|
في الطائفية والهيمنة والمعرفة السياسية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2510 - 2008 / 12 / 29 - 09:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليست الطائفية مجرد مشكلة اجتماعية يتعين تحويها إلى مسألة نظرية وعملية من أجل معالجتها وحلها، وإنما هي كذلك أداة في الصراع السياسي. لذلك تجازف مقاربتها بالتحليل والدراسة التي لا تدرك خاصيتها المزدوجة تلك أن تنزلق هي ذاتها إلى مقاربة طائفية. أي أن المعرفة بالذات يحتمل أن تكون أداة من أدوات الصراع الطائفي، بدل أن تكون الطائفية موضوعا مثل غيرها لمعرفة موضوعية تجتهد في أن تكون متجردة من الهوى و..الهويات. وفي هذا تختلف الطائفية عن مشكلات اجتماعية أخرى كالفقر مثلا أو البطالة أو الأمية. فهذه المشكلات ميسورة الموضعة (تحويلها إلى "موضوع" للدراسة)، ولا تكاد تتدخل في تشكيل ذاتية دارسها (وهو من "الطبقة الوسطى" عموما، "مستقل" التفكير)، ولا تحرف أحكامه بانحيازات مبعثها الانتماء. ولا ريب في أن لهذه الصفة المزدوجة للطائفية ضلع في كون التفكير فيها والكتابة والنقاش حولها موضعا صراع سياسي أيضا. هذا يتبينه المرء بسهولة في سورية حيث يتعرض الموضوع لكبت فكري وسياسي وإيديولوجي شديد. تتوفر لدى بعضنا أسباب وفيرة لإثارة نقاش حول مشكلة الطائفية أو رفع الحجاب عن وجهها، فيما يبدو أن أفضل نقاش حول المشكلة ذاتها عند بعض آخر منا هو النقاش غير الموجود. وبينما لا يمكن لسياسة التكتم أن تكن مقبولة من وجهة نظر معرفية أو سياسية، فإنه ليس ثمة ما يضمن أن يكون النقاش العلني حول الطائفية متحررا منها. فالمعرفة في هذا المجال مسيسة بعمق، والسياسة كثيرا ما تتوسل معارف تنتحل "الموضوعية" في خدمة مواقف وتوجهات "ذاتية"، أي يحفزها المصلحة والهوى والانتماء. وينكشف عمق التسييس وشموله في أن من قد ينكرون بيننا نوازع الطائفية محركا لسلوكهم وتفكيرهم يجنحون بسهولة إلى تفسير سلوك غيرهم، خصومهم بخاصة، بها. هذا برهان كاف على أن الطائفية ترقت من نقيصة ذاتية محتملة إلى بنية موضوعية، أو ببساطة تحولت إلى ثقافة. وليس أحد منا خارج تلك البنية وهذه الثقافة. إنها اليوم إطار اجتماعي لكل معرفة ممكنة، المعرفة السياسية بخاصة. والفكرة التي نريد الدفاع عنها هنا هي أنه ليس ثمة حل عادل أو عقلاني أو ديمقراطي للمشكلة الطائفية. الحلول العقلانية والديمقراطية "توافقية" بطبيعتها، لكن منذ أن نتكلم على حضور الطائفية فإننا نعني أن الطوائف متشكلة أو تنزع إلى التشكل في أطراف سياسية، تتوافق أو لا تتوافق مع غيرها، فتنحصر الخيارات العامة بين حرب أهلية طائفية وبين سلم أهلي طائفي بدوره. وعلى هذا النحو تجازف أية حلول ديمقراطية بأن ترسخ الطائفية ثقافيا وسياسيا وتجعل الخروج منها متعذرا. والفكرة المكملة التي ندافع عنها أيضا هي أنه لا مخرج من هذا الوضع إلا بالقوة، أي بأن ينجح طرف سياسي في فرض رؤيته لمجتمع جديد على الجميع. لكن كي يكون هذا ممكنا يتعين أن يجد "الجميع" في "المجتمع الجديد" ما يجذبهم ويغريهم، وفي القوة القائدة ما يقنعهم بتفوقها. المفهوم الذي يغطي مزيج القوة (بما فيها حتما القوة المادية التي تلحق الهزيمة بأية مقاومات فئوية) والجاذبية العامة هو مفهوم الهيمنة. وقد يناسب أن نستحضر في ذهننا عند التفكير في هذا المفهوم نيتشه إلى جانب غرامشي، "إرادة القوة" و"التفوق" إلى جانب الاقتناع والرضا والعمل للفوز بالسلطة في "المجتمع المدني". ما تفتقر إليه السلطات في بلداننا، ومنها سورية طبعا، هو الجاذبية، النموذج المغري الذي يستهوي ويثير حماسة قطاعات واسعة من الجمهور للالتحاق به، ولو بثمن مفارقة الأطر الأهلية الحميمية. تعوض عن ذلك بالإمعان في القوة الخام وباصطناع الكاريزما للحكام. بالمقابل نجد ما يفترض أنه نموذج جاذب، فكرة الديمقراطية والمساواة العامة بين السكان، لكنه معزول عن القوة، يتوسل الإقناع والحجج العقلانية بدل أن يستهوي ويشكل ويجذب و..