|
كشف دلالات المعنى الشعري عند أديب كمال الدين
زهير الجبوري
الحوار المتمدن-العدد: 2537 - 2009 / 1 / 25 - 03:52
المحور:
الادب والفن
حين يرقى الفن الشعري بالأحاسيس ويشذّبها، تنفتح العديد من المدارك والهواجس في تناوله أو تذوقه.. فالكلمات بإيقاعياتها المؤثرة تعطي للمتلقي ميزة الاستسقاء من محيط الجمال الفني في هذا الشعر مهما كانت طرق طرحه أو إلقائه. وليست المسألة تكمن في كشف هذه الجماليات وحسب، وإنما في عملية خلق إيقونات غير مألوفة في ذلك، تتكرس فنياً في صياغة المعنى، وكشف دلالات تدخل في بنية اللغة وآلياتها الحرفية، وهنا ندخل إلى شعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة).. وحين نضع الشاعر(أديب) في خبرات فنية لشعرية لم تهدأ في البحث عن مكامن وأسرار الحرف العربي، فأننا نرافقه بعيون راصدة لكشف خفايا كتابة النص الشعري وتشظياته المعرفية لديه، كما إن تمثلاته في تشكيل الصور الشعرية النقية، أعطت انزياحاً واضحاً باستخدام الحروف كشفرات للدخول إلى المتن.
وثمة إشارة سريعة لشعر (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، إنها تحمل أسرار الكشف عن صياغة (معنى)، لتتحول وظيفة الحرف كمعطى أيديولوجي.. لتصبح العملية مبطنة، شاعر يكتب حرفاً.. وحرف يكشف معنى، وهذا بحد ذاته يعد إثراءً شعرياً مؤطراً بالعديد من آليات الاشتغال الشعري الحديث.
إنّ نصوص هذه المجموعة ليست سوى تنويعات متجانسة لمحورية (ممركزة) تنفجر لحظه انفعال هذه المحورية مع ذات الشاعر، فالحرف أحياناً لا يحمل قيمة دلالية فحسب، بل يستخدمه الشاعر كعنصر له خصوصيته لتكون مهمته وظيفية، ولعلنا نجد التلاقح بين أدوات اللغة وبين حروفها تناظراً في خلق الرؤيا الشعرية، وليس الحرف جزءاً لا يتجزأ من منظومة اللغة، الحرف صفة رمزية، شكل لسحب المعنى .. والمعنى بكل ما جاءت به التعريفات (الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توفرها في الرمز حتّى يكون قادراً على حمل المعنى ) (د.أحمد عمر/ علم الدلالة ص11). ولكننا لا ننكر بأنّ السمة الاساسية التي طرأت في شعر أديب كمال الدين تعتمد بالدرجة الأساس على ذهنية عالية، وأعتقد بأن حداثة الشعر الحالي تسير بالخطوات هذه. ولنصارح الشاعر في قصائده هذه: إلى أيّ أفق يمكن أن ننظر اليه وسط تعدد ألوان قصائده، رغم الهاجس المشترك والإحساس بوجود نكهة مشتركة أيضا؟ وأقصد انّ الحروف كلها تتنازع الأداء ولكنها لا تنفصل عن حدودها المرسومة لديه - أي الشاعر- إذ نقرأ في نص (يابائي وبوابتي):
مع أنني أطلقتُ عليكِ اسم الباء
ثم أطلقتُ عليكِ اسم النقطة
(بعد أن قيل لي ان كلّ الباء في النقطة)
فإنني لم أشفَ من جراحي التي سببتها
سكاكينكِ وشراشفكِ وروائحك. (ص31 )
