|
رواية - وجبة من طحالب الكتابة- الجزء الثاني
ابن جرير الرحماني
الحوار المتمدن-العدد: 2535 - 2009 / 1 / 23 - 05:46
المحور:
الادب والفن
هم القمر بالمغيب مؤذنا للظلام ليفرض جناحيه على المكان ،وتعذرت الرؤية على أودادس وأقفل يسعى إلى حضن جدته وصورتها تملأ المكان ضوءا ،وقد فر بها الزمان سريعا إلى الذبول كأقحوانة تموت عطشا في مراعي البسطاء ،وبرد الحزن نفث على وجهها بسمة رضيع ،رحيقها الأسمر الذي يسافر عبر الحقول مثقلا بعبق قصيدة لم تبح بها الطبيعة لشاعر ،ودفعتها الشيخوخة إلى طرد ما بأحشائها من أجنة ،لتصبح كشمعة على مشكاة داخل غرفة كوخ لا يسمع همس بكائها إلا حفيد يحمل في عيونه دمعة رثاء لها الإنسان جاهل ، وهو يتقفى الخطى يستبق الزمان وصولا إلى الكوخ ليجدها بالباب منكمشة في قعودها ،تدلي بنظرات مثقلة بالتجهم ،وأصابعها المقرحة تغور في تجاعيد وجهها المكتئب ،هوى عليها بقلب منكوب معانقا الروح التي شردت عنها ،فصرته إلى صدر تجري في أغواره أنهار من رأفة الأمومة ،تفجرت ينابيعها من ثدي أغدق عليه طعاما من لبان ،تظللهما برهة صمت رهيب ،وكأنه يحكي لها في باطنه ما رآه ،وهي تتطلع إلى عينيه بنظرات حادة وكأنها تقرأ فيهما ما ظنت أنه عنها كاتم ، وهي تخشى ما أوحى لها به الشقاء من كابوس أرهب مرقدها الذي غاب عنه دفء الزوج حين رحل مهاجرا إلى المدينة قسرا ،صادا عن خطب مآذن ،تكن له من السوء ما يكفي لحرق الأماني التي اقتحم بها تخوم رحم المجتمع على مثن مراكب من سجون ،أدرك أنها خلقت للفتك بجيل من أجنته ،فاتخذ من مهده مقرا من بوابته تخرج القبائل متآلفة ومن حضوره تتخذ قياسا به تقيس عقب عهد أطفأ عن القرية كل المصابيح ،واتخذها طريدة ضعيفة لاتقوى على الهجوم ،وخطاب الإفتراس فظ ،ينهش في الولائم لحمها الطري تاركا إياه على طبق الغد يتسنن ،فحسب أنه الجحيم والناس فيه تحترق دون بكاء ولا صراخ ،فإن كان لكل شيء ختام ،فإنه اللابث عصيا إلى آخر الدهر ،والدهر قبل رحيله يكون له الفناء ،ومن فوق هضبة ولى ظهره للقرية دون وداع ينشد البحر الذي تراجع عندما أبلغ بقدومه ،ليكون رسولا واللحد رداؤه ، ينبئ مبلغا خلقا أتى من خصوبة الأرحام. أحس أودادس بالدفء في خضن الجدة وخلد للنوم وكأنه نطفة رسمتها الريح رغيفا على أوراق العنب ،غارقا في وحل رحم عفن ،يتخبط فيه خشية من الموت ،كعلقة في غدير يكاد ماؤه أن ينضب ،ليستفيق على لمسات يد تتحسس جسده النحيف ،إنها يد الجدة التي لم يمنعها استقاظته من استكشاف جسده ،حتى تطمئن على أن ما رأته في منامها سوى كابوس أزعج دواخلها ،استفزتها نظرات الحفيد وهي تسألها ،لتخبره عن كونها رأت اثنتى وثلاثين يدا تمسك بخناجر تباينت ألوانها تهوي عليه طاعنة. خيم الصمت من جديد ، وتتداول الأيام لتخبرها أنهم أولائك الذين يضعون الكثير من الطيب لطمر خبثهم حيث المبتاعون في