى قليلا ، كانت عيناه مفجوعتين بالهزيمة ، وشفتاه مسحوقتين بالذل ، ووجهه كوجوه الأشباح ، لا أثر للحياة فيه ، تراجعتُ إلى الخلف دون أن أعطيه ظهري ، انفرجت شفتاه عن أسنان ترابية اللون ، وسَقطتْ ابتسامة من شفتيه ، كسقوطِ ورقة من وردة ذابلة أماتها الجفاف ، خرجَ صوتٌ منكمشٌ من بين شفتيه ، عرفتُ على الفور ، أنّ فيهما بصيص من الحياة . ــــ شكرا . تراجَعتْ خطواتي إلى الخَلف ، ارتطمَ ظهري بالجدار ، وقفزتُ الدرجات ، وأوصدْتُ البابَ ، تأكدْتُ من إحكام القفل ، وأخَذتُ نفسا عميقا وسط دوار يشربني من قمّة رأسي حتى أخمص قدمي ، وابتسامته التي انتزعها من شفتيه ، كانت نديّة وفواحة في نفسي ، وكلمة ( شكرا ) وصَلتْ مليئة بالدفء . قلتُ في نفسي ، لعلّ هؤلاء ، لديهم من أسالـيب المكر والخداع ، ما يتعـدى حدود استيعابي ، ولابدّ من زيادة الحذر ، وأنا أتعاملُ مع مجرم تحسبُ له الحكومة ألف حساب وحساب . الوجبة الثانية ، لم تكلفني كثيرا ، وجدْته نائما ، وقد منحَ وجهُه للحائط ، ولم أشاهدْ غير جسده المتكور كقنفذ ، يرتدي قميصاً لم أتبينْ لونه ، وبنطالا غادرَ لونَه هو الآخر من شدّة الاتساخ ، ورغم أنّ الظلام هو المنتصر في أجواء السجن الصغير ، إلا أنني لاحظتُ طولَ أظافر قدميه . كانت نظرات زكيّة ، عطشى إلى إجابات ، وأنا أدخلُ البيت ، ابتسمتُ لها ، وعند الليل ، بدأت ُ أسردُ لها تفاصيل ما شاهدته ، وقد أخذتها الدهشة من أنّ السجين لا يملك قرونا يناطح بها ، أو أنيابا ، يمزّق بها أجساد الأبرياء . انتهت ستة شهور على مهمتي مع السجين ، لم أقتربْ منه في البداية ، ولم أسمعْ منه غير كلمة ( شكرا ) بعدها بدأتُ أدخل عليه ، أنا الذي طرقتُ بابه ، بدأتُ أتعاطف معه ، كان فيه من الطيبة والبراءة ما جعلني أقدمُ على أعمال ، لو علم الضابط بها ، لأرسل جلدي إلى الدبّاغ ، وكنتُ في كلّ ليلة ، أحدّثُ زكيّة عنه ، فيزداد تعاطفها معي . في بداية تعرفي عليه ، حَفظتُ اِسمه جيدا ( باسل غازي المخزون ) وعندما أردتُ التعرف عمّا اقترفه من عمل إجرامي قذفه إلى هنا ، لازمَه صمتٌ ، أحسستُ أنّ أنفاسَه تتقطعُ داخل صدره ، وزفرَتْ عيناه دمعتين شربهما خداه الضامران ، وأثناء مشاهدتي له ، بكيتُ ، وبّختُ زكيّة لأنها التي دفعتني إلى معرفة ما تريد . في صباح أحد الأيام ، استدعاني الضابط ، أسرعتُ إليه ، كان جالسا بقربه رجل أصلع الرأس ، يضع على عينيه نظارات ذات زجاج سميك ، وبين رجليه حقيبة صغيرة . قال لي الضابط ، وقد بدا الاهتمام عليه : ــــ سلمان ، افتحْ بابَ السجن ، واتركْ الطبيب يفحصُ السجين . خرجتُ مسرعا إلى السجن ، كان الطبيبُ بقربي عندما أطلقَ البابُ صريراً خافتا ، نزلتُ قبله وتبعني بجسده الثقيل ، وعندما التقى السجين ، أمرَني بإشارة من يده بالخروج ، فخَرجْتُ مذهولا ، وأنا أتساءلُ باستغراب : ما معنى أن ترمي بسجين وسط الأمراض ، وفي مركز الموت ، ثمّ تأتي بطبيب لعلاجه . حكمة لا أعرفها ، قلت في نفسي : سأناقشها مع زكيّة ، فلعل لديها ما يفكّ طلاسم هذا اللغز المحّير ؟ . خرجَ الطبيبُ من السجن ، كان حزيناً وخائفاً ، أسرع إلى غرفةِ الضابط ، وأسرعتُ إلى بابِ السجن ، قفلته بإحكام ، وقبل أن أنتهي منه ، وجدْتُ الطبيبَ يخرجُ مسرعاً ، ولم أتبينْ منه سوى رأسه الكبير ، وخطواته السريعة المتعثرة ، وعندما غابَ ، خرجَ الضابط ُ ماسكا بيده علبة صغيرة ، أومأ لي بيده ، أسرعتُ نحوه ، قال بصوت آمر ، مصطنعا الحزم في نبراته : ــــ اسمع سلمان ، هذه العلبة من الدواء ، تضَعَها في إناء كبير من الماء ، وتجعل السجين يغتسل ، بعد ظهر هذا اليوم ، وسأكونُ معك بعد الانتهاء من الدوام . الساعة الثالثة ظهرا ، دخلتُ على السجين ، كان باسل في وضع لا أستطيع تحمله ، وجهه غارق في بحر اليأس ، وعيناه كعصفورين ذبحاهما شقي ، وألقى بهما على قارعة الطريق ، ووجه لا تقرأ فيه سوى الفجيعة ، اقتربتُ منه ، اشتبكتُ مع عفونته ، أصبحتُ أعرفه جيدا ، ووفاء لعلاقتي به ، لابدّ من القيام بعمل ما ، مددَتُ يدي إليه ، أمسكتهُ من ساعده ، رجَوته أن ينهض ، ابتسمَ لي ، لم تكنْ ابتسامته شبيهة بتلك الابتسامات التي نراها ، انفراج شفتيه لغز آخر ، وراءه الكثير من الأسرار ، وضعتُ يديّ تحت أبطيه ، شعرتُ أنه يتألم بقسوة ، أطلقَ صرخة ، عندما رفعته إلى الأعلى ، أسندَ يديه إلى الحائط ، توسلتُ إليه بالصبر على آلامه ، قلتُ له : سأقومُ أنا بغسل جسدك ، عضّ على شفتيه ، سمعتُ نشيجا يخرجُ من صدره ، فيلفظُهُ فمه إلى الخارج ، دفعْته إلى الأمام ، رائحته الكريهة ، جعلتني أمام مسؤوليتي ، رفعْته من جديد ، انتصبَ واقفا على قدمين لا تقويان حمله ، لم يكنْ طويلا ، كان نحيفا إلى حد مخيف ، تمسكتُ به ، ودفعته إلى الأمام ، باتجاه سلم السجن ، وتظافر جهدي وجهده على ارتقاء السلم ، وعندما خرجَ إلى الضوء ، جاءت صرخته حزينة ، أسندْتُ ظهرَه إلى الحائط ، وأسرعْتُ إلى إناء مليء بالماء ، وضعْتُ الدواءَ ، واقتربْتُ من باسل ، بدأتُ أخلعُ قميصَه ، واجهتُ صعوبة في ذلك ، أول الأمر ، كان قميصه ملتصقا بملابسه الداخلية . الضابط كان واقفا بعيدا ، قال لي بلهجة ، فيها اشمئزاز وتقزّز : ـــــ اغسله بالماء في البداية ، لكي تستطيعَ خلع قميصه بسهولة . سكبْتُ الماءَ على جسده ، وبقيْتُ انتظر ، كان رأسه منكسا إلى الأرض ، بدأ جسدُه يرتجفُ ، سكبْتُ المزيدَ من الماء عليه ، سمعْتُ هريرا يصدرُ منه ، قفزَ لي صوت المعلم وأنا تلميذ صغير وغبي : ــــ يا أولاد ، المياه ، تغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، والربع الباقي يمثل اليابسة . ذهبْتُ إلى خرطوم المياه المطاطي ، وضَعتـْه على رأسه ، بدأتِ المياهُ تتعثرُ في طريقها على صفحة ملابسه ، أوقـفتُ جريان الماء بإشارة من يد الضابط ، وبدأتُ أنزعُ قميصَه ، لم أتمكنْ من ذلك ، التحَمَ القميصُ بملابسه الداخلية ، سمعتُ الضابط يقول : ــــ ما لك يا سلمان !! اسحبه بقوّة ، ما تقوم به ، أشبه بمراهق يلامسُ حلمة نهد لفتاة مراهقة . سحبْتُ القميصَ بقوّة ، جاء بعضه بيدي ، أطلقَ باسل نواحا ، انحدرَتْ دموعي على أثر ذلك ، أسرعْتُ إلى سكب المزيد من الماء ، استغفرْتُ الرحمن الرحيم ، سحبْتُ قميصَه ، جاء القميصُ بيدي حاملا معه بقع من جلده ، وانفجَرَ سائلٌ أصفر من مسامات جسده ، وبانتْ شروخ وتقرحات ، الدمامل المنتشرة على ظهره بدأت ترفعُ غطائها عن قيحٍ لا يمكن الصمود بوجهه ، قلتُ للضابط بلهجةٍ متوسلة ذليلة : ــــ سيدي ، اقتربْ ، لكي ترى ما يحدث ؟ اقتربَ الضابط ُ، وقعَ نظره على الجسد المأكول بالمرض ، رأيتُ عضلات وجهه ترتجفُ بشدّة ، بعدها استدار إلى غرفته ، قلتُ في نفسي : عليّ بالماء ، أعدْتُ الخرطوم المطاطي إلى جسده ، وبقيْتُ أنقّع ثيابه بالماء ، رأيْتُ الضابطَ يخرجُ من المبنى ، امتلكني شعور بالارتياح لهذا الفعل ، أعطاني فرصة علاجه بطريقة مريحة ، قلتُ إلى باسل قولا جميلا : ــــ ستصبح بعد قليل بخير يا باسل ، وستزول آلامك عندما يقع الدواء على جروحك . رفعَ باسل رأسَه وسط ازدحام خطوط الماء النازلة بتعرج من شعر رأسه وذقنه ، أصبح قميصه طيّعا ، بدأ يغادرُ جسدَه حاملا معه بقعا من جلده ، وعندما انزاح تماما ، وبان جسده مكشوفا ، عاريا ، فهمْتُ أنّ الدنيا تسيرُ بالمقلوب ، وأنّ ذيلَ الأفعى هو منبع الخطر ومصدر البلاء ، اختلطَ الماءُ بالقيح ، فنزلَ سائلا أصفرا ، فاقع اللون . كان أبي ، يصرخُ بوجه أمي ، كلّما يرى حمار الناعور ، يلهثُ من شدّة التعب ، يصيحُ بها : ــــ عليك بالحيوان يا نجمة ، هل تريدينه يموت أمامي ؟ ألا ترينه يجّرُ أنفاسَه بجهد ، المسكين لا يقوى على الاستمرار بهذا العمل الشاق . وتسرعُ أمي إلى الحمار ، تفكّ قيوده ، تضعُ أمامَه كمية من العلف ، بعدها تأخذه إلى النهر ، ترشرشه بالماء ، وأبي ينظر إليها بارتياح ، وعندما تعود ، يستقبلها صوت أبي : ــــ أما قلتُ لكِ يا نجمة ، إنّ الحمارَ بحاجة إلى الراحة ، انظري إليه ، فقد عادَ نشاطه من جديد . لم يكنْ معي أحد من الشرطة ، ثلاثة منهم ينامون في الجناح الآخر بعد الانتهاء من واجبهم ، والضابط غادرَ المكان ، والبقيّة منحوا إجازة الذهاب إلى بيوتهم ، أسرعْتُ إلى غرفة الشرطة ، خلعتُ ملابسي الداخلية بسرعة ، كنتُ عاريا تماما ، أضحكني الوضع الذي أنا فيه ، لم أتعودْ ذلك حتى في البيت أمام زكيّة ، لبسْتُ البذلة العسكرية تاركا ملابسي الداخلية ، والتقطّ قميصا ممزّقا يعودُ إلى أحد أفراد الشرطة ، وخرجتُ مسرعا ، بدأتُ أغسلُ جسدَ باسل ، كما تغسلُ الأم ولدها الرضيع ، حال الانتهاء منه ، ألبسته ملابسي والقميص ، وذهبتُ به إلى السجن ، قدمْتُ له وجبة طعامه ، وقد أضفتُ إليها وجبة طعامي التي أعدتـْها لي زكية . عند عودة الضابط كان كلّ شيء على ما يرام ، سألني الضابط بعبوس : ــــ هل عالجتَ السجين ، يا سلمان ؟ ــــ نعم سيدي . وماذا فعلتَ بملابسه الداخلية ؟ ــــ لقد أحرقتـُها ، وضعتُ عليها النفط وأحرقتها . أشعرُ بالحرج ، وأنا بـدون ملابسي الداخلية ، رأيتُ الضابـط يمدّ يده إلى كيس ، ويخرج منه ملابس ، وهو يقول بنبرة أراد بها إلغاء الحالة التي هو فيها : ـــــ ألبسه هذه الملابس يا سلمان ، ينبغي التعامل معه بشيء من الرحمة . أخذتُ الملابس ، نَزلتُ إلى باسل ، ألبسته القميص والبنطال ، وتركتُ البقية إلى جنبه ، وخرجْتُ التمسُ الطلبَ من الضابط بالذهاب إلى البيت . في البيت ، كانت الدموع تتدفقُ من عيني زكيّة ، وأنا أسردُ لها حكايتي مع باسل ، وعندما انتهيتُ منها دخلتُ الحمّام ، بقيتُ فيه وقتا طويلا ، زكيّة تسحقُ جلدي بقطعة من القماش الخشنة المليئة برغوة الصابون ، وتسكب الماء بعد ذلك ، حتى شعرتُ أنّ جلدي سوف يُنتزَعُ من جسدي ، بعدها نمتُ وسط ضجيج الأحداث التي تنقرُ في رأسي ، وسيل الأسئلة التي لا أجد جوابا لها . ثلاثة أيام انقضَتْ على العلاج ، كنتُ خلالها ، أقدّمُ الطعام لباسل ، وزكيّة تدسّ في جيبي بعض الفواكه وشطائر صغيرة ، وعندما أدخلُ عليه ، أضعَها بقربه ، دون أن يعرف أحد بذلك . في مساء اليوم الرابع ، أرسلَ الضابطُ في طلبي ، أمرَني بإغلاق الباب ، نسيْتُ إلقاء التحية عليه ، قال لي بصوت خفيض ، لكنّه يوحي بالأهمية : ــــ ستبقى هذه الليلة هنا يا سلمان ، اذهبْ إلى أهلك ، وعُدْ إلينا مساء . وقبل أن أغادره ، أوقـفـني بقوله : ــــ لقد جاءَ أمرُ ترقيـتـك يا سلمان . لم يفرحْني الخبر ، ولم أهتمْ بما قال ، فمنذ اليوم الذي أخرجْتُ فيه باسل للعلاج ، وأنا لم أَعدْ أبالي بمثل هذه الأمور ، في المساء ، عدْتُ إلى الضابط ، وجدْته هناك ، وفي بنطالي ، أضعُ برتقالة ، دسَتها زكيّة في جيبي ، لكي أضعَها مع طعام باسل . عند العاشرة مساء ، لم أجـدْ أحدا من أفـراد الشرطة معي ، باستـثـناء الذيـن يخدمون في الجـناح الآخر . استلقيْتُ على فراش العريف الخفر الذي لم يكنْ موجودا ، والأفكار تجْرفني إلى شواطئ مجهولة تارة ، وتقذفني إلى العمق تارة أخرى ، وأنا لا أستطيع معرفة ما يحيطُ بي على