(رد علي عادل حسين)
( ُنشرت فى"الراية العربية" – العدد – 1986 – رقم الإيداع بدار الكتب المصرية:7232/86 )
مقدمة
يستهدف هذا المقال نقد كتاب عادل حسين: نحو فكر عربي جديد، والذي صدر حديثا عن دار المستقبل العربى .
ليس معني هذا ان المؤلف هو المستهدف من هذا النقد. يعرف القارئ ان عادل حسين هو أحد المساهمين في تيار ثقافي حديث اشتهر باسم "التراثيون الجدد" . . وربما لا ُيعد المؤلف أهم أو أبرز المتحدثين باسمه، غير ان كتابه يحوي خصوصيات تستدعي ان يفرد لنقده، مقال خاص، ففيه اختلطت"الاشتراكية الناصرية" ب"التنوير الجديد"، مع حملة شعواء شنت لا ضد الماركسية فحسب وإنما ضد العلوم الاجتماعية بصفتها كذلك .
ويختتم عادل حسين كتابه بدعوة للتأليف بين تيارات متصارعة في الواقع، من أجل تحقيق تنمية مستقلة ترتكز علي مشروع بعث حضاري مستقل. وليست الإشكالية في التأليف (أو التوليف) في حد ذاته، وإنما في ارتكازه علي مبدأ شمولي عقلي يبرر نفسه بنفسه (عن طريق الإيمان) ،ألا وهو نفي أي قيمة علمية لمنجزات العقل البشري في مجال العلوم الاجتماعية، وما يترتب عليه من رفض أي تصور عام لحركة التاريخ العام، أو استخدام مثل هذا التصور كإطار للتنظير للواقع المحلي، وما يترتب علي هذا الأخير من مشاريع سياسية عملية. فعلي عكس محاولة هيجل الفلسفية العملاقة وحد هذا المبدأ بين المطلق والنسبي لصالح الأخير توحيدا تاما ، وفي إطار. . هو في التحليل الأخير براجماتي تجريبي وذلك بتوحيده المبادئ العامة لحركة التاريخ والفكر البشريين، مع الأوضاع المحلية في إطار منظور محلي للعالم مرتكز علي أسس شكلية "حضارية" . وبدلا من ان يجزع عادل حسين من خطورة الأزمة النظرية العالمية الراهنة،مثلما يتوقع المرء من كل من يبدي رغبته في الإسهام في تغيير العالم، يعتبرها فرصة يهتبلها من أجل تدعيم منطلقاته النظرية اللاعقلانية جاعلا من الضرورة –الأزمة فضيلة مطلوبة لذاتها!
وأهم ما يعنينا في هذا المقال، كشف تناقضات محاولة عادل حسين إضفاء طابع ثيولوجي (ديني) علي الحركة القومية العربية المعاصرة في مشروعها المستقبلي، وكشف الأسس النظرية لهذه المحاولة ألا وهي لي مفاهيم الحركة التاريخية – الاجتماعية للبشرية ليا عنيفا ، علي حساب العقلانية والمنطق ولصالح أيدلوجيا معادية للتفكير العلمي .
وكيلا يساء فهم هذا النقد، نشير منذ البداية إلي اننا نتفق مع الفكرة القائلة بمحورية الشعار القومي في أي مشروع يستهدف إنهاء حالة التخلف-التبعية في الوطن العربي واننا نرحب- في حدود معينة- بسعي المؤلف وغيره من التراثيين الجدد لإضفاء طابع "عقلاني" علي الحركة السلفية المعاصرة ،ودفعها لبلورة أهداف سياسية واجتماعية واقتصادية تتفق مع مصالح الشعب الكادح. قد تكون ثمة أهداف مشتركة، إلا أن الطرق تختلف . . وإذا كانت الطرق كلها تؤدي في زمن مضي إلي روما ، فان طريق عادل حسين وصحبه متشعب، ويؤدي –كاحتمال مرجح- إلي جهنم رغم كل النوايا الحسنة.
أخيرا . . لا نملك إلا أن نشكر للكاتب بمطالبته ناقديه عدم الركون إلي المسلمات، بل فحصها ومناقشتها، الأمر الذي لن يعفيه طبعا من المسلمات الباطنة ضمنا في تحليلاته ونقدها.
1-المنطق الداخلى ل"الفكر العربى الجديد"
إذا جاز لنا ان ُنجمل "الفكر العربي الجديد" في كلمات قليلة ، قلنا انه فكر يستهدف وضع الحركة التاريخية للتحرر من سيطرة الامبريالية في الوطن العربي في إطار عربي – إسلامي "حضاري"، بوصفه إطارا حتميا ضروريا . . الأمر الذي لا يعكس في نظر الكاتب " جو الهزيمة الحالية ، ولكن يعكس اكتشاف مفهوم أعمق لمضمون للتنمية الاقتصادية المستهدفة "(ص83)[1] وقد تضمن طريق الكاتب نحو هدفه، تمزيق أوصال مفهوم التخلف- التبعية، أي اعتبارهما مفهومين مختلفين تماما، الأمر الذي أدي إلي إغفال ُبعد الصراع الاجتماعي كبعد محوري في تحليل ظاهرة التبعية، وفي مشروعه للتحرر منها علي حد سواء. ومن ثم قام الكاتب بإحلال مفهوم الاستقلال الحضاري محل الصراع الاجتماعي الفعلي، الأمر الذي أدي بدوره إلي إنكار وحدة التاريخ والفكر البشريين، وبالضرورة كانت محصلة " الفكر العربي الجديد" إنكار إمكان وجود نظرية علمية قادرة علي تفسير الظواهر البشرية علي امتداد التاريخ في الزمان والمكان . لقد صارت الحضارة هي وحدة التحليل التاريخي . . وكل وحدة (حضارة) متفردة بذاتها ،ومغلقة علي ذاتها وتحوي كل منها تاريخها الخاص المتفرد ، وبالتالي نظريتها وعقلانيتها، ومشروعها الحضاري .
