رياض الأسدي
الحوار المتمدن-العدد: 2544 - 2009 / 2 / 1 - 10:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس ثمة ما هو أهم لتنظيم الحياة السياسية في أي بلد حر من إصدار قانون للأحزاب والجمعيات والجماعات السياسية. ومن الصعب أن نجد دولة حرة وديمقراطية بلا قانون ينظم الحياة الحزبية فيها. وكانت الأنظمة الدكتاتورية في العراق والعالم العربي قد حملت سابقا شعارا – سيء الصيت- يقول: من تحزب خان! ولو جئنا إلى حيثيات هذا الشعار وبنيته الداخلية فإننا نجد انه ناتج عن تلك الرؤية المسطحة للاختلاف بالرأي. جاء هذا الشعار - ومازال معمولا به في كثير من البلدان العربية- بعد سلسلة الكوارث التي مرّ بها العراق وبسبب المذابح التي قامت بها الأحزاب السياسية (الشيوعيون والقوميون – بأنواعهم- والبعثيون والموتورون) وأعمال القتل المجاني والسحل وتعليق الجثث على أعمدة النور في الشوارع عام 1959 و1960 وخاصة في مدينتي كركوك والموصل اللتين تزداد فيهما الاثنيات تداخلا.
فضلا عما لحق بالعراق من مآس قامت بها ميليشيات البعث الإرهابية المعروفة بالحرس القومي الدموية, التي أسست – منذ ذلك الوقت- لحكم الميليشيات والعسكر في العراق, وما تبعه من غياب الأنظمة والقوانين المرعية, ولتضع العراق على سكة الفوضى السياسية التي لما نزل نخوض فيها منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان.
ولذلك فإن الفوضى السياسية هي التي تقود دائما إلى مختلف أشكال الفوضى الأخرى. وقد منعت الأنظمة الشمولية العسكرتارية الأحزاب والجمعيات والجماعات وربما حتى الاتحادات النقابية أحيانا في بعض البلدان, كي تتفرد بالسلطة وحدها, وتصبغ الناس بصبغة واحدة تحت شعار أخر: ضرورة الأمن والوحدة في المجتمع تارة, أو للحفاظ على هيبة الدولة والكيان الوطني تارة اخرى. ثم نتج عن هذا الاتجاه ما يعرف بالاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي أو اللجان الثورية – كما في ليبيا- وكذلك مفهوم الحزب الواحد الذي تنتج عنه – فيما بعد- الحزب القائد كما في النظام العراقي السابق أو اللجان الثورية في ليبيا. ولم يلبث هذا الأنموذج الأحادي أن تحول من مفهوم الحزب القائد إلى القائد الأوحد والعائلة المالكة الواحدة والصبغة الواحدة للجميع في النهاية.
لقد جيء بكل تلك المفاهيم من رحم النظام السوفيتي السابق والتجربة الستالينية في ما عرف بالطليعة الثورية أو القيادة التاريخية وغيرها من المفاهيم المكونة للدكتاتورية. وجميع تلك التنوعات الفكرية كانت ترى: إن من تحزب خان أيضا: هكذا تقف الانظمة الشمولية من التعددية السياسية غالبا. لكنها - على العموم- لم تستطع إعلان ذلك صراحة لكونها جاءت عن طريق انقلابات عسكرية قادتها أحزاب بحد ذاتها, ولذلك فإنها ببساطة حصرت التحزب في فئة واحدة وإيديولوجية واحدة وهيمنة طائفة واحدة في بعض البلدان: تماما مثلما حاول النظام السوفيتي السابق حصر العمل السياسي في الحزب الشيوعي السوفيتي والكومسمولات – أي الاتحادات المهنية التابعة له وللحزب الطليعي الطبقي- ثم نتج عن هذه السياسات غير المتوازنة أن تحكم بالقرار السياسي والاقتصادي أعداد قليلة من الرجال, كان كلّ همهم الحفاظ على مناصبهم لأطول مدة ممكنة, والقيام بكل ما يلزم لإبقاء هيبة الدكتاتورية والنظام التسلطي البغيض.
وهكذا كانت تلك السياسات المغامرة في العراق وغيره من البلدان العربية قد أوقعت البلاد فريسة للعديد من الاختناقات والتناحرات والصراعات التي بدت تظهر رأسها كلما تزعزع النظام العام للبلاد, وكانت تلك وسيلة مناسبة للتدخل في شؤونه الداخلية من دول الجوار كلما سنحت الفرصة بذلك. من هنا تتجدد الدعوة إلى أهمية القيام بتنظيم الحياة السياسية على وفق قانون يعمل على خدمة مصالح البلاد ويعيد للأحزاب أهميتها الاجتماعية باعتبارها ركنا أساسيا من أركان الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وليس وسيلة للقفز إليها والتحكم فيها برقاب الناس.
