مقداد عبود
الحوار المتمدن-العدد: 771 - 2004 / 3 / 12 - 08:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفرضية والهاجس
ان العالم العربي يعاني أزمة مستحكمة , وان الاصلاح لايمكن تحقيقه بحكم عجز القوى اللاعبة الأساسية في مجتمعاتنا العربية . فالأصوليون, وبحكم طبيعة خطابهم الفكري , لايتقبلون التغيير الفعلي . وأنظمة الحكم العربية لاتستطيع الاقدام على الاصلاح بسبب خطابها الشمولي . والحداثيون لايمكنهم قيادة الاصلاح لكونهم أقلية ضعيفة في ميزان القوى بالنسبة للأصولية والأنظمة الحاكمة . أما اللاعب الخارجي أو القوى الدولية , وعلى رأسها أمريكا , فلها ظروفها وملاباساتها فيما يخص عملية التغيير والاصلاح في العالم العربي . من هنا الكوارث التي تعيشها جميع الدول العربية على كافة الصعد , من صلف عقلي واستبداد سياسي وانسحاق انساني , هي استحقاق التخلف والهشاشة اللذين بنينا كشعوب عربية عبر تاريخنا الحديث . وهذه هي الفرضية المركزية في هذه المقالة .
وهاجسي هنا , هو التساؤل عن طبيعة العناصر المكونة لهذه الفرضية , أي عن القوى التي تشكل امتلاء المجتمع , وعن حيثييات عجزها بالنسبة لعملية الاصلاح والتغيير , ما أفضى الى الكوارث المستحقة .
مشروطية الأفق
ان الدليل على مأزق الوضع العربي هو العجز الشامل الذي نعيش , وجميع الناس يعرفون هذا ويقرون به,سواء أكانوا من المشتغلين بحقول الثقافة و الممارسين لأفعال السياسة , أو نشطاء المجتمع المدني و المهتمين بالشأن العام . ولعل تقرير (( التنمية البشرية )) الشهير الصادر في 2002 – 2003 عن الأمم المتحدة أكثر افصاحا عن هذا المأزق . ومعروف للجميع أيضا أن عملية تغيّر المجتمع وأفق تحركه مرهون بأدوار ومصالح اللاعبين الأساسيين فيه , وهم , كما أسلفت , القوى المحلية , من أصولية سيا سية وأنظمة حكم وقوى تحديث , والقوى الخارجية , أي الدول الغربية بزعامة أمريكا . واذا كان الأمران واضحين : المأزق والقوى الفاعلة , فهل ننتج شروط تجاوز الأزمة , وماهو أفق التغيير الذي ينبني الآن وفق معطيات العالم العربي ؟ هذا , باعتقادي السؤال الرئيس الذي يستحق جهود التفكير والتدبير .
ان الاشكال الراهن المطروح على خطاب الفكر حول وضعنا العربي يتأتى من تعقيد وتشابك عناصر التعقّل والفعل فيه . وعليه , هناك واحد من احتمالين : اما أن كل قوة من هذه القوى الثلاث قادرة , بمفردها , على وضع استراتجية لتغيير العالم العربي وتجاوز أزمته , أو أن الأمر يحتاج الى تحالفها جميعا لانجاز هذه المهمة الكبرى . ولكن سرعان ما ينقشع الوهم حولهما ويتبخر , اذ لو كان الاحتمال الأول فعليا لما عانى العالم العربي ما يعانيه , وذلك واضح بالبداهة , اذ لكانت حينها تلك القوة تحملت مسؤليتها التي املتها الحياة في العالم العربي . أما بالنسبة للا حتمال الثاني , فهو ليس أقل وهما" من الأول , ذلك لأن الحمولة المعرفية لكل قوة المتعارضة مع نظيرتها لدى كل قوة اخرى , لا تسمح بانشاء تحالف ذي حصائل انجازية فعلية على مستوى المهمة المطروحة( الاصلاح) هذا فضلا عن تعارض مصالح النخب المتزعمة لهذه القوى .
