|
الشَطريّون : قصة
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 2539 - 2009 / 1 / 27 - 05:28
المحور:
الادب والفن
إنه موجود ٌ هناك ، كل يوم ٍ في المكان نفسه . هناك حيث الريح الثملة تلعب في الماء الأخضر . تنطلق برائحة الكحول ، نزقة ً ، معربدة ً ، تنشرها فوق النهـر ، في دروب السماء ، فوق النياسم ، بين الأشواك والأكمات ، وتمسح بها ريش الطيور وأصداف الحشرات .. هناك ، في صريفته الصغيرة ، النائية ، متوحدا ً إلا ّ من الريح والماء . لا يعرف من أين تأتي هذه الريح ، مباغتة ، تهـزّ ثيابه بعنف وهي تنزل إلى النهر ، متزحلقة فوق الماء ، مخلفة ً خطوطا ً متموجة ً ، مائلة ً تترجرج مترنحة ً سكرى .. ما تلبث الريح ان تصعد محلقة ً ، دائرة ً بنشوة ٍ في السماء ، ثم تنعطف مقبلة نحوه ، تصفر بلحن بري ٍ سريع ، فتدخل ناعمة ً وباردة ً تحت ثوبه ، وتعبث بكوفيته ، تبعثرها وترفرف بها ،فيدفعها بيده ، ويطلب منها أن تكف عن الهزار ، يدعوها أن تنتحي جانبا ً .. أن تذهب حيث الطيور .. أن تلهو بين الدغل ِ . لكنـّما الريح كانت تجده هناك ، وهناك كانت تلعب معه . في كانون الثاني ، الليل يأتي راكضا ً ، ما ان تمضي الساعة الرابعة عصرا ، حتى يسقط الظلام شجيا ً ، يلمّ ُ البرد َ بعبائته السابغة من الدروب ، ويأتي شجيا ً . في هذا الغروب ، كان لائذا ً بجانب صريفته ، معتزلا ً مثل كلب الماء . ينفذ بسمعه وبصره بعيداً ً في النهر ِبعينيه العميقتين ، المسوّرتين بجفنين رقيقين أحمرين ، وبين آن ٍ وآخر تتغرغران بالدمع ،حين يلذعه البرد ، فتسرع الريح ُ ضاحكة ً ، تمسح عينيه بلمساتها الراعشة وتمضي . كان الهواء ُ باردا ً ، وكان وجهه النحيف في الهواء . يقف ًُ ويداه مسترخيتان في جيوب سترته العسكرية القديمة ، وكوفيته ملفوفة حول رأسه ، ومن وسطها يبرز وجهه المغضن ، الحنطي ، الصغير ، الذي يشبه التين المجفـف .على وجهه كانت ثلاثة خطوط ٍ متوازية ، مائلة ، من الجانبين ، تنزل من الصدغين إلى طرفي فمه ، كانت تظهره ُ وكأنه مبتسم ٌ طوال الوقت .. مبتسم ٌ حتى وهو راقـد ٌ في صريفته ، وما أرقّ وأحلى أن ترى الإنسان مبتسما ً في رقاده !.. اسمه ( فلاح ) .. ( فلاح السمـّاك ) ، أنيس الصيادين . لكن الجميع ينادونه ( أبو تغريد ) . منذ ُ أن مارس الصيد َ معهم صار يـُعرَف ( أبو تغريد ) فقط . كان رجلا ً خـُلِق َ للماء والريح ، بين أضلاعه قلب ٌُ حر ٌ ، لا يعرف حدودا ً للحريـّة ِ . تخطـّى الأربعين ومازال أعزبا ً .. بمزاحهم الساخر الفظ أطلقوا عليه لقبا ً تهكميـّا ً ، وهم يقارنونه بلا إنصاف ٍ مع جاره ، الأشقر، الغني ، ( أبو تغربد ) .. وكانت إبنته تغريد بلورا ً مشعا ً على الطرقات حين تروح وتغدو ... كان إسم تغريد ، في نظرهم ، إسما ً عصريـّا ً ،متحضرا ً ، جذابا ً ، يطلع من زغب الريش الملون وزقزقات الطيور ، لم يكن قد اُُختـِرع َ لأمثال ( فلاح ) ، الـّذي تكفيه تلك الأسماء الريفية من مثل ( ملكيّة ، هنديّة ،رسميّة) ، من تلك الأسماء