|
نحن الحطب بعد شتاء أكلتنا الأرضة
سعيد حاشوش
الحوار المتمدن-العدد: 2535 - 2009 / 1 / 23 - 09:15
المحور:
الادب والفن
الى قبيلة الفتاة التي أعدمها علي كيمياوي في ساحة سعد يضخ الشباك رائحة موتى ويهوم الذباب الأزرق على وجوه النسوة المقرفصات على البلاط ، يلتصق بالضمادات المنقوعة بالصديد ، رائحة ينفثها القيح الأصفر الذي يكسو الأجساد المحترقة للمصريين في محطة وقود ساحة سعد .. أستجمع قواي .. ألوي رقبتي وأباغت ـ في كل مرة ـ بنظرات الكلب الأسود تفترسني ، على مبعدة ، أسفل حاوية القمامة بتحد حيواني خان فيه الكلب ذلك الاتفاق السري بين الإنسان والكائنات منذ فجر الخليقة . تتشنج نظراتي على بوز الكلب المدمى حين ينهش أحشاء بطن مبقورة لرئيس عرفاء تهتز جثته بانتظام وتساوق كلما يخفي الكلب بوزه تحت الأضلاع مازالت تلك النظرة الأخيرة غير مفهومة تلون العينين المبيضتين لرأس العرفاء أ أنا الآخر أتحدى الكلب بنظرة حيوان جريح خالية من شعور إنسان .. الإنسان في أواخر شهر شباط مجرد كائن يمشي على قدمين .. الكلب يدرك ذلك .. بالتأكيد ألوي رقبتي وأعتصر الألم وأرى الكلب يعتلي الصلعة البيضاء وينبح ثم يعوي كالذئاب ..... شجرة التوت الشديدة الخضرة تفر الطيور من أحشائها .. تطوف عيناي على الوجوه البائسة للنسوة المقرفصات على بلاط لزج من دماء وصديد .. تمتصان أذناي ثرثرة تنبعث .. بل تمجها أسرة ردهة الباطنية .. صرخات ألم مبتورة من النصف .. صرخات أخرى تتحشرج وتختنق قبل أن تخرج للعالم من أفواه مفغورة لجنود غرباء قطعت سيقانهم وتلونت بصدأ الغرغرينيا .. الجنود الغرباء ما ينفكوا يحكون أورامهم بكل معدن صلب .. حتى لو كان إنسانا ويشربون الماء المج بشراهة .. .. لا تعني ملفاتهم الصفر للرجال المدنيين الذين ينبشون في الأوراق على مصطبة ملصقة بالأسرة البيض المصفرة والمحمرة من القيح شيئا. تتوقف نظراتي على وجه إنسان قميء يقف قبالتي .. تنحدر عيناي بسر خفي لمصري متفحم ومختف تحت كلة من بطانية قذرة .. لم أره ولم أسمع صوته حتى الآن . حشرجتي تنبتر وتخرج للعالم بصوت يستغيث ، لا أحد يسمع حتى لو قرعت الدفوف في أذنيه .. الكون كله من يسمعنا من ؟ .. اكتشفت أن يدي مقيدتان بخيوط من أنابيب المغذي إلى أعمدة السرير .. هناك أنابيب أخرى تكبلني .. ذلك الأنبوب الذي يخترق المريء ويضخ إفرازات ملونة في كيس تحت السرير ، أنبوب آخر يخرج من البطن وآخر يضخ قطرات الماء في الأوردة وذلك الأنبوب لأصفر الذي يشدني للأرض ـ في كل مرة أحاول فيها الانقلاب على الجنب ـ ويشل قضيبي بكيس من النايلون . أخي الأكبر يلقي بثقله على ذراعي وبإحدى ساقيه يحاول تثبيت ساقي اليمنى أما الأخ الأوسط الذي عاد من الأسر بدون قوة عضلية ( هل ينسى الإنسان قوته في مكان ما ) يتعلق بالساق اليسرى .. ينشال وينحط مع الساق .. ثمة من يقطع أمعائي بمنشار فوق جثتي . يلثغ الدكتور هاشم خياط .. أحمد الله .. أنا والممرضة شذى خيطنا أمعاءك على ضوء شمعة .. لا أعرف كيف عشت وتتنفس الآن .. فيك سر غامض قد تكون رعاية الله الخفية ، مازال الرجل القميء يغدو ويروح يتفحص أوراقي ، ذلك الملف الأصفر ، كرر الطبيب القول .. مجرد انسداد في الأمعاء وأجريت له تداخلا .. ولكن الرجل هز رأسه كمن قبض على الطبيب بجناية مخلة .. شزر الطبيب بعينيه المحمرتين .. تحداه الطبيب بقامة عملاقة ونظرة ثابتة لا تحيد لكن الرجل المدني زعق بصوت وكأن عدة أفواه مجت حروفها في نفثة واحدة .. الصوت المفزع جعل فكي الطبيب تتحركان بلثغة غير مفهومة .. احترم نفسك دكتور وإلا جعلتك مثل طبيب ردهة الصدرية وأردف بصوت بارد ويائس .. الكلاب تأكل في بطنك .. رأيت الطبيب يحوم ويدور حول نفسه كالمخبول . أغور في ممر سري من اللامبالاة .. الشباك المفتوح تقفز منه القطط الهاربة من الكلاب .. حشرات غريبة الأشكال قبل التلاقح والإخصاب .. شجرة توت عملاقة احمرت ثمارها .. زقزقة عصافير .. ثم وجدت نفسي أحدق ببوز الكلب المدمى والصلعة البيضاء المؤطرة بشرايين زرق . حشرجة غريبة انبثقت من فم مفغور .. ثغو خراف قبل الذبح .. كان ذلك صوتي .. أخي الأكبر يقف بعلامة استفهام مقلوبة كي لا يسقط عقاله أما الأوسط فاستقر لاهثا فوق ساقي اليمنى .. وبغتة معطني الرجل المدني من قدمي ، ألم بغيض ينفجر في الأمعاء والتفت دشداشتي اللينة من الدماء تحت ظهري وخرجت عورتي للنساء ، الرجل يسحبني للخارج وإخوتي يسحبونني للداخل .. ارتفعت على السرير بعلو ذراع ، العورة المثيرة للشفقة ظاهرة لكل النساء المقرفصات بيأس على بلاط لزج من دماء وصديد وحزن أكبر من كل العورات .. نخرجك من هنا .. قد تصاب بالطاعون أو الكوليرا .. يتحرك السرير والأخ الأكبر يحمل كيس البول المشدود إلى قضيبي ويركض خلفي فزعا أما الأوسط تلقى لطمة من أخمص بندقية على رقبته المكسورة في الأسر .. رأيته يتمدد على البلاط منفرج الساقين واليدين .. بدون حراك .. في الخارج سيارة بيك آب بيضاء .. حين قذفوني انفجر كيس البول كالفقاعة وبلل وجه أخي .. ( وجه أخي جلدة قشطت بعناية من ظهره ورتقت الوجه المحترق في الحرب الأولى ) السيارة تسرع وأخي يركض خلفها كالمجنون . مازلت تحت البنج ولم أفهم معنى الموت أو على الأقل تحسسه .. الموت يعني لي هذا الألم المستشري في الأمعاء .. ينفثا البنج رويدا .... ألوي رقبتي وأحاول أن أرى الكون من خلف الجزمة المتصخرة فوق صدري .. جثث ممددة في ساحة سعد بجزمات وأحزمة جلدية ، على مبعدة ، ثمة جندي صغير العمر يتوسل بامرأة أن تبتعد عن ولديها قبل تنفيذ حكم الإعدام .. يصرخ الجندي المقلنس الرابض فوق الدبابة بعد ان نفد صبره ويطلق النار من أحادية على الأم والولدين .. صوت النار المرعب جعل البنج ينفد تماما .. تحركت السيارة وفي لحظة سكون غامضة .. لحظة خارج الزمان .. سمعت صوت اللاسلكي يجأر بيد الذي أراح جزمته على الصدر .. أجاب الرجل بسرعة . سيدي العقيد معنا رجل حسب المعلومات من قضاء الزبير ـ الدريهمية ـ وبالتعاون مع سيد ضياء بأنه شيوعي .. لا .. لا .. سيدي لهم علاقة .. وسمعت العقيد يسب ويشتم :- وهل يوجد شيوعي واحد في البصرة أو الكون كله حتى تأتيني بهذا الكلب .. اتركوه حالا .. نحن في الجمهورية قرب الجامع ... توقفت ألبيك آب بزمجرة على الإسفلت واصطدم يافوخ الرأس بمعدن صلب . مسكني الرجل من قدمي .. أفرج ساقي بكره دفين ومزمن .. لم يعر عورتي اهتماما .. الشارع فارغ من كائنات تمشي على قائمتين .. الهدير وحده في كل الشوارع ولم أشعر بألم في يافوخ الرأس .. الألم ينفجر كاللغم في الأحشاء .. ألم شبيه بذلك الذي .... بعد الاطلاقة التي سددها الجندي إلى بطني ولم أشعر بالوحدة والوحشة والإهمال بهذه الحدة من قبل ، كيس المعدة وحده ابتعد عن جثتي على الإسفلت .. أطلاقات نار متفرقة ثم تنبثق النيران كالدوي .. كرعد يستمر في تفتيق أحشاء السماء .. وفي لحظة استدارة ألبيك آب سحقت كيس إفرازات المعدة الذي انفجر بفرقعة أخافتني وجعلتني أنقلب على البطن كالمفزوع ، تستدير السيارة وتبتعد ، الكيس المنفجر جعل جثتي العارية متعددة الألوان .. الإفرازات .. الحمراء والخضراء والسوداء .. كنت عاريا وبلا لون محدد .. وثمة كلب سائب أخافه الانفجار فوضع ذيله بين فخذيه ولاذ بالهرب .. بعض الكلاب مازالت (كلاب).. وفي مخيلتي شجرة توت عملاقة تلعب الريح بضفائرها .. والطيور .. وتكبر دائرة جدار الدنيا .. في مخيلتي .. تكبر .. تسبح وتكبر الدائرة وثمة ابتسامة فاترة .. لا مبالية .. بلا لون .. متيبسة على الشفتين .
#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليحامير
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|