لقد استخدم الأستاذ عادل حسين منهجا معينا لعرض فكره الجديد ، ينتقل بصفة عامة- مع بعض التشتت- من البسيط إلي المركب ، غير ان منهج العرض يختلف عن منهج الفحص والنقد، ومن ثم اضطررنا إلي إعادة عرض أفكار الأستاذ عادل حسين بشكل أكثر ترابطا ووضوحا، بترتيب مقولاته من المركب إلي البسيط - أي بطريقة التحليل- بهدف فحص المنطق الداخلي لأفكاره ككل والكشف عن المسلمات الباطنة فيها. لنشرع في ذلك[2] .
ربما تجدر الإشارة إلي ان الحقبة الناصرية تعد من أهم مصادر إلهام مشروع الاستقلال الذي يطرحه الفكر العربي الجديد ، وبالتالي كان لها تأثير كبير في تحديد مفاهيم التبعية والاستقلال، فالتجربة الناصرية رغم" قصوراتها . . كانت في خطابها العام توجها جادا باتجاه الاستقلال و باتجاه البعث القومي العربي " (ص121).
غير ان الحقيقة الكبرى التي تخيم –دون شك- علي الناصرية هي سقوطها، رغم الاختلاف في تحديد تاريخ هذا السقوط. ولما كانت الحقبة الناصرية توجها جادا، إلخ، لم يعتبر عادل حسين سقوطها حتميا :"فأية ثورة يمكن ان تنتكس لأسباب من خارجها أو من داخلها"(ص193). صحيح ان كاتبنا ينعي علي الناصرية عدم كفاية ما أحدثته من تغيرات اجتماعية، الأمر الذي أدي لتبديد الفائض ونمو لاحق للأنشطة غير المنتجة (ص189)، وان الطبقة المالكة كانت" أكثر ترهلا وأقل تجانسا مما تتطلبه المهام الثورية" (ص181)، إلا أنه عاد وتحفظ ممتدحا إبقاء الناصرية علي قطاع خاص يحصل علي " نسبة كبيرة من الدخل المحلي الإجمالي… لانعكاساته الإيجابية) علي الديمقراطية السياسية" . (181) وفي كل الأحوال لم يعط عادل حسين انتقاداته علي التركيب الاجتماعي للمجتمع في ظل الناصرية دلالة هامة في تفسير سقوطها.
ولعل مما يلقي الضوء علي توجهات" الفكر العربي الجديد" ان نورد " القصورات" التي أخذها علي الناصرية دون تحفظات واستدراكات . . انها لا تزيد عن نقد موقفها المعادي للديمقراطية والنخبة والسياسية المؤيدة لأهداف "الثورة" (ص247،254)- دون إجراء أي محاولة لفحص أسباب هذا الموقف- وانها" لم تسلط الضوء على ( البعد الإسلامي الحضاري للاستقلال) بدرجة كافية، ولم تتولد عنه بالتالي كل النتائج الكبيرة المتوقعة" (ص202). وهذا الأمر الأخير وحده- وليس طبيعة النظام الاجتماعية- هو الذي استحق ان يوصف بأنه ". . عنصر ضعف خطير في التجربة الناصرية" (ص203). وسنري كيف سيطور الأستاذ عادل حسين الناصرية بعد تطعيمها " بعنصر الضعف الخطير "، تطويرا "خلاقا" علي حساب أي مفهوم علمي لحركة التاريخ .
وأول ما يعنينا في دراسة هذا التطوير ، تصور الكاتب عن التبعية . أما عن عملية نشوء التبعية ، فهي "عملية انهيار العلاقات القديمة بغير انتظام أمام زحف السلع ورءوس الأموال المستوردة، بمعني ان تصفية العلاقات القديمة لا تتزامن ولا تتسق – في الأساس – مع نمو وإبداع قوي الإنتاج المحلية "(ص93). ولا يعتقد عادل حسين ان حالة الدول المتخلفة " مجرد حالة تخلف زمني ، فقد تحولت حالة مركبة بفضل الاستعمار الأجنبي …فعملية استنزاف الموارد من الدول (النامية) ما زالت مستمرة، ومعدلات التنمية وأنماطها مازالت مشروطة بقرارات المركز ( دول الشمال المتقدمة) ووفقا لمصالحه، وتطلب هذا تحوير الأبنية المحلية علي نحو يرسخ التبعية ويعوق التنمية المستقلة"[3] (ص53).