التي ارتبطت ببؤس ٍ بالياء وتاء التأنيث حين لم تجد ما ترتبط به . هذه الأسماء وحدها تليق به ، وفي أحسن الأحوال ِ يمكنه التشبث بـ ( فاطمة ) أو حتى ( نجاة ) .. الـّذي حدث فيما بعد وأدهش الجميع ، أن ( فلاح ) نفسه تمـَسّـك باللقب هذا ، عازما ً أن لا يموت إلا ّ مبتهجا ً بأجمل التغاريد . وعلى ساعده الأبيض وتحت عبارة ( آه يازمن ) ، وشم َ لقب ( أبو تغريد ) أيضا ً !.. حتى سنوات ٍ قريبة ٍ ، كان يشتغل بدأب ٍ مع مجموعة ٍ طيبة ٍ وحميمة ٍ من الصيـّادين ، مغمورا ً بحبهم وحماسهم ونواح أغانيهم التي تنهمر في الروح كالشمع الذائب . كانوا يعملون في الشتاء فقط ، موسم الأسماك والرزق . ويصطادون بوفرة في نهـر ( الغرّاف ) . إعتاد العمل في النوبات الليلية ، في الليل فقط كان يكدح ، ساهرا ً مع الماء والخمر والريح .. لم يكن مجرد رامي شباك ٍ إلى الماء ، إنّما كان شيئا ً جميلا ً مشاعا .. جميلا ً ومشاعا ً مثل بحيرة سماء الليل الزرقاء ، التي يتوهج فيها الألماز ، والتي توشك أن تنسكب فوق جباههم وعيونهم .عشِق َ دندنة النهر ، وعلى شواطئه ظلّ يسبح بفيروز الماء والسماء حتى النفس الأخير .وهناك كل الأشياء تعرفه ، تطوّقه بروائحها النديّة ، وصحبتها التي لا تهون .. تعرفه كأنه شيئا لا ينفصم عنها أبدا ً!.. في ذلك الخلاء المتلألىء الوديع ،جنب النهر الساكن الذي لا تحركه سوى ارتعاشات زفيف السمك في الماء ، من وقت لآخر ، وفي ذلك السهر السحري ، تحت ضوء القمر والنجوم وخيوط الضوء التي تنوس على صفحة النهر ،وأصوات الغناء العجيب الذي لا يتوقف عن الصعود ملتاعا ً وحنينا ًإلى قباب السماء !.. في مرات ٍ عدة ٍ ، كسب الكثير من المال ، فأسرع في تبديده على عائلته الكبيرة . ليبقى عازبا ً ، فقيرا ً ،مُغتـَما ، لا يملك شيئا ً.. ذات مرة ٍ ،راح يلمـّح في خلجات السُكر ِ إلى أصحابه عن رغبته في الزواج ، مثيرا ً زوبعة ً من المفاجأة والسخرية ، وكأنه الوحيد الذي ليس من حقه الزواج !.. وفي سُكرهم تمايلوا أمامه كالجان عارضين عليه أنفسهم للزواج ، وسرعان ما انفجر ضاحكا ً بحطام أسنانه التي تشبه حبوب الهرطمان . نسي الأمر ، وعاد لينغمس في الصيد والشراب . لقد تغيرت أشياء ٌ كثيرة ٌ ، بعد سنوات ٍ فـُرِضَ الحصارُ على البلاد ، وتوقف السمك عن المجيء وشحّ الرزق.. شحّ إلى الحد الذي جعل أكثر الصيادين يتخلون عن الصيد ، ويهجرون عملهم ، ويذهبون إلى المدينة كبائعي أسماك ٍ وحسب !.. كانوا يجلبون الأسماك من مناطق َبعيدة ٍ ، أسماك مختلفة ، صغيرة ٌ برائحة زفر لا يحتمل ، وأخرى كبيرةٌ ببطون دمويـّة حمراء ، لا تثير الشهيّة . بينما إنكفأ ( فلاح ) معانيا ً من الفقر والبطالة .. ان كل هذا الأمر لا يعني بالنسبة له شيئا ً ، ولا بأس أن تتوقف الأمور عند هذا الحد ..