|
الانفتاح الروائي كخطة لمساءلة الراهن السياسي المغربي : رواية امرأة النسيان - لمحمد برادة نموذجا
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 2528 - 2009 / 1 / 16 - 10:51
المحور:
الادب والفن
تتميز الرواية بين الأجناس الأدبية الأخرى بانفتاحها ؛ نتيجة عدم اكتمالها " فهي على خلاف الأجناس الأدبية الأخرى لا تمتلك قوانين خاصة ؛ وما هو فعال تاريخيا يتشكل من عدة نماذج روائية وليس من القواعد الروائية في حد ذاتها " . ( 1 ) وقد أدى هذا الانفتاح بجنس الرواية إلى الدخول في حوار متعدد الأبعاد مع جميع الأجناس الأدبية الأخرى ؛ كما جعل الرواية صوتا قادرا على التعبير بلغة سردية عن جميع القضايا ؛ سواء أكانت سياسية أو اجتماعية ... وفي رواية "امرأة النسيان" للروائي المغربي محمد برادة ؛ (2) نجد الروائي - كعارف بقضايا السرد الروائي – يستغل هذا الانفتاح كخطة لمساءلة الراهن السياسي المغربي ؛ وذلك عبر طرحه لموضوع يغلب عليه الطابع الذاتي أكثر مما ينطبع بالموضوعية . وتكشف عن ذلك بوضوح سنة النشر(3) ؛ التي تحيل على مجموعة من التحولات السياسية المؤسسة للراهن السياسي المغربي . وقد سال مداد كثير في هذا الموضوع ؛ فهناك من اعتبر الرواية هجوما عنيفا على رفاق الأمس الحزبيين؛ (4) الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف – كما يقول الفقهاء – فأكلوا كل الكتف ؛ ولم يتركوا شيئا لرفاقهم في النضال . وهناك في الوقت ذاته من اعتبرها تخييلا روائيا ؛ حاول نسج خيوط مرحلة عاشها الروائي عن قرب ؛ ومن حقه – كروائي – التعبير عنها في شكل سردي ؛ ما دام طابع الانفتاح الذي توفره الرواية يسمح له بذلك . أما نحن فسنترك هذا وذاك جانبا ونحاول الاقتراب من (امرأة النسيان) ؛ رغم أن المرأة لا تبوح بأسرارها إلا لعاشق . النسيان ك" تيمة" مهيمنة على رؤية برادة الروائية من خلال عملين روائيين للروائي المغربي محمد برادة : لعبة النسيان و امرأة النسيان ؛ نجد النسيان تيمة أساسية توجه العتبة الرئيسية للنص الروائي (العنوان ) . ونعر ف قيمة العنوان في الدراسات البويطيقية الحديثة – خصوصا مع جيرار جنيت - كمدخل رئيسي ؛ وكنص مواز ؛ يبوح بداية بما يريد النص أن يخفيه . فما هي أهم الدلالات التي يأخذها النسيان في رؤية برادة الروائية ؟ في مقدمة الطبعة الثالثة لرواية ( لعبة النسيان ) لمحمد برادة ؛ نجد الروائي يقترب من مفهوم النسيان كما يحضر في روايته بقوله : " ولأننا تعودنا على النسيان ؛ فإننا لا ننتبه كثيرا إلى تغير الأشياء من حولنا ؛ وإلى تغير علاقاتنا وذواتنا . ولكن يكفي أن تنبثق بعض اللحظات من منطقة النسيان فينا ؛ لتبدأ دينامية التذكر ؛ وليبدأ الخيال في نسج ما هو كامن في اللاشعور ؛ وفي الذاكرة الغافية "(5) إن النسيان عند محمد برادة آلية للإخفا ء والإعلان في الآن ذاته ؛ فنحن ننسى الكثير مما نعيشه ؛ وفي الآن ذاته ؛ فإن لحظة خاطفة تدفعنا إلى نبش الذاكرة الغافية لتحقيق الإعلان عما أخفي من قبل . إن استراتيجية التخييل في الرواية ‘ تقوم في الأغلب على عمل الذاكرة . وما يجعل رواية ( امرأة النسيان ) تدخل في علاقة مع رواية ( لعبة النسيان ) – حيث تجتمعان معا حول تيمة النسيان كبؤرة للسرد – هو انتقال شخصية (ف ب) من الرواية الأولى إلى الرواية الثانية : " فهمت أنها صديقة حميمة ل: (ف ب) ؛ إحدى الشخصيات النسائية الواردة في رواية لعبة النسيان " (6) " ولم أستطع التملص من تحديد موعد لزيارة ( ف ب ) النازحة من صفحات ( لعبة النسيان ) إلى حي فيردان بالدار البيضاء " . (7) وما