ومن ثم يعين عادل حسين قانون التبعية " انه بقدر اختلال العلاقة بين نمط الإنتاج وبين القدرة الذاتية علي إشباع هذا النمط ، يفتح الباب أمام التشوهات الهيكلية والتبعية. . . " [4] . ويستطرد موضحا أبعاد هذا الاختلال : " هذه السيطرة(سيطرة الشركات الأجنبية العملاقة ) من خلال فرض نمط الاستهلاك ، قد تكون أعمق في نتائجها من مشاركة أصحاب الأعمال المحليين… وحتي رأسمالية الدولة (يقصد حالة تأميم بعض قطاعات الإنتاج) تستمر خاضعة لنفس الضغوط التي تولد التبعية، إذا لم يتغير نمط الاستهلاك المستورد تغيرا جذريا") [5] ص65). ولا ينسي كاتبنا ان يشير إلي دور البنية الاجتماعية في البلدان المتخلفة نفسها :" الطبقة المسيطرة في الدول النامية وقطاعها الحديث ليست مستقلة ولا تقود تنمية " (ص63). ومن ثم "يستلزم الاستقلال بناء هيكل صناعي متكامل داخليا ومتكامل مع قطاعات الاقتصاد القومي الأخرى وفي مقدمتها الزراعة ومتسق مع أهداف المجتمع الاجتماعية والحضارية… فهذا الهيكل الذي يبني علي أساس من الاعتماد علي السوق الداخلية التي تفتحها إستراتيجية الوفاء بالاحتياجات الأساسية (أي احتياجات القطاع العريض الكادح من الشعب)، يتضائل اعتماده علي التجارة الدولية غير المتكافئة مع الدول الرأسمالية، ويمكن ان يخرج من قبضة الشركات المتعددة الجنسية"[6]. ما معني هذا ككل ؟ معناه ببساطة تبني إستراتيجية فك الارتباط – علي حد تعبير سمير أمين – وتحديد الفئات الاجتماعية المسيطرة عدوا رئيسيا ، كأداة للامبريالية ، لابد من ان تجابهه أي حركة سياسية تستهدف الاستقلال ، وانهاء وضعية التخلف – التبعية . ورغم اختلافنا حول مدي دقة استخدام بعض المصطلحات في هذه النصوص التي أوردناها، إلا أن هذا كله حسن.
يصيح بنا الأستاذ عادل حسين قائلا: أيها المزورون. . ليس هذا هو " الفكر العربي الجديد" ! هذا صحيح ! ولكنه ليس خطؤنا . . فما ذنبنا إذا كان منطق " الفكر العربي الجديد" يناقض نفسه، وينقض في المساء ما غزله في الصباح؟ وإليك كيف اقتفي عادل حسين خطواته عائدا من حيث أتى!![7]
أولا: إفراغ التبعية من محتواها الاجتماعي: يميز الكاتب بين التخلف والتبعية ويعتبرهما ظاهرتين مختلفتين تماما …" رغم التسليم بقوة الرابطة بينهما. فالتخلف الاقتصادي قد ينشأ في بلد ما بدون استعمار أو سيطرة خارجية " (ص5) . وأوضح ان هذا الفصل يتناقض مع تقريرات الكاتب السابقة بصدد تحليل التبعية ، واعتبار التخلف " ليس مجرد تخلف كمي …إلخ" عائدا بذلك إلي تصورات البنك الدولي والدوائر الامبريالية في العالم عن طبيعة التخلف . . الأمر الذي يبرر نموذج التنمية بالانتشار الذي تطرحه هذه الدوائر والذي يرفضه عادل حسين . ليس هذا التناقض من قبيل الصدفة أو زلة القلم، وإنما كان ضروريا لإفراغ ظاهرة التبعية من محتواها الاجتماعي ، تمهيدا لتحويلها إلي ظاهرة " تسلط حضاري "[8]، الأمر الذي يتفق مع أهداف الكاتب .
كذلك سمح هذا الفصل لعادل حسين يطرق بجدية " احتمال استمرار التبعية بأشكال أخري داخل مجموعة دول اشتراكية "(ص54). . فلما كانت ظاهرة التبعية مفرغة من أي محتوي اجتماعي ، صار تغير علاقات الإنتاج عديم الدلالة بالنسبة لها، إلا من حيث تغير " الاشكال" . [9] ماذا يعني هذا ؟ انه يعني ان ظاهرة التبعية التي يفحصها الكاتب لا تعني بالنسبة له سوي الهيمنه السياسية، مضافا لها علي أكثر تقدير النهب الاقتصادي ، ودمتم !
ثانيا : إعادة الاعتبار للملكية الخاصة: فيتحفنا عادل حسين بالآتي : ان " مسألة اعتبار الملكية الفردية لوسائل الإنتاج مصدرا للشرور والاستغلال بطبيعتها، وينبغي تصفيتها بالضرورة …ليست من المسلمات " (ص84). وعليه : " لا يشترط بالضرورة من أجل تنمية مستقلة تصفية فئة رجال الأعمال الزراعيين وإهدار كفاءتهم كمنظمين ، بل ان دورهم إيجابي ومهم إذا كانت دخولهم الأعلي تعتمد علي المركز الداخلي ومؤسساته وسياساته (ص200). ولا يري عادل حسين في ذلك ما يناقض استراتيجة إشباع الحاجات الأساسية ،حيث قرر ان الأخيرة " لا تعني المساواة في الدخول أو ملكية الأصول" (ص74). هذا إذن هو المحتوي الاجتماعي لمشروع " الفكر العربي الجديد".
