أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - امرأة ضائعة















المزيد.....



امرأة ضائعة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2528 - 2009 / 1 / 16 - 11:14
المحور: الادب والفن
    



رواية

الطبعة الأولى
فتحت الباب امرأة في نهاية الأربعينات من عمرها . بدت حازمة الوجه جذابة الملامح .
- سعيدة يا مدام .
- سعيدة مبارك يا خواجة .
- أنا ساهر العابد , أرجو ألا أكون تأخرت عن الموعد .
- أهلاً وسهلاً يا خواجة ساهر .
مشى ساهر وراء مدام هيلين وهو يحمل حقيبته . وعبرا صالة طويلة تتناثر فيها المقاعد وتحاذيها أبواب موصدة . وتوقفت مدام هيلين أمام الباب الأخيرة .
- هذه أودتك يا خواجة ساهر .
دفعت مدام هيلين الباب فانكشف عن غرفة صغيرة قد توزع في أركانها أثاث أنيق .
- مبسوط يا خواجة ساهر ؟
- مبسوط جداً .. متشكر مدام .
أجال ساهر أنظاره في الغرفة . إنها ليست واسعة وليست مزدحمة بالأثاث لكنها تشتمل على كل الضروريات . سرير عريض ينزوي بجوار النافذة المطلة على الشارع . منضدة زينة تنتصب في الركن المقابل من الغرفة . صيوان ملابس أنيق . مكتب صغير . وبضعة كراسي تتوزع في الغرفة أحدها كرسي هزاز .
اتجه إلى النافذة وارتفق حافتها وأرسل عينيه في الشارع تحته . إنه شارع جانبي لكنه يموج بالرائحين والغادين ويزخر بالحركة والنشاط . تحول أخيراً إلى حقيبته وشرع يخرج ما احتوته من كتب وملابس .

من مذكرات ساهر
لا أنكر أنني سأفتقدكم يا طاهر وأحمد وعلي . ولا أنكر أنني سأحن إلى الجو الحميم الذي كان يغمرنا . وشكرا على حفلة الوداع التي أقمتموها لي . لكن حياتي معكم في شقة الدقي باتت صعبة منذ بالغ صالح في تردده عليها . فقد اشتدت حفلات الشرب وكثر تردد الخادمات وازدادت الليالي الحمراء بصورة مزعجة . غرفتي مريحة والشارع تحتي مؤنس ، وميدان الأزهار المجاور غير بعيد عن قلب القاهرة الأوروبي الذي أحبه ويبدو أنني سأرتاح إلى الحيا ة في بنسيون هيلين .
مدام هيلين رسمية الهيأة لكنها لطيفة عموماً .
***



مضى يومان على ساهر في بنسيون هيلين ولم ير أحداً من نزلائه . كان يغادره إلى الجامعة قبيل الثامنة صباحاً ويعود عصرا . وكانت أبواب الغرف مغلقة دائماً .
في صباح الجمعة دبت الحيا ة في البنسيون . أقبل عوضين على غرفته وهو يحمل عدة التنظيف وقال : لا مؤاخذة يا أستاذ ساهر .. تسمح ؟
- تفضل يا عوضين .. عندك مانع أبقى في الغرفة ؟
- أبداً يا أستاذ ساهر .
سحب ساهر الكرسي الهزاز إلى جوار النافذة وانصرف إلى كتابه .
- إن شاء الله تكون مرتاح في الأودة يا أستاذ ساهر .
- أنا مرتاح فعلاً ويعجبني الشارع تحتنا .
- تقدر تشتري أيتها حاجة منه يا أستاذ ساهر .
نهض ساهر وارتفق النافذة وطافت عيناه في شرفات العمارات المقابلة . ثم تحول عن النافذة قائلاً : سأذهب لأعمل قهوة يا عوضين .
- تحب أعملها لك يا أستاذ ساهر ؟
- متشكر يا عوضين .. سأعملها بنفسي .
قصد ساهر المطبخ واستخرج عدة القهوة وانحنى على الطباخ يراقب رغوة القهوة .
- بونجور .
التفت وراءه فطالعه وجه مشرق لصبية جميلة .
- بونجور .
- أنا لولا .
- وأنا ساهر .. حضرتك من سكنة البنسيون ؟
قالت لولا في اعتداد : أنا ابنة هيلين .
- تشرفنا .
أطلت فدوى من الباب وقالت : بونجور لولا .
- بونجور مدموازيل فدوى .
- المطبخ مشغول يا لولا ؟
التفت ساهر إليها قائلاً : أنا انتهيت يا مدموازيل . تفضلي .
تأملت فدوى ساهر للحظات وعلى وجهها تعبير غريب وتمتمت : ميرسي .
وحمل ساهر قهوته إلى غرفته .
من مذكرات ساهر
لولا اسم جميل وصاحبته ذات جمال فاتن بعينيها الرماديتين الواسعتين وأنفها البديع ولونها الوردي وشعرها الأسود الطويل . كم تفتنني التلميذات الاغريقيا ت ! لاشك أنها إحدى حفيدات هيلين طروادة !
ومدموزيل فدوى .. ما خطبها ؟ يخيل إلي أنها تفحصتني باستغراب حين التقت عينانا .. ترى هل هناك في وجهي ما يثير الاستغراب ؟!
***








كان ساهر مستغرقا في القراءة حين ترامت إلى سمعه أنغام عذبة . إنها أنغام الكونشرتو الخامس لبتهوفن . ترددت الأنغام بين صعود وهبوط . خرج إلى الصالة فتناهت إليه الأنغام من الغرفة الأولى . وجلس محَلقاً مع الأنغام . أخيراً خفتت الأنغام شيئاً فشيئاً حتى تلاشت . وكان على وشك النهوض حين انفرج باب الغرفة وبرزت فدوى .
- بونسوار .
قال ساهر وهو يقف في احتفال : بونسوار مدموازيل . أتسمحين لي بسؤال فضولي ؟
- تفضل .
- أكنت أنت التي تعزف كونشرتو بتهوفن ؟
- أيوه .
- اسمحي لي إذن أن أهنئك .
قالت فدوى منطلقة الوجه : مرسي .. أأعجبك عزفي ؟
- جداً .. إنني جلست في الصالة لأستمع إليه عن قرب . أنا من عشاَق بتهوفن والكونشرتو رقم خمسة من أحب موسيقاه إلى نفسي .
- وأنا أيضاً أفضل الكونشرتو رقم خمسة على كل كونشرتات بتهوفن .
تعلقت عينا فدوى بوجه ساهر وهما تحملان تلك النظرة الغريبة .
- تحب تشرب قهوة يا أستاذ ؟ أنا أحب أن أشرب قهوة كلما عزفت بتهوفن .
- يسعدني ذلك جداً .. تسمحي لي أعمل القهوة ؟ أنا أعمل قهوة جيدة .
- فلنعملها معاً إذن .
واحتواهما المطبخ وأخذا يتجاذبان الحديث في جو من الألفة .
- أنت إذن من محبي الموسيقى يا أستاذ .. باردون فنحن لم نتعارف بعد .
- أنا ساهر العابد .
- وأنا فدوى الجاعوني .
- تشرفت بمعرفتك يا مدموازيل فدوى . وأنا مسرور إذ تهيا ت لي الفرصة للسكن في بنسيون تقيم فيه عازفة .
قالت وهي تضحك : على مهلك يا أستاذ ساهر .. أنا لست عازفة . ما أنا إلا هاوية وعازفة بيانو من الدرجة الثالثة .
- لماذا تغضين من قدرك يا مدموازيل فدوى ؟ كان عزفك جيداً . وأنت تعلمين أن كونشرتو بتهوفن رقم خمسة صعب الأداء .
- ميرسي .. وأنا أيضاً يسرني أن تكون من محبي الموسيقى . وبالمناسبة .. ممكن أسألك ماذا تعمل ؟
- أنا طالب في الجامعة .
قالت وهي تهز رأسها : أنا خمنت ذلك .. وماذا تدرس ؟
قال ساهر : الأدب الإنجليزي
- لا عجب في أن تحب الموسيقى إذن فالأدب فن كالموسيقى .
- وأنا أحب على الخصوص شاعراً انجليزيا هو فنان حقيقي .
قالت فدوى وهى تبتسم : ومن هو ؟
- اللورد بايرون . هل سمعت باسمه يا مدموازيل فدوى ؟
- ومن لم يسمع بهذا العاشق المجنون ؟
- لا يا مدموازيل فدوى .. لا تقولي عنه أنه مجنون . أنا لا أؤيد الاتهامات التي توجه إليه بسبب مغامراته العاطفية . وأنا أقول هذا القول لأنني بصدد إعداد بحث عنه مما يدعوني إلى التعمق في حيا ته .
- بـاردون .. أنا لا أعني أنه شخص مجنون .. لكنني أعني أنه مجنون بالحب .
- هذا صحيح إذن .
قالت فدوى وهي ترشف من فنجانها الرشفة الأخيرة : فرصة سعيدة يا أستاذ ساهر . أوروفوار .
- وأنا أسعد يا مدموازيل فدوى .
من مذكرات ساهر
يوماً بعد يوم أتيقن بأنني وفُقت في العثور على هذا البنسيون . إنني مرتاح فيه حقاً على الرغم من أنني افتقدت فيه جو الألفة مع طاهر وأحمد وعلي . ومما يضاعف غبطتي وجود المدموازيل فدوى . لم أكن أتوقع أن يكون أحد المقيمين في البنسيون عازف بيا نو . ويبدو لي أن فدوى امرأة مثقفة . وقد أعجبت بشخصيتها . كان حوارنا ممتعاً .
***










عاد الهدوء يخيم على البنسيون والأبواب مغلقة دائماً . وقد رأى ساهر ساكناً آخر هو المستر هاردي وهو عجوز في السبعين من عمره . ولم تنبعث الأنغام من غرفة فدوى طوال أيا م الأسبوع. وقد التقى بها مرة واحدة في الصالة وهي في طريقها إلى المطبخ فحيته تحية متحفظة .
في صباح الجمعة دبت الحيا ة في البنسيون . أقبل عوضين على غرفة ساهر وراح يثرثر حو كل شيئ .
- إلا بالحق يا أستاذ ساهر .. المزموازيل فدوى دوشتك بالبيا نو بتاعها ؟!
- أبداً يا عوضين .
- أصلها مجنونة .
- وما الذي يجعلك تقول ذلك عنها يا عوضين ؟
- هي كده يا أستاذ ساهر .. ماتعرفش لها بر , مرة كويسة مرة ماتطيقش خيا لها . والبيا نو بتاعها داوش البنسيون.
- لا يا عوضين . أنت غلطان في ذلك.
أطلت مدام هيلين من الباب بوجهها الجاد وتساءلت : مبسوط يا خواجة ساهر ؟
_ مبسوط جداً .. متشكر يا مدام .
دخلت مدام هيلين الغرفة وألقت نظرة فاحصة عليها .
- عوضين كويس ؟
- كويس جداً .. عوضين سكر .
قال عوضين وهو عاكف على عمله : والله دا أنت السكر يا أستاذ ساهر .
لاحت لولا عند الباب .
- ماما .. الخواجة هاردي سأل عنك .
قالت مدام هيلين وهي تهم بالخروج : لا تنس يا عوضين جرنال الخواجة هاردي .
- حاضر يا مدام .
قال ساهر متبسماً : تفضلي يا مدموازيل لولا .
قالت لولا وهي تدخل : سأجلس دقائق فقط .
واتجهت إلى المكتب وأخذت تقلب الكتب فوقه .
- إنها كلها باللغة الإنجليزية وأنا لا أحب اللغة الإنجليزية .
- ولماذا لا تحبينها ؟! إنها لغة جميلة .
- لأنني لا أحب مدرس الانجليزية .
- هذا مؤسف .
تساءلت لولا وهي ترتمي على الكرسي الهزاز وتؤرجح نفسها : ولكن لماذا كتبك كلها بالإنجليزية ؟
- لأنني طالب في قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب يا مدموازيل لولا .
- إذا نجحت في آخر العام فلن أدخل كلية الآداب .
- وأية كلية ستختارين إذن ؟
- سأدخل كلية الفنون الجميلة فأنا أحب الرسم والموسيقى .
- عظيم .. أنا أيضاً أحب الموسيقى .
قالت لولا وهي تعقد حاجبيها : ولكن ماما تفضل كلية التجارة .
قال ساهر وهو يبتسم : ما لفتاة مثلك وكلية التجارة ؟
قالت لولا بلهجة متهكمة : لأننا نحن الإغريق نحب الفلوس .
ثم قفزت على قدميها فجأة وقالت : سأذهب لأساعد ماما .

من مذكرات ساهر
أنت ولاشك مزهوة بنفسك يا لولا ولكن ليس إلى حد الغرور . والحق معك فأنت فتاة جميلة وربما مدللة أيضاً فأنت وحيدة أبويك . ومن يدري ؟ لعلك تمتلكين دستة من المحبين . رفقاً بقلوب الشباب يا لولا !
***














انبعثت أنغام الكونشرتو رقم أثنين لجايكوفسكي رقيقة عذبة . وطرح ساهر كتابه وسارع إلى الصالة وهام مع الأنغام . وفجأة توقفت الموسيقى واللحن ما يزال في ذروته . انفرج باب الغرفة وبرزت فدوى وهي تتجلبب بروب أنيق .
- بونسوار أستاذ ساهر .. أكنت جالساً هنا تستمع إلى عزفي ؟
- فعلاً يا مدموازيل فدوى . فأنت كنت تعزفين قطعة محببة إلى نفسي مرة أخرى .
تساءلت وهى تبتسم : أأعجبك العزف ؟
- جداً .. أنت عازفة ماهرة يا مدموازيل فدوى .
- ميرسي .. ولكن ما أنا سوى هاوية .
- إنني آسف لأنك لم تكملي الكونشرتو .
قالت بلهجة مرهقة : أحسست بالتعب فكونشرتو جايكوفيسكي رقم اثنين مرهق . وأنا بحاجة إلى قهوة الآن . هل تشاركني القهوة ؟
- يسرني ذلك جداً يا مدموازيل فدوى .
غابت فدوى في المطبخ دقائق ثم عادت وهي تحمل فنجانين .
- إنني افتقدت عزفك في الأسبوعين الماضيين يا مدموازيل فدوى .
- ما كان عندي مزاج ولا وقت للعزف . وأنا كما قلت لك يا أستاذ ساهر هاوية , والهاوي ليس مثل المحترف . وليس بإمكانه أن يعزف دائماً فالعزف يحتاج إلى مزاج .
- هذا صحيح . فالاستماع إلى الموسيقى يتطلب مزاجاً فما بالك بممارستها ؟
وران الصمت لدقائق .
- ما أخبار بحثك عن بايرون ؟
- لا أزال أعمل فيه وهو يتطلب جهداً متواصلاً. فبايرون شخصية معقدة ومتنوعة الأبعاد . ولعلك اطلعت على طرف من حياته. فقد أقام علاقات عاطفية متشابكة مع نساء كثيرات, بل واتهم بإقامة علاقة حتى مع امرأة محرمة عليه .
- لا أحسب أنه شخصية معقدة . وأحسب أنه لا يختلف عن أي رجل آخر . كل ما في الأمر أن جماله هيأ له أن يلعب بعواطف النساء . إنه في رأيي يمثل الرجل على حقيقته .
قال ساهر وهو يبتسم : اسمحي لي أن أقول أن رأيك هذا متحامل على الرجل يا مدموازيل فدوى فليس كل الرجال مثل لورد بايرون .
- كلّهم كذلك إذا سمحت لهم الظروف .. كلّهم يريد امتلاك المرأة . ولعلك تعرف المثل القائل "المرأة لعبتها الرجل" . والحقيقة أن العكس هو الصحيح فالرجل لعبته المرأة . كل الرجال يبتغون استغلالها ويعّدونها أداة متعة لا أكثر .. دمية يلهون بها . ولذلك فمن الضروري أن تكون جميلة دائماً .. وكلهم ينظر إليها نظرة متدنية .
قال ساهر بلهجة محرجة : أنا شخصيا لم أفكّر يوماً في أن أنظر إلى المرأة مثل هذه النظرة . وكنت أعتقد دائماً أنها مكافئة للرجل وأنهما ندّان وليس هناك من سبب للتمييز بينهما . وهذا رأي غالبية الرجال كما أعتقد إلا الجهلاء منهم .
- أنت إذن على نيا تك يا أستاذ ساهر . فالرجل في أعماقه لا يعترف بالمساواة بينه وبين المرأة . وهو يؤمن بأن المرأة ما خُلقت إلاّ لخدمته وإشباع شهواته . وإذا ما سمحت له الظروف للسيطرة عليها فهو جبّار لا يرحم .
- ولكن لاشك أن هناك الكثيرين من الرجال الذين يؤمنون إيماناً حقيقيا بالمساواة بين المرأة والرجل يا مدموازيل فدوى ..
- صدقني يا أستاذ ساهر .. إذا اصطدمت مصالح أمثال هؤلاء الرجال بمصالح المرأة انكشف القناع عن وجوههم وظهروا على حقيقتهم .
قال ساهر بلهجته المحرجة : أنا في الواقع لا أدري ماذا أقول ..
قاطعته فدوى بلهجة حاسمة وهي تنهض : لا تقل شيئا إذن يا أستاذ ساهر .. Good Night
من مذكرات ساهر
أية امرأة فدوى هذه ؟! إنها بالتأكيد امرأة غريبة . لم أتوقع أن تبادلني حواراً صريحاً بعد أن تجاهلتني طوال الأسبوعين الماضيين . ثم ماذا يعني هذا الهجوم العنيف على الرجل ؟! هل هو مجرد رأي أم ثمرة تجربة مرة ؟
***










أطلت مدام هيلين من فتحة الباب بوجهها الجادّ وقالت : خواجة ساهر .. حضر الخواجة خريستو ليشرب قهوته معك .
- يسرّني ذلك جداً يا مدام .
بدا خريستو رجلاً معتدل القامة متين البنيان يزّين وجهه الوسيم شارب غزير وينحسر شعر رأسه عن جبهته في صلعة صغيرة .
- كالميرا خواجة ساهر . جئت أشرب قهوتي معك .
- يسرني ذلك جداً يا خواجة خريستو .
تساءلت مدام هيلين : تحب قهوتك مضبوط يا خواجة اسهر ؟ خريستو بابا دوليس يحبهّا مضبوط .
- فلتكن مضبوط إذن يا مدام .
التفتت مدام هيلين إلى خريستو وقالت : لا تنسى أن الشغل كثير في البقالة يا خريستو بابادوليس .
نظر خريستو إلى ساهر وقال وهو يبتسم : هذه هي هيلينا يا خواجة ساهر .. لا تعرف غير الشغل .
قالت مدام هيلين بلهجة حازمة : السماء لا تمطر فلوس يا خريستو بابادوليس .
واختفت بخطواتها الموزونة في المطبخ .
- علمت من لولا أنك تدرس الأدب الانجليزي يا خواجة ساهر . وأنا أحب قراءة الأدب والتاريخ .
قال ساهر مبتسماً : ما كنت أتصور أن من يعمل في التجارة يهتم بالأدب والتاريخ يا خواجة ساهر .
قال خريستو وهو يتحسّر : هذه حكاية طويلة ربما حكيتها لك يوماً يا خواجة ساهر . لكنني أحب أن أسألك : هل تدرسون الأدب الإغريقي القديم أيضا يا خواجة ساهر ؟
- وكيف لا ندرس الأدب الإغريقي القديم يا خواجة خريستو ؟! إنه يعّد بالنسبة للأدب الغربي الأدب الأمّ .
قال خريستو وهو يهزّ رأسه بارتياح : هكذا إذن ؟1
- بالطبع . ومازال هوميروس يعدّ من أعظم الشعراء الذين أنجبتهم البشرية .
قال خريستو وقد أشرق وجهه بالسرور : إذن أنتم تدرسون أشعار هوميروس أيضاً ؟
- بالطبع فهي من أهم مقرّرات الأدب الإغريقي الكلاسيكي في قسمنا .
- وهل تحب أنت أشعار هوميروس يا خواجة ساهر ؟
- أحبّها جداً يا خواجة خريستو . وإنني قرأت الإلياذة والأوذيسّة أكثر من مرّة .
قال خريستو وهو يهزّ رأسه باستحسان : أنت ولاشك تقدّر الأدب الراقي يا خواجة ساهر .
وسكت لحظة ثم قال بافتخار وهو يرشف قهوته في تلذّذ : أتصدق يا خواجة ساهر أنني قرأت الإلياذة والأوديسة أكثر من عشر مراّت ؟!
- أنا لا أستغرب ذلك ففيها من الخيال البديع ما لا يُملّ مهما أعاد قراءته المتذوق .
مدت مدام هيلين رأسها من المطبخ وقالت : الشغل في انتظارك يا خريستو بابادوليس .
دمدم خريستو : يا للشغل . أيظل يلاحقني طول عمري ويسلبني متعة الثقافة ؟!
قالت مدام هيلين بلهجتها الحازمة : الشغل هو الذي يؤكّلنا عيش يا خريستو بابا دوليس . السماء لا تمطر فلوس .
ارتشف خريستو آخر رشفة من فنجانه وقال وهو ينهض : استمتعت بالتحدث معك يا خواجة ساهر وأرجو أن نلتقي دائماً ونتحدث .
قال ساهر بحرارة : يسعدني ذلك جداً يا خواجة خريستو .

من مذكرات ساهر
خريستو شخص أليف لكن شخصيته أضعف من شخصية زوجته .. ويبدو أنها هي السيد ! أهكذا شأن النساء الاغريقيا ت ؟ ويخيّل إليّ أن شخصية لولا مزيج من الشخصيتين .. فيها اعتداد الأم ودماثة الأب . ولكن أليس من الغريب أن يهتم شخص مثل خريستو بالأدب والتاريخ ؟
***












كان ساهر مستغرقاً في القراءة وموسيقى هادئة تنبعث من المذيا ع الصغير بجواره . وسمع طرقاً على الباب فقام وفتحها فإذا بفدوى ماثلة أمامه .
- بونسوار أستاذ ساهر .. عندك وقت لزيارة ؟!
- مرحباً بك يا مدموازيل .. يسرنًي ذلك جداً .
قالت فدوى وهي تجلس على الكرسي الهزّاز : أنا زهقانة وقلت أدردش معك إن لم أعطلك عن دراستك وعن صاحبك بايرون .
قال ساهر بحرارة : أنت آنستني بزيارتك وأنا في الواقع لم أكن أدرس .. كنت أقرأ فحسب .
قالت فدوى وهي تشير إلى المذيا ع : وتسمع الموسيقى . القراءة والموسيقى بالنسبة لي متلازمتان يا مدموازيل0 فدوى ومن حسن الحظ أن صوت القاهرة الإنجليزي يوفّر لنا برامج ممتازة من الموسيقى الكلاسيكية .
- أنا أيضاً أصغي إلى برامجه دائماً .
- أنا أصغي إلى برامجه معظم الوقت .
قالت فدوى وهي ترنو إليه باسمة : خصوصاً وأنك تلازم البنسيون ونادراً ما تسهر في الخارج .
- أنا لا أحب السهر في الخارج يا مدموازيل فدوى وأفضل القراءة والاستماع إلى الموسيقى .
- ولكن ألا تملّ البقاء في غرفتك وحيداً يا أستاذ ساهر وألا تعجبك المقاهي ؟!
- أنا لا أحب الجلوس في المقاهي يا مدموازيل فدوى ولكن لديّ الكثير من الأصدقاء الأدباء الذين ألتقي بهم أيام الأسبوع في المقهى فأنا من محبي الأدب0 0 ثم إنني لست وحيداً يا مدموازيل فدوى فمعي الكتاب والموسيقى .
- ولكن الشبان في سنًك يفضلون السهر في الخارج عادةً .
- أما أنا فأفضًل السهر مع لورد بايرون وأمثاله والاستماع إلى الموسيقى الغربية0 .
صمتت فدوى وعيناها تجولان في وجهه ثم قالت باسمة : مادمت معجباً ببايرون فالمفروض أن يكون لك بعض صفاته .
- وأية صفة من صفاته تعنين يا مدموازيل فدوى ؟
- عشق النساء .
- وهل هناك رجل لا يعشق النساء يا مدموازيل فدوى ؟!
قالت وهي ترفع حاجبيها مدهشة : فأنت عاشق للنساء إذن ؟ ولكن لا يبدو عليك ذلك وأنت تحبس نفسك في غرفتك .
وأضافت بلهجة شبه مازحة : إلاً إذا كانت عشيقتك تلازمك طول النهار .. فبنات الجامعة الجميلات كثيرات .
- ليس الأمر كما تتصورين يا مدموازيل فدوى . والأفلام المصرية الخفيفة التي تصور الجامعة ميداناً للمطارحات الغرامية أفسدت على الناس حقيقة الجامعة كمكان رصين للعلم والدراسة .
- أنا لا أدّعي أنني أعرف الجامعة فالزمن الغادر حرمني من الانتساب للجامعة .
وسكتت وقد غشيت وجهها غمامة من الحزن ثم أضافت : كم كنت أتمنى أن أكون جامعية وكم كنت أحلم بذلك .
- وهل كان هناك مانع من ذلك يا مدموازيل فدوى ؟
- أنا من حيفا يا أستاذ ساهر . وقد اُجبرت على ترك بلدي قبل أن تتهيأ لي فرصة الدراسة الجامعية .
- أنا آسف .. آسف جداً .
قالت وهي تمط شفتيها وقد تعكر وجهها : وماذا ينفعنا الأسف ؟ منذ نكبتنا ونحن نسمع عبارات الأسف من العرب وغير العرب .. بل من العالم كله . ولكن ماذا نفعنا ذلك ؟ إننا فقدنا كل شيء وصار بلدنا ملك الغرباء . ولقد صادرت أملاكنا دائرة أملاك الغائبين في إسرائيل وشردنا في كل بلدان الدنيا .
- أنا في الواقع أعتقد أن نكبة فلسطين هي ليست نكبة فلسطينية أو عربية فحسب بل هي نكبة إنسانية شنيعة . وكان المسؤول عنها قوى عظمى تدًعى احترام حقوق الإنسان وكرامته .
هزّت فدوى رأسها في قرف .
- قيلت بحقّنا آلاف الخطب المتعاطفة يا أستاذ ساهر . ولكن الذين قالوها يعلمون جيداً أنها مجرد كلام . وأنا شخصيا لم أعد أصبر على سماع أيّ مزيد من مثل هذا الكلام المتعاطف.
- الحق معك يا مدموازيل فدوى .
أطرقت فدوى وراحت تتمعن في أظافرها . ثم رفعت رأسها وقالت وعلى شفتيها بسمة مرّة : SUCH is life أستاذ ساهر .. SUCH is life .
قال ساهر وهو يهزّ رأسه : هكذا الحيا ة فعلاً يا مدموازيل فدوى .. وكم فيها من إجحاف !
من مذكرات ساهر
ماذا يعني أن يكون الإنسان مشرداً بلا وطن ؟ لاشك أنه يعني الكثير . وهذه المأساة التي حاقت بشعب كامل .. لا ريب أنها أعظم مأساة حدثت في هذا القرن . من الذي يتعرض لمثل هذه الكارثة ويكون إنسانا طبيعيا ؟! الآن يمكنني أن أفهم سّر مزاجك المتقلب يا مدموازيل فدوى !
***








كان ساهر خارجاً من المطبخ حين سمع المفتاح يخشخش في باب البنسيون فبقي واقفاً في موضعه وسط الصالة . دخلت فدوى وألقت عليه نظرة عابرة وتبعها رجل في أواسط العمر . واحتوتهما الغرفة وأغلق بابها .
أصغى ساهر بانتباه إلى كل صوت ينبعث من غرفة فدوى . كان ثمة ضحكات ناعمة تنطلق وراء الباب . ثم ترامت إلى سمعه خطوات فدوى في الصالة . ثم تعالى رنين الأطباق في المطبخ.
انساب الوقت متثاقلاً ثم صرّ باب البنسيون صريره الغليظ . وبعد دقائق سمع ساهر طرقاً على الباب .
- من ؟
- أنا فدوى .
ارتدى وجه ساهر قناعاً رسميا وإن ارتسمت على شفتيه ابتسامة مبتسرة .
- مرحباً مدموازيل فدوى .. تفضلي .
قالت فدوى وهي تدخل متباطئة : ألن أعطلك عن دراستك يا أستاذ ساهر ؟
- لا .. أبداً .
قالت وهي تستلقي على الكرسي الهزاّز : ولن أشغلك عن صاحبك ؟
- ومن صاحبي ؟
- بايرون .. أليس هو صاحبك المقرّب الذي تحبس نفسك في الغرفة من أجله ؟
قال ساهر وهو يرميها بنظرة خاصة : إنه على الأقل يقدّر صحبتي ولا يتجاهلني متى شاء .
تساءلت فدوى وهي تتجنبه بنظراتها : وما أخبار بحثك عنه ؟
قال وهو ما ينفك يرميها بنظراته الخاصة : إنني كلما تعمقت في معرفته ازددت إعجاباً به وبدا لي أنه أفضل من كثير من الناس الذين عرفتهم .
- ماذا في حيا ته سوى مطاردة النساء يا أستاذ ساهر ؟ المفروض أنه يثير غيرة الرجال لا إعجابهم .
- لا يا مدموازيل فدوى .. هناك الكثير في حياته مما يكسبه التقدير والإعجاب لدى الرجال . ويكفيه أنه كان مخلصاً للمبادئ والمُثُل التي اعتنقها . وكان بطلاً من أبطال الحرية .
قالت سخرية خفيفة : كل الذي أعرفه عنه أنه كان بارعاً في إغواء النساء .
وسكتت وهي تتفرس في وجهه ثم تساءلت بلهجة متهكمة : أيمكنك يا أستاذ ساهر أن تخبرني كم امرأة أعوى ؟
- ليست شهرة بايرون قائمة على غراميا ته يا مدموازيل فدوى . وأنت تتحدثين عنه وكأنه لا يشغله شيء سوى إغواء النساء . فبايرون قبل كل شيء شاعر عظيم وذو أهداف نبيلة ولم يكن هدفه في الحيا ة إغواء النساء .
- لا تغضب يا أستاذ ساهر . وأنا اليوم مسرورة ولا أريد أن أختلف معك . أتدري لماذا أنا مسرورة يا أستاذ ساهر ؟
- لماذا ؟
- لأنني تصالحت اليوم مع ابن عمي وكان مقاطعاً لي من مدة وهو الشخص الذي رأيته معي قبل قليل . إنه زارني اليوم بعد خصام طويل . وكان يهمّني أن أتصالح معه فليس لي قريب سواه . فأنا أكاد أكون وحيدة .
تأملها ساهر لحظة وتساءل : اسمحي لي يا مدموازيل فدوى أن أسأل : أليس لك أهل ؟
فأجابت بغلظة : طبعاً لي أهل .
ثم قامت فجأة قائلة : Good Night أستاذ ساهر .
من مذكرات ساهر
أنا عاجز عن فهم فدوى هذه . لماذا تجاهلتني في البدء هذا التجاهل الغريب ؟ لقد بدت وكأنها لا تعرفني .. بل وكأنها لم ترني من قبل ! وهي المرة الأولى التي أرى فيها رجلاً يزورها .. بل ويختلي بها في غرفتها . وإذا كان هذا الرجل ابن عمّها حقيقة .. فلماذا أغلقا باب الغرفة عليهما ؟ ولماذا لم تقدّمني إليه أو على الأقل تلقي التحية عليّ ؟ ثم لماذا فارقت الغرفة فجأة حينما سألتها عن أهلها ؟
***











كان ساهر منصرفاً إلى القراءة وكان عوضين مكباً على عمله . وأطلت مدام هيلين من الباب وقد علت وجهها الجادّ بسمة ضئيلة .
- مبسوط خواجة ساهر ؟
- مبسوط جداً . متشكر مدام .
دخلت مدام هيلين بخطوات متلكئة وجالت عيناها في الغرفة ثم استقرت على منضدة الكتابة وقد تكومت فوقها الكتب . قالت وهي تبتسم ابتسامتها الجادةّ : أنت تحب الكتب كثيرا يا خواجة ساهر مثل الخواجة خريستو .
قال ساهر وهو يبتسم : إنها كتب الجامعة يا مدام هيلين .
قالت مدام هيلين بلهجة مترددة : لولا تريد أن تدخل الجامعة أيضاً .
هتف عوضين : إن شاء الله . المزموازيل لولا شاطرة .
قال ساهر مؤمنا : بالطبع فهي من التلميذات المجدّات .
قالت مدام هيلين بلهجتها المترددة : لكنها ضعيفة في الانجليزي يا خواجة ساهر وربما لا تنجح .
قال ساهر : إذا كانت في حاجة إلى دروس تقوية في الانجليزية فأنا حاضر يا مدام .
هتف عوضين : وهي حتلاقي أحسن منّك يا أستاذ ساهر ؟
قالت مدام ميلين وقد انبسط وجهها : ميرسي كثير يا خواجة ساهر . ميرسي كثير .
لاحت لولا عند الباب فنادتها أمّها : تعالي يا لولا .. تعالي سلمي على معلّمك .
- معلّمي .. من معلّمي ؟!
قال ساهر وهو يرمقها في صرامة : معلّمك هو أنا .. ومن الآن فصاعدا يجب أن تكوني مطيعة له.
قالت لولا وهي ترفع يدها بالتحية العسكرية : تمام أفندم .
من مذكرات ساهر
إنني سعيد جداً لموافقة مدام هيلين على عرضي ويبدو أنها كانت تنشده . وسيتيح لي ذلك أن ألتقي بلولا بصورة دائمة . وأنا معجب بلولا .. لاشك في ذلك . فهي ذات جمال فاتن وشخصية أخّاذة. أي فرس جموح أنت يا لولا ؟!
***





فُتح باب البنسيون ثم صرّ باب غرفة فدوى صريره الناعم وتطلع ساهر في ساعة يده بعجب .. إنها لم تتجاوز التاسعة بعد ! وكانت فدوى قد احتجبت عنه ثانية ولم تعد ترجع قبل منتصف الليل.خفقت خطواتها في الصالة بعد حين وتوقفت عند باب غرفته . نُقر الباب فقفز ساهر نحوه في انبهار.
- ما هذه المفاجأة السارّة يا مدموازيل فدوى ؟ كنت أظنك هجرت البنسيون .
قالت فدوى وهي ترتمي على الكرسي الهزّاز : أعذرني يا أستاذ ساهر .. كنت مشغولة ولم يكن وقتي ملكي .
- على كل حال أنا افتقدتك وافتقدت عزفك .
- وأنا أيضاً افتقدتك . صدّقني . كيف أحوالك ؟
- عائش .. من البنسيون إلى الجامعة ومن الجامعة إلى البنسيون .
قالت فدوى وهي تتأمله وبسمة صغيرة تطوف على ثغرها : لكن صاحبك بايرون معك دائماً .. ومادام صاحبك معك فأنت لا تشتاق إلى أحد .
- ليس إلى هذا الحدّ يا مدموازيل فدوى .
صافحت فدوى وجهه بنظرات ودود ثم قالت وهي تضغط على كلماتها : فدوى من فضلك .. أظن أنه انقضى على تعارفنا وقت طويل بحيث يجيز لنا أن ننادي بعضنا بعضاً بأسمائنا المجردة .
- وهو كذلك يا فدوى .
تأملته فدوى وهي صامتة لحظات ثم قالت :ربما لا تصدقني يا ساهر .. لكنني اشتقت إليك حقيقة .
- وأنا أصدّقك يا ساهر.
- صدّقني يا ساهر .. صدّقني . أتدري لماذا ؟
- لماذا ؟
قالت وهي تلتهم وجهه بنظراتها المشغوفة : لأنك فضلاً عن وجهك المبتسم وحديثك الممتع تذكّرني بشخص كان عزيزاً للغاية على قلبي .
- وهل بإمكاني أن أعرف هذا الشخص ؟
- ربما حدثتك عنه يوماً يا ساهر .
وتبادلا النظرات الأنيسة لدقائق .
- مادمت اشتقت إلىّ كل هذا الشوق .. فما الذي منعك من إشباع شوقك ؟!
- منعني من رؤيتك سبب قاهر يا ساهر .
- وهل بإمكاني أن أعرف هذا السبب ؟
فكّرت فدوى قليلاً ثم قالت : سأصدقك القول يا ساهر .. الرجل الذي حدثتك عنه يوماً هو ليس ابن عمّي ولكنه خطيبي . وقد شغل كل وقتي .
هتف ساهر في دهشة : خطيبك ؟! أنت لم تذكري يوما أن لديك خطيب .
- لأن العلاقة بيننا كانت مقطوعة والخطبة شبه ملغاة .
- إذن عادت المياه إلى مجاريها .. مبروك . أرجو ألاّ تحدث بينكما قطيعة أخرى.
قالت فدوى وقد شردت نظراتها : لا أحسب ذلك .
- ولماذا لا تحسبين ذلك ؟ ألستما يحب أحدكما الآخر ؟
- لا أدري .. صدقني يا ساهر . لا أدري إن كان يحب أحدنا الآخر أم لا .. لا أدري إن كان يحبني حقيقة أم أنه يتظاهر بذلك .
- ولماذا تشكّين بحبه يا فدوى ؟ أليست رغبته في الزواج منك دليلاً على حبه ؟!
فكرت سلوى قليلاً ثم قالت وهي تصافحه بعينيها : أنت أصبحت شخصاً عزيزاً على قلبي يا ساهر ولا أجد حرجاً في مصارحتك . بكل شئ .. خطيبي هذا شخص غريب الأطوار .. مرة يعاملني معاملة طيبة ومرة يتصرف معي تصرفات شاذة . ولا أفهم لماذا يتصرف معي هكذا . ولا أفهم إن كانت تصرفاته هذه منبعثة من حبّه لي أم من مجرد الرغبة في امتلاكي والسيطرة عليّ . وفي كل الأحوال أنا لا أقبل أن يمتلكني شخص آخر حتى وإن كان يحبني حقيقة. أنا إنسانة حرة ولي إرادتي ورغباتي . أنا لست ملكاً لشخص آخر .
- وما الذي يجعلك تقولين هذا يا فدوى؟
- سلوكه غير المعقول معي . إنه يرصدني في كلّ صغيرة وكبيرة ويحصي عليّ كل حركاتي وسكناتي وهو ينا قرني دائماً وينتقدني على كل ما أفعله وألبسه وأقوله . بل إنه يعترض حتى على طريقة كلامي وتسريحة شعري . وكلما خرجنا في سهرة لابد أن أعود منّغصة . فليس من حقي أن أبتسم في وجه أحد . وليس من حقي أن أتحدث مع رجل بحرية . ولذلك اضطررت أن أتجاهلك يوم صحبني إلى البنسيون . وكم كنت أرغب في أن أقدمك إليه كصديق. ولعلك زعلت منّي .
قال ساهر وهو يبتسم : قليلاً.
واصلت فدوى كلامها بلهجة جريحة : ولماذا يجب عليّ أن أتصرف بهذه الطريقة ؟! لماذا لا أمارس حريتي وأحقق ذاتي ؟ وقد فاض بي الكيل فقطعت علاقتي به . لكنه ظل يلاحقني بعناد وإصرار .
- لعله يغار عليك لأنه يحبك يا فدوى .
قالت بلهجتها المشمئزة : وأي حب هذا ؟! إنه ليس حباً .. إنه استعباد. إنه رغبة في الامتلاك. وأنا أرفض هذا النوع من الحب . كيف يمكن أن يقوم الحب بين الرجل والمرأة على مجرد الرغبة في الامتلاك ؟!
صمتت فدوى وراحت تحدق في أظافرها . ثم نهضت فجأة قائلة : أعذرني إذ دوّختك بمشاكلي.. Good Night ساهر .
وخرجت متباطئة .
من مذكرات ساهر
ما الذي جعلني أرتاح لزيارة فدوى بعد احتجابها الطويل عني ؟ وما الذي أثار اغتباطي في الحوار الصريح الذي دار بيننا بالرغم من مأساويته ؟! هل تعني فدوى لي أكثر من زميلة في البنسيون يا تُرى ؟ لاشك أنها امرأة جذابة .. بعينيها السوداويين الواسعتين وأنفها الرقيق ولونها الشمعي الجميل وقامتها السمهرية وصوتها الرخيم المتميز . وللأسف هناك ذبول واضح في هذا الجمال. لعل مشاكلها هي المسؤولة عن هذا الذبول. ولكن .. حذار ثم حذار يا ساهر . لا تنس أنها تكبرك بما لا يقل عن خمسة عشر عاماً !!
***



