يبدو هو أن (ف ب) شخصية تخييلية في ( لعبة النسيان ) ؛ تقترب من الواقعية في ( امرأة النسيان)؛ الشيء الذي يوحي ولو ترميزا إلى أن ( امرأة النسيان ) رواية مرتبطة بواقع مرحلة معينة من تاريخ المغرب المعاصر ؛ يحاول الروائي أن يتذكرها و يخرجها من بين كثبان النسيان ؛ رغم أنه قريب منها إلى حدود الاتصال بها . هكذا توهمنا (امرأة النسيان) بأنها سرد استحضاري ؛ استيعادي ؛ يعمل من خلال الذاكرة ؛ بينما تخفي ارتباطها بالراهن ؛ وتعبيرها عنه ؛ من خلال ارتباط السارد في الرواية بمجموع الشخصيات المؤثثة لفضاء السرد . فتتحول بذلك كتابة الراهن في رواية ( امرأة النسيان ) ؛ إلى كتابة للذاكرة ؛ محولة بذلك أحداثا حقيقية عاشتها الذات الكاتبة إلى خداع وأوهام للتاريخ . ولم يتحقق لها ذلك إلا عبر توثيق صلتها بالنسيان ؛ كاستراتيجية للإخفاء ؛ وإعادة الكشف في صور مختلفة عن النموذج المخفي . ولتحقبق هذا الرهان نجد السرد في ( امرأة النسيان ) يتأرجح بين الواقعي الجذاب ؛ وبين الأفق الممكن ؛ الذي تؤشر عليه الرؤية التنبئية ل: ( ف ب ) ؛ المتمردة على إطار التخييل ؛ الذي وضعها الكاتب داخله. لكن مسار التخييل في الرواية يزعزع (ف ب ) بين الحين والآخر ؛ مرغما إياها على الدخول في لعبة تخييلية منسوجة مسبقا ؛ خوفا من الانفلات الذي قد تحققه ( ف ب) من قبضة التخييل . تخاطب (ف ب) السارد قائلة : " منذ كتبت لعبتك وأنت تختبئ وراءها . ألم يحدثك الهادي عني ؟ ما أخباره ؟ منذ رأيته آخر مرة منذ سنوات في المقهى بباريس ؛ لم ألتق به "(8) هكذا يربط السارد شخصية ( ف ب ) بمسار تخييلي سابق ؛ هو مسار( لعبة النسيان) ؛ موهما إيانا باستمرارية التعلق بالذاكرة و التعالي على الراهن . لكن هذا التعالي لم يستمر في الرواية ؛ بل يفرض الراهن نفسه على السرد ؛ محولا بذلك النسيان من أداة للإخفاء ؛ إلى أداة للفضح و الكشف عبر توارد مجموعة من الأحداث –نزعم- أنها جوهر المادة الحكائية التي تم تصنيعها روائيا عبر استراتيجية مزدوجة ؛ تنتقل ما بين الإخفاء و الكشف ؛ ما بين الارتباط بالراهن ؛ والانفلات من قبضته . هكذا نجد الرواية ترسم لنا مجموعة من المشاهد ؛ كلها تصب في اتجاه واحد ( التحول الاجتماعي لمجموعة من المناضلين الحزبيين ؛ نتيجة التحولات السياسية التي عرفها المغرب إبان حكومة التناوب ؛ و تقلد مناضلي الاتحاد الاشتراكي لمناصب وزارية هامة ؛ أغدقت عليهم من خيرات دار المخزن). و يمكن أن نعرض لمجموعة من المشاهد التي تؤكد ما ذهبنا إلي كالتالي : يحدثنا السارد عن حفلة حضرها (لأخ له) مستوزر فيقول : " عندما أخذني إلى حفلة ؛ أقامها أخ لنا مستوزر بمناسبة زفاف ابنه أو ابنته " (9) . وقد اختار الروائي هذا الحدث ؛ ليرسم من خلاله –عبر مشاهدات السارد – صورة التحول الاجتماعي ؛ الذي يعيشه مجموعة من رفاقه في النضال ؛ الذين اختاروا – خلافا للعبته – لعبة أخرى ؛ واتخذوها وسيلة للترقي الاجتماعي . لنترك ( امرأة النسيان ) ؛ ترسم لنا جانبا من هذا التحول : " عندما انسابت السيارة مع أحد الشوارع ... التفت إلي مصلح قائلا: لعلك لا تعرف فيلة الأخ (الحلايبي)؟ لم أكن أعرفها لكنني أعرف صاحبها عن طريق السماع ؛ ومن خلال لقاءات معدودة لم تبدد صورته الغامضة لدي . هو مناضل قديم أصبح رجل أعمال ؛ مارس المحاماة في بداية مشواره ؛ واغتنى مستفيدا من فرص ملائمة ؛ ولم يكن يبخل على الحزب بأمواله" (10) وينتقل السارد ليعرفنا عن قرب على مظاهر البذخ ؛ التي يعيشها هذا المناضل ؛ والرفيق في الحزب : " ووجدت أن الفيلا أكثر مما كنت أتصور : مدخل طويل ؛ وحديقة شاسعة ؛ ومسبح مضاء يضاهي بحجمه المسابح العمومية ؛ والصالونات فسيحة متداخلة ومتنوعة ؛ بين النمط التقليدي ؛ والعصري ؛ واللوحات الكبيرة تستنسخ مناظر الطبيعة ؛ ومشاهد فلكلورية ؛ وأوان نحاسية ؛ وتماثيل لبوذا الثخين في أوضاع مختلفة ؛ مستعملة بمثابة قوائم لمصابيح موضوعة في زوايا الغرف " . (11) هذا التحول لا يخص هذا المناضل لوحده ؛ بل يتجاوزه إلى غيره من رفاقه الذين يلعبون معه نفس اللعبة المربحة : " ...هذا المناخ الجديد الذي تنطق علاماته ؛ وصوره ؛ وملابس ناسه ؛ وقاموسهم بما طرأ على حالهم ( أحوالنا ) من تحولات . " (12) ويؤكد السارد في الرواية أنه يعرف كل هؤلاء ؛ من خلال علاقاته الحزبية معهم ؛ لكن ( سبحان مغير الأ|حوال ) : " معظم الحاضرين في هذا العشاء ؛ كنت ألتقيهم باجتماعات اللجنة المركزية ؛ والآخرون أعرفهم (..) ويتساءل السارد باستغراب : هل حقا أنا أعرفهم ؟ "(13) هكذا تستغل امرأة النسيان الانفتاح الروائي ؛ الذي تتميز به الرواية كجنس أدبي موسوعي ؛ لترسم لنا صو رة عن الراهن المغربي ؛ الذي يعرف حراكا سياسيا ؛ حاولت الرواية أن تبرز آثاره على مستوى الحراك الاجتماعي . ندعو لذاكرة الأستاذ والروائي المغربي الكبير أن تظل حية ؛ تنبش نسيانها ؛ لتمارس المزيد من الفضح لتجار السياسة ؛ الذين اغتنوا على حساب نخبة فكرية وسياسية ؛ ضحت بالغالي والنفيس من أجل أن تحافظ السياسة على نقائها .
الهوامش : 1- ميخائيل باختين – الملحمة والرواية – تر: جمال شحيذ – سلسلة كتاب الفكر العربي – ع:3 – معهد الإنماء العربي – ط: 1- 1982- ص: 20 . 2- محمد برادة – امرأة النسيان – نشر الفنك – ط: 2001 . 3- تحيل سنة النشر 2001 على الكثير من المستجدات السياسية التي عرفها المغرب ؛ نجد على رأسها دخول الاتحاد الاشتراكي تجربة الحكم من خلال حكومة التناوب . الشيء الذي يؤكد ارتباط المادة الحكائية للرواية بهذه المرحلة . 4- يعتبر الأستاذ محمد برادة من قياديي حزب الاتحاد الاشتراكي البارزين . 5- أنظر : لعبة النسيان – مقدمة ط: 2- ص: 3 6- امرأة النسيان – (ص:6) 7- نفسه – (ص:8) 8- نفسه – (ص: 9) 9- نفسه – (ص:29) 10- نفسه – ( ص:29-30) 11- نفسه – ( ص: 30 ) 12- نفسه – (ص: 31) 13- نفسه – ( ص:31)
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأدب وسؤال المؤسسة في الممارسة الأدبية العربية المعاصرة
-
شركة ماكنزي للتنافسية ترسم مستقبلا سوداويا للمصارف (الإسلامي
...
-
إيديولوجيا الاقتصاد الإسلامي : محاربة الفكر الاقتصادي الحديث
...
-
إيديولوجيا الإعجاز العلمي في القرآن و السنة : نشر الخرافات ل
...
-
من دروس أحداث غزة : العلاقات الدولية تقوم على المصالح لا على
...
-
أحداث غزة : صراع الأصوليات الدينية لنشر الدمار و الموت .
-
في حاجة النشر الإلكتروني إلى الأقلام العربية المتنورة
-
نموذج التدين المغربي سلاح لمواجهة التطرف الديني الوهابي
-
أحداث غزة و فشل استراتيجية الإعجاز و الجهاد المقدس
-
في مساءلة التراجع الحضاري للأمتنا العربية : هل سببه تخليها ع
...
-
في حاجة الفكر العربي المعاصر إلى استلهام روح التنوير النهضوي
...
-
من الشورى إلى المستبد العادل : الفكر الديني و تكريس دولة الا
...
-
الحلاج .. في صلبه المباغت
-
الديمقراطية بناء ثقافي و ليست فقط صناديق اقتراع .
-
العلمانية و الدولة المدنية في الثقافة العربية : المشروعية ال
...
-
تأويل النص الديني و تكريس الرجعية في الثقافة العربية
المزيد.....
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|