وجه التحديد ، استغفرتُ ربي ، وتعوذتُ كثيرا ، ونمتُ . قبل رحيل الظلام أمام طلائع الفجر ، شعرتُ أنّ يدا تهزّني بعنف ، قفزْتُ من فراشي فزعا ، سمعْتُ صوتَ الضابط ، يأمرني بالنهوض : ــــ انهضْ سلمان ، الساعة الرابعة الآن . انتابني هاجس مخيف من هذا الأمر ، أسرعتُ إلى غسل وجهي ، بعدها ، سمعتُ نداءَ الضابط ، جلستُ معه في غرفته ، لم يمّرْ وقت طويل ، شعرتُ بصوت محرك سيارة عن قرب ، ولاحظتُ شيئا من ظلال نورها ، بعدها دخلَ علينا ، ثلاثة أشخاص ، استقبلهُم الضابط بحفاوة بالغة ، وعلامات الخوف بادية عليه ، كانوا واقفين ، قلبي توقفّ عن الحياة ، سرَتْ في جسدي رعشة ، شبيهة برعشة طائرٍ مذبوح تواً ، أسرعَ الضابط إلى الخروج ، قائلا لي ، بصوت مخذول : ــــ افتحْ بابَ السجن ، يا سلمان . هرولتُ بطريقة آلية إلى السجن ، فتحتُ بابه ، وأردتُ الدخول إليه ، أمسكني أحدهم من ساعدي ، وسحبَني إلى الخلف ، بقيتُ متسمرا في مكاني ، ونظراتي شاردة بين وجه الضابط والفراغ الذي أمامي ، كان الضابطُ يلغي خوفه ، بانتقال قدميه من مكان إلى آخر ، حاولتُ تقليده ، ففشلت ، سمعتُ صوتَ أقدام ترتقي درجات السلّم ، خرجَ الجميعُ من السجن ، اثنان حملا باسل ، بعدما أوثقوا يديه ورجليه بحبل غليظ ، والثالث خرج من ورائهم ، كان باسل أثناء خروجه يرسلُ لي ابتسامة ، أفقدتني ما بقي لي من توازن ، خرجوا به إلى الخارج ، خرجتُ معهم ، وأنا مصعوق خلفَ الضابط ، قذفوه كخرقة بالية في حوض السيارة ، رافقه اثنان ، أحدهم وضعَ قطعة من القماش على عينيه ، وانطلقتِ السيارة دون وداع . لم يكنْ الضابط بأحسن من حالي ، أردتُ استثمار حالة الضعف التي هو فيها ، سألته بخوف : ـــــ إلى أين ذهبوا بالسجين سيدي ؟ نظرَ في وجهي ، ووجه يفصحُ عن إجابة واضحة : ــــ بعد قليل ، يتمّ نقله إلى عالم آخر . وبعصبية ظاهرة ، قال لي : ــــ انتهَتْ مهمتك يا سلمان ، اذهبْ إلى بيتك ، وسوف أمنحك إجازة لمدة أسبوع . في الطريق ، رميتُ حبّة البرتقال بغضب ، بصقتُ على الأرض بحقد ، وعندما وصلتُ البيتَ ، لم أتحدثْ مع زكيّة . في الليل ، أخبرتها بما حدث ، صرخَتْ ، لطمَتْ خديها ، هرع الأولاد إلينا ، مسحت زكية دموعها ، وعندما انتصف الليل ، بدأنا نبكي حتى انبلاج الفجر .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصافير تموت جوعا في البيادر .............................
...
-
حقوق الانسان زيف الشعارات وفعل الهراوات
-
عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة
-
الهجرة الى البحر........منلوج قصصي
-
حكايات عن عواصف الرعب .......... قصص قصيرة
-
الحفاة ........ .. قصة قصيرة
-
الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|