|
المكان كرمز
حمزة الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 2535 - 2009 / 1 / 23 - 08:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تتغير نظرة الناس للامكنة مع الوقت، فتختفي بعضها وتظهر اخرى حسب الحاجات والثقافات الوليدة واذواق الناس. مثلا: كانت الحيطان في العراق في أزمنة معينة عالية وفخمة على شكل أسوار تحفظ العائلي والحميمي وتظهر في الوقت نفسه الموقع الاجتماعي، لكن هذه الحيطان في أحياء سكنية أخرى ـ كالمنصور مثلا ـ ليست على هذه الدرجة من الفخامة والعلو مادامت القوة هنا تعبر عن نفسها في الموقع والمنصب والوظائف السياسية والاجتماعية او الثقافية. " العلو" هنا قوة اقتصادية لا تعبر عن نفسها في ارتفاع الجدران بل في ارتفاع" جدران" أخرى أكثر قوة وسماكة وفخامة وهي قوة السلطة على تنوع أشكالها.
كما ان اشكال الحدائق تتغير هي الاخرى بتغير الأذواق والمعتقدات وبتعبير مايك كراغ في كتابه" الجغرافية الثقافية": بتغير المعتقدات يتغير شكل الحديقة. المنزل لا يعكس نفسه ولكنه يعكس العالم الخاص والسري لساكنيه ونظرتهم الى الحياة وموقعهم منها.اليوم حين ننظر الى الحدائق المنزلية نرى هناك رغبة واضحة في ان تكون بارزة للمارة من الخارج أكثر مما كانت في أزمنة أخرى خلف المنزل ومحاطة بمناخ رومانسي عذب.
يشكل باب المعظم لوحة سوريالية على فوضى الامكنة وهي فوضى ناتجة عن فوضى في المعايير العامة، وفوضى المعايير ـ حسب عالم الاجتماع دورنكهايم ـ ليست ناجمة عن غياب المعايير بل عن تداخلها. بمعنى أن كل فرد يحكم على الاخر بموجب معاييره الشخصية وفي حالة من هذا النوع تصبح الحياة فوضى.
لكن هذه الفوضى تنعكس على الامكنة حتما: في باب المعظم يتجاور المبغى العام ـ الكلجية ـ مع وزارة الدفاع ولا يفصل بينهما سوى شارع ومحل" لبن اربيل" سابقا. لكن تفصل بينهما تشكيلة هائلة من منظومات القيم والمقاييس والقوانين.
الى جانب وزارة الدفاع، مكان الصرامة والقوة والنظام، توجد مقبرة باب المعظم: مفارقة غريبة أن يعدم زعيم الحزب الشيوعي فهد مع رفاقه أمام بوابة الوزارة ثم يدفن في المقبرة المذكورة. كيف يتحول المكان المخصص للقانون والحماية والكرامة الوطنية الى ضده؟ هذا يحدث عادة في العراق وفي نظام فوضى الامكنة ومن الغريب جدا بل من الخطأ الفادح أن ينظر الى هذا التداخل في الامكنة وفي المعايير على انها" أمور طبيعية" كما هو حاصل في التفكير العام.
جوار مقبرة باب المعظم، المثوى الأخير للأموات والمعدومين والمشردين، يوجد المستشفى الجمهوري ـ المكان المخصص للرعاية والصحة والنظافة العامة وحماية المواطن لكن وزارة الدفاع ومقبرة باب المعظم كأمكنة متنافرة ومتناقضة لا توحي بذلك.