ضلال يغرفون من ألوانهم سما ،ويتخذون من رموزهم شارات يدخلون بها ضيعة يكنون لهم فيها عقابا بالفقر ،ليمروا عبرها كغيمة ماؤها لا يروي عطش ظمآن ولو شرب منه شرب الهيم ، يحيون فيها ترابا ويموتون ترابا و يخرجون ترابا تشيد به قبب ومآذن ،توارت خلف أسوارها جثث حكم عليها القدر أن تكون مدعوة لتحتفل بقدوم زائرها ،وهو يحمل على نعش مهترىء لتفتح له الأرض صدرها الرحب ،وتضمه إليها مانحة إياه المسكن الذي كان في الحياة منه محروما ، فينفض الجمع بعد أن غرسوا الجثة في الترى ،دون أن يرجوا منها نباتا ،مندحرين يلتقط من خلفهم الخطى فقيه المسجد ،دون أن يعلم أحدهم سبب موته ،حين أرداه قتيلا رب ضيعة بها من الفواكه والخضروات ما هو ممنوع على الفقراء أكله ،أماته لما علم أن نفسه الحقيرة ،اشتهت ما بشجرة من ثمار قد حان قطافها ،وبقلب فظ أمر بإخراجه من الضيعة مجرورا خلف دابة ،في الموت لبث بضعة أيام حتى تسنن جسده، امتلأت الحارة نواحا وصراخا حين بلغ نعيه بالعشي ، والليل يفتح أبوابه العتيقة ،هرع حشد من الرجال إلى المكان ليحملوا الجثة المتورمة على عربة مهترءة ملفوفة بثوب رث ،والموكب يلفه صمت رهيب ،وقلوبهم تتقرب بأدعية إلى الله في صمت وهم يتعاقبون على جر العربة تناوبا ،والفقيه تتربص نفسه على تنظيف الرجل الهالك ،ويقترب الموكب من الحارة التي غصت بنسوة عويلهن كحريق شب ظهيرة يوم قيظ ،فإن ناره لا تخمد إلا إذا صار الحطب رمادا ،مأتم حوى من النساء محجبات بالبيوت ،يعبرن فيه عما لحق بأنفسهن من ضرر يخرج صراخا والصدى به يجهر ،تآلف مع صراخ من أمست بالعشي أرملة أرغمت على أن تطرد عن قلبها فرحة كان لها الراحل وقودا و كان له الطاغية غاصبا، فيعلو نواحها ومعها النسوة يتمردن وينتفضن على ما مسهن من جور ،فالمآتم ليست محل رثاء ولا نواح على هالك وإنما صورة احتجاج على حرية منهن مفقودة ،فإذا شرحت صدورهن تجد في مكامنها بذرة ثورة تنتظر من يمد غرستها مطرا. أصبح يقينا لدى الكل أنه ليس للفقيد من رجعة ،لتنصب عجوز نفسها رسولا من الماضي وما يحفل به من تقاليد لم يكتب لها بعد الفناء ،عنقها مثقل بالتمائم وفي يدها طبق به أقمشة بيضاء ،بدا عليها أنها استعملت مرات من قبل أرامل ،فتقدمت نحو المسكينة وهي لها آمرة بارتدائها ،فأبدت رفضا لما تمدها به العجوز من تقاليد المآثم وإحساس الحسرة يملأ قلبها ماض اغتصب منها حقها ككل النساء في وفرة الإنجاب ،وضرب على مبيضها بأقفال من حديد بعد أن رزقت في عامها الأول من زواجها بولد بكر لم يكن له ثان ،فتضمه إلى صدرها وهي تجهش للبكاء ،وعيناها من غيمة الدمع تمج ماء ،حسبته العجوز سرابا من مقلها ينبع ولا مصب له ،تصر النسوة على تهييئها لإرتداء ملابس الحداد ،وهي في داخلها المكظوم تضمر ما قتلت من رغبة في رجل آخر لا يزيد رحمها إلا تعفنا بما سيقذف فيه من مائه القذر ،لتنتهي