|
لأبي بيت وأرض صغيرة ضاعت في غزة
جاكلين صالح أبو طعيمة
(Jaklin Saleh Abutaima)
الحوار المتمدن-العدد: 2532 - 2009 / 1 / 20 - 10:08
المحور:
الادب والفن
لأبي بيت وأرض صغيرة يسكنها الجميع، تحفها الأشجار يمنة ويسار، فيها زيتون ولوز وينتشر الزعتر، لم أتنشق رائحة الأرض يوماً إلا هناك، حين كان الطعام يطهى هناك كنت أشم فيه رائحة الأرض، طعام بيتنا ذاك فيه مذاق ليس كطعام الأرض، لا يتحرك أبي من مكانه بل يشعل النار بما سقط من أوراق الزيتون الصفراء أرضاً، ويقطع بصل أخضر يجري له الريق، ويقطع من الزرع بطاطا وبندورة وكذلك فلفل أخضر وأحمر، في كل اتجاه لون أخضر،وهناك حاووز عالٍ يتسع لمياه تروي كل المنطقة. في بيت أبي هناك عالمٌ آخر وسحر آخر، هناك أنت والسماء والأشجار الخضراء وحاووز المياه، بل ورشاشات المياه الصغيرة تنتشر في كل مكان.. في بيت أبي سحر آخر لونه أبيض، لا يشوبه خوف ولا حزن، هناك النقاء والصفاء، لم أعتد البقاء هناك طويلاً، وكنت أمشي مسافات طويلة لأصل الطريق والسيارات، والطريق هناك طويل أخضر فيه صفاء ونقاء.. لم أعتد أن أصحو على رائحة الزعتر، ولا زقزقة العصافير تطربني كل صباح، ولا أعرفها إلا في كتاباتي وفي قراءاتي المتعددة هنا وهناك، لكن في آخر أيام جلستها هناك صحوت على رائحة زعتر وغازلتني العصافير بسمفونية إلهية، وكان الشجر يتراقص فرحاً والنور يخدر جسدي بخجل.. هكذا صحوت في آخر مرة.
بعد أيام قليلة لم يكن خدر ذلك الجمال قد ضاع من جسدي، دق هاتفي في الصباح بصوت أحد أقارب أبي، ليقول لي بصوت مرتعد وخائف أن اسرائيل جرفت الأرض والبيت، يرتعد جسدي، تحملني رائحة الزعتر وورود الشوك هناك تخلعني من مرقدي، وأركض لأخبر العائلة بأن اسرائيل اغتالت الأرض في غيابنا، يباغتني أبي بصوت عالً ليقول: ( له )ويهاتف أحدهم ليؤكد الخبر، وبعد أيام تنقطع فيها الأخبار هناك لأنها منطقة عسكرية مغلقة، يهاتف أحدهم كذلك في الصباح ليقول تستطيعون رؤية البيت، يذهب أبي وأخوتي، لتصلني أول رسالة على الخليوي تقول: لي الأرض رماد ليس هناك معالم للأرض لا شجر ولا حجر، وتسكت أمي والدمع يخنقها ففي الأرض العمر وهاهو يضيع، نهاتف أبي الذي أخبرني أخوتي أنه ضرب بيده على رأسه وجلس أرضاً ينظر، يقول أبي بصوت يملؤه الألم كل شي بتعوض، تسكت أمي مجدداً..
يصدح صوت فيروز عندي بيت وأرض صغيرة فأنا الآن يسكنني الأمان، لا أبيع أرضي بذهب الأرض تراب بلادي تراب الجنان ... بقي من البيت غرفتين ومطبخ صغير، يبقى أبي هناك أسابيع يجمع بقايا الأشجار ليستحطبها فهو ما بقي من الزيتون واللوز وكذلك الزعتر.. وتمضي الأيام ويسافر أبي ويسلك الغربة باباً فلم تعد الحياة هنا كافية ويكبر الصغار وتكبر الحاجة، وتأتي موجة اسرائيل من جديد على غزة بالتحديد غزة وليس بيت أبي وأرضه الصغيرة، بل على كل ما لونه أخضر، كان أخي الكبير قد داوم الذهاب هناك مع ولديه الصغيرين ليزرع أشجاراً جديدة، ويغرس في قلبي الصغيرين حباً وتمسكاً بهذه الأرض، وقام بتسوير الأرض والبيت، وحرثها ورش فيها البذر وسقاها بعرقه وعبث صغيريه في ترابها، وفي كل مرة كان يأتينا بنادرة جديدة من هناك من بيت أبي وأرضه الصغيرة. لكن هذه المرة لم يهاتفنا أحد بل سمعنا اسم أبي يذاع على محطات الراديو بأنه إحدى المنكوبين، وبعدها يتصل بنا الكثير ليخبرنا أنه اسم أبي، حتى أغلقت هاتفي يكفي أخباراً لا تورد إلا الدمار، في هذه المرة لم يصدح صوت فيروز ولم يغني لنا أحد بل غنت علينا البلابل التي هدرت أعشاشها وفقدت فراخها الصغيرة، غنى علينا الحزن في كل مكان في غزة، والحل الأخير هو أن البيت والأرض لم يصبح لهم وجود، حتى أنهم اقتلعوا كل حدود الأرض، وحاووز المياه الكبير سالت دموعه بماء حزين أغرق كل الأرض ليحثها على النهوض من جديد، لكنها لم تسمع فقد توارى كل شيء وسكنت الأشباح هناك، وبات الخوف يزج نفسه في كل ذرات التراب، ولم يصبح هناك عصافير ولا بلابل ولا زعتر حتى رائحة الأرض تغيرت وأصبح الفسفور والبارود تغطيها، اجتثت رائحة الحب منها وسكن الموت، سالت دماء الأفاعي التي كانت تسكن الأرض، حتى الأفاعي التي كنا نخافها شاركتنا الموت، ليتهم تركوها فهي التي تعرف معالم الأرض وتعرف الحدود، مسحوها عن الوجود أبادوها اغتالوها في وضح النهار، لم يشفع لها حب أبي وتعلق صغيري أخي. بعدما قتلوا كل شيء جاء ابن أخي الصغير، وقد رسم الأرض رسم السور ورسم الزيتون والبيت والكلب الذي كان يعيش هناك ويرضع صغاره، رسم الأمان في ورقة صغيرة، وأخذ يجول بيننا يرينا مكانه الذي يحب. هنا فقط عرفت أنها ستعود مثلما كانت وأجمل مما كانت، سيغرسها الصغير حباً وأملاً وتحدي، ستغني له فيروز لا أبيع أرضي بذهب الأرض، تراب بلادي تراب الجنان... هناك سيكون مكانه الأزلي حيث أحبه الجده وأحبه الحفيد... هناك فقط سيتنشق رائحة الأرض.
#جاكلين_صالح_أبو_طعيمة (هاشتاغ)
Jaklin_Saleh_Abutaima#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|