أما القوة الخارجية الغربية , وخصوصا الأمريكية , فدورها في العالم العربي له ملابساته وتعقيداته المتشابكة مع ثلاث دوائر : أولاها , تلك التي تتمفصل مع الوضع الداخلي للمجتمع الأمريكي وثانيتها تترابط مع المعطيات العالمية , وثالثتها تتعلق بظروف العالم العربي . وان كشف طبيعة هذه السلسة من الملابسات والتعقيدات من شأنه ان يفضي الى فهم نتائج الموقف الأمريكي وآثاره على مستوى سيرورة الاصلاح وأفق التغيير في عالمنا العربي .
اطار التعقل
الخطاب الثقافي هو اطار تعقل الوجود والعالم الطبيعي والاجتماعي , وهو , بالتالي شرط الفاعلية الانسانية اذ لافعل بدون اطار معرفي لدى الانسان , ذلك لأن الثقافة ليست فقط الناتج الروحي من معرفة وفن , بل هي فوق ذلك الأساس العميق الذي يحدد ويوجه سلوك الناس وتصرفاتهم . بعبارة أخرى نمط الفاعلية الانسانية هو بمثابة بنية تملأ فضاء المجتمع , وهي تتحدد وفق خطاب الثقافة . من هنا , من الضروري ان تبدأ القراءة في الوضع العربي واستحقاق الحرية والديموقراطية من مدخل الخطاب , هذا اذا كانت لا تريد أن تبقى( القراءة) في حدود الوعي الساذج أو الحس المشترك الذي لايطيق تحمل النظرة الفلسفية التي تفكك خطاب الما يحدث أو المعاش . فهل حان الوقت للتخلي عن عادات الفكر المأ لوف والمسلمات المعهودة التي تأبه فقط لليومي و السطحي أو تحفل بالمعطى المباشر , أو تخضع للتجربة الفجّة .
يسيطر الخطاب الديني على عقول الغالبية الساحقة من جموع الناس في العالم العربي . وهم يمارسون انطلاقا" منه كافة شؤونهم الحياتية من معرفة وسياسة أو اجتماع واقتصاد .... الخ . فعلى صعيد المعرفة , يذهب هذا الخطاب الى أن الاسلام هو حقيقة قاطعة نهائية وصالحة مطلقا للدنيا و الآخرة . لذلك هو كاطار تعقل شامل لكل ما يمكن أن يشكل موضوعا" للمعرفة , يقوم على تقريرية انشائية غير قابلة للتعيين الواقعي . من هنا تكون نظرته الى الطبيعة والانسان والفكر والزمن والتاريخ والسياسة والاجتماع محكومة ببدهيات ميتافيزيقية وسحرية اسطورية . فالانسان عبد خاضع لحقائق علوية , والتاريخ رهين لقوى غيبية او شياطين وذنوب أخلاقية , والزمن يستمد قيمته من ماضويته سواء كان كلاما" الهيا" أو عادات وتقاليد . با ختصار , ان الخطاب الاسلامي يتميز بالانغلاق والقطعية سواء كان على مستو ى المعرفة ومنهجيتها , أوعلى صعيد علاقة الانسان بوجوده .
أوهام الأصوليين السياسية
انّ غيبية الخطاب الاسلامي يؤمثل الفعل السياسي لأن العيانات , بحسبه , يجب أن تخضع لمثالات العقل . من هنا , الخطاب السياسي للاسلاميين ينطلق من مقولات أساسية ثابتة وواهمة :
أولا" , خضوع الدّ نيا للدّين
فجميع جوانب ممارسة الناس وأساليب عيشهم وأنماط تفكيرهم يجب أن تكون متطابقة مع تعاليم وأوامر الاسلام , والاّ عمّ الخراب بالمجتمعات والناس . وما صنوف المصائب وأنواع الكوارث من (( استعمار )) و تخلف أو (( استبداد )) و (( فجور)) التي تفتك بنا , الا انتقام الهي منا لانحرافنا عن تلك التعاليم وتمردنا على هذه الأوامر . في هذا الاطار يجري تقويم كل ما يحدث في دنيانا العربية سواء أكان من احداث يومية ام طروحات لمفكرين اسلاميين . فعلى صعيد الأحداث اليومية , مثلا" , الغالبية الساحقة من الناس عندنا تؤيّد حكم اقامة الحدّ على (( ليلى العايش )) لأنها امرأة محصّنة اتهمت بالزنا , أما على مستوى خطاب الفكر , فجميع المفكرين الاسلاميين من الاصلاحيين ( حسن حنفي ونصر حامد ابو زيد ... ) حتى المحافظين ( حسن الترابي ومحمد سعيد رمضان البوطي ) يرون في الاسلام مشروعا" سياسيا" صحيحا" بذاته , وانما فشله – حسب ما يتوهمون – نتج عن ظروف لا تتعلق به, تبدأ من الانحراف عن جادة الصواب حتى تنتهي بأخطاءالحكام .