لا بأس ، لكن الأنكى من أي شيء ٍ آخر ٍ، ان الخمرة لم تعد تصل إلى المدينة ، ولم تصل إلى فمه الضمآن خلال هذا الوقت قطرة ٌ واحدة ٌ منها !.. وكل ما فعل أصحاب محنته، أنّهم دلـّوه على باعة الخمر المحلي والكحول السيء ، الذي كان سُما ً حقيقيا ً أكثر من أن يكون شراب نشوة ٍ . وحتى هذه البضاعة الرخيصة ، سرعان ما استنفدت ، لتختفي تماما ً . حالا ً ،وبلا تأخير ، جاء البديل القاتل الرهيب ، كحول المستشفيات المعروف بأسم ( السبرتو ) . كانوا يخفقونه بكثيرٍ من الماء ، ويتجرعون منه جرعات ٍ صغيرة ٍ تكفي لإلهاب الجسد واشعال النيران فيه ، وتدوير الدماغ بشكل ٍ لا يوصف !.. وقد نجح هذا المشروب الجديد في القضاء على حياة العديد من شاربيه .. بوسيلة ٍ أو أخرى ، كان هذا الكحول يصل من المستشفيات ِ إلى ( فلاح ) .. يصل تحت جنح الظلام .. يصل دون مساومات ٍ.. منذ ُ تشرين الثاني ، في هذا العام ، جاء إلى هنا مرة ً أخرى . جاء بذكريات الصيد وأحلامه .. جاء بروح الماضي الذي لا يموت ، بشجرة حياته التي تفوح من أوراقها رائحة السمك ، وتتلألأ على فروعها الأصداف الفضيـّة . جلب الحصران والقصب ، وصنع كوخا ً صغيرا ً على جرف الماء .. كوخا ً ظلّ يبرق مثل الذهب تحت وهج الشمس وألق القمر ، وتنعكس صورته مهدهدة في حضن النهر . نائيا ً عن المدينة ، في العراء .. العراء الذي يمتدّ بلا حدود .. قرب الكوخ ، غرس وتدا ً عميقا ً في الأرض ليثبت زورقه ، وعلى جداره كانت تتكىءُ درّاجته الهوائية القديمة . لم يأت ِ إلى هنا ليصطاد الأسماك ، إنـّما جاء لأمر ٍ آخر ٍ !..إنّه موجود ٌ لأجل كلاب الماء فقط . في هذا الشتاء يصيد كلاب الماء المنحدرة في نهـر ( الغـرّاف ) .. لا أحد يدري كيف تـَعرّف ( فلاح ) إلى هذا النوع من الصيد ، وكيف تسنى له التدرّب عليه بمهارة ٍ ؟.. إلا ّ ان الناس تقول ان رجالا ً غرباء يأتون ليشتروا جلود كلاب الماء ، وكانوا يدفعون بالغ مغرية ً لقاءها .. إنّها مهنة ٌ غامضة ٌ ، وهم يقولون أيضا أن الرجال يذهبون بتلك الجلود إلى الأردن وسوريا ، ومن هناك كانت تذهب إلى دول ٍ اخرى ، وكانوا يرددون أسم ( قبرص ) بينها كثيرا ، من يدري !.. منذ ُ عودته إلى الصيد ، عاد قلبه يخفق عاليا ً ، بات يسمع خفقانه مثل خفق الساعة . وذابت أحاسيسه لتصبح هبـّة ريح ٍ تنزلق من مكان إلى آخر بلا توقف ٍ ولا تردد ٍ . في الشتاء ، كلاب الماء أكثر تواجد ٍمن أي وقت ٍ آخر . تسبح باحثة ً عن الأسماك ، متوجسة ً حذرة ً . تنشط ليلا ً بعيدا ً عن الإزعاج . تطفو مقدمة وجوهها فوق الماء ، في ضوء القمر ، أو عند الغبش ، في رماد الليل ، تتشمـّم بهدوء ، تنساب ببريق ولمعان عيونها . آذانها وعيونها وإنوفها على مستوى واحد ٍ ، لهذا فهي تسمعُ وتشمّ ُ وتنظر دفعة ً واحدة ً . وحين تستجيب لأدنى نأمة ٍ يـُخيَـل إليك انها بأ لف عين وألف أذن . تندفع بأجسامها الطويلة الرفيعة ،كالزوارق الصغيرة . عائمة ً بصمت . لا تعرف الإستقرار ، تقطع النهر صاعدة ً ونازلة ً على الدوام .. تغطس في الماء .. تغطس طويلا ً باحثة ً بنهم ٍ عن الطعام .