لاشك اننا بإزاء طبعة منقحة "حضارية" من نظرية البرجوازية الوطنية غير المأسوف عليها ويكمن التنقيح في اننا لسنا بإزاء برجوازية قومية معطاة سلفا- لا تنسي إشارة عادل حسين إلي تبعية الطبقة المسيطرة- وإنما نحن بإزاء افتراض مؤداه انه يمكن إعادة " تربية " هذه الطبقة المسيطرة بحيث تنحاز إلي نموذج التنمية المستقلة. . لسنا بصدد برجوازية مستقلة وأخري تابعة، وإنما بإزاء عملية تحويل"حضاري" لبرجوازية تابعة إلي برجوازية وطنية :" كل الطبقات والفئات الفاعلة داخل النسق (المستقل)، وخصوصا أصحاب الدخول العليا ينبغي ان تنقطع روابطها العضوية بالخارج، أي ينبغي ان تعتمد اعتمادا مطلقا في دخلها وامتيازاتها ومصالحها علي الداخل . هذا هو القيد الأول علي أصحاب الدخول الأعلي في نسق مستقل. والقيد الثاني هو ان التفاوت المسموح به بين الدخول ينبغي ان يخضع لضرورات الحرب المتواصلة والتنمية. . تحكما في انماط الاستهلاك وتحديدا لمعدلات الزيادة في الاستهلاك " (ص180). ويعترف كاتبنا بأن ذلك لا يعدو ان يكون مطالبة لهذه الفئات بضبط النفس والصبر، الأمر الذي لا يضمن النتيجة إزاء الضغوط الخارجية، ومن ثم ماذا يا تري ؟ لابد من طرح سؤال عويص علي هذه الفئات بكل جدية،ألا وهو: " لماذا نستهلك (س) ( أي المنتجات الغربية) ؟" هذا هو الحل المعجز! هذا السؤال- علي ألا ننسي ان نطرحه بكل جدية – سيتيح " جوا يسمح بالصبر وقبول التضحية" (ص74)! من أجل هذه التوقعات المتفائلة بصدد رقي الروح العربية – الإسلامية للفئات المالكة يقترح الأستاذ عادل حسين علي الجماهير العربية ان تواصل حمل نير هذه الفئات علي أعناقها وان تحافظ لها علي امتيازاتها، ويتعهد لهذه الجماهير – من جانب آخر – بأنه سيطرح علي هذه الفئات بدورها" السؤال المناسب" الذي سيقنعها بعدم تقويض مشروع الاستقلال الحضاري المنتظر !
ثالثا: تجاهل المحتوي الاجتماعي للدولة: يؤكد لنا الأستاذ عادل حسين ان " دور الدولة في البلدان التابعة أساسي لحماية تجربتها في التنمية من العالم الخارجي ( لأنها تواجهه) من موقف الدفاع الاستراتيجي … ويتطلب ذلك ان تعمل الدولة كمؤسسة مركزية تستخدم استخداما أمثل الكفاءات البشرية النادرة في المجالات العلمية والفنية والاقتصادية والإدارية، بنفس منطق الحاجة إلي تركيز الكفاءات العسكرية في مؤسسة واحدة … ويعني ذلك ان منطق الاستراتيجية ( أي استقلال) يؤدي بالضرورة إلي سيطرة السلطة المركزية علي مفاتيح الاقتصاد القومي… دون ان يعني ذلك دعوة لتصفية القطاع الخاص، بل لعلنا ندعوه إلي عكس ذلك في إطار المحددات المفروضة" (ص ص58-59). لدينا إذن دولة تتحكم في الكفاءات البشرية النادرة والهامة، في نفس الوقت الذي تنمي فيه القطاع الخاص، وتضع محددات معينة تحد من دخله كما وأوجه صرفه كيفا، ولا " يتورع" هذا القطاع الخاص رغم كل هذا عن دعمها !.
وحتى نفهم أصول هذه التناقضات لابد من إلقاء نظرة علي تعريف عادل حسين للدولة : يري الكاتب ان الدولة هي " المجتمع محكوما مركزيا" وهذا الحكم " ضرورة موضوعية " . . هكذا بشكل مطلق فوق تاريخي Transhistarical متجاهلا ان البشرية عاشت أغلب تاريخها علي سطح هذا الكوكب بدون هذه الضرورة الموضوعية المزعومة. كذلك يري كاتبنا ان النخبة الحاكمة" تضع مصالح الطبقة الحاكمة في المرتبة الأولي من اهتمامها، ولكن دون ان تتخلى عن النظرة الأبعد" ، الأمر الذي يوحي بأن هذه النظرة الأبعد تختلف عن مصالح الطبقة الحاكمة ( من حيث المفهوم) ، أي انها مصالح غير طبقية من حيث الجوهر. ومعني هذا ان الدولة جهاز للتوازن الاجتماعي. وتؤكد الجملة التالية اننا لم نسئ الفهم: " الصراع بين الأقلية والغالبية ليس السمة الأساسية والغالبة للمجتمع …وان الدولة بالتالي (ليست) مجرد جهاز مؤسسي للقمع " (ص ص229-230) . لاشك انه يمكن تدبيج آلاف الصفحات في تعداد وظائف الدولة في المجتمع عبر التاريخ، ولكن هل معني هذا ان الدولة من حيث الجوهر ليست جهازا مؤسسيا للقمع لصالح الطبقة المسيطرة ؟ ومن الواضح ان مفهوم القمع عند عادل حسين بالغ الضيق. ليست الدولة بالقطع مجرد أداة للقمع العسكري والسياسي ولكنها أداة للقمع بوجه عام : القمع الاجتماعي شاملا كافة ألوان التحكم والسيطرة ، والذي قد يتضمن القمع العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي …إلخ ، والتي تستند جميعا – في التحليل الأخير- إلي احتكار العنف المسلح المنظم . فالدولة هي أداة للهيمنة لصالح طبقة معينة: مصالحها قصيرة المدي والأبعد مدي أيضا .