ثانيا" , دار الكفر والايمان
يرتكز الخطاب السياسي الاسلامي في أساسه العقيدي على مسلمة مطلقة قوامها – كما هو معروف- أن هناك دارين : دار الكفر ويمثلها غير المسلمين في العالم , ودار الايمان ويقع في مجالها مسلمو العالم . من هنا انطلقت الدعوة الاسلامية منذ ظهور الاسلام ةوهي مستمرة حتى الآن . وهذا هو الذي أدى الى نشوء الأحزاب السياسية الاسلامية التي تهدف الى اقامة حاكمية الله على الأرض . وهذا آل الى اقتناع الاسلاميين بأن هناك حربا" دائرة" بين (( الكفار )) بقيادة أمريكا – كما يقولون- والمسلمين في العالم .
هذا التصنيف الواهم القائم على ثنائية الكفر والايمان لدى الاسلام السياسي , هو الذي يسمح الآن بتجييش عواطف الاسلاميين ضد أمريكا وكراهيتهم لها وحقدهم عليها . واذا كان صحيحا" أن هذه الثنائيات قد كانت موجودة سابقا" , وأنها لعبت دورا" استقطابيا" في الصراعات السياسية والعسكرية عبر التاريخ الانساني , لكنها فقط عندنا نحن العرب تأخذ هذا المدى البعيد في الآونة المعاصرة .
واذا كان هذا يدل على أن الخطاب السياسي الاسلامي مازال يتعيّش على مسلمات تفكير تقليدي , فليس بمستغرب أن يقوم الاسلاميون المشحونون بهذا الخطاب بتفجيرات 11 أيلول في أمريكا , وليس بمستغرب أن يغتبط معظم الاسلاميين في العالم سرا" أو علنا" بهذا العمل الارهابي التدميري , بل ويعتبرونه انتقاما" الهيا" من (( الكفار )) !! وفي الاطر نفسه مورست وتمارس الأعمال الارهابية في جميع البلدان العربية , من جهة, و من جهة ثانية هذا العداء هو عنصر استقطاب سياسي شعبي,
ومصدره هو الآثار المتبقية في الذاكرة الاجتماعية من خطاب (( التحرر الوطني )) منذ اوائل القرن الماضي . فقادة الاسلاميين يعرفون اتجاهات وعواطف وميولات جموع الناس , وهم لايستطيعون تقبل خسارة هذا الالتفاف الشعبي الواسع فيما اذا هم أقاموا علاقة طبيعية مع أمريكا (( الامبريالية )) أو(( الشيطان الأكبر )) كما سماها الخميني بعد سقوط الشاه في ايران .
من جهة ثالثة , يستثمر الاسلام السياسي هذا العداء لامريكا كمؤشر على صدقيتهم في الدفاع عن الدين والوطن والهوية , خصوصا" وأن الرأي العام الشعبي , وبسبب تقليدية خطابه الثقافي يضفي على هذه القضايا صفة القداسة .
ثالثا" – للوسائل حكم المقاصد
ان منهج التفكير الّذي يقتلع المعاني والحقائق من ملابساتها الزمانية والوقائعية , ليجعلها متجوبة , لابد أن يصل الى وهم الفكرة المطلقة الصافية بذاتها . من هنا جاء وهم امثلة السياسة وتجريدهامن المصلحة والقوة . فالخطاب الاسلامي الذي يستند الى (( العقيدة السليمة )) بذاتها يرفض الوسائل (( غير الشريفة )) في ممارسة السياسة او في تدبير أمور الدولة . لكنهم يقولون هذا رغم أننا نرى الخديعة السياسية مورست في زمن الخلفاء الراشدين , هذا فضلا" عن التقتيل والفظائع التي دارت بين الخلفاء المسلمين , وفي دار الاسلام عبر تاريخه .