ارتفق ساهر النافذة وطافت عيناه في قاع الشارع . كان يلذّ له أن يتابع الحركة التي يموج بها الشارع تحته . ها هو ذا عبد التواب منهمكا في إعداد سندويجات الفول والطعمية لزبائنه المتجمهرين حوله دائما . وهاهو عبده المكوجي عاكف على عمله ولسانه لا يكلّ من الكلام مع صبيّه عجرم . وهاهو بائع الفاكهة حماد الذي تتشامخ عربته على ناصية الشارع وهو يتغنى بمزايا فاكهته .
ولاحت لولا من عطفة الشارع وتوقفت عند البقالة . ورفعت أنظارها إليه وحيته فلوّح لها بيده . وغابت في البقالة لدقائق ثم ظهرت ثانية واتجهت نحو العمارة .
- كالسبيرا .
- مرحباً لولا .
كانت خصلة من شعرها الأسود تتلاعب فوق جبينها . ألقت كتبها على المنضدة وجلست وراءها . تساءل ساهر مبتسماً : ما أخبار المدرسة يا لولا ؟
قالت وهي تعقد حاجبيها : من فضلك .. لا تسألني عن المدرسة .
- ولماذا يا لولا ؟
- ألا يكفيني قضاء كل هذه الساعات فيها ؟
قال ساهر وهو يبتسم : ولكن المفروض انك تستمتعين بالوقت في المدرسة يا لولا .
قالت لولا وهي تهز رأسها بقوة : ليس في مدرستنا .. ربما في الجامعة أما مدرستنا فمملّة.
- ولماذا مملّة ؟! ألا تستمتعين بصحبة زميلاتك ؟
- أبداً .. أكثرهن ممّلات وأحاديثهن مملّة وغراميا تهن كريهة .
تساءل ساهر وهو يبتسم : ولماذا غرامياتهن كريهة ؟
قالت لولا وهي تعقد حاجبيها : لأنها إما أن تكون مع بعضهن بعضاً أو مع شبان تافهين أو مع مدرس الإنجليزي الكريه .
قال ساهر باستغراب : ولماذا أنت متحاملة على مدرس الإنجليزي إلى هذا الحدّ يا لولا؟
- لأن بعضهن يكتبن له رسائل غرام ويعرضن عليه الزواج فيبالغ في تظرفه وسخفه .
وسكتت لحظة ثم أضافت : ولكنهن مجنونات . فهو لن يتزوج سوى كريستانا . فأبوها غنيّ ويمكنها أن تدفع له مهراً كبيراً .
- لم أكن أعلم أن المرأة الإغريقية هي التي تدفع المهر للرجل .
- طبعاً .. هذا هو حالنا . والرجل الإغريقي لا يتزوج إلاّ من الفتاة التي تدفع له مهراً أكثر ولا يهمه الحب . هذا هو قدرنا . ونحن الفتيات اليونانيات مسكينات.
قال ساهر وهو يبتسم : ليس إلى هذه الدرجة يا لولا . أنتن على الأقل محظوظات فأنتن اللواتي تخترن الرجل . فما بالك بالكثير من فتياتنا العربيات اللواتي يفرض عليهن أهلهن الزواج من رجل خلاف إرادتهن أو بدون رأيهن ؟
- وما فائدة اختيارنا إن لم يكن الرجل يحب زوجته بل مجرد طامع بمالها ؟! نحن محرومات من الحب الحقيقي بين الرجل والمرأة يا ساهر .
- لا تبالغي يا لولا .
- أنا لا أبالغ . كل الشبان من معارفنا يفكرون هكذا . نحن مسكينات .
قال ساهر مبتسما : لا تحزني من الآن يا لولا .. وأنا لا أشك أنك أنت بالذات ستلتقين بالشخص الذي يحبّك من أجلك لا من أجل المال ففيك كل الصفات التي يحبها الرجل .
تساءلت لولا وقد تألق وجهها : أتراني كذلك يا ساهر ؟
- ومن لا يراك كذلك ؟ أنا واثق أن هناك عدداً من الشبان من معارفك يضمرون لك الحب وإن لم يصارحوك بذلك.
- لا .. لا .. الشبان الذين أعرفهم لا يفكرون إلا بالُمال .. وأنا أحتقرهم.
قال ساهر وهو يبتسم : دعك من الأفكار المحزنة يا لولا وعلينا أن نبدأ درسنا .
قالت لولا وهي ترفع يدها بالتحية العسكرية : تمام أفندم .
من مذكرات ساهر
يا لك من فتاة حلوة ونافرة يا لولا . إنك فتاة متميزة بلا شك . وكلما ازددت معرفة بك تجلت لي أبعاد شخصيتك الرائعة . ومن المؤكد أن درسك أخذ يحتلّ من قلبي مكانة حبيبة .
***














كان عوضين يتنقل في أرجاء الغرفة وهو يثرثر حول كل شيء . وكان ساهر عاكفاً على الكتابة وهو يردّ عليه بأجوبة مقتضبة . وأطلت مدام هيلين وتساءلت : مبسوط خواجة ساهر ؟
- مبسوط جدا .. متشكر يا مدام.
- الخواجة خريستو يحب أن يشرب قهوته معك .. عندك مانع ؟
- يسرني ذلك جداً يا مدام .
وخرج ساهر إلى الصالة .
- كالاميرا خواجة ساهر . جئت أشرب قهوتي معك .
- مرحباً بك يا خواجة خريستو . منذ مدة لم نشرب قهوة الجمعة معا.
- أنا أحب أشرب قهوة الجمعة معك لكن الشغل كثير في البقالة .
وأضاف ناظراً إلى مدام هيلين في دعابة : والسماء لا تمطر فلوس يا خواجة ساهر ..
أليس كذلك يا هيلينا ؟
- مضبوط يا خريستو بابادوليس .. قهوة مضبوطة يا خواجة ساهر ؟!
- سكرّ زيادة يا مدام هيلين لو سمحت .
قال خريستو بلهجة ممتنة : أخبرتني لولا بأنها تحسنت باللغة الإنجليزية كثيراً يا خواجة ساهر ونحن متشكرين لك .
- العفو .. أنا لم أقم إلاّ بالواجب.
- ولكنك تصرف كثيراً من وقتك على هذه الدروس .
- أنا في الواقع أستمتع بهذه الدروس يا خواجة خريستو . فلولا فتاة ذكية ومؤنسة .
قال خريستو وهو يهز رأسه في حيرة : أنا مسرور لرأيك هذا ، وأنا لا أفهم لماذا هي ضعيفة في الإنجليزية فهي شاطرة في كل الدروس .
- ربما كان الذنب ذنب مدرس الإنجليزي وأنا واثق أنها ستنال في الامتحان العام درجة عالية .
قال خريستو بحرارة وقد انبسط وجهه : سيكون ذلك بفضلك يا خواجة ساهر .
خرج مستر هاردي من غرفته ومرّ بهما وهو في طريقه إلى الحماّم وأومأ لهما برأسه إيماءة خفيفة . قال خريستو وهو يتابعه بأنظاره : أنظر إليه .. إنه يستخسر فينا التحية .
قال ساهر وهو يبتسم : هذا هو مستر هاردي . إنني عجزت عن انتزاع كلمة واحدة منه حتى اليوم.
- وأنا أيضاً يا خواجة ساهر . وكم من مرّة حاولت أن أشرب قهوة الصباح معه فاعتذر . وحاولت أن أجرجره في الكلام فلم أفلح .
- هذا هو طبع الإنجليز يا خواجة خريستو . فهم غير اجتماعيين عموماً .
- هذا صحيح يا خواجة ساهر . إنهم مغرورون .
- أفليس الحق معهم يا خواجة خريستو ؟! ألم تسمع بالقول الشائع إن إمبراطوريتهم لم تكن تغرب عنها الشمس ؟
هتف خريستو في احتجاج : ولكن ذلك كان قديما يا خواجة ساهر . والآن زال مجدهم وزالت إمبراطوريتهم وأصبحوا فقراء مثلنا . فما الداعي إلى هذا التكبّر ؟! هل هم الوحيدون الذين صنعوا إمبراطورية ؟! نحن الإغريق كان لدينا أعظم إمبراطورية في التاريخ أيا م الإسكندر المقدوني . لكننا لسنا متكبرين .
- على كل حال ليس جميع الإنجليز متكبرين يا خواجة خريستو . ولديهم أناس شاركوا الشعوب نضالها في سبيل الحرية . وإلاّ فهل نسيت ما فعله لورد بايرون من أجلكم ؟
هتف خريستو في حماس : وكيف أنسى ذلك يا خواجة ساهر ؟ بل كيف ينسى ذلك الإغريق كلهّم؟ نحن نجلّه إجلالا عظيما يا خواجة ساهر ولا ننسى فضله علينا أثناء حربنا التحررية. وتمثاله في بلدة ميسولونجي من أجمل التماثيل . نحن نحبهّ ونحب شعره ونعدّه أحد أبطالنا القوميين . وكاتبنا العظيم كازانتزاكي كثيراً ما مجدّه في أدبه . وبالمناسبة يا خواجة ساهر .. هل قرأت شيئاً لكاتبنا العظيم كازانتزاكي ؟!
- بالطبع قرأت له العديد من كتاباته . قرأت له " الأخوة الأعداء " و " زوربا" و " المسيح يصلب من جديد " وكتابات أخرى . والواقع أنه من أعظم الكتّاب المعاصرين . وتفوح من كتاباته الروح الإنسانية السامية .
تساءل خريستو ببهجة : أهذا رأيك فيه يا خواجة ساهر ؟ أنا مسرور كثيراً لذلك .. مسرور كثيراً .
أقبلت مدام هيلين وقالت وهي ترفع فناجين القهوة : الشغل في انتظارك يا خريستو بابا دوليس.
التفت خريستو إليها وقال في امتعاض : سيظل الشغل يطاردني ويحرمني متعة الثقافة حتى أموت يا هيلينا .
ردّت مدام هيلين بلهجتها الحازمة : السماء لا تمطر فلوس يا خريستو بابا دوليس. ولا تنس أن وراءك بنتا ستزوّجها.
قال خريستو وهو ينهض : سنشرب قهوتنا معاً الجمعة القادمة يا خواجة ساهر .
- يسرني ذلك جداً يا خواجة خريستو .
من مذكرات ساهر
يوماً بعد يوم يتعاظم احترامي لك يا خواجة خريستو وتقنعني بأنك شخص مثقف حقاً . فأنت تحاول أن تجعل من قهوة الجمعة مناسبة ثقافية وليست مجرد تبادل حوار فارغ . وليت الآخرين يحذون حذوك . لقد انتزعت احترامي حقا يا خريستو بابا دوليس .
***


























مدت فدوى رأسها من شق الباب وتساءلت : أيمكنني أن أدخل ؟
رفع ساهر رأسه عن الكتاب وتساءل مدهشا : ما هذه المفاجأة الساّرة يا فدوى ؟! الساعة لم تتجاوز الثامنة والنصف بعد .
قالت وهى تدخل : إنني عدت مبكرة من أجلك يا ساهر لكي أعزف لك فلعلك افتقدت عزفي .
وأضافت وهي تضحك ضحكة رقيقة : أأنا مصيبة أم مخطئة يا ساهر ؟
- بل أنت مصيبة تماما .
- إذن أنت مشتاق لعزفي ؟
- مشتاق جدا. أنت خيّبت أملي في هذا الانقطاع الطويل .
- أنا مشغولة الذهن هذه الأيام يا ساهر . وحينما أكون هكذا لا أجد في نفسي رغبة في العزف.
وسكتت ثم أضافت وهي باسمة الوجه : سأعوضك عما افتقدته في الأيام الماضية يا ساهر . وإني عدت مبكرة خصيصاً لذلك . فتعال معي إلى غرفتي .
دفعت فدوى باب غرفتها وقالت هي تتقدمه في الدخول : أهلاً بك في بيتي يا ساهر .
أجال ساهر أنظاره في الغرفة متفحصا . تساءلت فدوى : ما رأيك في بيتي يا ساهر ؟
- لم أكن أتصور أن غرفتك بهذا الاتساع يا فدوى . إنها ضعف غرفتي .
- إنها أكبر غرف البنسيون . ومن النادر أن تجد في البنسيونات مثل هذه الغرفة الواسعة. لذلك فأنني أحبّ بيتي هذا يا ساهر .
- ولكن لماذا تسمّيها بيتك ؟ إنها ليست سوى غرفة في بنسيون .
- إنها بيتي يا ساهر وليس لي بيت غيرها .
اتجهت فدوى إلى البيانو وقالت باسمة : أنت الآن ضيف الموسيقى ومن حقك أن تختار القطعة التي تحبّها .
فكر ساهر قليلاً ثم قال : ما دمت تركت لي حق الاختيار فإنني أفضل الاستماع أولاً إلى سوناتا ضوء القمر ثم بعد ذلك إلى أية قطعة تختارينها لشوبان .
قالت فدوى وهي تنكب على دفتر " النوتة " : وهو كذلك .
تصاعدت أنغام " السوناتا " عذبة رقيقة . واختلس ساهر النظر إلى وجه فدوى فبدا له مائجاً بالانفعالات . وأخيراً خفتت الأنغام شيئاً فشيئا حتى ماتت . وبقيت فدوى ساكنة أمام البيا نو لدقائق وعيناها شاردتان . ثم التفتت إليه وقالت وجهها يعكس اشراقة جميلة : أتدري يا ساهر ؟ خيل إلي وأنا أعزف أنا نتنزه معاً في شارع محفوف بالأشجار والقمر يغمرنا بنوره .
قال ساهر وهو يبتسم : تخيّلاتك هذه ليست غريبة يا فدوى. فأنت تعلمين أن بتهوفن ألف هذه " السوناتا " خصيصاً للعشاق . وأنا أشكرك على أنك أوليتني هذا الشرف .
تأملته فدوى للحظات بعينين حالمتين .
- ليتني التقيتك في صدر شبابي يا ساهر . لكنني الآن بمثابة الأخت الكبيرة لك .
- أنت فعلاً بمثابة الأخت لي يا فدوى .
- وهل لك أخت يا ساهر ؟
- لي أخت واحدة وهي أصغر مني .. وأنت أليس لك أخت يا فدوى ؟
قالت فدوى بنبرة حزينة : لا .. مع الأسف . وكم كنت أتمنى أن يكون لي أخت فربما كانت ستخفّف الكثير من معاناتي . فالأخت لها وضع خاص ويمكن أن تشارك أختها أفراحها وأتراحها . أما الأخ فله شأن آخر في مجتمعاتنا الشرقية ولا يمكن أن يشارك أخته حياتها وهمومها . هذا إذا لم يتّخذ مركز الأب ويصبح متسلطاً عليها .
- وهل لك إخوان يا فدوى ؟
- لا .. فأنا وحيدة أبويّ .
- هذا مؤسف .
تأملته دقائق بعينيها الحالمتين ثم نفضت رأسها وقالت : فلأكمل ضيافتي الموسيقية لك يا ساهر . سأختار لك معزوفة من معزوفات شوبان المحببة إلى نفسي وهي " البولنيز " ولعلها محببة إلى نفسك أيضا فذوقانا متشابهان .
- بالتأكيد .. أنا أحبها جداً .
وعكفت فدوى على دفتر " النوتات " تتصفحه باهتمام .
من مذكرات ساهر
كم كانت السهرة ممتعة ! لقد استمتعت حقاً بعزف فدوى . ويمكنني القول أنها كانت بارعة جداً . كانت تعزف بكل جوارحها . وكانت تبدو سعيدة مغتبطة . ولم ألمح في عينيها من قبل مثل ذلك الوميض الدفيء ومثل تلك العواطف المشبوبة . تُرى ما خطبها ؟ وما الذي جعلها كذلك ؟!
ولقد أدهشتني حقاً بهذه الدعوة المفاجئة . فلم يسبق لها أن دعتني إلى غرفتها مع أنها تزورني يوميا في غرفتي . وأعترف بأنني امتلأت بشعور خاص حينما احتوتني غرفتها وهو شعور مغاير للّذي أُحسّه وهي في غرفتي . فماذا يعني كل ذلك ؟!
***






قالت لولا وهي تلقي بنفسها على الكرسي الهزاز : أنا اليوم سعيدة كثيراً يا ساهر .
وبدت متألقة الوجه باسمة الثغر تشعَ عيناها بنظرات ساحرة . قال ساهر مبتسماً : فعلاً أنت تبدين مسرورة اليوم أكثر من المعتاد يا لولا . فما الخبر ؟
قالت وهي تؤرجح نفسها : وزّع علينا مدّرس الانجليزي نتائج الامتحان الأخير .. إحزر كم كانت درجتي.
- ناجحة بالطبع .
- تسعون .. أعلى درجة في الصف .
- غير معقول !
- والفضل في ذلك يعود لك طبعاً .
- أنا مسرور جداً لهذا النبأ . وبإمكاني أن أعدّ نفسي إذن مدرّساً ناجحاً .
قالت لولا وهي تتفرس في وجهه: أنت لست مدرساً ناجحاً فحسب يا ساهر .. أنت مدرسّ محبوب أيضاً.
- أنا سعيد لسماع هذا الكلام منك يا لولا. وهو مؤشر مشجع لمستقبلي . فأنا سأكون مدرساً بعد تخرجي من الجامعة . وأفضل مكافأة للمدرّس أن يكون محبوباً من تلامذته.
قالت لولا وهي تداعب وجهه بنظرات حميمة : أتعني أنك لا تعرف بأنك مدرس محبوب ؟
- وكيف لي أن أعرف ؟! لم يسبق لي أن قمت بالتدريس . وأنت أول تلميذة أتولّى تدريسها.
قالت لولا وعيناها مثبتتان على وجهه : أنا متأكدة أنك تعرف ذلك ولكنك تتجاهل .
صرّ باب البنسيون صريره الغليظ وتعالت خطوات فدوى في الصالة ثم بانت أمام الباب . قالت وهي تنقل أنظارها المتسائلة بين لولا وساهر : ماما بخير يا لولا ؟
- ماما بخير وهي في البقالة .
- ولكن ليس من عادتك أن تزورينا عصراً يا لولاً .
- لولا حضرت من أجل درسها يا فدوى . فأنا أساعدها في الإنجليزية .
قالت لولا : ساهر مدرس عظيم ، تصوري يا مدموازيل فدوى أنني حصلت على أعلى درجة في امتحان الإنجليزي الأخير .
قالت فدوى بلهجة فاترة : مبروك .. واسمحا لي لئلا أعطلكما عن الدرس .
ما أن خرجت لولا حتى مثلت فدوى أمام الباب . قالت وهي تخطو في الغرفة متباطئة : ممكن أدخل؟!
- تفضلي يا فدوى .. مرحباً بك .
قالت بلهجة خاصة هي تستلقي على الكرسي الهزاز : لعلك متعب من الدرس .
- أبداً .. الواقع أن درس الإنجليزي لا يكلفني جهداً .
تمعنت فدوى في وجهه برهة ثم قالت بلهجتها الخاصة : لم أكن أعلم أنك تقوم بتدريس الإنجليزية.
قال وهو يتجنب نظراتها : أنا في الواقع لست معتاداً على ذلك . وهذه هي المرة الأولى التي أدرس فيها استجابة لرغبة مدام هيلين .
- ولكنك لم تخبرني بذلك .
- لم يخطر لي أن مثل هذا الأمر يستحق الذكر .
تأملت فدوى وجه ساهر بنظراتها الغريبة ثم قالت فجأة بلهجة لطيفة : إذن هل لديك وقت للاستماع إلى الموسيقى ؟
- سأكون مسروراً جداً . ولكن هل لي أن أسأل يا فدوى لماذا عدت اليوم قبل انتهاء موعد عملك؟
- كان لدي موعد مع خطيبي فأخذت ساعتين إجازة لكنه أخلف الموعد . فعدت إلى البيت لأعزف لك .
- أنا مسرور جداً إذ أخلف خطيبك موعده معك .
قالت فدوى وهي تطيل النظر في وجهه : أأنت صادق فيما تقول يا ساهر ؟
قال وهو يتفادى نظراتها اللحوح : لم أتعود الكذب يا فدوى .
قالت وهي تنهض وقد أضاء وجهها بالسرور : تعال معي إذن إلى غرفتي فأنت ضيف الموسيقى.