لا تخرج من الماء إلا ّ في الأماكن الآمنة البعيدة . كم هو جميل ٍٍ أن تأتي تلك الكلاب بجرائها الصغار ، وهي تزعق ُبصوت ٍ رفيع ٍ وعميق ٍ ، يشبه جرّ الحديد على البلاط .. جذلة ٌ تعبث حول أمّها .. لم يعلـّمه أحد ٌ ذلك ، تعلم صيد كلاب الماء بفطرته ، إكتسب الخبرات سريعا ً ، وتبادل المشورة مع الصيـّادين الآخرين الذين كان يلتقيهم عند تخوم المدينة . كان رقيقا ً كالماء ، لا يستعمل بندقيته إلا ّ ما ندر ، معتمدا ً في صيده على الفخاخ التي ينصبها في أماكن ٍَ متفرقة ٍ من النهر ِ . كان يصيد في حدود مدينة ( الشطرة ) فقط ، لا يمكنه تجاوز تلك الحدود . هنالك صيـّادون مثله في كل مدينة ٍ وناحية ، إنـّهم يحترمون الحدود ، ويعرفون إلى أي مدى يذهبون .. لكل ِ مدينة ٍ حدودها ، وهم لا يجسرون على كسر الحدود وخرقها .. إنـّهم متفقون على خريطة رزقهم بلا إتفاق مبرم .ٍ لم يكن ( فلاح ) لوحده صيـّاد كلاب الماء هنا ، فعلى طول عشرين كيلو مترا ًٍ كان يأتي الكثير من الصيـّادين .. العديدون جاءوا .. جاؤوا وفي عيونهم نظرات التصميم على صيد الكلاب ، لكنهم رحلوا دون أن يفعلوا شيئا ً. وحتى قبل أيـّام ٍ ، مـرّ رتـلٌ من الفتيان بوجوههم الداكنة ، المُبَقَعَة ، المليئة بالفقر ِ ، وبتيجان شعورهم الشعثاء ، حاملين شباكهم وبنادقهم ، رمقوه بنظرات ٍ متفحصة ، مرتبكة ، متسائلة ، أطلقتها عيونهم الجاحظة التي توشك أن تسقط من محاجرها بين أقدامهم . جاءوا وذهبوا بلا إثارة ٍ , فقط ، إنـّه وحين ابتعدوا عنه ، رفع رأسه ورشق سراويلهم الواسعة الغريبة بنظراته ، وكان يـَوُد لو يخبرهم أنّ كلاب الماء لا تخاف من هذه السراويل مطلقا ً !.. في الشهر السابق ، إصطاد ( فلاح ) كلبين ، سلخ َ جلديهما ، وباعهما بمليون دينار ٍ . وحمل المال كلـّه بسحره ِ وزينته وأعطاه لأهله ، عرفانا ً بالجميل .. جميل سنوات البطالة التي أمضاها بينهم مثل قط وجاق . كان يعمل من أول الليل حتى أول الصباح ، ويستسلم للنوم طوال النهار . الآن ، في كانون الثاني ، حيث ينزل الظلام البارد كالثلج الأزرق ، يشعر ( فلاح ) بتجمد أطرافه ، فيجلس في حمى الكوخ ، يراقب النهرصامتا ً ، مُقَلِصاً رقبته بين ياقة سترته العسكريّة الناصلة اللون ، والتي تُظهِرَهُ مثل جندي ٍ مجهول ٍ ، مجالد ٍ وصبور ٍ ، مرابط في موضعه ِ . ومالبث حتى دخل الكوخ لينهمك في إعداد العشاء والشاي .. وحين انهى ذلك ،تناول مجذافه وقفز إلى زورقه وانطلق بصحبة الليل والريح ، منسابا ً بصدر ٍ ترتعش فيه أحاسيس الجمال ، يقطع المسافات البعيدة بحثا ً عن طرائده ِ . يتكسر السعال في صدره الصغير .. الصدر المليء بالحب والأيمان ، كان واثقا ً من معونة رَبـِّه على الدوام . كانت السحب القزعية الشفــّافة العالية تعبر السماء ،و ترسم ُ في أطوارها مناظرَ كثيرة ً تحت النجوم والقمر ، في غاية الدهشة والإفتتان ، توحي بأن السماء ترتفع تارة ً ، وتهبط تارة ً أخرى . كان منطلقا ً مع الليل والسحاب ، ليس بوسعه أن يحسّ بالتعب ، مكتفيا ً بقليل ٍ من الحظ .. لم يقلق بشأن سِلالِه ِ ، سواء امتلأت أم فرغت ، المهم هنا ، انه يحب رائحة الليل