عباس عبد الرزاق الصباغ
الحوار المتمدن-العدد: 2542 - 2009 / 1 / 30 - 08:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
العراق والاستحقاق الليبرالي
عباس عبد الرزاق الصباغ
بغض النظر عن الانشاءات السياسية المتخبطة والانشائيات اللغوية الفارغة والمفرقعات الخطابية المستهلكة والتنظيرات الايديولوجية السطحية والممارسات التي لم تزل بعيدا عن التمدن والنضوج السياسي فان الطريق مازال شائكا وبعيدا وواسعا نحو الليبرالية الحقيقية للعراق كبلد محوري باعتبار ان الليبرالية هي الحل الامثل (وليس المثالي ) للمشهد العراقي المتميز في فردانية حضوره والمتمايز عن غيره من المشاهد الشرق اوسطية نشوءا وكينونة ومآلات ...وما أن خرج العراق من النفق الديكتاتوري المظلم حتى دخل ـ او ادخل ـ في نفق آخر قاتم هو نفق النزعة الطائفية والقومية والمناطقية والاستقطاب التحاصصي والفئوي والحزبي الضيق وبعد ان تشظت توجهات العملية السياسية ما بين اسلاموية صارخة وعلمانية خائرة القوى وهي ماتزال فتية ومابين يسار راديكالي يدرج ضمن مفردات المراهقة السياسية غير الناضجة والثورية الفوضوية المتزعزعة ومابين يمين دوغمائي متحجر وفي خضم هذه التوجهات فقد غابت القوى الليبرالية كايدلوجية وفكر وممارسة وتبني وتوجه سياسي حر نحو العالم المتحضر وغاب عن الافق مشوار الالف ميل الذي يبدأ بالخطوة الاولى...وتلك كانت الصورة البديلة عن الديكتاتورية...
فقد شاءت ارادة القوى العظمى ان تصعد الديكتاتوريات كنماذج ايديولوجية تعبر عن المصالح الستراتيجية للقوى المهيمنة على مقاليد العالم وكتوجه غلف نمطية تلك القوى في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية ونشوء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي ويدل على هذا التوجه موجات الانقلابات التي اجتاحت بلاد العالم الثالث وبالخصوص البلاد العربية ومنها العراق في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم ماعدا بعض البلدان التي اختارت او اختير لها نظام التداول الابوي مثل دول الخليج والاردن والمغرب اما العراق فلم يشهد اي استقرار سياسي (وديموغرافي واقتصادي وامني ومجتمعي) بعد سقوط الحكم الملكي والذي كان يعيش في شبه استقرار آنذاك كونه كان يحكم بآلية دستورية شبه مستقرة ايضا ، ولكن شبه الاستقرار هذا وشبه استقرار المؤسسات الدستورية والهامش البسيط من الحريات التي كفلها الدستور ادت الى السقوط المفاجئ والسريع لهذا النظام على ايدي المجموعة العسكريتارية التي اطاحت به في تموز/ 58..ودخول البلاد في دوامة العنف والفوضى والتشرذم السياسي والتناشز الاجتماعي والتقهقر الاقتصادي المريع والتخبط في السياسة الخارجية وعدم التفاعل الاقليمي الصحيح سيما مع الدول المجاوة للاطار الجغرافي للعراق وشهدت المرحلة ايضا توترا مستمرا في الداخل بسبب سياسة القمع وكبت الحريات وصعود تيارات حزبية اعتمدت العنف والارهاب منهاجا لتثبيت اركانها فدخلت البلاد في حمى توتر وفوضى (طائفيا وسياسيا ومجتمعيا ) مستمرين وبما يشبه الحرب الاهلية غير المعلنة ..