المراسيم بنزع ما بالبيت من مرايا ،وهن يعلمن أن المرأة لا تعبد الله في صلاتها بقدر ما تعبد أنوثتها أمام المرآة،انتشت العجوز فخرا بعدما صبت ما تحمل من إرث الخرافة في قدر الأرملة ،وأمدتها بحلي من أوحال تقاليد وضعت لتكون غاصبة لأنوار العقول ،مبددة ما استوقد فيها من فتائل . فانزوت المسكينة إلى ركن كان للراحل مجلسا، ينشد فيه لبكره أنشودة أحلام جنات أغراس حدائقها مختلفة عما يحرث الإقطاع عند مواقيت الصلاة، وما من أكل تغدقه على المساكين ينفقه سخيا ،ولا يكون له منه قوتا إلا ما فضل على الجياع ،ولا يسمح فيها لمن يصادر ثمارها ويحتكر خيراتها وراء بوابة الإستقلال، ويبني بترابها وحجرها بيتا يقيم فيه لينجب من عقمه جيلا يمشى في شوارعها مكسرا كل القيود ،يسكن عيون عذارى زخرفن جبين الجبال بأوشمة خضر نواضر ،ومن شرفات الكون تلحن له أن يتلمس نهد الطبيعة ليحتسي من حلمته رضاعة تشعره بنشوة الوجود، ولما تنقرض ولادته من رحم الإناث تدخله الأرض في ذاكرتها إرثا ثقيلا، لتتخذ من فروه كساء لها ومن سمرته تحمل لونها . هم الليل بالانصراف مطهرا ما نفتت الأجساد من قمامة الدهر، وتفرقت النسوة معلنات انتهاء مراسيم المأتم ليتركنها في أحضان قدرها تتوسل الأرق ليرفع يده عن أكرة نوم تريح به الجسد المنهوك مما تخبطت فيه من فواجع الدهر وطقوس المأتم، الذي فجرت فيه ما كان عليها ممنوع إظهاره، لمن رحل وتركها تترقب مطالع الشمس، متخذة من مجلسه المفضل محرابا فيه تقيم صلواتها مع كل آذان، دون أن تكون لصلاتها طقوس كما ألف الناس في معابدهم، وتتكرر الصلوات محصية لها الأيام بسبحة التاريخ وقسوة العيش كلست أطرافها، وعبء الحياة أضنى نفسا لم تعد تقوى على نفض ما من كبث بها عالق، لقد ذبلت شهيتها ومن كل ما هو جميل أقصيت عنه إكراها، لتحرم مما يهدي الجسد للجسد من لذائد الوجود، وتجني ما حرثوا لها من زقوم و أشواك أدمت قلبها في صبيحة يوم أبت الشمس أن تكون له مطلعا ،على المغادرة مولية تجر وليدها إلى حيث يغشى الليل قرى انكمشت من وفيات الطاعون، وحيث تقبع أبراج الجنوب في ذاكرة الزنوج، والحزن يتصبب من جدرانها المهترئ، تكاد تنقض مما فيها من ظلم قد سكن، وعلى بيت أب الأرملة أضفى لوحة كعش عنكبوت بطرائد من باعوض مثقل، صورة تتقلب فيها الأبصار ولا يدرك نكبتها من الإنس سواها، كظمآن آتى بئرا نضب ماؤها، يتطلع الفتى إلى وجه أمه وقد جف ما بمقلتيها من دمع وملابس الحداد تضفي عليها سمة الوقار، يتساءل في نفسه عما جرى لتجيبه بشرودها في يوم أصبحت فيه المعيلة، ومائدة الأرض صودر ما عليها من طعام . احتضنهما ليل القرية، ليفتح لها كوة لترى بعلها راكبا بلقاء من غير لجام، يتبختر ولباسه من سندس واستبرق، إلى نهر الكوثر يمضي تحت ظلال أشجار من رمان وتين ونخيل قاطفا من ثمارها ما يحلو له ، فتهب على قلبها نسمة الرضا مما