من مذكرات ساهر
ينبغي لي أن أعترف بأنني مشوّش الفكر .. أو على الأصح مشوش العاطفة . هل أقوم بتدريس لولا استجابة لرغبة مدام هيلين حقيقة كما قلت لفدوى ؟ إذن لماذا أشعر بغبطة غير اعتيادية عند حضورها ؟! ولأكن أكثر صراحة مع نفسي .. فأنا أترقب ميعاد درسها بشوق . وإذا تأخرت قليلاً انتابني القلق خشية ألا تحضر . فهل يدخل كل ذلك في نطاق أداء المعروف لمدام هيلين ؟ لقد كنت دائماً أنظر إلى التلميذات الإغريقيات نظرة خاصة وهن يغادرن عصراً المدرسة الإغريقية في شارع ماسبيرو .. ولهن عندي اعتبار خاص . فهن حفيدات هيلين طروادة . ومن من الشعراء لم يتغن بجمال الإغريقيات ؟ ألم يكتب لورد بايرون فيهن أجمل قصائده ؟! كل الذي أرجوه ألا يتحولّ ضعفي تجاه التلميذات الإغريقيات ت إلى حالة مرضية تجاه لولا . فقد يقذف بي ذلك في طريق مسدود !
ولولا .. ما موقفها مني ؟! لقد بدت لي منذ اليوم الأول فتاة صريحة . وكانت تعبّر عن كل ما يجول في ذهنها بجرأة وعفوية . ولكنها ما عادت كذلك ، ويخيل إليّ أن مظاهر جديدة بدأت تنتابها. لقد قلّت ثرثرتها وتعليقاتها الجريئة . ولم تعد عيناها تعكسان ذلك الصفاء البديع . وكثيراً ما لمحت فيهما ظلالاً من الحزن وهي تسارقني النظر . فلماذا يا لولا؟ لماذا؟ ***

قال ساهر وهو يرشف فنجان الشاي : ألا يمكن أن نسمع شيئاً من الموسيقى يا فدوي؟!
قالت فدوي بلهجة لطيفة : لا .. ليس اليوم يا ساهر . أنت اليوم مدعو لشرب الشاي والدردشة فقط .
قال ساهر وهو يرنو إلى البيا نو بحسرة : يا خسارة ! كنت أمني نفسي بسماع قطعة لغرائز ليست .. الهنجاريا ن رابسودي رقم 14 .. أو الكونشورتو رقم2.
- في يوم أخر ساهر فلا مزاج عندي للعزف اليوم .. عندي مزاج للدردشة فقط .
وأضافت هي ترمقه بودّ : حتى أنني كذبت على زهدي وزعمت له أنني أشكو صداعاً ولا يمكنني السهر معه هذا المساء من أجل أن نشرب الشاي معاً وندردش .
- أنا أشكرك جداً على إتاحة هذه الفرصة لي .
- أأنت صادق فيما تقول يا ساهر ؟ أعني ألا يضايقك أن تضيع وقتك معي ؟
- من عادتي أن أبتعد عن الكذب جهد إمكاني يا فدوى . فكوني على ثقة أنني لا أعدّ الحديث معك ضياعاً لوقتي .
- ولكن أليس من الأفضل لك أن تصرف وقتك في أشياء أنفع لك ؟
- مثل أي شئ ؟
- مثل قراءة أشعار بايرون أو تدريس لولا .
قال ساهر بلهجة حيادية : أما تدريس لولا فهو واجب أؤديه . وأما أشعار بايرون فليس بإمكاني أن أخصص كل وقتي لها .
- ولكنك تحب بايرون والمفروض ألاّ يزهق المحب من حبيبه .
- أنا على كل حال لست مقصراً تجاه بايرون ودواوينه لا تفارقني .
تأملت فدوى وجه ساهر بنظرات تائهة للحظات .
- وأين وصلت في بحثك عنه ؟
- لا يزال أمامي الشئ الكثير يا فدوى . وكلما تمعنت في شعره اكتشفت جوانب جديدة في شخصيته . ومن المؤسف أن سمعته لدى القراء الاعتياديين قائمة على كونه زير نساء .
- طبعاً هو زير نساء . وماذا يكون بايرون ؟! وهو يمثّل الرجل الحقيقي الذي لا يفكّر بالمرأة إلا وفي ذهنه الفراش.
قال ساهر محتجاً : لا يا فدوى .. لا تظلمي بايرون . كان يعّد المرأة أجمل مخلوق في الوجود . وما كُتب عنه بصدد علاقاته الغرامية ينطوي على الكثير من المبالغة . وكان يمجد الحرية والبطولة. وكان هو نفسه بطلاً من أبطال الحرية .
- لكنه لم يكن من أنصار الحب الأفلاطوني . ومن الغرابة أنك معجب به .
- وما الغرابة في ذلك ؟
ظلت فدوى صامتة لحظات وهي تتأمله بنظراتها التائهة .
- لأنك كما يبدو على نقيضه فأنت من أنصار هذا النوع من الحب .
- وما الذي يدعوك إلى مثل هذا الاعتقاد ؟
قالت فدوى وهي تضغط على الحروف وتحدق في عينيه : اهتمامك بلولا.
- ومن قال لك أنني مهتم بلولا ؟
- ألست تصرف معها الكثير من وقتك .. فكيف يكون الاهتمام ؟!
قال ساهر وهو يتفادى نظراتها اللحوح : قلت لك إنني أقوم بواجب نحوها لا أكثر . فلماذا لا تصدقينني ؟
- ليتني أقدر أن أصدقك .
وسكتت فدوى ثم أضافت برقة : أنا خائفة عليك يا ساهر .
- خائفة عليّ ؟! ومِمَ ؟
- صدقني يا ساهر .. أنت عزيز عليّ وأخشى أن يصيبك ضرر من هذه العلاقة.
راقب ساهر وجهها وقد افترشه الأسى .
- ولكن مِمَ تخافين عليّ يا فدوى ؟
- أنت الآن في قمّة الشباب يا ساهر ولولا في أوج مراهقتها . وكلاكما يجتاز أعنف مراحل العاطفة .
- وما ارتباط ذلك بالخوف عليّ ؟
قالت فدوى وهي تتأمله بنظرات حنون : لأن علاقتكما قد توقعكما في حب مأساوي .
- لا يا فدوى .. لا . أنت شطحت في خيالك بعيداً . فأنا من الذين يؤمنون بأنه لابد أن يكون للحب هدف . وأنت تعرفين أن الإغريق متعصبون لدينهم .
- وهذا ما أخشاه عليك يا ساهر . والحب لا يطلب أو يمنع بالإرادة . إنه كالقدر يهبط على الإنسان دون إرادته . وأنت ولولا مؤهلان للحب . فلولا فتاة جميلة وأنت شاب جذاّب .
وأضافت ضاحكة : ومن بإمكانه ألا ينجذب إلى هذا الوجه البشوش ؟!
وصمتت لحظة ثم قالت وهي ساهمة النظرات : وأخشى أن تتكرر معكما مأساتنا أنا ومروان .
وسكتت وحملتها ذكرياتها بعيدا . قال ساهر أخيراً : أنا آسف إن كنت هيجت أشجان الماضي في قلبك يا فدوى . ولكن هل أفهم من قولك انك جربت مثل هذه المأساة ؟!
قالت فدوى وهي حالمة النظرات : ألا تتذكر يا ساهر أنني قلت لك يوماً أنك تذكرني بشخص عزيز عليّ ؟
- أتذكر ذلك ، ووعدتني أن تحدثيني عنه لكنك لم تفعلي .
- إذن فاعلم أنك تذكرني بمروان . وقد ذكرتني به منذ اللحظة التي رأيتك فيها .
- وهل تسمحين لي أن أسألك من يكون مروان هذا ؟!
قالت فدوى وقد افتّرت شفتاها عن بسمة حالمة : مروان هو أعز شخص على قلبي ولن أنساه ما حييت حتى لو بلغت مائة عام .. لن أنسى نزهاتنا على شاطئ البحر يا ساهر . لن أنسى اللحظات التي كنت أتهيأ فيها لمغادرة المدرسة عصراً فيكون في انتظاري في العطفة المجاورة لمدرستنا . وكم كان زميلاتي يتغامزن علىّ وهن يرصدن لهفتي لملاقاته .. لن أنسى كل دقيقة أمضيناها معا.
وتاهت نظرات فدوى لحظات ثم التفتت إلى ساهر وقالت وعلى وجهها بسمة عذبة : كان مروان نسخة طبق الأصل منك يا ساهر بلطفه ودماثته ووجهه البشوش .
قال ساهر وهو يبتسم : فإذن كان مروان الحبيب الأول .. يا بخته !
سرحت أنظار فدوى وقد ذابت رقة .
- نعم يا ساهر . كان مروان حبي الأول .. وأحسب أنه حبّي الأخير . وأنا عرفت رجالاً عديدين لكن أيّا منهم لم يثر في قلبي العاطفة التي أشعلها مروان . ولعل السبب أنني كنت يوم ذاك في أوج صباي 00 في سنّ لولا بالضبط . وكان مروان في سنّك . فشبك قلبينا حب آسر .. حبَّ ما كان أجمله وأروعه . صدقني يا ساهر .. كنت أحياناً أبكي من شدة حبي . ولم تكن صورته تفارق خيالي لا ليلاً ولا نهاراً .
وصمتت فدوى لحظة ثم أضافت بلهجة كسيرة : ولكن لماذا يا ربي كتبت لي هذا العذاب ؟! ما ذنبي ؟! كنت صبية بريئة لا أعرف الخطيئة .. أحب أمّي وأبي وجميع الناس . وكنت أحضر القداّس كل أحد . وكنت أصليّ كل يوم قبل أن أنام . فلماذا عاقبتني ؟ ولماذا جعلت قلبي يتعلق بفتىً من غير ديني؟
تساءل ساهر في حذر : وهل قاسيت بسبب حبّك هذا يا فدوى؟
قالت فدوى وهي تهز رأسها في مرارة : قاسيت ؟! جن جنون أبي حين عرف بقصة حّبي وتحوّل إلى وحش كاسر . وجرّني من شعري إلى قبو البيت وحبسني لمدة أسبوع لم أكن أذوق خلاله من الطعام إلاّ ما يحول بيني وبين الموت .
تساءل ساهر بلهجته الحذرة : ولكن ألم تقف أمّك إلى جانبك يا فدوى ؟!
هزت فدوى رأسها وقالت : أمّي المسكينة ؟! كيف كان بوسعها أن تقف ضد أبي؟! كانت تراه الرجل المثالي الذي لا يمكن أن يخطئ . كانت تجلّه إجلالاً عظيماً . وكانت تعتقد أن أقواله وأفعاله لا تقبل الخطأ .
وأطرقت فدوى محزونة ثم همست : إنه سحق قلبينا . فلم يطق مروان البقاء في البلدة وهام على وجهه وحرمت من رؤيته إلى الأبد .
قال ساهر بلهجة أسيفة : أنت ومروان كنتما ضحية تفسير خاطئ لتعاليم الدين يا فدوى.
تلبثت فدوى مطرقة وهي تحدق بأظافرها وقد غام وجهها بالأسى . وران على الغرفة صمت حزين. وفجأة رنّ جرس الباب رنينا متصلاً فأجفلت فدوى وتطلعت إلى ساهر في قلق . تساءل ساهر في عجب : من الطارق في مثل هذا الوقت ؟
- أنا سأفتح الباب يا ساهر .
وخرجت فدوى وتركت باب الغرفة مفتوحاً . وسمعها ساهر تقول بصوت مرتبك : أهلاً زهدي.. خيراً؟
قال زهدي وهو يقتحم الغرفة : جئت أطمئن على صحتك .
والتقت عينا ساهر بعيني زهدي فخيّل إليه أنهما تشتعلان غضباً . التفت زهدي إلى فدوى وقال في تهكّم : كنت أتوقعك في الفراش .
قالت فدوى بلهجة متلعثمة : كنت متعبة حقيقة .
استمر زهدي يقول بلهجته المتهكمة وهو يرمي ساهر بنظرات استهجان : واضح .. واضح .
حوّل ساهر عينيه إلى وجه فدوى المرتبك ثم نهض قائماً .
- اسمحي لي يا مدموازيل فدوى .. وشكراً على الشاي .
وخرج وهو يتحاشى النظر إلى زهدي.
أصغى ساهر إلى الأصوات المنبعثة من غرفة فدوى. كان ثمة جدل متصل . وكان صوت زهدي يعلو في غضب وحدّة . وكان صوت فدوى مضطرباً . وأخيراً صرّ باب البنسيون صريره الغليظ وساد السكون . وتوقع ساهر أن تقبل فدوى على غرفته لكن الوقت زحف متباطئاً دون أن يسمع خطواتها . فخرج إليها . وكان على وشك أن يطرق الباب حين ترامى إلى سمعه بكاء مكتوم فتوقف متردداً . ومكث واقفاً يتنصت وقد عصفت به الحيرة . ثم انسل عائداً إلى غرفته .
من مذكرات ساهر
ما أشد أسفي لما حدث لفدوى في تلك الليلة . وكم كان بوديّ أن أسرّي عنها. لاشك أنني أوقعتها في موقف صعب مع خطيبها الغيور . فلا بد أنني أثرت غيرته بوجودي في غرفتها خصوصاً وأنها كانت قد كذبت عليه وادّعت المرض . ولقد احتجبت عن رؤيتي منذ تلك الليلة . وهي تغلق عليها باب غرفتها كلما عادت إلى البنسيون . وحينما تخرج إلى التواليت أو المطبخ تسير على أطراف أصابعها وكأنها تتجنب إشعاري بوجودها.فلماذا؟ أتراها تلقي اللوم عليّ فيما حدث تلك الليلة ؟! أتراها تنفّذ أوامر صدرت إليها من خطيبها؟ ولكن هل من الممكن أن تلتزم بأوامر خطيبها إلى هذا الحدّ؟ وما دام الأمر كذلك.. أليس من الأفضل لي أن أكف عن التفكير فيها ما دامت اتخذت تجاهي هذا الموقف ؟! ثم لماذا هذا القلق؟! إنني أمضي ساعات المساء في ترقب مضن . وكلما خفقت خطواتها في الصالة حاصرتني لهفة طاغية لسماع طرقاتها على الباب . ويجب أن اعترف بأن هدف خروجي المتكرر إلى الصالة بزعم الذهاب إلى التواليت أو المطبخ هو للتأكد من أن نورها ما يزال مضاء. يا لساعات المساء من ساعات مضنية .. تبدأ منذ أن يتناهى إلى مسامعي صرير بابها الناعم حتى ينطفئ النور في غرفتها . فماذا يعني كل ذلك ؟!
***



























أخيراً تناهت إلى سمع ساهر الطرقات المعهودة على باب غرفته . ورمى كتابه على المنضدة وقفز في اهتياج.
- يا مرحبا! أأت فدوى حقيقة ؟
قالت فدوى وهي تخطو في الغرفة : هل افتقدتني يا ساهر ؟!
- أكثر مما تتصورين .
قالت وهي تستلقي على الكرسي الهزاز : وأنا أيضا افتقدتك .
- لو كنت افتقدتني حقيقة ما قاطعتني . هل كان لي ذنب فيما حدث تلك الليلة حتى تغضبي منّي وتقاطعيني ؟!
- صدقني يا ساهر .. افتقدتك كثيراً . وأنت لا ذنب لك فيما حدث تلك الليلة.
- إذن لماذا قاطعتني ؟!
قالت وهي تشيح بوجهها عنه : صدقني يا ساهر .. لم يكن لي يد في ذلك . لم أكن أطيق رؤية أحد . هذا كل ما في الأمر . ولم تكن أنت مقصوداً بذلك.
- لكنني قلقت عليك يا فدوى .. قلقت عليك جداً.
رنت فدوى إليه بنظرات منتشية وقد أشرق وجهها . ثم نهضت إليه وطبعت قبلة على جبينه . قالت وهي تعود إلى مقعدها : ما ألطفك يا ساهر .. ما ألطفك !
- طمئنيني يا فدوى . أرجو ألا يكون مسّك أذى من تلك الليلة .
- أذى ؟! لا .. الخير فيما وقع يا ساهر .
- إذن لم يحدث سوء تفاهم بينك وبين خطيبك ؟
قالت في ازدراء : خطيبي ؟! انتهى كل شئ بيني وبينه يا ساهر .
- أنا آسف لسماع ذلك . ولعلني مسؤول عما حدث بشكل ما .
- لا تأسف لذلك . وأنت كما قلت لك لا يد لك فيما وقع .
وفكرت مليا ثم قالت : كان يجب أن يقع ذلك من وقت طويل . فزهدي لا يصلح لي وأنا لا أصلح له . ولو كان تزوجني حقيقة لأحال حياتي إلى جحيم بشكوكه وغيرته . فطباعي لا تصلح له .
سارع ساهر يقول : لا يا فدوى .. لا . أنت تصلحين لأيّ رجل .
نظرت إليه فدوى طويلاً وقد تألق وجهها .
- أهذا رأيك في ّ حقيقة ؟!
- بالطبع .
عادت فدوى تتأمل وجه ساهر بحنّو ثم هزّت رأسها وتمتمت : ليتني التقيتك قبل عشر سنوات يا ساهر .
وسكتت قليلاً ثم أضافت : الحقيقة أن زهدي لم يكن يصلح لي . وكنت أحاول أن أقنع نفسي بأنني مخطئة . لكنني تيقنت الآن بأن ظنوني مصيبة . ثم أنه هو الذي فسخ الخطبة .
قال ساهر في استنكار : فسخ الخطبة ؟! بهذه البساطة ؟! ما الذي شاهد فأحنقه إلى هذه الدرجة ؟!
قالت فدوى بلهجة مشمئزة : أحسب أنه كان يتحينّ الفرصة للكشف عن نياته الحقيقية يا ساهر . وأنا موقنة الآن أنه لم يكن جاداً في مسألة الزواج أبدا . إنه كان يستغلني لا أكثر .
- لعل من الأفضل ألاً تتسرّعي في الحكم عليه يا فدوى . فربما وقع تحت تأثير نوبة غضب حينما تصوّر أنك كذبت عليه لتمضي أمسيتك معي .
- لا يا ساهر .. أنت طيب القلب وحسن الظن بالناس . إنه لم يفسخ خطبتنا بسبب نوبة غضب لكنه وجد الفرصة مناسبة ليكشف عن دوافعه الحقيقية . إنه كان يضمر استغلالي وتضييع وقتي لا أكثر . لم يكن ينوي الزواج مني أبدا .
- ولكن ما الذي يدعوك إلى مثل هذا الاستنتاج يا فدوى ؟
- هو الذي صارحني بذلك يا ساهر . فحينما تجادلنا تلك الليلة قال لي : اسمعي لا يمكنني أن أثق بك كزوجة ولا أطمئن إلى إخلاصك .
- هذا أمر مؤسف . كيف يجيز لنفسه أن يقول مثل هذا القول ؟!
قالت فدوى في استهانة : لأنه يعلم أنني كنت على علاقة مع رجال قبله . كان ذلك قبل أن أعرفه . لكنني لم أخنه أبداً يا ساهر . فلماذا يعتبر ذلك مأخذاً عليّ ؟! إنه هو أيضاً كان على علاقة بعدد من النساء قبلي . ولم أؤاخذه على ذلك يوماً . ولكن هذا هو شأن الرجل الشرقي .. لا يرى في المرأة إلا متاعاً له .. ملكاً خاصاً به . إنه لا يحاسب نفسه ويؤمن بأن كل شيء مباح له . أما المرأة فينبغي لها ان تكون أمة .. بلا شخصية .. تخرج من سيطرة أبيها أو أخيها لتقع تحت سيطرة زوجها.
قال ساهر بلهجة محرجة وهو يتجنبها بأنظاره : أنت نفسك قلت لي أن زهدي غيور بشكل غير اعتيا دي يا فدوى . وهذا يعني أنه رجل من طراز خاص .
قالت فدوى بحدة وقد أطل الغضب من عينها : أبداً . إنه ليس طرازاً خاصاً . كل الرجال الشرقيين كذلك . إنهم لا يرغبون في الزواج من امرأة لها ماض. يريدونها امرأة مخدّرة .. عليها أن تخرج من بيت أبيها إلى بيت زوجها وهي قطة مغمضة لا تعرف رجلاً قبله .. هذه هي الحقيقة .
قال ساهر بلهجته المحرجة : أنا لا أدري ماذا أقول ..
قاطعته فدوى بلهجتها الحادة : إذن لا تقل شيئاً يا ساهر . أنت تعلم أنني لا أقول سوى الحقيقة فلا تحاول أن تغالط نفسك . وأنا أقول لك إن الرجل الشرقي لا يقيم صلة مع المرأة إلا وهو يفكر في جسدها .. المرأة تعني له الفراش فقط . ولعل الرجال في العالم كلهم كذلك . اسألني أنا .. فأنا امرأة ذات تجارب . وأنا لا أخجل من ماضيي .. أنا إنسانة حرّة شأني شأن الرجل . وإنه جسدي وأنا حرّة فيه . فلماذا يخالط الرجل المرأة على هواه دون حساب بينما تحاسب المرأة على ذلك ؟
قال ساهر بلهجته المحرجة وهو يتفادى النظر إليها :أنت تعلمين يا فدوى أن المجتمع الشرقي له تقاليد خاصة تختلف عن تقاليد المجتمع الغربي.
قالت فدوى بلهجة عدائية : ومن الذي صاغ تلك التقاليد ؟ لقد صاغها الرجل .. السيد .. وفصّلها على ذوقه ورغباته .. هذا كل ما في الأمر .
قال ساهر وهو يبتسم : على كل حال لا أريد أن أناقشك الآن في ذلك يا فدوى . فأنت متألمة لما حدث من خطيبك والحق معك . ما كان ينبغي له أن يخدعك بالوعود ما دام يعلم أنه غير مستعد للزواج من امرأة تمارس حريتها . وأنا آسف جداً لما حدث لك . فأنت تستحقين معاملة أفضل . وأنا واثق انك ستلتقين يوماً بالرجل الذي يقدر مزاياك .
قالت فدوى بمرارة وهي تهزّ رأسها : لا يا ساهر . إنني اقتنعت بأن علي مواجهة الحقيقة .. ولا يختلف زهدي عن الرجال الذين عرفتهم . فمنذ بدأت أفكر بالزواج ممن أخالطهم وجدت أنهم يتهربون مني لأنني شاركتهم الفراش . كانوا يستغلونني ويضيعون وقتي لا أكثر .
وأطرقت متجهمة ثم تمتمت : ضاعت فرصة الزواج مني .
قال ساهر برقة : لا تقولي ذلك يا فدوى . الفرص ما تزال أمامك .
رفعت إليه أنظارها وابتسامة حزينة تغلف وجهها .
- وأنا في هذا السن ؟! وذات ماض؟! أيّ فرص أمامي يا ساهر؟
- أنا لا أجد مبرراً لهذا اليأس يا فدوى.
قالت فدوى وهي تهز رأسها بأسى : لكل شخص نصيبه من الحيا ة يا ساهر . وهذا هو نصيبي ..Such is Life ساهر . فدعنا من هذا الحديث المحزن . وأنا لم أجيء إليك لأشكوك أحزاني . إنني نفضت عني الأحزان خلال الأيام التي اعتكفت فيها في غرفتي . كنت مكتئبة طوال تلك الأيام . لكنني اقتنعت الآن بأنه لا فائدة من معاندة الدنيا . وإنني اشتقت إلى وجهك المبتسم وإلى حديثك الحلو.
- وأنا أيضاً اشتقت إلى حديثك الحلو يا فدوى .
تطلعت فدوى في وجهه ثم تساءلت وهي ترنو إليه بنظرات غريبة : هل اشتقت إلى حديثي فقط أم اشتقت إليّّ كليّة يا ساهر ؟!
- بالطبع اشتقت إليك كلية.
وعادت فدوى تتساءل وهي تحرقه بنظراتها الغريبة : كليّة .. كليّة ؟!
حوّل ساهر عينيه عن وجهها وهو يداري ارتباكه .
- أصدقني القول يا ساهر .. هل تراني جميلة ؟1
قال ساهر وهو يختطف من وجهها نظرات سريعة : بالطبع أنت جميلة .. هل هناك شك في ذلك؟
قالت وهي لا تكف عن التحديق في وجهه : فهل تشتهيني إذن يا ساهر ؟
تردد ساهر بالجواب لحظات ثم قال : أنت تعلمين يا فدوى أن علاقتنا لم تبن على مثل هذا الأمر .. وأنا أحترمك جداً .
- دعك من الاحترام .. أنا امرأة وأنت رجل .. وأنا أكلمك الآن كامرأة يا ساهر . فهل تشتهيني؟
- أرجوك يا فدوى .. لا تحرجيني .
وفجأة تملكت ساهر ارتجافه قوية أخذت تهزّ جسده هزّ.
قالت فدوى وهي تنهض إليه : إن لم تكن تشتهيني فأنا أشتهيك.
وطوقته بقوة وألقت بجسدها على جسده .