رابعا : إبدال مضمون اقتصادوي- قومي – أيديولوجي بالمضمون الاجتماعي للتحرر:
يجزم عادل حسين باستحالة إنجاز واستكمال مشروع التحرر من الامبريالية في أي قطر عربي علي حدة ، الأمر الذي يتضمن ان الصراع الاجتماعي في حد ذاته لا يكفي لإنجاز مشروع التحرر: " ان الهيكل الاقتصادي الموروث يحتم علي أي قطر ان يعتمد اعتمادا أساسيا علي علاقاته الخارجية في إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيه ولتنميته . وهذا هو الأساس الموضوعي لاستمرار التبعية ، والذي لا ينفيه مجرد تغير في ملكية مفاتيح الاقتصاد والمتاح علي مستوي قطري هو ان يعتمد علي الكتلة الأخرى ( الكتلة الشرقية أو الاشتراكية ) في حل مشاكل هيكله الاقتصادي المشوه والعاجز … من موقف الضعف … وهو ما نسميه عودة إلي تبعية من نوع آخر " (ص84). فلنلق نظرة متفحصة علي هذا " الأساس الموضوعي" :
يحدد عادل حسين أسباب عجز الأقطار العربية، كل منها علي حدة ، عن إنجاز التنمية المستقلة ب" التشوه الكامن في كل هيكل …والنقص الموضوعي في الموارد الطبيعة والبشرية اللازمة للجهد التنموى الشامل …فضلا عن ان مشروع التنمية المستقلة يلقي حربا من كل القوي المسيطرة علي النظام الدولي (بدرجة أو باخري) ولا ننسي إسرائيل" (ص85).
هكذا صارت قضية الاستقلال قضية موارد اقتصادية لا أكثر ، أو بالأكثر يضاف إليها ُبعد استراتيجي ( مواجهة القوي المسيطرة علي النظام الدولي) . صحيح ان الكاتب يعود فيؤكد" ان المشروع المطروح لدينا ( أي الوحدة العربية) ليس تكاملا في تجمع إقليمي، وإنما توحيد قومي يستند إلي مشروعية ( تاريخية) ويتم من خلاله ولدعمه توحيد قومي اقتصادي، وباتجاه الاستقلال الحضاري" (ص87)، ولكن السياق يجعل هذه المشروعية مجرد صدفة أو حظ حسن للمنطقة العربية لا أكثر ، ما دام مشروع الاستقلال يستند أصلا – أو أساسه الموضوعي بتعبير عادل حسين – إلي قضية كفاية الموارد ، يرافقها من غير ضرورة واضحة ،بعد قومي في حالة المنطقة العربية .
ومما يثير الدهشة ان يعتبر كاتبنا دولة مثل اليابان دولة غير تابعة ، وهي التي تعتمد إلي أقصي حد علي البلدان الأخرى وعلي السوق الدولي في الحصول علي احتياجاتها من الموارد الطبيعية ! وإذا قمنا بمد فكرة كفاية الموارد علي استقامتها لوجدنا أنفسنا نتجاوز فورا الفكرة القومية، فلتتحد كل الأقطار فورا لتحقيق أكبر قدر ممكن من كفاية الموارد . . فلنتحد مع بورما أو البرازيل أو أي بلد تابع آخر من أجل الاستقلال .
ويقرر عادل حسين:" ان الإسلام وحضارته هو أساس العقيدة التي تذيب الحدود (بين الأقطار العربية) وتبرر الوحدة، بل هو أساس العقيدة التي تجعل الجهاد من أجل الوحدة جهادا مقدسا" (ص91). هكذا استبعد الكاتب الصراع الاجتماعي من جدول أعمال حركة التحرر العربية ، وأعطانا قاطرة قومية – حضارية تستند إلي الدين .
بهذه الخطوات الأربع ، استكمل عادل حسين تراجعه المنتظم نحو مشروعه العربي – الإسلامي للتحرر ، بثمن فادح : تفريغ ظاهرتي الاستقلال والتبعية من المضمون الاجتماعي.
ويمكن إيجاز المشروع العربي الجديد كالأتي : توحيد الأمة العربية علي أساس العقيدة الإسلامية بهدف إحداث تنمية مستقلة ، ونشر الرسالة الروحية للأمة العربية التي هي الإسلام. وسيتم ذلك في مواجهة الغرب المعادي لنا بطبيعته الحضارية أما طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي الذي سيقام في ظل الاستقلال ، فأمر يحدده هدف الاستقلال نفسه، مع التركيز علي الإبقاء علي المشروع الفردي ، وبالتالي العمل علي تحجيم الصراع الاجتماعي والسيطرة عليه .