المبغى، أو زقاق الخطيئة في الصابونجية ـ ربما تحول فيما بعد الى المكتبة الوطنية العامة التي حرقت في زمن الاحتلال في حين لم يحرق زقاق الخطيئة في كل المراحل ـ كان رمزا للمحرم والشهوة العابرة لكن ليس غريبا أن يغادر جنود أو ضباط وزارة الدفاع في نهاية الواجب أو تملصا منه للتسلل الى هذا المكان وهو أمر يحدث كثيرا لغيرهم: في محاضرة للمرحوم علي الوردي في النجف قال انه شاهد الشيخ ـ كان حاضرا في القاعة ـ جلال الحنفي في الكلجية يوما واضاف الوردي مبتسما: اليس كذلك شيخنا ؟ لم يرد الحنفي ـ ربما، أقول، كان الشيخ يعظ كما ان الوردي كان يدرس أقدم مهنة في التاريخ كما ان جنود وضباط وزارة الدفاع كانوا في نوبة حراسة لحماية الاخلاق العامة من التشوه وحماية المقدس من الطارئ والخ وهلم جرا. لغتنا توفر افضل التبريرات وأبواب الهروب والطوارئ.
اضافة الى ذلك أن" التنميط" اي وضع الشخصية في قالب ثابت واطار واحد هي خاصية شهيرة في الثقافة اليومية كما في الرواية ايضا: يتناقض وجود رجل الدين في مكان دعارة وكذلك عالم الاجتماع وهذا الفصل والحدود القاطعة خرب كثيرا الوجدان العام كما الغى التنوع في الشخصية الروائية وسمرها في اطار جامد: المناضل مثلا مكانه الخطاب في الجمهور او السجن والغاء البشري فيه، ورجل الدين الوعظ والامكنة الدينية والشاعر الحانة او الرصيف في حين ان الشخصية الانسانية قد تقوم بأدوار هائلة ومختلفة تتراوح بين الوحشية والتضحية، بين القداسة والبربرية، في مكان واحد وفي لحظة واحدة.
يقوم تمثال المتنبي اليوم مقام قواد زقاق الخطيئة الذي لم يبق من جدرانه غير جدار واحد تظهر فيه رصاصات انقلاب شباط 1963، وفي هذا الزقاق عاش بطل روايتي سنوات الحريق المناضل اليساري كاظم النجار حين ايقظته عاهرة في الصباح لتبلغه نبأ الانقلاب على الزعيم الذي ترك يقاتل وحيدا، عاش لحظات عصيبة بين وضعه الفاجع في " مكان" داعر كيساري حالم وبين عجزه عن الفعل كطالب متعة ـ تختلف المتعة عن اللذة في كون الاخيرة حسية لذلك اتهم رجال الدين المعري بـ " اللذائذية" لأن الحياة ليست نصا يعاش بل مغامرة تكتشف.
وباب المعظم لا يشكل وحده صورة نموذجية عن تشوه الامكنة في العراق. ساحة التحرير مثلا أو الباب الشرقي نموذج اخر: تحت نصب الحرية ومنذ تعرفي على هذا المكان العام والمفتوح الذي يشكل فضاء الحلم بالحرية والاستراحة، تحته وفي زوايا حديقة الأمة يوجد عالم سري" فوق الواقع" أو تحته أو هو الواقع الحقيقي، مختفيا. هناك عالم غريب من اللصوص والمنحرفين من باعة السجائر الجوالين والقوادين ورجال الشرطة ايضا.
حديقة الامة في واقعها السري مقسمة بين عصابات لصوص: كل ركن ملكية خاصة بعصابة ومرة سرقت محفظة صديق في الركن البعيد ـ المجاور لنصب حمامات فائق حسن ـ وتم العثور عليها من خلال " اتفاق شرف" بين زعيم عصابة تعمل تحت نصب" الحرية"وهو أخ لصديق لنا وبين" زعيم عصابة" حمامات فائق حسن". وهذه العصابات تعمل بالتعاون مع رجال الشرطة وخاصة فرع مكافحة الاجرام حيث يتقاسمون السرقات حسب" الاصول" واحيانا يقوم رجال الشرطة من خلال افتعال مبررات لتفتيش المارة أو السؤال عن الهوية في ارشاد اللصوص عن الضحية المطلوبة ـ انقلاب الادوار في العراق ظاهرة عادية ويراها البعض" طبيعية" في السياسة وفي الثقافة وفي المجتمع: جندي هارب وطفل مشوه نفسيا يصبح دكتاتورا، وعريف جيش يصبح وزير دفاع أو ما شابه، وقاطع طريق يتحول الى واعظ وقواد ينتقل الى دور مصلح اجتماعي، و حزبي محبط يتحول الى شرطي في مرحلة ثم منظر ثوري في مرحلة اخرى وفي ثالثة الى صاحب مكتب احتيال لتشليح العراقيين الهاربين من الدكتاتورية والحصار الى الخارج.