من مذكرات ساهر
تُرى ما الذي دفع فدوى إلى هذا التصرف ؟! لم يكن بيننا ما ينتهي إلى مثل هذه النتيجة . وكانت علاقتنا بريئة تماما . وكان ما حدث مفاجأة لي . ولكن هل تراها فعلت ذلك محبّة لي ؟! أم أنها أرادت الانتقام من زهدي ؟ أم أنها تخيلتني مروان ؟! أما أنها ابتغت الانتقام من نفسها ؟! هذه أسئلة تطوف في ذهني وتؤرقني . وكل الذي أعلمه أن شعوراً بعدم الارتياح يداخلني على ما حدث .
***














سمع ساهر النقرات الخفيفة على الباب فخف إليه مبتهجاً . وفتحه فدخلت لولا بخطواتها الرشيقة وهي تحمل كتبها.
- كالسبيرا ساهر .
- كالسبيرا لولا .
وجلست على الكرسي المجاور للمنضدة . رمقها ساهر بعينين باسمتين وتساءل :
ما أخبار المدرسة يا لولا؟
بدت عينا لولا ساهمتين وعلى وجهها مسحة من الأسى .
- ما بك يا لولا ؟ هل حصلت على نتائج سيئة ؟
قالت بفتور : أنت لا تسألني إلاّ عن المدرسة والدروس .
- ولكن ما الأمر يا لولا ؟ هل حدث مكروه في البيت ؟!
- لا .. لم يحدث .
- ما بك إذن ؟
قالت لولا بلهجتها الفاترة : نحن لا نتحدث إلا عن المدرسة والدروس .
تساءل ساهر مبتسما : وعم نتحدث إذن يا لولا؟
عكس وجه لولا حواراً محتدماً في رأسها . التفتت إليه أخيرا وقالت وهي تثبت عينيها على وجهه: سأسألك سؤالا شخصيا يا ساهر وأنتظر منك جواباً صريحاً .
- تفضلي يا لولا بالرد .. أنا معتاد على الصراحة .
- هل أنت على علاقة حب مع زميلة من زميلاتك في الجامعة ؟!
فوجئ ساهر بالسؤال وبدا مرتبكاً للحظات .
- ولماذا تسألين هذا السؤال يا لولا ؟
- أرأيت ؟ أنت لا تريد أن نتحدث إلا عن المدرسة .
قال ساهر وعيناه تهربان من عينيها : لا .. أبداً . كل ما هنالك أنني لا أريد أن يضيع وقتنا .
- ولماذا أنت خائف على الوقت ان يضيع ؟ ألا تحب ان نقضي الوقت معاً ؟
وتلاقت عيونهما . وقرأ ساهر في عيني لولا معاني جديدة .
- بالعكس يا لولا . أنت تعلمين أن وجودك معي يسعدني جدا . وكل ما هناك أن وقت الدرس محدّد وأريدك أن تستفيدي منه على أفضل وجه.
قالت لولا وهي ساهمة النظرات : ما أبعد الفرق بينك وبين مدرّس الانجليزي .
قال ساهر وهو يبتسم : يجب ألا تعدّيني بديلاً عنه يا لولا .
هزت لولا رأسها وقالت بأسف : كم يحزنني أنك لست إغريقيا .
- لكنني أحب الإغريق يا لولا .
ظلت لولا ساهمة برهة ثم التفتت إليه وقالت وعيناها عالقتان بوجهه : ولكنك لم تجبني عن سؤالي يا ساهر .
- وهل يهمك جوابي ؟
- يهمني كثيراً يا ساهر .
- ولماذا ؟
خفضّت لولا عينيها وقد تضرج وجهها .
- أؤكد لك يا لولا أنه ليس هناك أية علاقة عاطفية بيني وبين أية واحدة من زميلاتي في الجامعة .
رفعت لولا رأسها وقد ترقرق وجهها سروراً .
- أكيد يا ساهر ؟
- أكيد جداً .
أسبلت لولا جفنيها متوردة الوجنتين .
- الآن يمكننا أن نبدأ الدرس .
من مذكرات ساهر

لقد وقع المحظور ! وها قد تحققت توقعات فدوى . لقد ربط الحب فلبينا أنا ولولا .إنني غالطت نفسي طوال هذه الأسابيع . ولعلني كنت أخشى أن يكون حباً من طرف واحد . واليوم حينما سألتني لولا لأول مرّة ذلك السؤال الشخصي هجس في قلبي بأن عواطفنا متبادلة . كانت عيناها تموجان بالعواطف . وحينما انتهى الدرس وهمت بالخروج استخرجت من دفترها مظروفاً ورديا ودفعت به إليّ ثم خرجت مسرعة . وفضضته بأصابع مرتعشة وقلبي يدق دقّاً عنيفاً . لم تكن هناك في الورقة الوردية المعطرة سوى كلمة واحدة .. " أحبك " .. آه يا لولا .. لو تعلمين كم أسعدتني هذه الكلمة! أنا أحبَك أيضاً يا لولا . الآن يجب أن اعترف بذلك . نحن نحب بعضنا بعضاً يا لولا .
ولكنني حزين أيضاً يا لولا وأخشى أن يخبئ المستقبل المتاعب لنا . وأنا مشفق عليك يا لولا أكثر مما أنا مشفق على نفسي . أنا خائف على قلبك الرقيق أن ينكسر . قلبك الغضّ الذي ربما يجرّب الحب لأول مرة .
***



مرت أيا م ثلاثة دون أن يرى ساهر فدوى . لقد عادت إلى الاعتكاف في غرفتها . كانت تؤوب حوالي العاشرة مساء وتأوي إلى غرفتها وتعتصم فيها . وفي اليوم الرابع في أوائل المساء سمع ساهر الطرقات المعهودة على بابه .
قالت فدوى وهي تدلف إلى الغرفة وتلقي نفسها على الكرسي الهزاّز : أنا زهقانه .. لا أدري ماذا أفعل .
قال ساهر وهو يبتسم : يمكنك أن تتسامري معي إن لم أكن مملاً .
قالت وهي تطيل النظر في وجهه : أنت مملّ ؟! أنت آخر شخص يمكن أن يكون مملاً . وليتك تدرك كم أحب وجهك البشوش المبتسم .
- ومع ذلك قاطعتني من جديد !
- ظروف يا ساهر .
- آمل أن تكون ظروف حسنة وأن تكون المياه قد عادت إلى مجاريها بينك وبين زهدي.
سارعت فدوى تقول بانزعاج : لا .. لا يمكن . انتهى كل شئ بيني وبين زهدي .
- أنا آسف .. ظننتك تصالحت مع زهدي فأنت تعودين كل ليلة بعد الساعة العاشرة .
- كنت أمضي الأمسية كل يوم في السينما لئلا أعود مبكرة . لكنني زهقت من السينما .
وسكتت متأملة ثم قالت اشمئزاز : يا لهذه المدينة من مدينة قاتلة .. ليتني أتحرر من أسرها .
- لكنها مدينة مضيافة واجتماعية يا فدوى .
- لمن لديه الأصدقاء والأحباب يا ساهر .
وصمتت وقد نضح وجهها بالقرف . تساءل ساهر أخيرا : لماذا لا تعودين إذن مبكراً إلى البنسيون .. على الأقل لتعزفي موسيقاك ؟
- ليست لديّ الرغبة في العزف يا ساهر ولا تعودين لعمل أي شيء . ولم أكن أريد العودة مبكرة لكي لا أحضر إلى غرفتك .
- ولماذا ؟! ما الذي فعلته حتى تحتجبي عني؟!
قالت فدوى وهي تتجنبه بأنظارها : أنا لم أحتجب عنك بسبب ما فعلته أنت بل بسبب ما فعتله أنا.
- لننس تلك الليلة يا فدوى . كانت نزوة لا أكثر ولا أقل .
- ولذلك شعرت بالخطيئة يا ساهر وندمت على ما بدر مني . فأنت الرجل الوحيد من بين من عرفتهم الذي لم يتعامل معي كجسد .
- على كل حال إنسي ما حدث يا فدوى. وسنستعيد علاقتنا القديمة النقية .
أطرقت فدوى مفكرة ثم همست كالمخاطبة نفسها : معك حق .. يجب أن أنسى ما حدث وإلا آذاني الشعور بالخطيئة تجاهك .. فكم كلفني الشعور بالخطيئة غاليا حينما اعتبرت حبي لمروان خطيئة .
- وكيف يمكن أن يكون حبك لمروان خطيئة يا فدوى ؟
قالت فدوى بنبرة متوجعة : أبي هو الذي أقنعني بذلك يا ساهر . ظل يردد على سمعي صباحاً ومساءً إن حبي خطيئة وأنني لن أدخل ملكوت الله إن لم أغسل تلك الخطيئة . فلجأت إلى كاهن كنيستنا لأغسل خطيئتي فإذا به يوقعني في خطيئة أعظم . كان شيطاناً ولم يكن خادماً للرب . استغل سذاجتي وأقنعني بأن الرب لن يغفر لي ما لم أستجب لرغباته.
وسكتت فدوى وهي مقطبة الجبين ثم قالت بلهجة ضارية : الوحش ! لم يرحمني ..أنا الصبيّة البريئة .. حوّلني إلى زانية وحول قبو الكنيسة إلى ماخور . كيف كان بوسعه أن يفعل ذلك ؟! وكم تعذبت على يديه .. كم تعذبت ! كنت كلما عدت من لقائي معه بكيت طوال الليل حتى تتبلل مخدتي بدموعي.
قال ساهر متألماً : هذا فظيع ! لابد أنه كان وحشاً فعلاً .. كان الله في عونك يا فدوى . كم قاسيت في حيا تك !
- نعم قاسيت كثيراً يا ساهر .. أكثر مما تتصور . وذلك هو نصيبي من الحيا ة Such is Life ساهر .. Such is Life .
- لا .. لا يا فدوى . أنت تستحقين نصيبا أفضل . كل ما هنالك أن الظروف ظلمتك .. ظلمتك منذ ان شرّدتك من وطنك .
قامت فدوى إلى ساهر وقّبلته في جبينه .
- ما ألطفك يا ساهر .. ما ألطفك !

من مذكرات ساهر
كيف يفهم بعض الناس الدين ؟! هل هدف الدين أن يفرّق بين البشر أم أن يجمع بينهم ؟! الدين خير .. ولكن ما أكثر من يسيئون استخدامه لتحقيق مصالح ذاتية أو لقصور في عقولهم ! وما أشد ما تعذبت بسبب أمثال هؤلاء الناس يا فدوى!
***



تصاعدت لهفة ساهر كلما دنا موعد عودة لولا من المدرسة . وكان يخفّ إلى النافذة بين حين وحين ويمد عينيه إلى العطفة التي تبرز منها . ثم ما يلبث أن يرتد إلى كرسيه الهزاز في صبر نافد . وأخيراً سمع النقرات الخفيفة فهبّ إلى الباب فرحاً .
- هالو لولا .
- هالو ساهر .
كان وجه لولا يحمل طابعاً جديداً غير طابعه الواثق المعتدّ. كان نوع من التردد وعدم الاطمئنان يعلو سيماءه . وكانت العينان مسبلتين . وكانت حمرة خفيفة تعلو الوجنتين . قالت بصوت خافت وهي تستقر على الكرسي دون أن ترفع عينيها : هل نبدأ الدرس ؟
قال ساهر وهو ينظر إليها مفتوناً : ولماذا العجلة ؟!
قالت بصوتها المتردد وهي تختلس من وجهه نظرات سريعة : ألست خائفاً على الوقع أن يضيع؟!
قال وهو يحضنها بعينيه : ليس اليوم .
أرخت لولا عينيها وبدا على وجهها أنها تدير حواراً في رأسها .
- ولماذا ليس اليوم ؟
- لأن عندي ما أقوله لك غير الدرس .
تورد وجه لولا وغضت أنظارها . قال ساهر بعينين باسمتين : لولا .. يجب أن اعترف لك كما اعترفت لي بأنني أحبك .
نفضت لولا رأسها بقوّة وقد أضاء وجهها بفرح طاغ .
- أكيد يا ساهر ؟
- أكيد جداً . وأنا في العادة لا أحب الكذب يا لولا .. لكنني مع ذلك حاولت أن أكذب على نفسي في هذه القضية . وكان الواجب عليّ أن اعترف لنفسي بأنني انجذبت إليك منذ وقعت عليك عيناي .
قالت لولا باندفاع : وأنا أيضا يا ساهر . كنت أحب أن أراك دائماً . وكم سررت حينما أخبرتني ماما بأنك ستعاونني في الإنجليزي .
قال ساهر ووجهه يطفح سرورا : إذن فكلانا كان يضمر للآخر الحب دون أن يعترف بذلك .
قالت لولا وهي تغرق عينيها في عينيه : أنا اعترفت بذلك لنفسي من مدة وحاولت أن أقاوم حبي فلم أنجح . وعشت أسابيع بائسة ومعذبة . لكنني الآن سعيدة يا ساهر .. سعيدة كثيراً .
تطلع كل منهما في الآخر وقد أشرق وجهاهما . ثم غشيت وجه ساهر غيمة من الحزن وبدا ساهماً. تساءلت لولا بقلق : ماذا بك يا ساهر ؟
- ماذا سنفعل بحبّنا يا لولا ؟
- أنا لا يهمني ماذا نفعل بحبنا . المهم أنني أحبّك وأنت تحبني .. وأنا سعيدة بذلك .
وأطلقت لولا نظرات حالمة ثم همست : من فضلك يا ساهر .. لا تفسد عليّ سعادتي . فمنذ الليلة سأغفو من دون أن تعكّر نومي كوابيس مزعجة .
ابتسم ساهر وهو يلتهم وجهها بعينيه .
- الحق معك يا لولا . يجب ألا نفسد سعادتنا بالحسابات الصارمة . والآن علينا ان نبدأ الدرس .
قالت لولا وهي ترفع يدها بالتحية العسكرية : تمام أفندم .
من مذكرات ساهر
ما أسعدني بحبك يا لولا ! صدقت يا لولا .. ينبغي لي ألا أسمح لأية أفكار أن تفسد علي سعادتي .. أو على الأصح تفسد علينا سعادتنا .. وأنت يا لولا أكثر واقعية مني. لماذا نفتش عن الزوايا المظلمة في الحياة ونفسد هذا الواقع الجميل ؟! أنا أحبك وأنت تحبينني وكلانا في عنفوان عمره .. وينبغي للشباب ألاّ يعترفوا بأية معوقات تجاه سعادتهم . فلنستمتع بسعادتنا ولنؤجل ما للغد للغد . من يدري ؟! لعل حبّنا ينتهي نهاية سعيدة !
***