لم يكن ممكنا ان يعرض لنا عادل حسين تراجعه، بوصفه " اكتشاف أعمق لمضمون التنمية المستهدفة"(ص83)، دون الهجوم المركز علي النظرية الماركسية التي حملت لواءها كل الأحزاب – تقريبا – التي نجحت في تحقيق الاستقلال لبلادها في مواجهة الامبريالية . وكان لابد له أيضا من ان يعيد تفسير نجاحاتها هذه في ضوء تفسيره" الحضاري" للتاريخ .
أولا : الهجوم علي نظرية القيمة – العمل : " ان تحدد القيمة بالعمل الاجتماعي وحده ودون إدخال للأرض أو الطبيعة في الحساب ، يعكس المبالغة في دور الإنسان داخل العقيدة الدنيوية . . [10] ولم يكن صدفة ان ابن خلدون وصل إلي تصور مختلف للقيمة يتحدد بما يقدمه العمل الاجتماعي والطبيعة معا . . فهذا بدوره يعكس مفاهيم العقيدة الإسلامية " (ص37). ليس هناك – إذن- مفهوم موضوعي للقيمة ، فقط هناك وجهات نظر حضارية ! ويرى الكاتب" ان هذا الاعتماد لفرض القيمة - العمل أوقع التحليل الريكاردى والماركسي في ارتباكات ومفارقات يصعب الخلاص منها . ولكن ما يعنينا ( أي عادل حسين ) هنا هو ملاحظة العلاقة بين هذا الفرض ( الذي يبدو لدينا خاطئا وغير واقعي ) وبين العقيدة الدنيوية" (ص37) . ولا ندري حقا ما المقياس الذي يعتمده، الكاتب في تقرير خطأ هذا المفهوم، ما دام المفهوم لا ينظر إليه إلا من حيث كونه متسقا أو غير متسق مع عقيدة ما ؟!
ثانيا : إعادة تفسير نجاحات الأحزاب الماركسية في ضوء النظرية الحضارية : يقرر عادل حسين " ان الاشتراكية في بلد متخلف اقتصاديا كان ضد المنطق الداخلي في نظرية ماركس … ان الاشتراكية في نموذج ماركس كانت حلا حتميا (وبالتالي علميا ) للتناقضات الناشئة عن الرأسمالية وما حققته من تصنيع وليست أسلوبا بديلا في التنمية ، يحقق ما حققته الرأسمالية من تصنيع وفق منهج مخالف "(ص43) . ومن الناحية التطبيقية :" ما نلح في إثباته هو ان هذا النمط (أي النمط السوفيتي) وما شاكله) لا يمكن تبريره وفق النظرية العامة لماركس . بل ان التجارب التي تحمل اسم الاشتراكية (العلمية) في آسيا وأفريقيا ، وليس في أوروبا الغربية أو اليابان أو الولايات المتحدة يعتبر تحديا نظريا وتاريخيا خطيرا لنظرية ماركس. والاشتراكية العلمية التي تمارسها هذه التجارب تمثل مفهوما مختلفا تماما للمفهوم الغربي الذي حدده ماركس للاشتراكية العلمية " (ص45).
إلي هنا لا غبار ، فما زلنا في إطار المناقشة العلمية لقضية التحرر في البلدان المتخلفة . ولكن ان يقفز عادل حسين من هذه الانتقادات ليقرر ان " محاولة ماوتسى تونج كانت. . تهدف إلي بعث مركز حضاري مستقل ، وصراع التجربة الصينية مع الغرب بشكل عام ، ومع التجربة السوفيتية بشكل حاد وخاص ، كان في جانب منه صراع حول قيم حضارية …[11]"(ص75) فأمر غير مبرر منطقيا علي أى وجه ، وإنما هو استنتاج متعسف لا أكثر ، وينطوي علي تجاهل شديد للصراع الطبقي السياسي الذي دار علي أرض الصين لمدة نصف قرن دون انقطاع تقريبا ، حتى تحقق ما أسمه عادل حسين – دونما تعليل – الاستقلال الحضاري ، فضلا عن الأسس الموضوعية العديدة للصراع الصيني – السوفيتي . إما لماذا نجحت هذه التجارب دون ان ترفع شعار التنمية المستقلة إياه ، فأمر يفسره الكاتب بأن الإصرار علي هذا المفهوم لدى الثوريين في روسيا والصين لم يكن مهما " لأن كلا البلدين قارة بأكملها تحكمها سلطة سياسية واحدة . وهذه الحقيقة كافية تماما لضمان ان تكون التنمية مستقلة، أي متمحورة حول نفسها، ومعتمدة علي النفس في إشباع الحاجات الأساسية ، والتركيز عندهم علي أسلوب هذه التنمية عند تعريفها ، لم يكن مسببا لأي لبس ، طالما ان الأسلوب الذي يسمونه اشتراكيا تحقق ، أو يتحقق فعليا في إطار أوسع مما يعنيه هذا الأسلوب "[12] (ص86). فهذه البلدان حققت إذن تنمية مستقلة دون ان تدري تحت راية الثورة الاشتراكية.