بتأثير الحس الصوفي المنطلق في استخدام (الباء) واستخدام (النقطة) تكمن المقارنة واللعبة الشعرية في تشكيل الصور كما ذكرنا. وحين تقف الحروف بهذه الطريقة فإنّ الانسلاخ المدروس في خلق العديد من الصور ينتقل لتصير أكثر مجازاً وانزياحاً:
كان المشهد أكثر كابوسية مما أحتمل
إذ كان يتطلّب أن أقلع عينيّ
كما فعل أوديب
وأن أقطع رأسَ الحروف
وأعلّقها على بواباتِ العبث
ولم تكن لديّ حروف بالمرّة .(ص32 )
من جانب آخر، هل يمكن أن نصف اشتغالات الحروف هنا على أنها أعطت فعلا (تشبيهيا)؟ فـ(التشبيه حين يكون معادلة واضحة النسب والدلالة طرفاه من جنس واحد) كما يقول الناقد (عبد الجبار عباس).. ولكن ميزات الإلقاء وتأثيرها على المتلقي، ضمن انفتاح الآليات الشعرية تستقبل رؤيةً جدّيةً من الشاعر أديب كمال الدين في محاولة تأسيس نمط شعري (منفرد) لتصبح الشعرية (شعرية/ تصميمية).. (شعرية/ موضوعية).. (شعرية/ شعرية).. واللمحة الابتكارية التي جاءت سريعة في تشبيه بعض قصائد هذه المجموعة تمحورت حول موضوعة (الضمائر)، ولكنها جاءت مطلقةً أيضاً، وتحمل دلالات مفتوحة بين(هو) و(أنت)، كما في قصيدة (هو أزرق وأنتِ زرقاء):
أنتِ تشبهين البحر في كلّ شيء
نعم،
هو أزرق
وأنت زرقاء
هو ساذج أخرق
وأنتِ ساذجة أكثر مما ينبغي (ص14).
(ثم بعدها تتكرر):
أنتِ تشبهين البحر
لا شك في ذلك!
ولكن أيّ معنى يختفي خلف هذي الحقيقة؟
لقد ضعتُ بين يديكِ قبل أربعين قرناً.(ص17)
فبين نسق الجملة داخل النص وبين تأطيرة المعنى المشفّر، ثمة ملامح واضحة من أداتي الإشارة (هو.. أنت)، لتصبح تعادلية بين(ذوات) فيها هواجس وأحاسيس، وبين صور لها دلالة مكانية: (البحر.. فراشة..الطين.. المشاعل والسكاكين.. ثلج، وغير ذلك). ولعلنا هنا نبحث عن دور الحرف وانسجامه مع (المعنى).. مهما كانت منهجية الشعر أو تجربيتة أو نمطيته، ومهما كانت وظائف الجملة المنسجمة، فبالرغم من النزعة الصورية المتشكلة والتي أشرنا إليها (مجازاً وانزياحاً)، فقد نهل (الحرف) من ينبوع المعنى في نهاية القصيدة هذه:
(كما تنتقل الحروفُ من كلمةٍ إلى كلمة
ومن قصيدةٍ إلى قصيدة
ومن موتٍ إلى موت) (ص21).
يمكن القول أيضاً إنّ المفردات الشعرية في (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) مناهضة إلى حد كبير من النماذج الشعرية السابقة مدى تجربة الشاعر إذ نجد الجرأة الواضحة في تأثيث الحرف ومميزاته المطلوبة بأساليب فنية (المعنى) مع الانفجار التصويري المركّب لوظائف تستلزم مهارة نادرة بانت من خلال العلامات المثبتة ودلالاتها، ولا نعتقد أن الشعر الذي قرأناه هنا يحاول توثيق الزمن من خلال الذاكرة بل يكشف الشعر نتائج الزمن بذاكرة الشاعر. وهذه ميزة أخرى وأساسية فيها من الحيوية المقتدرة والتفاؤل والتفاعل الذي بان من خلال الحرف كأداة منفذة.