سمع ساهر باب البنسيون يفتح ويغلق ثم صر باب غرفة فدوى صريره الناعم. وتوقع أن تقبل فدوى على غرفته شأنها كل يوم لكن الوقت زحف متباطئا دون أن تظهر فمضى إليها . وما أن بلغ باب غرفتها حتى ترامى إلى سمعه نشيج مكتوم فوقف حائراً . وأخيراً نقر على الباب برفق فجاءه صوتها المكتوم : أدخل يا ساهر .
دفع الباب بهدوء وأرسل أنظاره في الغرفة . كانت فدوى متقرفصة على الكرسي المريح وهي تخفي وجهها بين كفيهّا . تساءل بقلق : مالك يا فدوى ؟
تلبثت ساكنة دقائق وهي تجفف دموعها . ثم رفعت إليه عينيها وقالت : أغلق الباب يا ساهر.
تساءل ساهر بلهجة قلقة وهو يدخل : ما الأمر يا فدوى ؟! هل حدث شيء ؟!
هزت فدوى رأسها وهي تتشاغل بالتحديق في أظافرها.
- ألا تخبريني ماذا بك يا فدوى ؟
ترقب جوابها بقلق لكن أنظارها الحزينة هّومت شاردة . قال برقة : لعلني أتطفل عليك يا فدوى . أنا آسف .
رمقته ف عتاب وقالت : أنت تتطفل عليّ ؟
- إذن لماذا لا تدعينني أشاركك أحزانك ؟
- وما ذنبك حتى تشاركني أحزاني ؟ أمامك الحيا ة كلها .. أما أنا فحياتي انتهت .
- لا يا فدوى .. لا . هذا غير صحيح.
قالت فدوى وهي تهز رأسها بقنوط : ولماذا غير صحيح ؟ ماذا انتظر من الحيا ة بعد ؟! أنا الآن أعيش على هامش الحياة . لم أعد أعرف ماذا أصنع بحياتي .
قال ساهر وهو يتأملها برقة : هل عدنا إلى الأفكار السود يا فدوى ؟
- وكيف تفارقني الأفكار السود إذا كانت حيا تي هكذا يا ساهر ؟
- حيا تك أفضل من حيا ة كثير من الناس يا فدوى .. أنت تتمتعين بصحة جيدة ولديك عمل ناجح .
قالت بتهكم : وهل هذه هي الحياة بنظرك يا ساهر ؟! أن نأكل ونعمل وننام ؟! ما قيمة الحياة إن خلت من العواطف ؟! ما قيمة الحيا ة إن خلت من الأهداف والآمال ؟! أنا أعيش الآن بلا غاية ولا أمل ولا عواطف وكأنني أعيش في صحراء مقفرة يا ساهر .
- لا تبالغي يا فدوى .
قالت فدوى وقد افترس اليأس وجهها : تلك هي الحقيقة يا ساهر ولست مبالغة . فما الضياع والعزلة والوحدة التي تأكلني سوى صحراء مقفرة . إنني امرأة ضائعة يا ساهر . امرأة لا يهتم لأمرها أحد ولا تعني لأحد شيئاً . امرأة بلا أصدقاء ولا أحباب ولا أقارب ولا وطن .. حتى بلدي الذي عشت فيه طفولتي وصباي والذي يختزن كل ذكرياتي الحبيبة قد حرمت منه .
- هذه ليست مشكلتك وحدك يا فدوى ولكنها مشكلة مئات الألوف الذين شردتهم النكبة . أنت على الأقل تعيشين في مسكن مريح ولديك عمل جيد. فما بالك بأولئك الذين يسكنون الخيام ويعيشون على الصدقات ؟!
قالت فدوى بلوعة وكأنها لم تسمع قوله : لا أدري لماذا أشتاق إلى بلدتي حيفا هذه الأيام شوقاً عظيماً يا ساهر .. بلدتي الحلوة الوادعة بشوارعها الصاعدة النازلة المظللة بالأشجار ودروبها الضيقة المضمخة بالروائح العبقة .. ببحرها الهاديُ الجميل المنبسط على مدّ النظر . وإن الشوق ليمضني إلى بيتنا الحبيب وإلى مدرستي وملاعب طفولتي وصباي .. وإلى أهلي وأقربائي وزميلات الطفولة والصبا. وإن صور حياتي هناك تزورني في أحلامي دائماً هذه الأيام يا ساهر .
- كان الله في عونك وعون كل ضحايا النكبة يا فدوى .
شردت عينا فدوى ثم قالت وهي تهز رأسها : أنا امرأة ضائعة يا ساهر في هذه المدينة الصاخبة التي تضجّ بالحياة .. وعليّ أن أدفن نفسي في غرفتي منذ مطلع المساء . فكيف لا أحزن ؟
- أنت التي قاطعت أصدقاءك يا فدوي ولو شئت لكان لك عشرات الأصدقاء .
قالت فدوى وهي تهز رأسها في اشمئزاز : وأي أصدقاء هم يا ساهر ؟! إنهم ليسوا أصدقاء . كل همّهم أن يستغلوني .. ليس هناك صداقة حقيقية يا ساهر بل مصالح فقط.
وأطرقت فدوى وعادت تحدق في أظافرها . قال ساهر بلطف : وأنا ؟!ألا تعدّينني صديقاً ؟
رفعت فدوى رأسها بحنان .
- أنت الصديق الحقيقي الوحيد يا ساهر . ولكن إلى متى تضيّع وقتك معي؟ أنا أثقل عليك بصحبتي ويجب ألا أفعل ذلك .. حرام عليّ أن أضيع وقتك .
- أنت تعرفين معزّتك عندي يا فدوى فلماذا تعودين إلى مثل هذا الكلام ؟
- إنها الحقيقة يا ساهر . فلماذا أغالط نفسي ؟
راقبها ساهر والألم يعصر قلبه .
- هل تستجيبين لطلب لي يا فدوى؟
- وما هو ؟
- أن ترافقيني إلى سينما مترو لنشاهد فلما لأنجريد برجمان سمعت مدحاً كثيراً عنه .
- لم تعد لدي رغبة لمشاهدة السينما يا ساهر . لم أعد أحبَها . وكنت أتردد عليها مضطرة حتى لا أقاسي من الوحدة . أنت لديك عملك ولا داعي لأن تضيع وقتك من أجلي .
- أنا لا أفعل ذلك من أجلك يا فدوى . فأنا كنت أنتظر الفرصة المناسبة لمشاهدة الفلم . وسأكون ممتناً لك لو رافقتني .
ظلت فدوى جامدة وهي تحدق في أظافرها .
- أرجوك يا فدوى .. لا ترفضي دعوتي .
رفعت فدوى رأسها ونظرت إليه في امتنان .
- ما ألطفك يا ساهر .. ما ألطفك !
من مذكرات ساهر
كم يؤلمني حالك يا فدوى ! وكم تفزعني روحك المعنوية التي تسفّ يوماً بعد يوم ! وأنا حزين إذ أبدو عاجزاً عن أن أفعل شيئا لك . أتراني مقصراً فيما أطهره نحوك من عواطف ؟! أنا لا أنكر أن لولا أضعفت من اهتمامي بك . لكنك ما تزالين أثيرة عندي . وما زلت أشتاق إليك إذا احتجبت عني . وما أشد أسفي إذ فضلت في تعويضك عما فقدته من حب واهتمام!
***






















قالت لولا وهي منتشية الوجه : أنا سعيدة كثيراً يا ساهر . وأنا لم أجرَب مثل هذه السعادة من قبل أبداً .
قال ساهر باسماً : إلى هذا الحدّ؟
قالت لولا بابتهاج : وأكثر . وأنا أعرف الآن أن من حُرم من الحب يجهل السعادة الحقيقية .
قال ساهر وهو يبتسم : أصبحت شاعرة يا لولا .
قالت لولا ووجهها يترقرق بهاء : أنا أحبك يا ساهر .. أحبَك .. وأحس كأن حبّي يفيض من كل مكان في جسدي.
وسكتت وعيناها موصولتان بعينية . ثم تساءلت : هل تحبني مثلما أحبك يا ساهر ؟
قال ساهر في وله : القلوب عند بعضها كما يقول المثل العربي يا لولا .
لمعت عينا لولا وبسمة عذبة ترف على ثغرها . ثم التفتت إليه وقالت : أتدري يا ساهر ؟ زميلاتي فطنَ إلى حالي هذا . كنت أسخر منهن حينما كنَ يتحدثن عن حبّهن أمامي . وكن يقلن لي أنت مسكينة يا لولا لأنك لا تعرفين الحب . وكنت أقول لهن ما أنتنّ سوى عبيطات . لكنني أعترف الآن بأنني أنا التي كنت عبيطة . والآن هنّ اللواتي يسخرن مني .
قال ساهر بلهجة وشت بقلقه : كم أتمنى أن تدوم سعادتك بحبك يا لولا . وكم سأحزن لو شقيت بهذا الحب.
قالت لولا في عتاب : ألم نتفق على ألا نتحدث في ذلك يا ساهر ؟
- على كل حال أرجوك أن تكتمي هوية حبيبك عن زميلاتك يا لولا فلم يحن الوقت بعد لنشر هذا الخبر بينهن .
- أنا طبعاً لم أكشف لهن عن هوية حبيبي بعد. لكنني لا أنوي أن اكتمها عنهن .
وسكتت وهي متألقة الوجه ثم أضافت : من فضلك يا ساهر أعطني صورة .
- وماذا تفعلين بها ؟
- لأفاخرهن بها .
قال ساهر يجزع : لا .. لا يا لولا .. لا داعي لذلك . قد يبلغ الخبر مسامع أهلك فتحدث لك مشاكل.
قالت لولا باستهانة : أنا لا يهمني . أنا لم أفعل شيئاً غلطاً .
- أرجوك يا لولا أن تجعلي حبّنا سراً .. على الأقل في الوقت الحاضر .. يجب أن نكتمه عن الآخرين وخصوصاً عن أهلك .
قالت لولا وهي تعقد حاجبيها : ولكن لماذا نكتم حبنا يا ساهر ؟ هل الحبّ شرّ ؟
- للأسف جعل منه بنو البشر كذلك في بعض الحالات .
- أنا متأكدة أن حبّي لك ليس شراً . وأنا مستعدة أن أقول ذلك لأي إنسان ولا يهمني رأي أحد.
قال ساهر وهو يرمقها بعينين مستعطفتين : أنا معك يا لولا أن حبنّا خير كله . ولكنني أكثر تجربة منك وأريد أن أجنبك أية متاعب في الوقت الحاضر .. على الأقل حتى ينتهي العام الدراسي . وأرجوك ان تستجيبي لرجائي .
- سأفعل ذلك من أجلك يا ساهر . أما أنا فلا يهمني رأي أحد. أنا أحبك .. أحبّك ..أحبّك .. وبودي أن أصبح بأعلى صوتي " أحبّك " ليسمع جميع الناس . ولكن ما دامت هذه رغبتك فسأستجيب لها .
- شكراً لك يا لولا .. يا أعز إنسان على قلبي.
هتفت لولا وقد استخفّها الفرح : وأنت أيضا يا ساهر أعزّ إنسان على قلبي. وما دامت هذه رغبتك فسأكون أكثر حذراً في البيت .
تساءل ساهر بقلق : وهل ارتاب أهلك في أمرنا ؟
قالت لولا وهي تضحك : قلت لك يا ساهر إنني صرت أشعر كأن السعادة تفيض من كل موضع في جسدي . ولذلك أخذت أتنطط في مرح على غير عادتي وأغنّي أغاني عاطفية . وقد تثير حالي هذه انتباه ماما .
- أرجوك يا لولا أن تتحكّمي في عواطفك .
قالت لولا بغنج : لا أقدر أن أعدك بذلك يا ساهر . فماذا أفعل بسعادتي؟ ولكن لا تقلق فماما لا وقت عندها الآن لمراقبتي فهي مشغولة بصحة بابا . وكانت ماما تتهمه في البداية بالتهرب من الشغل لكنها اقتنعت الآن أنه يشكو تعبا حقيقيا فتغيّر موقفها منه .
قال ساهر باهتمام : ولماذا لم تخبريني بذلك يا لولا ؟
- لم أكن أعتقد أن الأمر مهم .
- إذن لابد لي أن أزوره وأطمئن على صحته . هل يمكن أن ترتّبي لي زيا رة هذا المساء ؟
- سأفعل وأنا متأكدة أنه سيفرح بزيارتك كثيراً .
من مذكرات ساهر
أنا خائف عليك من هذه السعادة التي تتدفق من أعطافك يا لولا . أنت زهرة يا نعة في أوج تفتحها ، وأخشى على هذه الزهرة أن تصوّح بها العاصفة . ولا شك أن العاصفة ستهب علينا يا لولا إذا اكتشف أهلك حبّنا . وصحيح أنك فتاة قوّية وصلبة كأمّك .. ولكن هل بقدرتك أن تضحي بمحبة أهلك وتطيعي حبك ؟! أدعو الله ألاَ تتكرر معنا مأساة فدوى ومروان .
***



توقفت فدوى عن العزف فجأة والتفتت إلى ساهر وقالت : No USE ساهر No USE0 لم تعد بي رغبة في العزف .. صار عزفي شنيعا .
- لماذا يا فدوى ؟! إنه عزف جميل .
- لا تغالط نفسك يا ساهر .. أو بالا حرى لا تحاول أن تكذب عليّ .. إنه عزف شنيع .
هز ساهر رأسه وراقبها صامتا . تركت فدوى مقعدها أمام البيانو وارتمت على الكرسي المريح. قالت وقد افترست وجهها سآمة حادة : No USE ساهر .. no use
- ليس من المعقول أن تستسلمي لليأس إلى هذه الدرجة يا فدوى . فما الذي تغير في حياتك؟ كل ما هنالك أنك فسخت خطبتك من زهدي . فهل يستحق منك ذلك كل هذا الحزن واليأس؟!
قالت فدوى بازدراء . زهدي ؟! هذا التافه ؟! أنا أحزن عليه ؟! لا يا سامر .. لا . ليس فراق زهدي هو الذي أسلمني إلى هذا اليأس . لكنه كان يمثل لي أخر فرصة للزواج وتكوين أسرة . وأنا أشعر الآن أنني أضعت كل شئ .
- اسمحي لي أن أقول لك يا فدوى أنني لم أكن أتصور أنك تهتمين للأسرة إلى هذا الحدّ .
قالت فدوى وهي تخزره في احتجاج : ولماذا ؟! ألست إنسانة ؟! كل إنسان يجب الأسرة بطبعه..حتى حيوانات الغابة تحب الأسرة ولا تفضل العيش وحيدة . أي متعة في عيش الإنسان وحيداً ؟
- أنا لم أقصد إلى هذا المعنى يا فدوى .. لكنني ظننتك تمردت على الأسرة .
قالت فدوى وهي تهز رأسها في أسئ : أنا لم أتمرد على أسرتي يوماً يا ساهر رغم ما لقيته على يديها من عذاب متصل .
- ولكن لماذا هذا العذاب المتصل ؟ ألم ينته كل شئ بعد أن هجر مروان البلد ؟
قالت فدوى وأنظارها الحزينة تشرد بعيداً : ليس السبب مروان يا ساهر بل ذلك الشيطان الذي استغل سذاجتي واتخذني عشيقة . فما أن طردنا من بلدنا حتى ظهرت عليّ آثار الحمل . وبوسعك ان تتخيل أي عذاب قاسيته وأنا أتوقع الفضيحة . حتى أمي عجزت مصارحتها بحالي .. ولم يكن لي من سلوة سوى البكاء حين آوي إلى غرفتي .
وسكتت متأملة ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : ما زال صراخ أبي يدوّي في أدني حتى اليوم يا ساهر وكأنه حدث بالأمس . راح يصرخ كالثور الهائج حينما علم بفضيحتي وهو يدفعني نحو الباب:عليك اللعنة . لطختني بالعار .. تحملين سفاحاً من مسلم وتتهمين خادم الرب بالزنا .. أنت لست ابنتي .. عليك اللعنة .. أخرجي من بيتي ولا تريني وجهك أبداً .
قال ساهر وهو يتأملها في اشفاق : كان الله في عونك يا فدوى . ولكن ألم يفهم أبوك أنه ليس لك ذنب في ذلك ؟
قالت فدوى وقد نضح وجهها بالأسى : للأسف أعمى الغضب بصيرته يا ساهر . كان يتصور أنني أكذب وأنني أتّهم رجل الكنسية زوراً وبهتانا لأبرّئ مروان . أو لعله عجزه عن قبول فكرة تدنيسي لاسم العائلة وكان يجد في تكذيبي حجّة لا غير . وأنا الآن أعذره يا ساهر . كان اسم أبي مبجلاً بين العائلة وإذا به يصبح شخصاً مهملاً في موطننا الجديد لا يعرفه أحد ولا يقدّره أحد . وكنا نعيش في رغد ورفاه في بلدنا . فقد كان أبي يربح من تجارته في الملابس كثيراً . فتركنا كل شئ وهربنا بجلدنا في ذلك اليوم المشؤوم .. يوم الأربعاء الواحد والعشرين من نيسان عام 1948 م والذي كان أشبه بيوم الحشر . وصرنا فقراء بالكاد ندبّر عيشنا . وكانت فضيحتي القشّة التي قصمت ظهر البعير كما يقال فأفقدته رشده ولم يكن يعنيه إن كان المسبّب لها مروان أم كاهن الكنسية .
- لابد أنه ندم إذن بعد حين على تصرّفه وقدّر ظروفك .
قالت مفكرة : لا أدري يا ساهر .. صدقني لا أدري . فقد مات بعد وقت قصير ثم لحقته أمي . ولعني مسؤولية عن موتهما .
- أنت بالتأكيد لست مسؤولة عن ذلك يا فدوى .. وما أفظع ما عانيت!
قالت فدوى وهي تغمره بنظرات ممتنة : ولكن لماذا يتوجب عليك أن تشاركني أحزاني يا ساهر ؟! ألا يكفيني أنني أضيع وقتك ؟
قال ساهر عاتبا : كيف تقولين مثل هذا القول يا فدوى ؟ ألا تعرفين معزتك عندي ؟!
قالت في امتنان : أنت على حق يا ساهر .. أنت الصديق الوحيد الذي بقي لي في هذه الدنيا .
وقامت إليه وطبعت قبلة حارّة على جبينه .
من مذكرات ساهر
ما أعظم تعاسة الإنسانية المعذبة ! وما أكثر ما تطفح به الحيا ة من المعاناة والعذاب البشري ! وما أسخف الإنسان حين يصنع لنفسه قيوداً يقيّد بها عقله ! إن تعانيه فدوى من يأس ليدمي قلبي . وما أشد حزني لأنني عاجز عن انتشالها من هذا اليأس . إنني خائف عليك يا فدوى ولا أدري كيف ستواصلين الحيا ة إن لم تتحرري من هذا اليأس المهلك ! ما الذي يمكن أن أفعله لك لأنتشلك منه يا فدوى .
***






بدت لولا مهمومة وهي تترامى بجوار منضدة الكتابة . تساءل ساهر وعيناه تجوسان في وجهها بقلق : مالك يا لولا ؟ أنت لا تبدين سعيدة اليوم .
ابتسمت لولا ابتسامة مشرقة .
- أنا أحاول أن أعوّد نفسي على كتمان سعادتي يا ساهر .
- ولماذا ؟! ما الذي يدعوك إلى ذلك ؟
قالت لولا هي تغمزه بعينها : لأن ماما بدأت تلاحظ سعادتي .
- وهل يزعجها ذلك ؟
قالت لولا وهي تضحك ضحكة رائقة : لا طبعا .. ولكن ليس هذا وضعي الطبيعي . وماما تدري أنه لا يرضيني شئ . والآن كل شيء يرضيني وكل شيء يسعدني .
وسكتت وهي ضاحكة العينين .
- أهكذا يفعل الحبّ بالإنسان يا ساهر ؟
- أنت شاعرة حقاً يا لولا .. كان ينبغي لك أن تكتبي الشعر ، ولكن لماذا يقلقك ذلك ؟
قالت لولا بلهجة جادة : ماما امرأة ذكية يا ساهر ومثلها يدرك أن حالتي هذه تعني شيئاً واحداً .
- وماذا تعني ؟
قالت لولا بنغمة طروب : تعني أنني عاشقة .. تعني أنني وقعت في الحب يا ساهر. وطبعاً ليس في حب أحد معارفنا ، فهي كثيراً ما أشارت إلى البعض منهم تلميحاً لتختبر رأيي فيهم فأبديت استخفافي بهم .
وسكتت لولا لحظة ثم أضافت بلهجة جادة : يظهر أنها بدأت تشكّ يا ساهر أن بيننا حبا.
قال ساهر بقلق : لعلك تتخيلين ذلك خشية من أن تفلت منك سعادتك يا لولا .
- لا يا ساهر .. أنا لا أتخيل .. إنها لمحّت لي قبل أيا م أنني لم أعد بحاجة إلى دروس الإنجليزي .
خفق قلب ساهر بقوّة .
- هل قالت لك ذلك حقاً ؟
- قالت لي ذلك بالضبط .
- وماذا قلت لها ؟
رفعت لولا عينيها وعلّقتهما على وجهه .
- وماذا تتخيل أنني قلت لها ؟ طبعاً قلت لها إنني بحاجة للدروس . هل تتصور أن بإمكاني ألاً أراك ؟! إنني أعدً الساعات في انتظار الدرس .
بدا ساهر متكدر الوجه .
- لذلك قلت لك إننا يجب أن نكتم حّبنا ونكون حذرين يا لولا .
قالت لولا بلهجة ثائرة : ولماذا يجب أن نكتم حبّنا ؟! ولماذا يجب أن نكون حذرين ؟! نحن لم نفعل شيئا غلطا .
- الغلط في حّبنا أنك من دين وأنا من دين آخر يا لولا .
قالت لولا في انزعاج وهي عاقدة الحاجبين : ولكنني لا أجدك مختلفاً في شئ عناً يا ساهر . فما دخل الدين في حّبنا ؟!
- إنه ليس ذنب الدين يا لولا بل ذنب العقول التي تسيء تفسيره وتجعله أداة للتمييز والتفريق بين الناس .
قالت لولا وهي تهز رأسها عابسة : أنا لا يهمني ما يقوله الآخرون.كل الذي يهمني أنني أحبك وقلبي يقول لي إنه ليس في حبّي أي غلط .
قال ساهر وهو يمسح وجهها بنظرات حانية : وليس هناك أصدق من لغة القلوب يا لولا.
صمتت لولا وهي عاقدة الحاجبين .
- وعلى كل حال ماما مشغولة هذه الأيام بقلقها على صحة بابا يا ساهر . وهي تمضي أغلب الوقت في البقالة لأنها ما عادت تسمح له بالعمل.
- أنا آسف للمتاعب الصحية التي يعانيها بابا يا لولا . وأنا حزين لأن صحته لم تعد تسمح له بشرب القهوة معي صباح الجمعة . وكم أفتقد أحاديثنا !
- وهو أيضاً يقول ذلك يا ساهر .
سرحت عينا لولا في وجه ساهر وهي باسمة الثغر ثم قالت بلهجة حالمة : كم أتمنى ان نخرج للنزهة معاً يا ساهر . كم أتمنى أن نتنزه على شاطئ النيل ونذهب إلى حديقة الحيوان وحديقة الأندلس وجنينة الأسماك ونشاهد السينما معا .
- وكم أتمنى أنا ذلك أيضاً يا لولا . لكن مثل هذا الترف غير مسموح به لنا في الوقت الحاضر.
قالت لولا وهي تعقد حاجبيها : سترى ماذا سأفعل حينما تنتهي الامتحانات يا ساهر .
- على كل حال فلنؤجّل هذا الموضوع للمستقبل يا لولا ولنباشر مهمتنا .. مهَمة الأستاذ والتلميذة.
قالت لولا وهي ترفع يدها بالتحية العسكرية : تمام أفندم .