ويستنشقها عميقا ً، موله ٌ بها ، كانت تسكره . وهنا يمكن أن ينسى همومه وينسى كلَّ شيء .. جـدّفَ بزورقه مسافات ٍ بعيدة ً، صاعدا ً شمالا ً ونازلا ً جنوبا ً ، ماسحا ً صفحة النهـر لساعات ٍ عدّة ،قبل أن يرجع إلى كوخه . ربط زورقه ،ثم عرج إلى تفحص شبكة صيد سمك ٍ مثَبتة جانبا ً في الماء .. كان يكرر هذا الأمر كلّ ليلة ٍ ، وكل ليلة ٍ يجلس متحفزا ً في الظلام أمام النـهـر . وحين يحسّ بالتعب ِ ، يدلف إلى الكوخ ليستمع إلى نواح مطربه ،في آلة التسجيل ، ويحتسي شيئا ً من الكحول . كان سعيدا ً بهذا القدر من الدنيا ، ولسوف يكون أكثر سعادة ٍ لو جاءت كلاب الماء .. بعد استراحة ٍ قصيرة ٍ ، خرج وقفز مرة ً أخرى إلى الزورق وأخذ يجوب النهـر . الآن ، تقوضت ساعات الليل ، وها هو الغبش ..الغبش الذي تكون فيه السماء مضيئة ومظلمة في آن ٍ واحد . النهـرعاري ووديع . الريح والنهـر واهنان ، السماء والبريّة والأشياء ..كل الأشياء تبدو هشة ً وباردة ، متغشية ًبالغشاء الرمادي الكوني المهيب .. بالرغم ممّا وُصـِفَ بأن جلده جلد نمـر ٍ ، إلا ّ انّ البرد كان موجعا ً ، يوخز العظام ،وقف في حمى الكوخ مقفقفا ً يراقب النهـر. خلال دقائق سمِعَ صوت ارتعاش ماء النهـر ، وهسيسا ًٍ ينبثق هادئا مع الماء !.. سرعان ما تهيأ ممسكا ً ببندقيته ، شاخصا ً في عمق الغبش الداكن . بعد ثوان ٍ شاهد كلاب الماء سابحة ً وزاعقة بصوتها النافذ الرفيع . كانت تروغ من مكان ٍ إلى آخر . ضحك من كل قلبه ، وتساءل أين كانت هذه الحيوانات ؟.. منذ شهر ٍ لم تظهر ، لقد تأخرت عليه طويلا ً. النهـر يزهـر الآن ، ولم يستطع أن يصرف نظره عنها لحظة واحدة . مالبثت كلاب الماء حتى انبجست من النهـر وصعدت إلى الجرف . إنتزع نظراته منها ، وهبَّ خفيفا ًإلى سمكاته ، التي كان قد اصطادها ، وراح يضعها في بعض الفخاخ القريبة . وفي رمشة ِ عين ٍ قفزت كلاب الماء إلى النهر ، وعادت تخوض في الماء ، وكان الماء يتماوج مرتعشا ً . كان يقف متحفزا ً ورائحة الدخان الكامدة في سترته تملأ منخريه .. قبل انبلاج الفجر اقتربت تلك الكلاب مسافة ً منه ، وعلى الفور عرف أنّها أنثى مع صغيرها الوحيد . كانت شديدة الحذر ، لم تدن ُمن الفخاخ رغم السمك الموجود فيها . هنا وجد ( فلاح ) نفسه مضطرا ًإلى سحب بندقيته ، إنّها لا تريد الإقتراب من الفخاخ ، وبعد قليل سيأتي الصباح وتختفي عنه . جلس رافعا ً إحدى ركبتيه ، ساندا ًعليها يده اليسرى التي تمسك بالبندقية ، مسددا ً ومصوبا ً ناره إلى رأس الكلب .. إلى الرأس ِ فقط ، لأنه يعلم أن الجلد المثقوب لا يـُباع ولا ُ يُشترى . بعد لحظات ٍ من التحسب والإنتظار ، دو ّى صوتٌ فَجـّر النعاس الحالم في العراء . إهتزّت الريح موشوشة ً وأرتجف جسد الماء ، ومن بعيد صرخت الطيور فزعة بأصواتها الخشنة التي طاشت في السماء . وظل ّ يَتـَلفت حوله وهو يشعر بالأسف والإحراج !.. أصاب الأم مباشرة ً .. أصابها في رأسها ، راحت تنتفض في الماء نازفة ً . ركض نحو الزورق وانتشلها ، وعاد بها بعد أن غسل دماءها . وعلى الجرف تركها تقضي نحبها . حين نظر إلى النهـر ، لم يجد أيّ أثر ٍ لصغيرها .. كان متعبا ً وجائعا ً ، دخل إلى الكوخ وأكتفى ببضع رشفات ٍ من الكحول وخرج على الفور . عند باب الكوخ ، جعل الكحول جسده يقشعر ويهتـزُّ . في ضوء الغبش الرطب الخافت ، كانت أجفانه الرقيقة تبدو أشدّ َُ احمرارا ً وهي تغالب النعاس . وضع يده على فمه وأخذ َ يتثاءب بصوت ٍ عال ٍ .حين نظر إلى فريسته ، دُهـِشَ إذ رأى جروها الصغير منحنيا ً يتشمـّمُها مرتجفا ً مرعوبا ً، على الفور أحسّ الجروَُ بتسلط أنظار الصيـّاد عليه ، فأشاح برأسه صوب النهـر، ثم رمى نفسه إلى الماء وغاص تحته ، تاركا ً الألم يترنح بين عيني ( فلاح ) . بعد دقائق ، طفا الجرو فوق الماء ، راح يدور دورات ٍ واسعة ٍ وهو يجأر بصوت ٍ حزين يقطع نياط القـلب ، صوت ٌ راعف ٌ تتلجلج فيه اللوعة والحنين ، جعل ( فلاح ) يهتـزّ أسا ً وندما ، إندفع إلى داخل الكوخ ، وشرب جرعات ٍ أخرى من الكحول . ثم خرج منصتا ً إلى بكاء الجرو الصغير بصوته الشجي المبحوح ، الذي كان يحوم وحيدا ً وغريبا ً لا يعرف إلى أين يذهب !.. أخذ َ تيـّارٌ كهربائيّ ٌ يسري في جسده ِ المكدود ، وتنمّـلت أطرفـُهُ ، وأخذته الرعشة ُ ، وبدأ دُوار السـُكر ِيدير رأسه ، ووقف مترنحا ً ، لا يقوى على ضبط نفسه .تحت وطأة السـُكرِ شعرَ بالأسف العميق حيال الجرو الصغير . وراودته أفكار ٌ لا ترحم . كان يشعر بأن الريح والماء والطير والسماء ، تنظر إليه شزرا ً بعيون ٍ تقدح ُ غضبا ً لفعلته هذه . تأججت مشاعره ، وأنتفض الحب في صدره ، وملأ أذنيه طنين ُ عالي وأنساب فيهما عميقا ً !.. بألم ٍ هادر ٍ ، وقف مستغربا ً أن تكون في داخله فضاعات كهذه ، وراوده ضرام فكرة أنّه قتل أمّ َ طفل ٍ صغير ٍ . ظلّ حائرا ً ، متمايلا ً بضميره المُـعَـذ َب ، يقتله الإحساس بالخطأ الفادح !.. الآن أشرقت شمس الصباح .. ضوؤها يتماوج على السطح الكريستالي للماء ، ويتوهج على شعر الكلبة الميتة على الجرف . كانت نظراته كابية ً، ألمّ َ بها الحزن ، قال هامسا ً : ( كان لا ينبغي أن أهشم رأسها ) . وسقط في لجة إحساس ٍ بالفجاجة وقلة الخبرة ِ . الجرو لم يزل يدور على سطح الماء ، راميا ً بنظراته المذهولة ، اليائسة نحو أمه وهو يواصل نحيبه . بينما كان السـُكرُ يعصف بمشاعر (فلاح ) ، الذي إنخلع قلبه أمام هذا المنظر ،وفي ثورة أحاسيسه طفق ينتحب كالطفل الصغير ..أمام الجرو وقف يسكب دموعه !.. كان رجلا ً بهيئة طفل ٍ .. بهيئة طفل ٍ يتيم ٍ ، وحيد ٍ ، مهترىء الثياب ، متسخ ، لم يحلـُق ذقنه منذ وقت ٍ طويل .. توقف عن البكاء ،أخذ يصيح بأصوات ٍ كتلك التي نطلقها حين ننادي على الكلاب ، يتوسل طالبا ً من الجرو الإقتراب . كان في شوق ٍعارم لإلتقاطه..