مع هذا كله , يصر الاسلاميون الآن على نظرتهم التقليدية الواهمة تلك , لذا ليس بمستغرب أن يقرؤوا المشهد السياسي العالمي بعين الطهر الأخلاقي اللاواقعي , ومن هنا يجيء تشهيرهم وتنديدهم بأمريكا , فهم يعتبرونها قوة متغطرسة باغية تشن حربا على الاسلام . ينطلقون من هذا وهم لا يدركون أن سياسة أمريكا تهدف الى تحقيق المصالح الأمريكية , ولا تهمها قضية الأديان أو الكفر والايمان .
باختصار , لايمكن للخطاب الثقافي الاسلامي ووليده الخطاب السياسي الاسلامي أن يتقبل الاصلاح في العالم العربي بسبب طبيعته الفكرية المغلقة وامثلته لقضايا السياسة . ومن هنا تعارضه مع التحديث والحرية . كما أن استحقاق الحياة المعاصرة وما حملته من نظام تعقل جديد على مستوى السياسة , لابد أن يتجلى تفكيكا" للقديم وتجاوزا" له , ولابد أيضا" أن يتجلى فتحا" لأفق جديد من المعقولية .
أمريكا والاصلاح
من هنا لايمكن للعامل الخارجي , وفي الأخص منه القوة الأمريكية , أن يسمح بأن يكون الاسلاميون قادة الاصلاح والتغيير في العالم العربي .
الخطاب الثقافي في أمريكا عقلاني حديث , وهو يقيم وزنا" حاسما" للانجازية أو المردودية , كما هو معروف , ولذا من الطبيعي أن تشكل هذه الخصيصة الأساس في صياغة الاستراتيجية السياسية الأمريكية .
ويعتبر الدور السياسي الأمريكي على الصعيد الدولي هو الأقوى الآن في العالم , نظرا" لكونها ( أمريكا ) هي الأقوى اقتصاديا" وعسكريا" وتقنيا" فيه . فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 , وبدء مسار سيطرتها على السياسة الدولية , بدأت تتبلور استحقاقات النظام الدولي الجديد في العالم والعالم العربي خصوصا" , فانبثقت --كما هو معلوم- خطابات جديدة , كما تتطورت أفكار معروفة سابقا": تحرير التجارة العالمية , اقتصاد السوق , الشرق أوسطية , الليبرالية الجديدة , العولمة , نهاية التاريخ , الارهاب ... الخ . في هذا الاطار ارتسمت الممارسات الساسية للادارة الأمريكية . وقد اخذت , بطبيعة الحال , اوضاع المجتمع الأمريكي وحاجاته الداخلية بعين الاعتبار , ذلك الى جانب استنفار طاقاته بما يخدم السياسة الخارجية .
عملت الادارة الأمريكية لاسناد سياساتها , على تحقيق عائدات مادية للمواطن الأمريكي , فهذا الأخير انسان براغماتي لاتغريه المثل والوعود بقدر ما تقنعه الوقائع والمصالح , وهذا هو اساس التواطؤ بينه وبين ادارته . فهو يجب أن يدعم دولته وادارته , وهي يجب أن توطد أمنه وترفع مستوى معيشته وتحقق تفوقه العالمي . من هنا تمكنت الادارة من استصدار القوانين التي تهدف الى حماية أمن المواطن الأمريكي بأي ثمن حتى لو مسّ ذلك بالعراقة الديموقراطية للمجتمع الأمريكي أو حرياته المدنية . في هذا الاطار جاءت حملة ماكينات الاعلام الأمريكية الهائلة ضد الارهاب العالمي , وجاءت ملاحقة الاسلاميين المتطرفين , مما أدى الى تعرض بعض المسلمين لبعض المضايقات العابرة حتى في المجتمع الأمريكي عينه .