(النقطة..الوظيفة)
الآليات الشعرية الحديثة أساسيات مهمتها مهمة عملية وفعلية إذ تقوم على التأطير الموضوعي بوظائف كشف الشعرية هذه بتجانس من لدن الشاعر، لتدخل عوامل التقنية في عملية الاستخدام في صميم المفردات المطروحة، ومن ذلك تقوم الآليات بتكريس نسيجها الفني وفق توصيفاتها المحسوبة، ولعل (النقطة) كأنموذج تطبيقي لهذه الآليات تقوم كعنصر أساسي لكشف المعنى مع الحرف ذاته لدى أديب كمال الدين، توزعت كقصائد (من جهة) واجتمعت في قصيدة واحدة (من جهة أخرى)، كما في قصيدة (جسور) التي استهلت بأربع فقرات:
-1-
مقارنة النقطة للحرف:
لم يكن قلبكَ مولوداً في برج الحمل
بل في برجِ العذاب (ص85 )
-2-
قال الحرف للنقطة:
هل تتذكرين الجسور التي عبرناها؟
كانت جسوراً
مليئةً بالفراتِ والسمكِ اللابطِ تحت أشعة الشمس
كانت جسوراً مليئةً بالدويّ والدخان. (ص86 )
وثم بعدها باستهلاليين – (3) و (4)
وعلى الرغم من الحركة المتنامية نحو تصعيد إيقاعية الحوار بين الطرفين فإنها كشفت صوراً أيقونية متداخلة ومتشابكة، حققت منافذ متعددة لكشف (المعنى).. فالنسيج الشعري مهما كان فنياً لدى الشاعر، فانه أعطى مضموناً مختزلاً ومكثفاً للغة عالية. ولكن حين نقرأ: قالت النقطة.. وقال الحرف، فانّ ذلك يحيلنا إلى دراسة اللغة المسرحية في اللغة الشعرية وهي ميزة تكررت في نصوص هذه المجموعة، وبالتحديد في قصيدة (اعترافات النقطة):
قالت النقطة:
مرّ عشرون عاماً
أو ثلاثون
ربما أربعون
لم أعدْ أتذكّرُ الرقم
ولكنني أتذكّر انني قدتكَ إلى الهاوية
- أيّها الحرف -
قدتكَ إلى السعير، فجهنم، فَسَقر .(ص 37)
ومن تسخير النقطة شعرياً لم يبقَ من حدودها التي رسمت من قصائد تلك المجموعة سوى أنها أسيرة الحرف، وكأنها تبدو (المعادل الموضوعي) في البناء الشعري لدى الشاعر مما يجعل الصورة الشعرية تكتمل بين الطرفين في حال استخدام النقطة وفي حال تكريس فعلها الوظيفي.
وككل، فإن (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) أعطى أثراً شعرياً واضحاً ابتداءً من (ثريا النص / العنوان) وصولاً إلى خلق وتأثيث و كشف العديد من الرموز المؤطرة بالواقع والمجاز لها التوظيفات العادية للأشياء عن طريق (الحرف) كدلالة مفتوحة و(النقطة) كعلامة مكملة للحرف.
#زهير_الجبوري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجموعة (شجرة الحروف) للشاعر أديب كمال الدين:
-
محاضرة عن صناعة الكتاب الثقافي : كتاب (الحروفي) أنموذجاً
المزيد.....
-
المفكر التونسي الطاهر لبيب: سيقول العرب يوما أُكلنا يوم أُكل
...
-
بعد مسيرة حافلة وجدل كبير.. نجمة كورية شابة تفارق الحياة في
...
-
ما الأفلام التي حصدت جوائز البافتا لهذا العام؟
-
سفيرة الفلكلور السوداني.. وفاة المطربة آسيا مدني بالقاهرة
-
إيهاب الؤاقد :شاعر يقتل الحظ والفوضى !
-
الفنان وسام ضياء: الدراما عليها الابتعاد عن المال السياسي وع
...
-
لون وذاكرة.. معرض تشكيلي لفناني ذي قار يشارك فيه نحو 60 فنان
...
-
إطلاق الدورة الـ14 من جوائز فلسطين للكتاب
-
وفاة المطربة آسية مدني مرسال الفلكلور السوداني
-
ليلى علوي تخطف الأضواء بالرقص والغناء في حفل نانسي بالقاهرة
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|