ان ظروف القهر السياسي والعنف المجتمعي والتجاذبات الاقليمية والدولية وغيرها اضافة الى التخبط السياسي ابان العهود السابقة ادت معا الى الى نشوء شيزوفرينيا بنيوية وانفصاما معرفيا مابين الداخل المقهور والمشروخ والمتشظي والمتخلف والمحكوم بالحديد والنار ومابين الخارج الذي كان يتمتع بقدر اوفر من الديمقراطية والحرية والانسجام الاجتماعي رغم اكتواء اغلب بلدان الشرق الاوسط بنيران الديكتاتوريات ولكن بدرجة اخف ....فلم يشبه العراق بارثه الديكتاتوري والاستبدادي والشمولي والفردي اي نظام من هذا القبيل في البلدان التي مرت بظروف مماثلة فضلا عن ان الاحتلال الانجلوامريكي للعراق شكل سابقة تاريخية نوعية لم تحدث مسبقا حتى في النماذج المقاربة لها في الاسباب والنتائج ناهيك عن ان النمط الديكتاتوري العراقي هو من نتاج ذات القوى التي اسقطت هذا النمط والتي ادعت انها جاءت لتحرير العراق منه فيترتب عن هذا القول ان مصير المنطقة ومعها العراق لا يخرج اطلاقا عن منظومة الحسابات الخاصة بالستراتيجيات المتعلقة بالمصالح العليا وبالامن القومي للقوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية وليس لحساب الشعوب ومنها الشعب العراقي في كل الاحوال ..واذا ما استثنينا ايجابية اسقاط النظام البعثي الفاشستي في العراق على يد منتجيه وصانعيه والاتيان ب"الديمقراطية" على حين غرة كدفعة انعاش وبعد ان تحجرت مفاصل الدولة العراقية وتخشبت المخيلة الجمعية المجتمعية جراء استوطان الاستبداد طيلة العقود التي مرت بعد انشاء الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 باشراف مباشر من بريطانيا ..وطيلة تلك العقود ولحين سقوط نظام صدام وتاسيس الدولة العراقية الحالية وباشراف مباشر من قبل الولايات المتحدة ـ هذه المرة ـ فقد بقي المشهد العراقي يترنح مابين نمط ديكتاتوري متفرد في نوعه ومابين نمط من الديمقراطية مازالت عسيرة عن الفهم الصحيح والتطبيق الناجع والممارسة المتحضرة ..ومن نتائج هذه "الديمقراطية" إرساء العملية السياسية المؤسسة على مرتكزات "ديمقراطية" متعثرة باذيال الطائفية والقومية والعنصرية والمحاصصات التي انتجت خنادق متناظرة ذات ولاءات بعيدة عن الهوية الوطنية والتعايش الوطني الحقيقي ومما زاد الطين بلة ان اتجاهات الرأي العام والتعاطف الشعبوي لم يكن باتجاه القوى الليبرالية والتوجه التكنوقراطي والتيارات المتنورة والاكاديمية إذ انجرت ـ او سيقت ـ الجماهير خلف اوهام اتضحت من خلال الممارسات العوجاء التي قامت بها القوى التي صوتت لها الجماهير بحجة ارتمائها في احضان المرجعية وتوكئها على الدعم الحوزوي المزعوم وبحجج اخرى تحت يافطات متعددة حملت عناوين بارزة مثل تقديم الخدمات والرفاه الاحتماعي وغيرها اثبتت اغلبها انها كانت فخاخا لاصطياد السذج والفقراء باستغلال معاناة هؤلاء بالتبرقع تحت الشعارات الدينية الخلابة واستثمار الرموز الروحانية لاغراض سياسية تعبوية بحتة مما انتج احد اهم اسباب الاخفاق في الاداء الحكومي في جميع مفاصل الدولة العراقية ..
ان الليبرالية تمثل خارطة طريق لاخراج العراق من مأزقه المتأتي من قصور الكتل السياسية عن الوصول الى البلاد الى مستوى الطموح اضافة الى القصور الشعبوي من فهم صحيح لمبادئ الديمقراطية ومن ممارستها بالشكل الملائم لها وللخروج من عنق الزجاجة الاوتوقراطية والاصولية والفئوية والحزبية الفوضوية ..متى نرى عراقا ديمقراطيا ليبراليا متحضرا؟ تقوده النخب الليبرالية المتنورة بعيدا عن النخب الطائفية والمؤدلجة دينيا وقوميا وعرقيا؟ ..
#عباس_عبد_الرزاق_الصباغ (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