|
مغزى كلام بوش
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2531 - 2009 / 1 / 19 - 07:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
رغم مكابرته التي استمرت سنوات بخصوص الحرب على العراق أطلق الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تصريحات مفاجئة ومثيرة قبيل مغادرته البيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني ،2009 حيث بدأت بعض الأسئلة المستجدة تُطرح على بساط البحث، فهل وصلت الاستراتيجية الأمريكية في العراق الى طريق مسدود، لدرجة أن عرّابها الذي كان مزهوّاً بانتصاراته المزعومة يقرّ بالفشل والخداع؟
ومع أن توقيع المعاهدة العراقية - الأمريكية حُسم مؤخراً، لكن الأمور أخذت تزداد صعوبة لدرجة أن المشروع الإمبراطوري الكبير الذي بشّر به الرئيس بوش وصل إلى نقطة حرجة يبدو فيها التراجع أمراً لا مفرّ منه، وإنْ كان هذا الأمر يحتاج الى بعض الوقت.
المؤشر المهم للتراجع هو اعتراف الرئيس بوش بأنه لم يكن مستعداً للحرب، وهذا يعني بلغة السياسة، أن النجاح العسكري “الميسور” باحتلال العراق وصل الى طريق مسدود كان ينذر بفشل عسكري، ولهذا اقتضى التبرير بالحديث عن معلومات مضللة كانت تقف وراء شن الحرب على العراق، رغم أن تلك المعلومات الاستخبارية لم تكن مفاجئة للإدارة الأمريكية، التي سبق لها أن “اعترفت” بعد الحرب وقبل سنوات بأن العراق ليست لديه أسلحة دمار شامل ولا علاقة له بتنظيمات القاعدة، أما الديمقراطية الموعودة فقد تم السكوت عنها، وأخذ هاجس الأمن والبحث عن الاستقرار يعلو فوق جميع الخطط والبرامج لدرجة تم نسيانه تماماً، إلا عند مقارنته بالنظام الدكتاتوري السابق، فلماذا تأخرت إدارة بوش الى هذا الوقت لتعترف بخطيئتها التي حاولت إلقاءها على عاتق الآخرين؟
إن اعتراف الرئيس بوش تزامن مع حالة الضيق والتبرّم التي شعر بها عند تأخير موعد إقرار المعاهدة الأمنية بين بغداد وواشنطن، وحتى قبل قذفه بالحذاء من جانب الصحافي منتظر الزيدي، ولعل في ذلك شعوراً بالخيبة والمرارة ناجم عن ثلاثة أسباب أساسية:
الأول، هو محاولة إخضاع الشخصيات والمؤسسات السياسية العراقية الرسمية للإذعان، لاسيما أن بعضها فكّر بأن الرئيس بوش راحل، وبالتالي يمكن تأجيل توقيع المعاهدة إلى حين استلام إدارة أوباما مقاليد الأمور في البيت الأبيض، وكي يكون الاتفاق معها، وليس مع إدارة حلّت عليها النقمة لا في العراق والعالم العربي فحسب، بل في الولايات المتحدة، وفي العالم أجمع.
أما الثاني، فهو لإفساح المجال أمام الإدارة الجديدة الأمريكية لإعادة تقييم الوضع في العراق، سواء قرر أوباما الاستمرار في السياسة الحالية مع بعض التعديلات أو سحباً جزئياً وعلى مراحل للقوات العسكرية الأمريكية، ولكن هذه العملية ستبدأ على هامش أن وجودها العسكري، لم يكن له مبرر أو استنفد مبرراته، وتتحمل مسؤوليته ال(CIA) بسبب المعلومات المضللة.
وكان السبب الثالث الذي أصرّت إدارة بوش على التمسك به، يتعلق بتبرئة ساحة الحزب الجمهوري والجمهوريين من خطيئة الاحتلال، بحيث تتحول قضية غزو العراق من مسألة سياسية إلى مسألة فنية - استخبارية، سداها ولحمتها “معلومات مضللة”.