يصيح به ( تعال إلى هنا .. تعال ) ، لكن الجرو راح يوسع دائرة عومه ، جاعلا ً ( فلاح ) يصيح بصوت ٍ أعلى : ـ لأجل الله لا تبتعد .. لأجل الأنبياء تعال . كانت روحه تتألم كثيرا ، وهو يناشده مترجيّا ً ، كانت رقصات أحلامه قد انتهت . وما لبث أن تعتعه ُ السـُكرُ نحو النهـر .. خلع سترته ورماها على الجرف ، ورفع كوفيته عن رأسه وتركها تنجرف مع الهواء ، وهبط إلى النهـر وهو يخلع ثوبه ويرمي به إلى الماء .. تقدم إلى وسط النهـر مترنحا ً .. تقدم بقـلب ٍ من الفحم المتجمر والدخان . وحين غمره الماء راح يضرب بيديه سابحا ً ، يبرز رأسه مبلولا ً تتقطـّر منه الشفقة والحنو .. كان يسبح نحو الجرو ، وقد بدا مستنزفا ً ، غير أن الجرو فـَزع َ وغطس متواريا ً في الماء . توقف ( فلاح ) عائما ً في ً وسط النهـر ، بجلده المزرق ولهاثه المسعور ،يبحث عنه ، ولمـّا لم يجده ، غطس في أثره، تاركا الماء المضطرب حوله يرسم دوامات ضيقة ًأخذت تتسع وتبتعد مخلـّفة ً رقرقة ماء ٍ فوقه تماما ً لينة ًوهادئة ً ومضيئة ً كالفضة ِ !.
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية ابن ( علي بابا ) : قصة قصيرة
-
أثناء الحُمّى
-
أغنية صديقي البَبَّغاء
-
ورد الساعة الرابعة
-
نبيذ العشق العرفاني من كوز الأمام الخميني
-
درس في الرسم :قصة قصيرة
-
الندّاف
-
تهيؤات : قصة قصيرة
-
الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة
-
برعم وردة على صدر العجوز
-
اسقربوط البحر المظلم
-
في أرض رجل ليس مريضاً :قصة قصيرة
-
غسق الرشّاد البرّي (قصة قصيرة )
-
غسق الرشّاد البرّي
-
ضريح السرو : قصة قصيرة
-
كرابيت GRABEIT
-
هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت
-
خلدون جاويد: قلب يغرد بالمحبة
-
تفاح العجم
-
احتباس
المزيد.....
-
“الجامعات العراقية” معدلات القبول 2024 في العراق العلمي والأ
...
-
175 مدرس لتدريس اللغة الصينية في المدارس السعودية
-
عبر استهداف 6 آلاف موقع أثري.. هكذا تخطط إسرائيل لسلب الفلسط
...
-
-المُلحد-.. إبراهيم عيسى: الفيلم هو الدولة المدنية التي نداف
...
-
ساويرس يرد على سؤال بشأن فيلم -الملحد-.. وهذا ما قاله عن -من
...
-
-رأس الخس- يلاحق تراس من جديد ويخرجها من المسرح (فيديو)
-
هيفاء وهبي تعلق على قرار منعها من التمثيل والغناء بمصر بآية
...
-
بعد أزمة فيلم -الملحد-.. هل تأجل العرض بمصر أم مُنع العمل؟
-
جيمي كيميل لن يقدم حفل الأوسكار المقبل لهذا السبب
-
استقبل الأن.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 batoot Kids على جمي
...
المزيد.....
-
في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
(مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
كتاب نظرة للامام مذكرات ج1
/ كاظم حسن سعيد
-
البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
صليب باخوس العاشق
/ ياسر يونس
-
الكل يصفق للسلطان
/ ياسر يونس
-
ليالي شهرزاد
/ ياسر يونس
-
ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير
/ ياسر يونس
-
زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي
/ ياسر يونس
-
رسالةإ لى امرأة
/ ياسر يونس
المزيد.....
|