فيه بعلها من رغد، ولبست رداء الكفر والردة لما تلاقيه في الأرض من إملاق، لأن المحراث خشبي والدابة هزيلة سقيمة والأرض ظمآنة لا تخرج من ترابها إلا بصلا مقيت الرائحة وسنبلة شعير خاوية من الحب، منها تصنع خبزا ممزوجا برائحة التراب العفن، فتبدي رغبة ليكون لها اللحد مركبا يقلها إلى حيث الزوج ينعم، تاركا إياها قابعة غير متبرجة بزينة الحياة، داخل زنزانة نوم موصدة بأسوار الطين العتيق، ولم تعد ترجو نكاحا من رجل عقيم يفسد ما برحمها من حلم، ويمنعها أن تمد يدها باسطة لتقطف من الفواكه ما لم تمسسها قط يدها ولا رأتها عيناها، كانت تحسبها مجرد أسماء سمعت عنها عندما كانت صبية في حكايات الأساطير، لتصبح حقيقة في الحلم تتهشم تحت طواحينها وفكاها ينطبقان وكأنها أصيبت بالمس دون أن تحس حوصلتها بالشبع، فترى البلقاء من النهر تدنو وبرفق دللت عنقها حتى ترجل الراكب، إنه زوجها، هب إليه ولدان ورفعوا عنه سترته، ثم ألقى بنفسه سابحا دون حجاب، وكلما طفا على السطح داعبته حسناوات حور عين، منبطحات يرشقنه بما في أباريق من فضة ونحاس من نبيذ، فيأخذ مقعده من أريكة نسائجها من خز مطرز، وأشار بسبابته لإحداهن والكبرياء مهر يركبه، فسعين إليه غير ممانعات يعرضن ما أنجبت أجسادهن من ثمار الإغراء ، ليبدو أمامه أن ما منحت الطبيعة الزوجة من أنوثة كقطعة فحم تأبى النار أن تشب فيه، فاندلع لهب الغيرة حارقا وجدانها، و النفس سعرت و العيون تتأجج ثأرا لعرضها، فنطت خارج مرقدها مذهولة مما رأت والجسد يفور عرقا مرتعشا كمن أصابه مس من الجن، أزاحت ما عليها من نقع الظلام والسواعد منهوكة، وكأنها تبحث عن تلك الكوة التي رأت منها ما أفزع القلب . انتظرت الشمس لتزيح عنها غلس الليل، فتحمل في جراب القلب ما لا تستطيع القلوب حمله، متجهة نحو مقبرة القرية تقصد قبر من كان لها الوالد، هوت على القبر جاثمة وقد نفضت من ذاكرتها كل ما حيك من طقوس، ونزلت في لحظة من شرفتها لتجهر بما كانت تخفي قهرا، والصدى يرفع كلامها، إنك رحلت والمكان قصي، ولفظت في ديارهم ما ورثوا لسانك من لغة وهوية وعقيدة، لتمنح هناك هوية وعقيدة ولسان تستطيع به التواصل مع الذي فر إليك لاجأ ، لتعبئه للبوح بما أذاقوه في الدنيا من قسوة العذاب،ولا ينقص من قوله شيئا، ولا يفصح إلا بما هو صدق، عسى الصدق أن يعيده إلى الطغاة رسولا، والرسل لا ترضى أن تحيا كما رأيته بالأمس من الكوة وهو ينعم رغدا مثل من بالأرض بسطوا أيديهم ونفوذهم غاصبين كل ما هو جميل أمدته الطبيعة للإنسان . أفرغت من قلبها حمولة، ظنت أنه لا يستطيع حملها إلا الأموات، ودون أن يكون لمقالها رد، ولت المسكينة إلى القرية لتجد بكرها يقف قبالة حجرة من طين يتأمل صبية يصدحون بأصوات لم تألفها آذانه، تقف بجواره دون أن يكون لوجودها آبها، لتفهمه أنهم ينهمون مما ينزل على الأرض من غيث، وهم غير