ما هي محصلة كل هذا ؟ اننا بإزاء بلدان حققت التنمية المستقلة بأسلوب معين في التنمية يرفض الكاتب ان يسميه " اشتراكيا" (ص84-86) ، ويرفض أيضا ان يسميه شيئا آخر. حسنا ، ماذا عن البنية الاجتماعية القائمة في هذه البلدان ؟ لا شئ. مثل هذا التجاهل سمح للكاتب ان يقفز من التنمية المستقلة ، التي نعتقد انه يمكن تفسيرها بآليات الصراع الاجتماعي إلي الاستقلال الحضاري . هذا التجاهل سمح لعادل حسين ان يقرر ببساطة متناهية : " ان الاستقلال الاقتصادي والتنمية الاقتصادية المستقلة ، يعنيان ان يوجه الجهد التنموي بقرارات من الداخل، وبهدف إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين التي لا تحدد وفق مستوي القدرة الاقتصادية فقط ، ولكن تتحدد أيضا وفق المفاهيم الحضارية الحاكمة . ان التنمية الاقتصادية المستقلة – بهذا المضمون – هي المكون الاقتصادي الملائم لمشروع الاستقلال الحضاري …" ( ص85) .
وكالعادة ، يرافق هذا الانجيل الحضاري نظرة اقتصادوية للتحولات الاجتماعية الجارية في هذه البلدان مفرغة من محتواها الاجتماعي : " فمصطلحات التنمية الاشتراكية أو البناء الاشتراكي وفق مضمونها السائد ، لا تعني أكثر من أسلوب بالغ الأهمية فعلا في تعبئة الفائض الاقتصادي وفى تنمية الموارد بقدر كاف من التوازن والاتساق ، وبمعدلات مرتفعة ومنتظمة ( إلي حد كبير ) من خلال التخطيط المركزي … ولا يتضمن ( بحد ذاته) بالضرورة إنهاء التبعية " (ص84) . ليس مهما من وجهة نظر الفكر العربي الجديد ما إذا كانت هذه تنمية اشتراكية فعلا أم لا . فليست هذه التجارب في نظره سوي " أساليب ناجحة في تعبئة الفائض " بصرف النظر عن البنية الاجتماعية التي تتم من خلالها ولصالحها هذه التعبئة ، وطبيعة الطبقة أو المرتبة الاجتماعية السائدة . . يرافقها بعد حضاري هبط عليها من السماوات ، أو بالأحرى وفرته لها مساحتها الشاسعة . بهذه الطريقة يعتبر الكاتب ان النظرية الماركسية كانت عديمة الدور في نجاح هذه التجارب ، بل لعله يعتبرها كذلك لافتة معوقه . . لأنها خاطئة لا تسمي الاستقلال الحضاري باسمه " الحقيقي" خدمها الحظ الحسن!!
ثالثا: تنحية مفهوم نمط الإنتاج : يبدي الكاتب احتراما لفظيا كبيرا إزاء هذا المفهوم " كان ماركس محقا إذ اعتبر ان علاقات التوزيع هي الوجه الآخر لعلاقات الإنتاج (بشرط ألا يقتصر مفهوم علاقات الإنتاج علي ملكية وسائل الإنتاج كما يحدث أحيانا . ولكن يشمل المفهوم سيطرة فئة اجتماعية علي وسائل الإنتاج دون ملكيتها، وأيضا القوة النسبية لأطراف العلاقة في العمل الاجتماعي)" (ص63). ونحن نؤيده فيما ذهب إليه حول مفهوم هذا المصطلح[13] . كذلك يقول الكاتب ان " مقولة قوى الإنتاج وتمفصلها مع علاقات الإنتاج مقولة أقبلها في تحليلي … و علي مستوي مجتمع – أمة معين ، تلعب العلاقة بين قوي وعلاقات الإنتاج دورها البناء في نموذج التقدم المستهدف من خلال مشروع متمحور حول نفسه . ومضمون التمحور حول النفس – في تحليل النهائي – هو القدرة علي الإبداع الذاتي ، وينعكس ذلك علي المستوي الاقتصادي في القدرة علي تحديد نمط الاستهلاك الملائم بمعايير مستقلة. . . " (ص ص26-27) . ومن جانبنا . . نوافق علي هذا التصور لوضع مفهوم نمط الإنتاج علي مستوي مجتمع معين علي حدة . . أي كونه يتحقق علي هذا المستوي فقط فى حالة وجود تنمية مستقلة ،وكما سبق ان اكتشفنا ان التنمية المستقلةلا تعنى عند عادل حسين سوي الجانب الاقتصادي من الاستقلال الحضاري . هذا يعني ان مفهوم نمط الإنتاج تال لمفهوم الحضارة – الذي لم يوضحه الأستاذ عادل حسين أصلا – وهذا هو ما نعترض عليه . ومن الناحية العملية قام عادل حسين بتنحية هذا المفهوم جانبا ، فهو لم يعن لا بتوضيح نمط الإنتاج السائد في البلدان المسماة اشتراكية ، ولا في حالة البلدان المتخلفة ، ولا حتى في مشروعه المستقبلي . . بحيث يبدو الأمر وكانه يمكن ان نختار قوي وعلاقات الإنتاج التي تناسب " حضارتنا" ، لأن هذه " الحضارة" هي التي ستحدد نمط استهلاكنا : " ان هدف الاستقلال الحضاري … شرط مهم لصياغة النمط الاستهلاكي علي نحو ملائم ، وهو بالتالي شرط مهم لمجرد إحداث تنمية اقتصادية اجتماعية مستقلة (دون ان يعني هذا طبعا انه الشرط الوحيد )" (ص75). والشرط الآخر بالطبع هو "كفاية الموارد الطبيعية والبشرية" .