ولعل هذا هو المغزى الحقيقي لكلام الرئيس بوش: إنه لم يكن مستعداً للحرب، وفي ذلك دفاع عن النفس أمام اتهامات كونية، بخصوص الاحتلال، بتبرير أن المخابرات المركزية الأمريكية، هي التي تتحمل المسؤولية لأنها ورّطته، وشملت الورطة البيت الأبيض، ناهيكم عن دور البنتاغون المشجع لشن الحرب على العراق، وفي ذلك إشارة إلى المعركة الخفية التي بدأت منذ وقت مبكر، سبق غزو العراق بين البنتاغون وال (CIA)، وكذلك بين وزير الدفاع السابق رونالد رامسفيلد وجورج تينيت مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق، وقد عرض الأخير جزءاً من تلك الإشكاليات في مذكراته التي صدرت مؤخراً بعد تنحّيه عن منصبه.
وكان كولن باول وزير الخارجية السابق، قد اعترف هو الآخر بأنه ضحية تضليل عندما وقف عشية غزو العراق ليتحدث في مجلس الأمن عن وجود أسلحة دمار شامل، وقد عاد واعترف بزيف معلوماته، وأبدى أسفه بعد مغادرته وزارة الخارجية، وهو ما دوّنه لاحقاً، وأعلنه على الملأ، الأمر الذي عكس الصراعات المستترة والمثيرة بين وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، ففي حين كانت الأولى مترددة ومتروية بشأن تبعات غزو العراق، كانت الثانية مندفعة وغير مكترثة، وهو ما أرادت أن تدفع به الإدارة الأمريكية، كما أنها ضغطت على ال (CIA) لتكيّف موقفها بحيث يكون منسجماً مع مغامرة شن الحرب على العراق.
لقد كانت الحرب على العراق تتويجاً لهستيرية الصقور اليمينيين المتشددين، فإضافة الى الرئيس بوش، كان يحمل صولجانها وزير الدفاع رامسفيلد، إضافة إلى كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية لاحقاً، وديك تشيني وبول وولفويتز وآخرين، ولهذا السبب فإن اعتذار الرئيس بوش وتبريره للمعلومات المضلّلة جاء في إطار تسوية الحسابات الداخلية وإبعاد المسؤولية عن الإدارة والجمهوريين وابقائها على عاتق المخابرات المركزية.
إن اعتراف الرئيس بوش لم يكن خطأ عابراً أو تقديراً سياسياً قاصراً، لاسيما بعد ما حصل في العراق من تدمير بنيانه التحتي ومرافقه الحيوية ونهب ممتلكاته وآثاره الثقافية وتبديد ثرواته وحل مؤسساته ودفع البلاد باتجاه التشظي الطائفي والإثني، خصوصاً في ظل تدفق العنف والإرهاب، بل هو فعل عدواني منظّم وعن سابق إصرار وترصّد، كما يقال في القانون الجنائي، ألحق الدمار والخراب ببلد عانى من الحروب طويلاً ومن حصار دولي جائر ومن استبداد منفلت من عقاله، وتوّج ذلك بغزوه واحتلاله، الأمر الذي يجعل من حق الطرف العراقي المتضرر أن يطالب بالتعويض المادي والمعنوي بما فيه تقديم اعتذار رسمي، إضافة الى مساءلة قانونية طبقاً للتقاليد الدبلوماسية الدولية واتفاقية فيينا لعام 1963 حول العلاقات الدبلوماسية، وهو ما أسقطته المعاهدة الأمريكية - العراقية للأسف الشديد، حين اعترفت بشرعية الاحتلال العسكري وحاولت أن تستبدله باحتلال تعاقدي، لا سيما بإسقاط حق العراق بالتعويض.