أما على مستوى السياسة الخارجية , فنظرا" لأن أمريكا هي الأقوى على المسرح الدولي – كما اسلفت – فمن الطبيعي أن تحاول ترتيب الوضع العالمي الراهن سواء أكان من الناحية الاقتصادية والعسكرية أم الثقافية والسياسية , وفي هذا الاطار يأتي سعيها لترتيب موازين القوى الدولية والاقليمية , ومناطق النفوذ والمصالح الحيوية . وهذا هو السياق الذي يحكم السياسة الأمريكية لتتقدم بمشروع الشرق اوسط الكبير , الذي يضع احلال اليموقراطية في العالم العربي على رأس أجندته , وذلك الى جانب تغيير المناهج التعليمية . ولكن هناك سؤالين ينهضان بهذا الخصوص , الأول : ماالدوافع وراء سعي أمريكا لنشر الديموقراطية , واعلان الحرب على الاستبداد , وتحرير الشعوب العربية من القمع , حسب تصريحات الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ووزير الخارجية كولن باول . وبخصوص السؤال الثاني : ما المعوقات التي تعرقل الجهود الأمريكية فيما يخص دمقرطة العالم العربي .
بخصوص السؤال الأول , هناك عدة دوافع, منها :
1. تنفيذ استحقاق السياق , أي ادارة الصراع بين الخطاب الحديث الليبرالي , والغيبي الأصولي , باعتبار أن الأخير أضحى مفوّتا" ومعوّقا" للأول في فاعلياته واجراءاته . والديموقراطية هي الوسيلة في ذلك , فضلا على أنها الوسيلة السياسية لقطع الطريق على قيام حكم ثيوقراطي اسلامي , معاد لأمريكا .
2. مكافحة الارهاب , حيث أن انتشار الديموقراطية يلغي التزمت السياسي الديني , وبذلك يتم القضاء على البيئة الموّلدة للعنف والتفجير الموجّه ضد أمريكا .
3. ايجاد مجتمعات عربية مستقرة قادرة على القيام بالتنمية الشاملة : بشرية , ثقافية , اقتصادية ... الخ , ما يجعلها تتجاوز أزماتها الخانقة , وبذلك تتوافق مصلحتها مع المصلحة الأمريكية , من حيث ضمان التبادل الاقتصادي , والتوافق السياسي , والتواصل الثقافي , بدلا" من ثقافة العداء والكراهية
اما بخصوص السؤال الثاني أي المعوقات :
1. ان أمريكا تريد حقا" الاصلاح في العالم العربي , لكنها مجبرة على التردد في دعم المسار الديموقراطي بسبب خطر الاسلاميين المحدق , اذ أنهم قادرون على استلام السلطة في حال حدوث انتخابات ديموقراطية , وهذا ما لاتتمكن الادارة الأمريكية من الموافقة عليه , وتجربتا ايران والجزائر نصب الأعين .
2. الاسلام السياسي المتطرف لايتمكن –بحكم مآل خطابه الديني وطبيعة ايديولوجيته السياسية – من التحالف مع أمريكا أو وجودها العسكري في المنطقة العربية , لذلك هي مضطرة لمواجهتهم ولو بالعنف أو الاسلوب غير الديموقراطي .
3. في حال وجود المناخ اليموقراطي , واستلام الاسلاميين الحكم , سوف يؤدي ذلك الى قلب ميزان القوى الاقليمي والعالمي ضد أمريكا , وهي لن تسمح بذلك حتى لو أدى ذلك الى خرق مبادىء الديموقراطية حيثما اقتضى الأمر .
باختصار الدور الأمريكي في عملية الاصلاح والتغيير الديموقراطي في الشرق الأوسط يعاني من مأزق ناتج عن التوزع بين موقفين متعا رضين : هناك ضرورات للتغيير الديموقراطي وهناك معوقات له بنفس الآن . لذلك لاغرابة في أن تعلن أمريكا مبادرتها للشرق أوسط الكبير محتقرة دور الحكام العرب في الاصلاح , وبنفس الوقت تقول أن التغيير يجب أن يكون ((نابعا" من الداخل )) , وهنا تلتقي مع هؤلاء الحكام . وهذا هو المأزق .