والاحتجاجات على هذا النوع من قلب الادوار خافت بل غير ملموس من التكرار. ففي أزمنة المنعطف والتشوه والانحطاط تصبح الشاطرة ذكاءً، والحيلة براعة، ينحط الضمير ويرتفع شأن الذكاء ـ وهو أخطر تدهور في حياة شعب أو امة.
بين الحرية والحمامات عالم اخر مختلف او هو حلم الحرية والحمامات في تحقيق عدالة اجتماعية بعيدة. هؤلاء لهم " قيمهم" الخاصة ومفاهيمهم عن الشجاعة والشرف والرجولة والمروءة وقد يموتون من اجلها اذا تطلب الامر.
الواقع الحقيقي كاذب ومزور ومغطى. الحياة الحقيقية دائما في مكان اخر لكن النمطية والافكار المسبقة والتحيزات ومنظومة العادات تقوم بوظيفة الغطاء في حجب الواقع. هذا الواقع المحجوب هو الواقع الاصلي، الواقع غير المرئي، المستور، المسكوت عنه.
هذه ليست أمكنة فحسب ولكنها لغة تحمل منظومة كبيرة من القيم الخاصة. هذه الامكنة تعري شعارات الحيطان المحيطة بها وفساد المؤسسة السياسية الحاكمة وربما هذا هو مصدر قول الشاعر رامبو" الحياة الحقيقية غائبة عنا، لست من هذا العالم".
#حمزة_الحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لو كانت الطرق واضحة
-
عندما تنتهي الحرب وسلالات المستقبل
-
بين قائد الاوركسترا الموسيقية وقائد الفرقة العسكرية
-
الشرطي المصري اللغز أو عنكبوت غرفة النوم
-
شهادة جنرال الغزو في جنرال الخيانة
-
في حماية زهر اللوز
-
نقد الفكر المغلق
-
الدكتاتور القادم المستقبل الماضي
-
لا يهم كيف تهب الريح، الأهم كيف ننشر الأشرعة
-
ارهاب اللغة
-
مؤذن فرعون
-
خيارات السياسة خلق كالمتعة والأمل والأصالة
-
ماركس العراقي
-
المؤجل والمسكوت عنه في الاتفاقية الامنية وصراع مؤجل
-
المتمرد القادم من الصحراء
-
رسالة إلى البنفسج الى رباح
-
فَتح الباب من دون أن يلتفت واجتاز العتبة
-
إذا مت فدعوا الشرفة مفتوحة
-
في انتظار جمهورية السراب
-
التنظير لدولة غائبة
المزيد.....
-
العثور على قط منقرض محفوظ بصقيع روسيا منذ 35 ألف عام.. كيف ب
...
-
ماذا دار خلال اجتماع ترامب وأمين عام حلف -الناتو- في فلوريدا
...
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
صواريخ حزب الله تقلق إسرائيل.. -ألماس- الإيرانية المستنسخة م
...
-
كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نح
...
-
باكستان ـ عشرات القتلى في أحداث عنف قبلي طائفي بين الشيعة وا
...
-
شرطة لندن تفجّر جسما مشبوها عند محطة للقطارات
-
أوستين يؤكد لنظيره الإسرائيلي التزام واشنطن بالتوصل لحل دبلو
...
-
زاخاروفا: -بريطانيا بؤرة للعفن المعادي لروسيا-
-
مصر.. الكشف عن معبد بطلمي جديد جنوبي البلاد
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|