لكن الأحزاب بلا قانون للأحزاب ينظم شؤونها, ويعمل على تهذيب العمل السياسي, ويرسي قواعد العمل الحزبي والديمقراطي واحترام الرأي الآخر؛ كل ذلك بلا قانون للأحزاب والجمعيات قد يحول تلك الكيانات إلى عبء جديد على الدولة والمجتمع والنخب على حدّ سواء, وقد يقود البلاد إلى صراعات مليشياوية لها بداية وليس لها نهاية. فليس ثمة أسهل من جمع عصابة للقتل والخطف والسرقة تحمل علما وختما وتلجأ إلى مقر حكومي أو غير حكومي لتعيث بالأرض فسادا.
ما هكذا تمارس الحريات العامة وما هكذا بالطبع تكون الديمقراطية. لأن الديمقراطية بحد ذاتها تعني العمل بالقوانين والحفاظ على الدستور والتقيد بالأعراف التي اختطتها الدولة وهي دائما ضد الفوضى السياسية. ومن هنا فإن العديد من الأحزاب السياسية التي تعيش على الفوضى لا ترغب بسن قوانين لها لأن مثل هذا الأمر يحد من نشاطاتها ويضرب مصالحها كما أنها تكون عرضة للمسألة القانونية. حسنا هذا ما يفسر لنا بقاء الأحزاب السياسية في العراق أكثر من خمس سنوات بلا قانون ينظم شؤونها علما بأنها تعد أحزابا حاكمة.
ومن أهمّ أسباب استشراء الفوضى السياسية في أي بلد هو غياب قوانين واضحة للأحزاب تنظم العمل السياسي فيه. ومن الغريب ان ليس ثمة قانون للأحزاب بعد في العراق حتى الوقت الحاضر, في حين إن العراق عمل على إصدار دستور دائم له – مهما يكن موقفنا من الهنات في هذا الدستور- ويفترض ان يستتبع ذلك إصدار قانون للأحزاب والجمعيات والجماعات الاثنية. ويعود تفسير ذلك – من وجهة نظري- إلى عدم الاهتمام بتطوير الحياة السياسية في العراق باتجاه يكفل التعايش السلمي بين الكتل والجماعات السياسية ولكي تبقى الكتل القديمة التي تكونت بفعل ظروف خاصة وتفتت بظروف أخر هي المهيمنة على الحياة السياسية فيه. لكن تفتت تلك الكتل الكبيرة حاليا يجعل من قضية إصدار قانون للأحزاب والجمعيات من الضرورة بمكان, إذ لم يعد الوضع الحالي مقبولا في ظل غياب قانون للأحزاب والجمعيات.
ويسهم إصدار قانون للأحزاب خاصة في التقليل من المحاصصة الطائفية والسياسية إلى حدّ بعيد، إذ ان الدستور العراقي الدائم قد أولى في ديباجته أهمية رفض المحاصصة فكتب: " لنصنع عراقا جديدا, عراق المستقبل, من دون نعرة طائفية, ولا نزعة عنصرية ولا عقدة مناطقية ولا تمييز ولا إقصاء" هذا الرفض الواضح لمختلف النعرات في ديباجة الدستور يجعل من الضروري قيام قانون لتشريع الحياة السياسية في العراق. وقد أظهرت الحركات الدينية الخاصة والمتطرفة في المدة الأخيرة أهمية قيام تشريعات للجمعيات والجماعات وليس للأحزاب وحدها. فلا يجوز في بلد ديمقراطي ان يقوم إنسان ما بتأسيس جماعة دينية أو عرقية منافية للدستور أو تحض على الترويج لأفكار – مهما كانت توجهاتها أو مشاربها- تعمل على تخريب الوحدة الاجتماعية للعراقيين وتمول من خارج العراق طبعا.
إن ضرورة وجود قانون للأحزاب في العراق سوف يمنع قيام أحزاب طائفية أو عرقية او جهوية إذا ما سن قانون يفترض وجود عراقيين مؤسسين لأحزاب من مختلف الطوائف والقوميات, كما أنه في الوقت نفسه سوف يعمل على سدّ المنافذ على أولئك المتصيدين في المياه السياسية العكرة, حيث سيفترض القانون – بالطبع إذا ما أريد له ان يكون وطنيا حقا - للأحزاب ضرورة انتشار أعضاء الحزب المؤسس وبعدد كاف في مختلف محافظات العراق؟ أليس هذا هو منطق الأحزاب الوطنية في مختلف أنحاء العالم المتحضر؟
كما ان القانون سوف يضع حدا لتلك الأحزاب والجماعات التي تتلقى تمويلا من خارج العراق وتعمل على قتل العراقيين وتهجيرهم. ولذلك فإن القانون المنظم للأحزاب السياسية في العراق لا يمكنه ان يتساهل في مصادر تمويل تلك الأحزاب وشفافية عملها الحزبي والتي تعمل بأجندات خارجية.. أليس هذا هو سبب كاف لعدم تصدير تشريع للأحزاب حتى الآن؟ إنه مجرد سؤال غير بريء طبعا. ففي إصدار قانون للأحزاب لن يكون بإمكان من لا هم له إلا الإثراء من وراء عمله بالسياسة إلا الكشف والتنحي عن طريق القوى الوطنية المخلصة للعراق والشعب العراقي.
#رياض_الأسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