من مذكرات ساهر
لو تعلمين كم أحبَك يا لولا ! وكم أتمنى لو خرجنا للنزهة معاً . فكم حلمت بالتنزه مع فتاة مثلك ! إغريقية من حفيدات هيلين طروادة . فهل ستتحقق أحلامنا يوماً يا لولا؟!
***
تساءل ساهر باسما : ما رأيك يا فدوى في أن نتعشى في الأكسلسوار بعد جولة في شارع سليمان باشا وشارع فؤاد وشارع قصر النيل وربما في شارع عماد الدين أيضا ؟!
أجابت فدوى في فتور : لا يا ساهر .. أنا أفضلّ البقاء في البنسيون .
- ولماذا يا فدوى ؟ لماذا تفضلين الحبس في الغرفة على الجو المؤنس في هذه الشوارع التي تضج بالحياة ة المشرقة ؟
- أنا لا أشاركك الرأي فيما تعكسه هذه الشوارع من حياة مشرقة يا ساهر وأنوارها لم تعد تجتذبني .
وسكتت فدوى متأملة ثم أضافت وهي تهزّ رأسها : كم كانت تجتذبني في أيام انطلاقي .. يوم كان يتهافت عليّ الشبان . كنت أتصور نفسي ملكة متوَجة وأرى الدنيا ملك يميني . لكنني اكتشفت أنها لا تعكس سوى الزيف . وكلما تنزهت الآن فيها ورأيت شاباً يرافق شابة وعلى وجهه مظاهر الحبَ خمنت أنه ينوي استغلالها .
قال ساهر وهو يبتسم : ليس إلى هذه الدرجة يا فدوى .
- بل وأكثر .. صدقني يا ساهر .. أنت إنسان طيب فلا تقس الآخرين عليك . وأنا لا أقول هذا الكلام جزافاً بل عن تجربة . إنني صاحبت شبّاناً عديدين يا ساهر . وكنت في بداية انطلاقي لا يهمّني إن كانوا يطمعون في جسدي أم يحبونني حقيقة . كنت لا أبالي بذلك . كنت أنا أيضا أبتغي الانتقام من هذا الجسد الذي سبَب لي كل هذا العذاب والمعاناة . ولكن حينما بدأت سنوات الشباب تفر مني واقتنعت بأنه لابد لي من تكوين أسرة تكشف لي زيف عواطفهم وأنهم لا يفكرون إلا باستغلالي . وهذه المظاهر المؤنسة التي تضجّ بها هذه الشوارع ما هي سوى زيف . وإني لأكره هذه المدينة الخداعة وأكره حياتها المزيفة وليتني قادرة على الفكاك منها .
- ما لنا وهذا الكلام ؟! أنا أدعوك للعشاء في الأكسلسوار على طبق من الجمبري الممتاز . وإذا لم يعجبك "الأكسلسوار " فلنذهب إلى " الأمريكين " .
- لا يا ساهر .. لا أحب أن أضع نفسي في موقع محرج .
تساءل ساهر في عجب : موقف محرج ؟! وما وجه الإحراج في ذلك ؟
حنت فدوى رأسها وراحت تحدق في أظافرها .
- مشكلتك أنك تنسى فارق السن بيننا يا ساهر .
- وما دخل فارق السن بيننا في التنزه في هذه الشوارع أو العشاء في الإكسلسوار " ؟
قالت فدوى وهي تتجنب النظر إليه : لأن وجودنا معاً يلفت النظر .
- هذه تخيلات منك يا فدوى لا أكثر
- إنها ليست تخيلات يا ساهر . أنت لا تشعر بها لأنك على نيا تك . أما أنا فأشعر بها . فنظرات الناس إلينا غير طبيعية . وأزيدك علماً أننا واجهنا أكثر من مرة بعض معارفي القدماء من الرجال والنساء ولاحظت السخرية في نظراتهم .
وشردت عيناها ثم قالت وهي تهز رأسها No USE ساهر .. No USE .. أنت تضيع وقتك معي .
- أؤكد لك يا فدوى أنني لا أضيع وقتي معك بك أستمتع به .
قالت لولا بلهجة ممتّنة وهي تهز رأسها: You are so Good ساهر .. وأنا لا أقدر أن استغل طيبتك أكثر من ذلك .
قال ساهر برقة : سبق لنا أن تناقشنا في ذلك يا فدوى وأفهمتك أنني أستمتع بوقتي بصحبتك .
رفعت لولا إليه عينيها وقد أشرق وجهها بابتسامة وضيئة .
- أأنت صادق في قولك يا ساهر ؟
- أنت تعلمين أنني لا أكذب يا فدوى .
- بارول دو نور ؟
- بارول دو نور .
رمقته فدوى بامتنان وقالت وابتسامتها الوضيئة تتسّع على وجهها : ما ألطفك يا ساهر .. ما ألطفك!
من مذكرات ساهر
أتراني صدقت يا فدوى حينما قلت لك إنني أستمتع بوقتي بصحبتك أم أن وراء ذلك شعور بالرثاء ؟ أعترف بأنني أجهل الجواب على هذا السؤال . كل الذي أعرفه أن الوقت يطير طيرانا وأنا مع لولا لكنه ينساب بطيئاً وأنا معك .
***









لازم عوضين الصمت وهو ينتقل من مكان إلى آخر في الغرفة . رفع ساهر أخيرا عينيه عن كتابه وتساءل : ما أخبار العائلة يا عوضين ؟
تمتم عوضين وهو مقبل على عمله : ما فيش .
- يعني إيه ما فيش يا عوضين ؟
- ما فيش .
تجولت عينا ساهر في الوجه الغامق السمرة .
- ما بالك يا عوضين ؟ هل بلغتك أخبار سيئة لا سمح الله من البلد ؟
- لا .. أبدا . الحمد لله .
- إذن ما بك ؟
رفع عوضين عينين حزينتين إلى ساهر وقال : أنا مش مطّمن على صحة الخواجة خريستو يا أستاذ ساهر.
- الحق معك .. صحته لا تطمئن فعلاً . وكلّنا حزانى لذلك .
- إلا بالحقّ يا أستاذ ساهر .. هوّ ماله ؟
- الأمر بالنسبة لي محير يا عوضين . فمدام هيلين تقول إن الفحوصات لم تكشف عن مرض فيه . ومع ذلك فصحته في تدهور مستمر .
قال عوضين في حزن : أنا زعلان عليه قوي يا أستاذ ساهر . الخواجة خريستو جدع طيب قوي . وأنا زعلان كمان على المدام .
قال ساهر وهو يهز رأسه : فعلاً . أنها تبدو يائسة تماما .
أطلت لولا من باب الغرفة وقالت مخاطبة عوضين : الخواجة هاردي عاوزك يا عوضين .
- حاضر يا مزموازيل لولا .
والتفت عوضين إلى ساهر قائلاً : أنا خلاص .. شطبت على الأودة يا أستاذ ساهر .
- متشكر يا عوضين .
جمع عوضين أدوات التنظيف وخرج .
- تفضلي يا لولا .
دخلت لولا بخطوات متلكئة وتهالكت على الكرسي المريح . قال ساهر في حنوّ : زادت الأعباء عليك يا لولا .. كيف حال بابا هذا الصباح ؟
- كما هو .. بدون تحسن وربما أسوأ .
- لا تتشاءمي يا لولا . ما هي سوى وعكة وتمضي .
تساءلت لولا بحزن : وعكة ؟! وتدوم كل هذه الأسابيع ؟!
- ولكن الفحوصات لم تكشف عن أي مرض فيه .. أليس كذلك ؟
- وهذا ما يقلقني أكثر يا ساهر .
عكس وجه لولا قلقاً شديداً .
- إنني افتقدت قهوة الجمعة مع بابا يا لولا .
- وهو يقول نفس الشئ يا ساهر . وهو ممتنّ لك لأنك تكثر من زيارته .
صمتت لولا وقد أطل الحزن من عينيها .
- أنا خائفة عليه يا ساهر .
- اطمئني يا لولا .. ما هي سوى وعكة وتزول .
وتاهت نظرات لولا الحزينة دقائق ثم همست وكأنها تخاطب نفسها : دخل الحزن بيتنا يا ساهر.. صحيح أن بابا يحتمل مرضه بشجاعة لكن ماما تبدو منهارة تماما. واشتد حزنها منذ ظهرت الفحوص الأخيرة مع أنها تقول بأنها لم تكشف عن مرض فيه .
- ماما رقيقة القلب وإن بدت صارمة يا لولا .
قالت لولا وهي تهز رأسها : هذا صحيح يا ساهر فهي لا تظهر حبّها لي إلا حينما أصاب بالمرض.
قال ساهر وهو يرنو إليها بافتنان : ومن الذي لا يحب لولا ؟
قالت لولا وهي تحدجه بنظرات غنجة: أنا لا يهمني الآخرون .. أنا يهمني الآن شخص واحد وأريده أن يحبني بكل قلبه .
قال ساهر وهو يبتسم : اطمئني يا لولا .. إنه يحبّك بكل قلبه .
قالت وهي تنهض : يجب أن أذهب يا ساهر فورائي عمل كثير .
قال ساهر وهو يبتسم : هكذا الشطارة وإلاّ فلا .
من مذكرات ساهر
حالة الخواجة خريستو تقلقني جداً . فما مرضه يا ترى ؟ تقول مدام هيلين إن الفحوصات الأخيرة لم تكشف عن مرض فيه . فما أسباب هزاله إذن؟ إن صحته تتدهور يوما بعد يوم وقد افترش وجهه شحوب شديد . إنه ليبدو وكأنه كبر سنوات خلال هذه الأسابيع الأخيرة . لكن هذا الرجل متميز حقا. إن مرضه لا يقلقه أبداً . وهو يكرّر على مسمعي القول دائماً : "ما الحيا ة يا خواجة ساهر ؟! إنها حلم ، وقد نلت نصيبي من هذا الحلم . ثم من أنا حتى أخاف الموت ؟ ألم يمت هوميروس ؟ ألم يمت الإسكندر العظيم ؟! ألم يمت سقراط وأفلاطون وأرسطو ؟" . وهو يبدو مغتبطاً بمرضه لأنه هيا له فرصة القراءة . ما أشد شغفه بالقراءة وما كان أعظم نفعه لو أن الظروف أتاحت له أن يكون أستاذاً في الجامعة أو باحثا !
ومدام هيلين .. لماذا تبدو حزينة إلى هذه الدرجة ؟ لكأنها تكَفّر عما بدر منها بحقّه ! لماذا إذن لم تحسني التعامل معه يا مدام هيلين ؟! أرجو ألا يكون الأوان قد فات لذلك . ***

عادت فدوى إلى البنسيون مبكرة على غير عادتها . وقصدها ساهر يستطلع الخبر . بدت غائمة الوجه مرهقة العينين . تساءل ساهر : هل انتهى عملكم اليوم مبكراً يا فدوى ؟ الساعة لم تبلغ السادسة بعد .
قالت وهي تشير إلى الكرسي المريح : اجلس يا ساهر .. أنا بحاجة إليك .
قال ساهر وهو يجلس : ما الخبر يا فدوى ؟ أنا حاضر لأية خدمة .
قالت فدوى بصوتها المتعب : أنا لا أقصد إنني محتاجة إليك في خدمة لكنني محتاجة إلى وجودك معي .
- هل أغلق المتجر اليوم مبكرا ؟
- لا .. لكن صاحبه منحني إجازة .
- ولماذا ؟ هل أنت مريضة ؟
- لست مريضة يا ساهر ولا أدري ما بي .
وصمتت فدوى ووجهها ينضح بالأسى .
- أنا تعبانة .. تعبانة للغاية يا ساهر . ولم يعد بقدرتي القيا م بعملي كما يجب .
- ولماذا يا فدوى ؟ لماذا لم يعد بقدرتك القيام بعملك كما يجب ؟!
- لا أدري .. لا أدري ما بي .
وسكتت محزونة ثم أضافت وهي تهز رأسها : أحسب أن صاحب العمل غير راض عن عملي .
- هذه تخيّلات منك يا فدوى . وأنت نفسك أخبرتني أنه راض عنك تماما. أنت تعملين في المتجر منذ وقت طويل وهو يعرفك حقّ المعرفة .
- لا .. إنها ليست تخيلات يا ساهر . إنه هو الذي قال لي اليوم ذلك . وسألني إن كنت أشكو مرضاً ومنحني إجازة بقيّة اليوم .
وسكتت فدوى مفكرة ثم قالت وهي تهز رأسها : أنا لا أقوم بعملي كما يجب بالفعل .
- لعلك بحاجة إلى الراحة يا فدوى . ألا يمكن أن تتمتعي بإجازة لبضعة أيا م ؟
- وماذا أفعل بالإجازة يا ساهر ؟ ألكي أحبس نفسي بين جدران غرفتي ؟! العمل يلهيني ويشغلني على الأقل .
- ها أنت تشخصين حالتك يا فدوى .. الشعور بالفراغ .. لقد تخليت عن كل اهتماماتك ولم تعودي تفكرين إلاّ بأحزانك . لقد صرت أسيرة الكآبة وهذا أمر خطير0
وسكت ساهر ثم أضاف برقة : ألا تلاحظين ما آلت إليه حالك يا فدوى ؟ ألا تلاحظين كم يكلفك هذا الشعور بالرثاء لنفسك ؟
حنت فدوى رأسها محدّقة في أظافرها .
_No u se ساهر صدقني.. CANNOT HELP IT I.
- عليك أن تنتشلي نفسك من هذا اليأس ومن هذه الكآبة يا فدوى .. والظروف التي تعانين منها ليست نهاية الحيا ة . لا يمكن أن تظلي مكتئبة0
قالت فدوى وهي تهز رأسها في يا س : أحسب أن ظروفي ستزداد سوءا في المستقبل يا ساهر . وربما طردني صاحب العمل .
- لا تكوني متشائمة إلى هذه الدرجة يا فدوى فمعرفة صاحب العمل بك طويلة . وكل ما هنالك أنك تعانين الآن من أزمة وهي أزمة زائلة .
- لا يا ساهر .. أحسب أن في كلامه اليوم تهديداً مبطناً وأنه سيستغني عني فعلاً إذا لم يتحسن أدائي . ولن يتحسن أدائي في المستقبل القريب . هنالك شيء انكسر في داخلي وهذا يجعلني غير راغبة في القيا م بأي عمل .
وصمتت وهي فزعة العينين .
- قد أعود إلى حيا ة التشرد ثانية يا ساهر ولا أحسبني قادرة على احتمالها الآن كما احتملتها من قبل .
- وما الداعي إلى هذه الخواطر السود يا فدوى ؟ ما الداعي إلى كل ذلك ؟
التفتت فدوى نحوه بقوّة وقد افترسها الفزع.
- أنت لا تعرف الظروف التي مررت بها حينما طردني أبي من البيت يا ساهر . ولا يمكنك تصورها .
- ولكنها كانت ظروف طارئة على كل حال .
قالت فدوى وقد سحقها الرعب : كانت ظروفاً فظيعة يا ساهر . وأنا غير قادرة على احتمال تلك الظروف ثانية لو طردت من عملي فلم أعد شابة . وليس من السهل عليّ الآن العثور على عمل يناسب إمكاناتي . قد أعود إلى الرصيف ثانية .. قد أطرد من بيتي هذا إذا لم أدفع الإيجار . فأين سأجد مأوى آخر ؟ وأنا لا أحتمل حياة التشرد الآن .
قال ساهر برفق : لا يمكن أن تبلغ بكل الأمور إلى مثل هذه الدرجة من السوء يا فدوى .
قالت فدوى بعينين مرعوبتين وكأنها لم تسمع قوله : إنني وجدت نفسي يوم ذاك على الرصيف فعلاً يا ساهر .. بل وجربت معنى الجوع .. الجوع الذي تتقطع منه الأمعاء . وهذه المدينة الجبّارة لا تعرف الرفق بالغريب يا ساهر .. إنها بلا قلب . ولن أنسى ما حييت ذلك الجحر الذي أويت إليه . لن أنسى تلك الأيا م التي كنت أتسكع فيها على أرصفة الشوارع آملة أن تحدث لي معجزة تنقذني من تشردّي . وكاد الجوع ان يدفعني إلى الارتزاق من بيع جسدي يا ساهر . لكن الله لطف بي وهّيأ لي عملاً أقتات منه .
- هذا فظيع ! كم قاسيت يا فدوى !
قالت بلهجتها المرتعبة : لست قادرة على تحمل مثل تلك الظروف ثانية يا ساهر . وشبح البطالة يتهددني الآن بكل تأكيد . ولن يصبر عليّ صاحب العمل وأنا بمثل هذا الأداء . والبطالة الآن تعني لي الموت .
- ولذلك يجب أن تتحرري من هذا اليأس يا فدوى . لا بد لك أن تفعلي ذلك . وكوني على ثقة أن كل شئ سيكون على ما يُرام . وسترين أن الحيا ة تستحق أن تُعاش وأن يبذل الجهد من أجلها.
- وما قيمة الحيا ة بلا أمل يا ساهر ؟ ولماذا يجب أن يعيش الإنسان إن لم يعد له هدف في الحيا ة ؟ وأنا الآن امرأة بلا أمل ولا هدف ولا مستقبل .
قال ساهر وهو يغمر وجهها بنظرات رقيقة : وهذا مصدر الخطأ في تفكيرك يا فدوى . يجب أن تخططي لنفسك أهدافاً جديدة . يجب ألاّ تجترّي الماضي وتنوحي على ما جرى لك . يجب أن تخلقي لنفسك أهدافاً جديدة تعيشين من أجلها .
قالت فدوى وهي تبتسم بمرارة : هذا كلام فلاسفة يا ساهر ولا علاقة له بالحياة الواقعية .. No USE ساهر . USE No.
- بل هو كلام واقعي جدا يا فدوى . ألم تسمعي بهيلين كيلر ؟
- طبعاً سمعت بها .
- وهل شاهدت الفلم عن حياتها ؟
- شاهدته .
- إذن كيف يمكن لشخص مثلك أن يعيش بلا أمل ولا هدف بينما تستطيع امرأة ولدت خرساء وصماء وعميا ء مثل هيلين كيلر أن تخلق لنفسها تلك الشخصية المرموقة عالميا وأن تحقق أهدافاً عظيمة ؟ كيف يمكن لامرأة مثلك لها هذه الثقافة وهذه الخلفية الاجتماعية أن تعجز عن ذلك ؟!
أطرقت فدوى مفكرة وجعلت تحدق في أظافرها .
- أنت امرأة موهوبة وعازفة بارعة يا فدوى .. فلماذا لا تعودين إلى هذه الهواية ؟ لماذا لا تحاولين تطويرها ؟
- إنني فقدت الاهتمام بالموسيقى يا ساهر .
- يجب أن تعودي إلى هوايتك هذه يا فدوى . بل يجب أن تطوّريها وتخلقي أهدافاً جديده ضمنها . يجب أن تفعلي ذلك يا فدوى . وحينئذ لن تخشي من البطالة . يجب ألاّ يظل عملك منحصراً في تسويق الآلات الموسيقية . يجب أن تركزّي على موهبتك في العزف بل وأن تطوّري هذه الموهبة بالدرس .
قالت فدوى وهي خافضة الرأس وقد التوت شفتاها ببسمة مرّة : وأنا في هذا العمر يا ساهر ؟!
- أنت لم تدخلي العمرين بعد يا فدوى . ولقد قرأت عن أناس في الغرب نساءً ورجالاً عادوا إلى الدراسة الجامعية وهم في السبعين من عمرهم .
قالت فدوى وهي تهزّ رأسها : نحن في الشرق العربي يا ساهر .. أرض الإحباط والمعوّقات .
- إنه ليس ذنب الأرض بل ذنب البشر يا فدوى . ألم تشهد هذه الأرض يوماً أزهى وأعظم الحضارات , فلماذا نلقي اللوم عليها ؟ إنه ذنبنا يا فدوى ونحن فرضنا على أنفسنا هذا الإحباط والمعوّقات .
وهيمن صمت ثقيل . وعكفت فدوى على أظافرها تتمعن فيها . ولبث ساهر معلق العينين بوجهها . قال أخيراً : فدوى .
رفعت إليه عينيها وتساءلت : نعم ؟
- هل أنت على استعداد لأن تلّبي لي طلباً ؟
- سأكون سعيدة إن كان بقدرتي ذلك .
- إنه في قدرتك يا فدوى .
- إذن فسأستجيب له .
- أريد منك أن تعزفي لي سوناتا ضوء القمر.
تطلعت فدوى في وجه ساهر لحظات وقد أضاء وجهها .
- إنها خاصة بالعشاق يا ساهر .
- ألسنا عشّاقاً على نحو ما يا فدوى ؟
- أحقاً ما تقول يا ساهر ؟
- وهل تشكّين في ذلك يا فدوى ؟
تأملته طويلاً وقد افترت شفتاها عن بسمة سعيدة . ثم قالت وهي تنهض إلى البيانو : ما ألطفك يا ساهر .. ما ألطفك !