الأنظمة العربية – المفيوزية والعقيدية والعلمانية
أزمة الخطاب السياسي العربي هي امتداد لأزمة الخطاب الثقافي فيه , دلك أن هذا الأخير يعاني من فصامية : فهو عقلاني حديث في آن وتقليدي غيبي في نفس الآن . هذا التراكب بين الحداثة والقدامة في قوام الثقافة العربية يمتد ليتجلى على مستوى الخطاب السياسي . لذلك , ترى النخبة العسكرية الحاكمة في العالم العربي تواجه التغير الديموقراطي أو مشروع (( الشرق اوسط الكبير )) الذي يطرحه الغرب بشعارات سياسية متهافتة , تنطوي على مسلمات التفكير الحديث الى جانب مسلمات التفكير التقليدي , مثل : الدفاع عن الهوية , والخصوصية , والتراث , والسيادة ... الخ . وعندما يختبىء الحكام العرب وراء هذه الشعارات ليبرروا ممارسة القمع والتسلط على الناس والعقول , يزعمون أن شعارات الغرب ومشاريعه حول الديموقراطية , مزيفة وتتستر على((أهداف سياسية واقتصادية )) .
واذا ما طرح سؤال : لماذا لا تقطعوا الطريق على الغرب وتتيحوا الحريات , فيواجه بمزعم (( الخصوصية )) الواهي , كما لو أن الديموقراطية , كجكم من قبل الناس وبدون وصاية عليهم , تتناقض من حيث المبدأ مع خصوصية المجتمع العربي . من هنا يتولد الفكر التآمري والتهمي , مثل تهمة (( العمالة للغرب )) و (( الخيانة للوطن)) ... الخ ضد كل من يقول بأن هناك التقاء بين مصالح الأمريكيين والشعوب العريية فيما يخص الديموقراطية . وفي هذه الدائرة من التفكير , لا غرابة في أن تلتقي جميع القوى التسلطية العربية مع بعضها البعض مثل التقاء القوميين التقليديين مع الاسلاميين تحت يافطة الدفاع عن التراث والسيادة الوطنية , أو الكفاح ضد (( العولمة)) و (( الامبريالية )) !! وفي الاطار عينه تتشكل تحالفات هذه القوى مع قوى خارجية , فجميعها ترى في المشروع الأمريكي للاصلاح الديموقراطي أداة من أدوات (( محاربة الاسلام الحنيف )) , كما جاء في تصريح شمخاني وزير الدفاع الايراني .
ان الحاكم العربي لايستطيع أن ينفتح على ديموقراطية فعلية , لأنه يدرك لاشرعيته , لذلك هو يصر على تسلطه من أجل سلطته , فمن أين له أن يكون ديموقراطيا" , وهو الذي لايستطيع أن يستغني عن فكرة أبدية السلطة له ولعائلته , ثم من أين للحاكم العربي الذي يجمع في شخصه وخطابه ثلاثة اتجاهات في آن واحد : المافيوزية والعقيدية والعلمانية , من أين له أن يكون ديموقراطيا" وهو يعرف ويرى أن المجتمع الذي يحكمه مكتسح من قبل الاسلاميين الذين ينتظرون الديموقراطية لكي يقفزوا الى كرسي الحكم . باختصار : تمنع الحاكم العربي ارتباطاته بالفساد والفاسدين من قبول الشفافية والعلنية , كما أن نزوعه العلماني يفرض عليه محاربة الاسلاميين , وفي الوقت عينه يلزمه انتماؤه العقيدي الدفاع عن الاسلام , ولذا ارتكز الدستور الذي أصدره على مبدأ اسلمة التشريع .