وإذا كان الرئيس المنتخب أوباما قد اعترف هو الآخر بأن الولايات المتحدة في سياساتها، والمقصود في عهد الرئيس بوش، قد أفرطت في الاعتماد على القوة، فإنه سعى الى تبرئة سمعتها مما لحق بها، خصوصاً بعد احتلال أفغانستان والعراق، وما حصل في سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرية الطائرة والعائمة، الأمر الذي سيكون له أكثر من مسوّغ فيما إذا قرر الرئيس أوباما اعتماد سياسة جديدة لتطويق آثار سياسة سلفه الرئيس بوش الذي سيتذكّره العالم وسيدوّنه التاريخ، باعتباره أسوأ رئيس للولايات المتحدة في تاريخها، كما سيتذكره العرب والمسلمون باعتبار فترة حكمه التي دامت ثماني سنوات، كانت الأسوأ في علاقتهم مع واشنطن وما لحقهم من إذلال وحروب واحتلال، فضلاً عن كونه كان رأس حربة في ما سُمي بصدام الحضارات وصدام الثقافات، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001. وبتبريرها وذريعتها، شهدت منطقة الشرق الأوسط خداعاً وتضليلاً واستهدافاً بحروب مباشرة أو بالوكالة لتطويعها ونهب مواردها وهضم حقوقها، وهي السياسة التي دأبت عليها واشنطن منذ تأسيس “إسرائيل” في 15 أيار/مايو 1948 وإلى حدّ الآن.
إذا كان مغزى اعتراف الرئيس بوش يدل على الفشل السياسي والعسكري، فإنه يستهدف تدوير المسؤولية لإلقائها على عاتق ال (CIA) وغسل يديه من آثام الخطيئة التي حصلت في العراق، لكن “الاعتراف هو سيد الأدلة” كما نقول في القانون، الأمر الذي يرتّب مساءلات قانونية وأخلاقية لا بدّ من متابعتها من جهات قانونية وحقوقية، أمريكية وعربية ودولية، وطلب التعويض المادي والمعنوي. وسيكون في ذلك مغزى العدالة التي كانت مفقودة في ظل الضخ الإعلامي الهائل وأصوات المدافع والقنابل والمفخخات.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق وشرنقة الفصل السابع
-
سريالية عراقية!
-
حقوق الإنسان.. إشكاليات أم معايير؟
-
ماذا يريد سانتا كلوز من أوباما؟
-
حكم القانون ... من أين نبدأ؟!
-
هل يتمكن أوباما من إغلاق جوانتانامو؟
-
حقوق الإنسان بين التقديس والتدنيس!!
-
«نفاق» حقوق الإنسان.. وقفة تأمل!
-
جائزة التسامح
-
المواطنة «المفترضة»!
-
شرق أوسط ممكن شرق أوسط مستحيل
-
الاتفاقية الامنية رهن للعراق وشعبه
-
الاتفاقية العراقية- الامريكية من الاحتلال العسكري الى الإحتل
...
-
المعاهدة العراقية-الأميركية: من الاحتلال إلى الاحتلال! (2-3)
-
أوباما الشرق أوسطي!!
-
زمان الطائفية
-
أولويات الرئيس أوباما!
-
استحقاقات أوباما
-
الإرث الثقيل
-
المعاهدة العراقية-الأميركية... من الاحتلال إلى الاحتلال! (1-
...
المزيد.....
-
مصدر لـCNN: أمريكا تنقل صواريخ باتريوت من إسرائيل إلى أوكران
...
-
إسرائيل: قواتنا ستبقى في جبل الشيخ بسوريا -إلى أجل غير مسمى-
...
-
تفاصيل اتصال بين وزيري خارجية أمريكا ومصر بعد تصريحات ترامب
...
-
ماذا يعني وقف المنح الفيدرالية والمساعدات الخارجية الأمريكية
...
-
هواوي تطلق هاتفا مجهزا بكاميرات ومواصفات مميزة
-
العمل من المنزل أو المكتب؟.. دراسة تكشف أيهما الأفضل لصحتك
-
سر انقراض إنسان نياندرتال قد يكون مخفيا في دمه!
-
خبيرة تغذية: نقص البروتين يؤدي إلى تكرر نزلات البرد
-
أنفاق الموت. قاعدة الجلادين وضباط الناتو السرية أصبحت قبورًا
...
-
سؤال واحد وسبع إجابات: كيف ستستجيب الدول لرسوم ترامب الجمركي
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|