من مذكرات ساهر
أنا مرتاح للقاء هذه الليلة . وأظنن سأنجح في انتشال فدوى من يا سها . ينبغي لي أن أفعل شيئاً من أجل ذلك . ينبغي لي أن أقنعها بأن تخطط أهدافاً جديدة لحيا تها . وينبغي لي كذلك أن أظهر لها مزيداً من العاطفة . إنها بحاجة إلى الشعور بأنها لا تزال محبوبة ولازال هناك من يهمّه أمرها . وأظنني الوحيد الذي بقدرته أن يفعل ذلك .
***

لمح ساهر لولا تبرز من عطفة الشارع فخفق قلبه . كانت تمشي وئيدة الخطى وحقيبتها متدلية في إهمال على ظهرها . ورفعت إليه رأسها وأشارت إليه محييّة وغابت في البقالة . وتوقع طلوعها بعد دقائق لكن غيا بها طال . وأخيراً ظهرت ومشت ببطء نحو العمارة . وارتمى على الكرسي الهزاز يترقب بلهفة وصولها . وزحف الوقت ببطء شديد . وانقضى نصف ساعة دون أن تظهر . وأخيراً ترامت إلى سمعه النقرات الخفيفة فهبّ نحو الباب . قال في قلق : مرحباً لولا .. ما الذي أخّرك ؟
خطت لولا في الغرفة وقد تدثر وجهها بحزن فاجع . قالت وهي تلقي كتبها على المنضدة بإهمال : لا يمكنني مواصلة الدرس يا ساهر .
تساءل ساهر في قلق : ولماذا يا لولا ؟! هل طرأ تدهور على صحة بابا ؟
قالت بصوت مرتعش وهي تحني رأسها : إنه سيموت يا ساهر .
وسال خيطان من الدمع على خدّيها .
قال ساهر بحنوّ وهو يتفرس في وجهها الممتقع : ما هذا يا لولا ؟ أنت فتاة قوية .. فما هذا اليا س ؟! إن شاء الله ستحسن صحته في وقت قريب .
لبثت لولا خافضة الرأس وهي تمسح دموعها براحتيها .
- نحن نخدع أنفسنا يا ساهر . بابا لن يتحسن وربما مات في أية لحظة .
تساءل ساهر جزعا : لماذا تقولين ذلك يا لولا ؟ هل قال الطبيب شيئاً جديداً ؟
رفعت لولا إليه عينين مخضلتين بالدمع .
- لا .. لم يقل شيئاً . ولكنها الحقيقة التي تعرفها ماما منذ زمن وقد كتمتها عنّا .. بابا مصاب بالسرطان في مراحله الأخيرة يا ساهر.
صرخ ساهر مصعوقاً : ماذا تقولين ؟! أنا لا أصدق ذلك . صحيح أن صحته ليست طيبة ولكن ليس إلى هذه الدرجة.
قالت لولا وقد شرقت عيناها بالدمع : صدّق ذلك يا ساهر .
تلبث ساهر معقود اللسان وقد تسمرت عيناه على وجه لولا . أخيراً تمتمت لولا بلهجتها المنكسرة : مسكينة ماما .. كم تعذبت !! إنها تعلم بالحقيقة منذ البداية .
- كان الله في عونها .
ظلت لولا خافضة الطرف دقائق ثم همست وكأنها تخاطب نفسها : وأنا التي لم تكن تفهم شيئاً مما يجري حولها .. كم كنت غبيّة !
- وكيف كان بإمكانك أن تدركي مثل هذا الأمر يا لولا؟
قالت بلهجة قاسية وهي غائمة العينين : كان يجب أن أدرك أن ما يجري حولي أمر غير طبيعي . كنت مشغولة بسعادتي ولم يكن يعنيني ما يجري حولي . كنت أنانية غبية .
قال ساهر يرفق : لا تلومي نفسك يا لولا . لم يكن بإمكان أي شخص غيرك أن يدرك ذلك . وماما لم تشأ أن تعذّبك معها . إنها امرأة قوّية وبإمكانها أن تتحمل عبء هذا السّر الرهيب . أما أنت فلم يكن بوسعك ذلك .
عقدت لولا حاجبيها وعيناها مثقلتان بالحزن .
- كان يجب عليّ أن أدرك ذلك . كان يجب عليّ أن أشارك ماما آلامها لأخفّف عنها لكنني كنت مشغولة بحّبي . وكان يجب علي ّ أن أفهم . كنت أستيقظ من نومي أحيا ناً في آخر الليل فأسمع وقع خطواتها في الصالة وكأنها روح هائمة . لم يكن يقرّ لها قرار . وكنت أقول لها : " لماذا أنت قلقة هكذا على بابا يا ماما ؟ إنه سيتحسن " .
فكانت تتأملني بنظرات غريبة ثم تقول : " أكيد .. أكيد .. سيتحسن . فأنا أصلّي لأبينا ليلاً ونهاراً ولن يخذلني".
وفجأة أخفت لولا وجهها بين يديها وأجهشت بالبكاء . وتلاحقت شهقاتها الحارة . قام ساهر وجلس إلى جوارها . ثم أحاط رأسها بين يديه وقال برقّة :لا تفقدي الأمل يا لولا .. قد تحدث معجزة ويشفى بابا.
غرقت لولا في صمت حزين وراحت تجفف دموعها بين حين وآخر براحة يدها . تساءل ساهر أخيراً : هل ترين يا لولا أن الظروف تسمح لي بزيارته الآن ؟
- سيفرح بزيارتك كثيراً يا ساهر .

من مذكرات ساهر
أيّ كارثة تهدد حياتي ؟ إن قلبي ليغوص في أعماق سحيقة . وثمة عاصفة توشك أن تهب عليّ.. لاشك في ذلك . أرجو أن أكون مخطئاً في ظنوني .
وأنت يا لولا .. أيتها المخلوقة الرقيقة التي تبدو كالوردة المتفتحة في مطلع الربيع .. يا من باتت أعزّ إنسانة على قلبي . أيّ حزن هذا الذي لمسته في عينيك الجميلتين ؟! ترُى هل سيطرد هذا الحزن من قلبك كل عاطفة أخرى ؟! يا لها إذن من أيام بائسة تلك التي ستدثّر حياتي .
***









قالت فدوى بمرح : من المؤسف يا ساهر أن الظروف لم تعد تسمح لي بالعزف . فبي رغبة شديدة أن أعود إلى العزف . أنت بعثت فيّ روحاً جديدة .
قال ساهر مغموما : أنا آسف فعلاً لأن الظروف لا تسمح لك بالعزف . فليس من المعقول أن تنطلق الموسيقى من البنسيون والخواجة خريستو يعاني سكرات الموت .
- وهل حالته بهذه الخطورة يا ساهر ؟! لم يبدو لي كذلك في زيارتي الأخيرة .
- تدهورت صحته عما شاهدته في زيارتك الأخيرة يا فدوى .
- هذا محزن . كان يبدو لي شخصاً طيباً ولطيفاً .. بلا شك إنه أطيب من مدام هيلين .
- لا تظلمي مدام هيلين يا فدوى . إنها طيبة في أعماقها وإن بدت صارمة .
وسكت ساهر لحظة ثم أضاف : مسكينة مدام هيلين .. إنها تدفع الآن ثمن صرامتها مع الخواجة خريستو . ويبدو أنها نادمة على ذلك فالحزن قد هدّها .
- لا تعجب يا ساهر . فليس من السهل عليها أن تفقد زوجها . وسيكون موت الخواجة خريستو كارثة فادحة بالنسبة لها .
- فعلا .. إنها تبدو كالمذهولة .
- معها حق ، فما قيمة حيا ة المرأة إن فقدت زوجها وهي في هذا العمر ؟ ستأكلها الوحدة والوحشة.
وختم صمت ثقيل . نظر ساهر أخيراً إلى فدوى وقال : أشعر بانقباض شديد يا فدوى ولا أكاد أطيق البقاء في البنسيون .
- هل تحب أن نخرج يا ساهر ؟
- وهل لديك استعداد لذلك ؟
قالت فدوى بمرح : إذا كانت هذه رغبتك . فلم يعد في وسعي أن أرفض لك رغبة يا ساهر .
من مذكرات ساهر
يبدو أن الأمل ببقاء الخواجة خريستو حيا قد انطفأ وأنه في ساعاته الأخيرة فعلاً . ما أشد أسفي لذلك ؛ لقد افترسني الحزن . ويتراءى لي أن أمورا كثيرة في حياتي ستتغيّر . مرحباً بالحزن على حدّ تعبير فرانسوا ساغان !
كانت سهرتي مع فدوى فاشلة . فقد عجزت عن انتشال نفسي من حزني وإن تظاهرت بالمرح . أما فدوى فقد بدت مرحة وكأن مصير الخواجة خريستو لا يعنيها في شيء ! ما أشد أنانية الإنسان !
***

تأمل ساهر لولا وهي ملفعة بملابسها السود ووجهها ينطق باللوعة والإرهاق . وتمشّى في قلبه همّ ثقيل . قالت لولا بصوت واهن : ماما ممتنة لك يا ساهر على موقفك من محنتنا وعن خدماتك أثناء الدفن والعزاء .
قال ساهر بأسىً : لا داعي لمثل هذا الكلام يا لولا فأنت تعلمين كم كان المرحوم عزيزاً عليّ .
عادت لولا إلى صمتها وهي خافضة الرأس . وبدا كأن أفكاراً هائجة تعصف برأسها . رفعت رأسها أخيراً وقالت بصوتها الواهن : لم أذق النوم منذ يومين يا ساهر .
قال ساهر برقة : هذا أمر طبيعي ومفهوم يا لولا فلا يمكن أن يعوّضك شيء عن فقدان بابا.
صمتت لولا برهة ثم قالت بلهجة مترددة وهي تتجنبه بأنظارها : الأمر لا يتعلق بفقدان بابا يا ساهر بل بماما .
والتزمت الصمت ثانية وحنت رأسها . خفق قلب ساهر وتسمرت عيناه على وجهها .
- ماذا عن ماما يا لولا ؟
رفعت لولا رأسها ونظرت إليه في التيا ع .
- ليس بقدرتي أن أقتل ماما يا ساهر .
هتف ساهر بجزع : تقتلين ماما ؟! ولماذا تقتلين ماما ؟ وكيف يمكنك أن تفعلي ذلك ؟
قالت لولا بلهجتها المترددة وهي تخفض طرفها : إنها خيّرتني بين حبي لك وحبي لها . وقالت إنني سأقتلها لو اخترت حبّي لك .
بقى ساهر صامتا دقائق وهو كاسف الوجه . وأخيراً قال بحزن وهو يغرق عينيه في عينيها : أمك أولى بك مني يا لولا.
تساءلت لولا بلهجتها الملتاعة : فأنت لن تكرهني على موقفي يا ساهر ؟
همس ساهر بلهجته الحزينة : لست أنا الذي يساهم في قتل الآخرين يا لولا .
صمتت لولا دقائق ووجها يجيش أسىً . ثم قالت بصوت راعش : أنا مجبرة على التضحية بحبي يا ساهر .. ولكن ما ذنبك أنت ؟! أنا متأكدة أنك ستكرهني يا ساهر .. وهذا ما يلهب عذابي.
قال ساهر وهو يمسح وجهها بنظرات حنون : وكيف لي أن أكره شخصاً مثلك ؟! سأظل أحبك دائما يا لولا.
تلاقت عيونهما لدقائق وقد فاضت بالحزن . ولاح على وجه لولا بوادر عاصفة كاسحة . وفجأة انفجرت في بكاء مرّ . وتلاحقت شهقاتها . نهض ساهر إليها واحتضنها بقوة بين ذراعيه .
من مذكرات ساهر
أيّهما أقوى .. الحب الجسدي أم الحب العائلي ؟ وهل كان في وسع لولا أن تتخذ قراراً آخر ؟ ولو فرُض أنها استجابت لضغوطي .. هل كناّ سنظل سعداء ؟! الإنسان موقف ، وقد نجحت لولا في الامتحان كما نجحت أنا00 على الأقل في الظروف الحالية . ولكنني أتساءل : هل ستفلح لولا في قهر حبها ؟ وهل سأنجح أنا في وأد حبي ؟ وهل ما تم بيننا من اتفاق هو نهاية المطاف لحبنا حقا ؟
***


























تطلعت فدوى في وجه ساهر بقلق وتساءلت : مالك تبدو مهموماً وحزيناً يا ساهر ؟ منذ أيام وأنت لست في حالتك الطبيعية .
قال ساهر وهو يتهرب من أنظارها : أنت تعلمين أن وفاة الخواجة خريستو أحزنتني كثيراً .
- هذه مبالغة منك يا ساهر .صحيح انك كنت تحترمه ولكن هذا لا يبّرر حزنك عليه بهذا الشكل .. إلى متى تظل تحمل هموم الآخرين وتشاركهم أحزانهم ؟!
حنى ساهر رأسه ولم يجب . عادت فدوى تتطلع في وجهه بقلق وتساءلت : أصدقني القول يا ساهر .. هل أنت حزين بسبب الخواجة خريستو أم بسبب حزن لولا على أبيها ؟!
ظل ساهر خافض الرأس وهو يعبث بالقلم على ورقة أمامه . قالت فدوى وقد اشتد قلقها : يظهر أن الأمر أخطر مما تصورت .. أصدقني القول يا ساهر .
رفع ساهر رأسه أخيراً وقال بلهجة مترددة : الحق معك .. يجب أن أصارحك بالحقيقة . يجب ألاّ أفاجئك بها . لقد قررنّا أن نفترق أنا ولولا فأمّها لا توافق على حبّنا وهي عاجزة عن أن تخذلها في مثل هذه الظروف .
رمقته فدوى في حنّو وقالت : ألم أحذّرك من ذلك يا ساهر ؟
ثم أضافت وهي تغمر وجهه بنظرات رقيقة : لا تبتئس يا ساهر فهي التي خسرتك .
قال ساهر وهو يتجنبها بعينيه : على كل حال لابد لي أن أترك البنسيون .
هتفت فدوى في جزع : ولماذا تترك البنسيون ؟ أنت لست مضطراً لذلك .
قال وهو يتمعن في الورقة أمامه : ليس في قدرتنا أن نكون قريبين بعضنا من بعض .
وبعيدين في نفس الوقت يا فدوى . وإننا اتفقنا على هذا القرار .
فكرت فدوى قليلاً ثم قالت وقد انبسط وجهها : احَسب أنه قرار صحيح .
قال ساهر وهو يرنو إليها بنظرات رقيقة : لكنك ستبقين لي صديقة عزيزة يا فدوى كما كنت دائما.
هتفت في ابتهاج : أصحيح يا ساهر ؟
قال وهو يهزّ رأسه : بالتأكيد .
قالت في اندفاع : وأنت كذلك يا ساهر . لو تعلم أي مكان احتللته من قلبي .
سرحت نظرات فدوى وطافت على ثغرها بسمة سعيدة . ثم التفتت إليه قائلة : هناك بنسيونات كثيرة يا ساهر وربما أفضل من هذا البنسيون . وعلينا أن نفتش منذ الآن عن بنسيون آخر.
قال ساهر بلهجة مترددة .. لا أظنني سأرتاح للحيا ة في البنسيون مرة أخرى يا فدوى . وتجربتي في هذا البنسيون لم تكن ناجحة .
ضجت عينا فدوى بالهلع .
- ماذا ستفعل إذن ؟
- سأعود إلى نفس الشقة في الدقّي التي كنت أعيش فيها من قبل مع بعض الأصحاب . وقد اتفقت معهم فعلاً على ذلك .
هتفت فدوى بلهجة مرتعبة : لا .. لا .. Impossible .. لن تفعل ذلك .
تساءل ساهر في عجب : ولماذا لا أفعل ذلك ؟
هتفت بلهجتها المرتعبة : وأنا ؟! ماذا سيحلّ بي ؟!
- سنظل أصدقاء كما كنّا دائماً يا فدوى .
قالت فدوى وهي تخبط الأرض بقدمها ثائرة وقد تفجر وجهها غضباً : كنت أتوقع ألا يعود عليك هذا الحب إلاّ بالشقاء . وأنا حذّرتك لكنك لم تستمع إلى نصحي .. الماكرة .. اللئيمة .. كيف فعلت بك ذلك ؟
- ليس لها ذنب في ذلك يا فدوى .
اندفعت فدوى تصرخ وهي أسيرة غضبها : بل هي ماكرة ولئيمة وقد لعبت بعواطفك .
قال ساهر في تأثرّ : أرجوك يا فدوى .. لا تشتميها فلا ذنب لها في ذلك .. إنها ستتعذب مثلي وربما أكثر مني .
صرخت فدوى بلهجة متنمرة : وكيف تريدني ألاّ اشتمها بعد أن فعلت بي ذلك ؟ كيف سأعيش هنا بدونك ؟
قال ساهر برقة : سرعان ما ستنسينني يا فدوى .
خزرته فدوى طويلاً ووجهها يفيض اشمئزازا . ثم قالت ببطء وهي تهز رأسها باحتقار : أنتم الرجال جميعاً أنانيون ولا تفكرون إلاّ بأنفسكم .. وكم كنت حمقاء إذ تصورتك تختلف عنهم .
وقفزت خارجة وصفقت وراءها الباب .
من مذكرات ساهر
ما أعجب أمرك يا فدوى ! كنت أظنك سترثين لحالي وإذا بك تثورين عليّ هذه الثورة العاصفة!صحيح أن فراقي سيكون صعباً عليك ولكن المفروض أن يكون لك موقف آخر . فلقد جرّبت الحب الضائع وخبرت عذابه . ترُى ماذا يدور في ذهنك يا فدوى؟ أتراني ضلّلتك بما كنت أبديه نحوك من عواطف وأن وراء ثورتك خيبة أمل مريرة أنا المسؤول عنها ؟! يا ويلي إذن!
***




مرّ يومان دون أن تظهر فدوى . وفي اليوم الثالث حاصر ساهر الشوق إليها . وأثار قلقه غيا ب خطواتها في الصالة طوال اليومين السابقين . ولم يصرّ باب غرفتها صريره الناعم . ومضى إلى غرفتها . نقر الباب نقرا خفيفاً فلم يسمع رداً . وكرر النقر فلم يتلق رداً . فأخذ يخبط الباب بعنف وقد اشتد وجيب قلبه . ثم انطلق يناديها بأعلى صوته . وبقيت الغرفة غارقة في صمتها .
هرع إلى شقة مدام هيلين وضغط على جرسها بإلحاح . وظهرت لولا . تساءلت بقلق : ما بك يا ساهر؟!
قال بصوت مضطرب : يبدو أنه حدث مكروه لمدموازيل فدوى.
تساءلت مدام هيلين بانزعاج : ما الأمر يا خواجة ساهر ؟
قال ساهر في اضطراب : منذ يومين لم تخرج مداموازيل فدوى من غرفتها ولم أسمع صوتها ..وبابها مغلق من الداخل .
قالت مدام هيلين في اضطراب : سأحضر مفتاح غرفتها .
وهبط الثلاثة إلى البنسيون . عالجت مدام هيلين الباب بالمفتاح حتى انفتح . كانت الغرفة غارقة في الظلام . أضاء ساهر النور وتقدم من السرير واجف القلب . بدت فدوى غاطة في النوم وقد سحبت الغطاء على جسدها . ولمح مظروفا مستنداً إلى المصباح الصغير فاختطفه وفضه بأصابع مرتعشة . وقرأ بصوت محموم :
" ساهر ..
أهديتني الأمل ثم سلبته مني .. أذكرني .
فدوى "
- انتهت -








#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - امرأة ضائعة