خبر بما ينبت لهم من عقاب، عندما يركبون ويعبرون من الوقت قليلا، رافضين إلغاء ما كتب من دساتير تجعل منهم أمة لا تبصر في الكون جمالا، ولو ساد سناؤه ضياء فإنهم لا يرون جليا ما على جيدك من قيد أنت به مكبل، فتعرض به عن عقيدة بها كانوا يطعمون النفس جهلا ، تتكسر رغبته في أن يكون بداخل الحجرة يتلقى ما يتلقاه أترابه، ليجد نفسه في صبيحة وهو ينحني أمام الفقيه مقدما خدماته، يستبق النظر إلى جنة عنه قصية، فيغور الدمع في عيونه والبكاء يستعصي عليه جلبه، وبداخل معزل بنفسه تكلمه أنثى رمزا،أن لا يكون له بطنها مخبأ، منه يخرج إلى الغد حقيرا، يحمل نفس الهيأة والملامح، وكسوة ترتديها جهالته هوية وعقيدة وتاريخا، يزحف قعودا على مؤخرته طوال النهار صوب الفقيه المسرع في حياكة الجلباب، ولقد اهترت وتفككت خيوط ما كان سترة لعورته، وكلما داهم الرقاد جفنه أيقظه السوط نزولا على أم رأسه، وغير بعيد عنه تعم الفوضى من ضجيج أطفال القرية الذين لم يجدوا أغناما للرعي، ولا شغلا في سوق النخاسة ولو كان قاسيا، يمزقون حناجرهم تلاوة بما لا يفقهون، ولا هم عنه يأخذون أجرا يعيلون به عجائزا تنتظر بالبيوت والحواصل فارغة، وعندما يبلغ به التعب أقصاه تنهار سواعده، تصبو نفسه لحيز من الزمن ينعم فيه باللهو الذي منع منه وكان عليه ممنوعا مادام في حضن الحجرة، ولم يعد يتطلع إلى مواقيت الصلاة لما ينصرف جلاده ليؤم ذكور القرية، وهو يأمره أمرا فظ اللهجة بكنس الحجرة وجلب الماء والدلو كيله من وزن الصبي أثقل، مهددا إياه إن هو أمد يده أو اختلس النظر إلى ما جاءه من طعام تهيؤه نسوة القرية إلزاما، يلتهمه عند رجوعه من الصلاة بشراهة والصبي إليه ينظر، يحرم عليه مد اليد قبل أن تملأ البطن ولا يترك له إلا فتاتا، يغنيه عما تحضر أمه من رقائق الشعير، وقد جثم الإملاق ببابها والعوز أرخى على حاضرها الشح، وبسط الهم على وجهها غيمة منها سال مطر حزن ملأ الجفن رواسب نقع داكن، يبيد من عينيها الغائرتين شعرا كانت تزفه لحنا من نظراتها لما كانت في الصبا طفلة تسكب البراءة في وجدانها، وهي تنتقي ما تعبت به من جمال غضنته مصدعة حاضر قرية فقد أهلها التآلف بينهم، وطردوا من قلوبهم الرأفة، فلم تجد من يعير لحالها شأنا، ولا جار يروي جنانها بنفحة رحمة تحيي بها رغبتها في العيش، وما وعدها به الفقيه كأجر مقابل ما يقدمه له إبنها القاصر من خدمة قد طال انتظاره، لتقف ببابه متحشمة تنتظر حضوره، وما كان عليها أن تنتظر لقاءه إلا إرغاما، وكأنها ترجو منه صدقة تقرح كفها وتفجر منه ينابيع قيح تشمئز النفوس لرؤيتها، فخرج إليها مبتسم الثغر، وعيونه تستدرجها إلى خطيئة كان قلبه يضمرها، بادرها بسؤال عما جاء بها، فيعجز لسانها بالبوح عما ساقها إليه، تستدرك القول بأنه يستطيع قراءة ما تحت الضمائر ، وبالنساء خبير، وإشفاقا بحالها أوهمها أنه سيهيئ لها تميمة زادا، تجلب إليها الخير وعنها تبعد الشر، ووعدها قولا أن يخرجها مما هي فيه من إقصاء وشدة العوز، وإن تكن خاضعة الجناح غير رافضة لما سيصدر عنه من أمر، ليعيد لها ما فقدت من أنوثة، طأطأت الرأس ساكتة، حسبه سكوتا من علامات الرضا، وظن أنه كان لطعمه مفعولا، فمد يده الى صدرها يرنو ملامسته، فأصابها الذهول كصعقة برق منها استمدت قوتها، لترفع يدها صافعة وجهه، فولت صوب البيت مهرولة، والخيبة تضغط على الصدر حابسة زفير أنفاسها، وتوصد الباب من خلفها احتراسا وخوفا أن يتعقبها منتقما، اتقت شره حجبة لا تخرج من وكرها إلا لماما، وكانت عندما تنهار نفسيتها توسوس لها بالرحيل، مغادرة المكان الذي كان لها مهد الصبا وعقلت قدميها بحبال السكوت متحدية ما تظنه سيحل بها من انتقام الفقيه، أخبرتها به إحدى جاراتها، حين جاءتها التي لا ترد وجهها عما ألفت من قيود تقاليد موحلة في الجهل، ناصحة إياها بما ليس لها به سلطان، مقتحمة حارة بها تسقي أغراس ظلم، تحصد الأرملة سنابله، ودرت عليها من الكلام ما كرهت سماعه، حين جعلت منها خاطئة لما راودها عن نفسه كان عليها أن تكون مطيعة، مستطردة القول، عليك أن تكوني له كما شاء بغية حتى ينفض من مضجعك قنوعا، وكنت قد ربحت سلاما، وما من ذنب وقع بينكما يصبح اليوم منسيا، فإن لديه من شياطين الجن ما يضر بك يسلط أحدهم ليتلف عقلك، وإذا تجهم واكفهر فإن شره يكون شنيعا، فيأمر كما يفعل مع كل عنيدة، خادما له، فظا قبيح الصورة بشع القضيب يأتيها الليل كله، مما هو محرم على الإنس نكاحه، ومما هو عليهم فريضة، فانغلقت المسارب التي كانت منها تزحف ابتغاء البقاء. جاءت بالشمس مدحرجة حتى بلغت الآصال، وقومها من حولها انفضوا، ولا نفر منهم راغب في ضيائها، تراهم في الأزقة انبطاحا يتصاغرون لنخب عليهم تنفث مداخن مدارسها العتيقة ظلما، حتى صار وجه الأرض كوجه البؤساء سخاما، يتوكلون على ما ينشدون لهم من أماني جوفاء، والموعودات قرابين موسم، من بعده تباد الوعود، والضواحي تسري بيدا بها الأرحام تفيض تكاثرا، إن إنجاب الفقر غير محصور، بضاعة من الفقراء فائضة الإحصاء، تستبق أحزاب النخاسة لابتياعها بالبخساء يوم أعيادها، فخرجت من بطن الغضب ريحا صرصرا، حولت بصر الصبي إلى السماء، واحتضنت في سعتها عزلته، وبسطت له لوحة تراءى له فيها ما تنفث الأجسام من عرق صار أكوام غيوم داكنة، تتجاذب مكفهرة يتآلف لبدها منها أستعار لسان رعدها ليصبح كلامه كالبرق تفزع فرقعته قلوب الجبناء، كلماته كشهب تحمل نارا، وتملأ بشرارتها جرابه، ومضى منتفضا ينزع من الإقطاع ما سلب من كرامته وهو في الرحم كان ضعيفا، ليبرز لمشغله على جيل من رفات ضعفه عصيا والقساوة له رداء، ولم يبخل عليه بما كان يشح في صدره من السخط والغضب، يقذفه بالألواح المقدسة ، وبما يستحق من ذم وقذف قبيح، ثم فر هاربا والمعتدي من