يفرض. نسلم في هذا السياق بأن في مفهوم الهيمنة عنصر غير عقلاني، يجعل منه عصيا على الشرح النظري وعلى الإعداد والتخطيط العملي. هو يبقى مفيدا على أية حال كاسم محتمل لجهلنا بكيفية صنع إجماع جديد غالب للطائفية، وللتشكك في حلولها "العقلانية" و"الديمقراطية" التي تنطلق من الواقع الحالي. وقد يفيد في التوضيح أن نستذكر أن الفكرة القومية العربية كانت مهيمنة في سورية، ومشكلة لضرب من هوية عليا متعالية على الطوائف، ومستهوية لسوريين من هويات أهلية متنوعة. هذا لم يتحقق بصيغة مجردة تضع هوية أوسع مقابل هويات أضيق، بل بصيغة تاريخية عينية تمثلت في اقتران العروبة بقيم وأفكار التقدم والاستقلال والاشتراكية والعلمانية..، بدلت معنى العروبة من اسم لرابطة إثنية ضيقة (يتفوق البدو في ادعائها على غيرهم) إلى عنوان لإرادة التحرر والمساواة والقوة. ولقد تواطأت تناقضات وفيرة في الفكرة العربية، إن في صيغتها الناصرية أو البعثية، مع هزيمتها العسكرية في عام 1967 على تفكك الهيمنة القومية إلى قوة عارية قليلا أو كثيرا، وإلى فكرة عزلاء جنحت إلى التماهي بالإسلام، اسم الهيمنة الأقدم في مجالنا "الحضاري". ولعله كان ثمة طاقة تشكيل وربط، هي العنصر غير العقلاني في الهيمنة، تبخرت في الهواء. لكن ليس ثمة حل إسلامي للمشكلة الطائفية. لا بل إن صعود الإسلامية في المشرق اقترن في المشرق (والمغرب، وإن بصيغة مختلفة) مع صعود الطائفية. وليس هذا غير طريقة أخرى للقول إن "الإسلام" ارتد ملة بين ملل، ولم يعد مبدأ مهيمنا يتوفر على حلول لمشكلات السياسة والتنظيم الاجتماعي والتعليم والقانون. ما نريد الخلوص إليه هو أن الطائفية نتاج تفكك الهيمنة القومية العربية التي كانت أتاحت، في سورية على الأقل، إجماعا وطنيا لا بأس به، لعل آثارا ورمزيات له لا تزال حاضرة. والسؤال الذي قد يثار في هذا الصدد هو: لماذا لا تكون الوطنية السورية عنوان الهيمنة الجديد؟ ألا توحد السوريين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فوق أنها لا تفصي الأكراد الذي كانت الهيمنة القومية العربية تركتهم خارجا (لم يكن الأكراد خارجا تماما، فانفتاح القومية العربية على الاشتراكية و"الشعوب المضطهدة" أتاح درجة من الشراكة الواقعية التي اصطدمت في كل حين مع الحدود الضيقة والشوفينية بالفعل للتفكير القومي العربي)؟ يبدو هذا عقلانيا، لكن في الهيمنة ما هو غير عقلاني... الأمر على أية حال بحاجة لمزيد من التفكير. ما الذي ليس كذلك؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافة والطائفية: شروط إمكان دراسة نقدية
-
الزيدي وبوش والحذاء...سخرية في بطن سخرية!
-
إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
-
في نقد تصور الوطنية القومي العربي
-
بصدد -الأخلاقوية- و-الحضاروية- و.. السياسة
-
ضد إدراج حقوق الإنسان في أجندة العلاقات بين الدول
-
وجهان لدينامية الصراع العربي الإسرائيلي
-
لا حل إسلاميا للمشكلة الطائفية
-
أي نقد للقومية العربية؟
-
في العروبة والوطنية السورية: المحصلة الصفرية ليست محتومة
-
القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية
-
في الرأسمالية والأزمة.. والديمقراطية
-
رئيس أسود في البيت الأبيض..!
-
عن الممانعة والسلبية والعداء للغرب
-
فرصة لتوسيع الديمقراطية العالمية!
-
أغزوٌ شيعي لمجتمعات سُنيّة؟!
-
تغيير المعارضة أولا..
-
في العلمانية والديمقراطية والدولة
-
على هامش الأزمة الأميركية: النهايات والعودات
-
التمثيل القومي لسورية عائقا دون التمثيل الديمقراطي للسوريين
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|