ان الحاكم العربي يجد مهمته الأساسية في منع طوفان الكارثة التي يعيشها العالم العر بي من الوصول اى كرسيه , كما حدث في العراق . لذلك ترى موقفه من مشروع الاصلاح والديموقراطية يتذبذب تبعا" لضرورات احتياز القوة والمحافظة عليها لكي يجافظ على حكمه . فهو , اعلانيا" , يؤكد على أنه ديموقراطي , وكذلك نظامه , لكنه عمليا" ليس في مكنته أن يخترق خطابه التوتا ليتاري وممارسته السياسية التسلطية , لأنهما يشكلان أساس وجوده واستمراره . من هنا تراه يماطل ويسوف في اتاحة المجال للشروع ببناء الديموقراطية . ولعل أوضح تجل للتهرب هو المبادرة الكلامية السطحية للا صلاح التي تقدم بها النظام العربي ليواجه المبادرة الأمريكية , وذلك بدلا" من ممارسة الديموقراطية بدءا" بالغاء حالة الطوارىء , واصدار قانون الأحزاب والصحافة , واعطاء ضمانات لحرية الرأي والتعبير , وتداول السلطة سلميا" . .. الخ
قوى التحديث :
ضعف قوى التحديث في العالم العربي يتجلى في ثلاث وقائع رئيسة : غياب الأحزاب السياسبة الديموقراطية , ضعف مؤسسات المجتمع المدني , محاصرة المثقفين التنويريين . فالسلطات السياسية المستبدة التي تشكلت بعد رحيل الاستعمار في أواسط القرن العشرين , منعت تشكيل الأحزاب السياسية الديموقراطية , اما بسبب سيطرة الديكتاتوريات العسكرية القومية ( تجربة عبد الناصر , مثلا" ) , أو بسبب الحظر الرهيب الذي مارسته السلطات الثيوقراطية ( الخليج مثلا" ) , أو بسبب قوة الاستقطاب السياسي للخطاب الديني الاسلامي , أو أحيانا" , لهذه الأسباب مجتمعة . كما أن الطغيان السياسي واحتكار السلطة ووحدانيتها التهم فسحة العقل والاجتماع , لذلك انتفت امكانية تشكل المجتمع المدني ومؤسساته . فالأحزاب مفصلة على قدر قامة الزعيم وضرورات تأييده في الحكم , والنقابات العمالية والاتحادات النسائية والطلابية هي الأخرى التحقت بالزعيم ((القائد)) , (( الرمز )) , فان هو اشتكى بكت وان تعثر وقعت . ولايسلم حتّى الأطفال من عملية التنميط والأقلمة مع بيئة الحاكم الواحد في ديار العرب , فاستحق عليهم أن يقدسوا اسمه ويغنوا لمجده . وليس حظ المثقفين الحداثيين التنويريين بأفضل في عالمنا العربي , فهم يواجهون حصارات واضطهادات مروّعة , من القتل الى السجن والتعذيب , الى المحاربة بلقمة العيش , كل ذلك بسبب ابداء رأي أو القاء محاضرة أو كتابة مقال أو كتاب يختلف عن توجه الحاكم وبطانته الفاسدة ((ورعيته)) الدهماء .
ولا يفهمن من هذا أن السلطة السياسية العارية لوحدها في العالم العربي قد ولّدت كل هذا الضعف والخراب في قوى التحديث , بل هو حصيلة عامة لمجموع عناصره التكوينية وشبكة علاقاتها, سواء أكانت ممارسات ثقافية تقليدية , أم حصارات اقتصادية , أو تحالفات بين السلطات العسكرية والسلطات الدينية .
واذن , قوى التحديث ضعيفة وعاجزة على صعيد التغيير الديموقراطي في العالم العربي , ليس فقط بسبب ظروف تكونها التاريخي , وانما أيضا" بسبب الحصارات الراهنة والتهم السياسية والأخلاقية المعدّة لها المانعة لانتشارها وتقويتها . فأنظمة الحكم الاستبدادية تعتبرهم عملاء للغرب وخونة للوطن ! والأصوليون يعتبرونهم ملاحدة علمانيين معادين للدين والوطن .
الخلاصة :
ان القوى الأساسية اللاعبة في العالم العربي عاجزة عن احداث اصلاح ديموقراطي , وما الأزمة الخانقة التي تطبق على عالمنا العربي , أو المشهد الفظائعي الذي نعيش , أو الأفق المغلق الذي نواجه , الا كوارث مستحقة لخطاباتنا ومماراساتنا . والغرب , وعلى رأسه أمريكا , كلاعب خارجي , يواجه مأزقا" في تقديمه المساعدة لنا للخروج من هذه الأزمة . وسوف يكون عالمنا العربي محظوظا" لو تمكن اللاعب الخارجي من اختراق العقبات الواقفة أمامه , ليتسنى له المساهمة في احداث التغيير والاصلاح الديموقراطي .ان الديموقراطية لايبنيها الله ولا الديكتاتور , ولا المثقف , بل هي حصيلة مما رسة الأفراداليومية في المجتمع التي تنطلق من نظام معرفي حرّ , منفتح على التساؤلية والروح النقدية . اذا انفتح العالم العربي على هذا الأفق ستتوافر له امكانية الشروع في التغيير والاصلاح الديموقراطي , والا ستكون الكوارث القادمة أفظع واشمل .
د . مقداد عبود
#مقداد_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