خلفه يركض، دون أن ينال منه، ارتمى الصبي في حضن أمه ينشد أمنا، والمطارد إنثنى عما كان يود قنصه، ورجع مهزوما يقلب كفيه أسفا، وضل العودة من حيث أفاض شره، وراح في النقع يبحث عن سبحة وخفين أضاعهما أثناء العراك، وباله لم يهدأ غليانه، ونفسه اللئيمة عن ناب الشر مكشرة، فرام عون الخزن يشكو أن زنديقا بالقرية ينمو، وأصبحوا ثلاثة لما إنضاف إليهم متملق يثبت ما يزعم الفقيه، فأتوه والأنوف تنفث ريحها غبارا، ودخلوا بيته اقتحاما، والذعر أماته لما رآهم عصبة، والأم كانت على أمرها مغلوبة وعن رد الهجوم لا تقوى، نزعوه منها عنوة واقتادوه أسيرا يلاقي تنكيلا، والقرية أصمت أذانها لعويله، سجنوه ثم نادوا على فئة من المستضعفين ليكونوا عليه شهودا، وحضر وكلاء الأحزاب ضيوفا، يحتسون كؤوس الشاي والصبي مربوط بجدع نخلة كان لها بواسطة المسجد غرسا مختارا، وهو تحتها يبدو غير مدرك لما يصدرونه من فتاوى عقابا، ولو أدرك ما يحيكونه لحبد الفناء عن بقاء فيه يلاقي وجوها في الجهل مسعورة، ونطق في المجلس أحد المستضعفين وقال قولا خال أنه رزينا، إن أبناء البغايا أصبح عددهم بالقرية وفيرا، فكل من عق الله وبيته والفقيه يجب قتله، وإن تراضيتم على قولي فإني على تنفيذ ذلك قادر،ونفسه الحقيرة لا ترنو لإصلاح وإنما تروم تملقا لمن يحسبهم أثرياء، فيتصاغر لطغاة بكبريائهم يقربون بذور المطر جنبا، ومن ثمراته يأكلون قوتا، يتباهون في الأعوام العجاف والبخل لباسهم، لا ينفقون مما يملكون من جاه وخيرات مصدرها اختلاس، وأرض معطات أصحابها فقراء منهم اغتصبوها، والعدل للأقوياء يتملق، وفي سلته صدقات منها يغرف الفقيه ما ينفعه، وعينه على الصبي لا تفارق، ولربطة طوقه يتفقد كل آن، فيستعجل العقاب، ويخرج من حقيبة خشبية سوطا له فيها حافظ لولائم العقاب، فقام في الحشد مؤذنا أذانا مخالفا لما ألفوه للصلاة، أذان يأمرهم فيه بعقاب الصبي، ليشب الخلاف بينهم عمن يكون الإمام، وككل الكراسي التي يرفض البعض التنازل عنها بعد احتكارها، كذلك الفقيه رفض أن يتنحى عن الإمامة، حتى وإن كان ما يأمرهم فيه صلاة ليس كالصلوات، فالقبلة كانت الصبي والمحراب وجهه، التكبيرات كانت سياطا والتلاوة ما تيسر من سب وشتم والركوع رفس وركل بالقدمين والصبي كادت حنجرته تتكسر من صراخ دوى صداه في أعماق صدر أم عجزت عن إنجاده، تحوم حول المسجد مكلومة واللب والجوارح بمحنة صغيرها مشغولا، فاستعرت في كبدها نارا، حطبها صراخ الصبي عندما يناديها، فطلبت الموت تستنجده أن ينتزعها من البقاء، قبل أن تشهد نعي الصبي، تتفجر في نفسها طاقة كسرت بها الباب محطمة ألواحه، وارتمت على فلذة كبدها تدثره، لتصبح لنزول السوط موضعا، فيرفع الإمام من صلاته مسلما وكان دعاء ختمه وعد و وعيد إن هما عادا فإنه سيعو
#ابن_جرير_الرحماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|