ورغم قبوله لفكرة تمفصل قوي و علاقات الإنتاج ، فمن الواضح انه ينكر تماما فكرة التعاقب التاريخي لانماط الإنتاج (ليكن واضحا اننا لا نقصد أبدا فكرة المراحل الخمس الستالينية ) ولهذا يعطي نفسه حق اختيار نمط الإنتاج الملائم للحضارة المنشودة وهذا القبول والانكار ينمان عن تناقض منطقي خطير .
رابعا : إعلان النظرية الماركسية نظرية معادية : وهو قد تحفظ قليلا في إعلان ذلك مكتفيا بأدراج الماركسية ضمن إطار المدارس الدنيوية الغربية كما مر بنا[14]، وهي المدارس التي يعتبرها دون تمييز مدارس معادية للعرب وحضارتهم الإسلامية . . بل انه يدين مباشرة نظرية نمط الإنتاج الآسيوي (ص ص24-25) ، معتبرا إياها ضمن النظريات التي تقوم علي فكرة التفوق الأوروبي والتي تعبر عن مضمون عنصري من حيث الجوهر، وان كانت في الشكل أقل فجاجة ، رافضا أصلا ان يناقش مفهوم نمط الإنتاج الأسيوي. . صحته من خطأه. والكاتب في الحقيقة يتخذ موقفا معاديا للغرب ككل ، سواء الاتجاه المعادي لنا بالفعل أم الاتجاه الإنساني العالمي ، وهو موقف لا يقوم علي أي أساس موضوعي – منطقي ومن الواضح انه منطلق من نزوع عصبي وعنصري .
كما أشار إلي محاولات التوفيق بين الوظيفية والماركسية في الغرب، ناسيا ان هناك محاولات مضادة أيضا. ثم دعم رأيه بالإشارة إلي خفوت حدة الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، الذي وصل بالشيوعيين في فرنسا – بعد مائة عام من الكميونة- إلي دخول حكومة فرنسا (ص20)، مغفلا الأسباب التي أدت لذلك والتيارات الراديكاية المعادية لهذا الموقف ثم اعتبر الكاتب هذه الأشياء التى أوردها مبررا كافيا للزج بالماركسية والوظيفية سويا وعلي قدم المساواة في إطار الدنيوية إياها !
لاحظ القارئ ان المعول الرئيسى الذي استخدمه عادل حسين في محاولته هدم النظرية الماركسية هو حصرها في نطاق إقليمي- حضاري . . جوهر فكرة الكاتب إذن هو ان النظرية "لا تلزمنا" . انها نظرية دنيوية وغربية ومعادية ضمنا وتستند لمعايير لا قيمة لها خارج إطار الأيديولوجيا الغربية،ومنجزات معتنقيها لا يمكن فهمها أو تعقلها إلا في إطار نظرية الاستقلال الحضاري . . هذا هو مربط الفرس . . هذا ما يحقق للأستاذ عادل حسين تأكيد استنتاجاته الرئيسية حول التاريخ . علينا ان نفهم من هذه المحاكمة لا ان النظرية الماركسية خاطئة بحد ذاتها فحسب ، وإنما هي أيضا – بل وأساسا –أيديولوجيا غير علمية. . لأن علم الاستقلال والتبعية عند "الفكر العربي الجديد" يستند إلي التمايز الحضاري ، فالتاريخ صراع حضارات وليس صراع طبقات ، والأخير موظف لمصلحة الأول . وكان يجب علي من اقتنع بهذه الفكرة ان يبحث عن نظرية علمية لمنشأ الحضارات وصراعها . . ولكن الفكر العربي الجديد مشغول عن هذه " السفاسف " بالدعوة لأهدافه المباشرة : الأحياء العربي الإسلامي . وقد تطلبت هذه الأهداف جعل الحضارة وحدة تحليل التاريخ . ولما كان الفكر العربي عاجزا عن التأصيل النظري لهذه الفكرة اكتفي برصد اختلافات بين الحضارة الدنيوية الغربية والحضارة الإسلامية ، عازلا هذه الاختلافات عن المحتوي الاجتماعي ، وتنصيبها ظاهرة مطلقة – علوية- فوق تاريخية .
ولما كان "الفكر العربي الجديد" عاجزا عن تأصيل أفكاره، كان مجبرا علي ان يعيد خلق كل النظريات المخالفة له والأكثر منه تماسكا علي صورته ومثاله ، ومن ثم شرع في الإجهاز علي فكرة العلم الاجتماعي نفسها : " لاشك ان العلم عالمي . ولكن هل تشكل الدراسات الاجتماعية ونظرياتها بوضعها الحالي علما ؟" (ص12) . ثم خصص بقية الفصل الأول للإجابة بالنفي علي هذا السؤال. فلنتبع الآن منطق عادل حسين بشئ من التفصيل .
يقول عادل حسين عن الدنيوية ، انها " وضعت الإنسان في مركز المجتمع ( والكون في الحقيقة ) … وأصبح ( الفرد أو الجيل)- بجسده واحتياجاته المادية – معيار كل الاختيارات والسلوك ، وعن هذا نشأت القيم الملائمة ، فازدهرت مفاهيم المنفعة واللذة الحسية والفردية والتنافس المحموم، وقد انعكس هذا كله في نوع ما من الحياة الاجتماعية وفي أنماط ما من النظم الاجتماعية ، وعبرت النظريات عن ذلك كله"[15] (ص30). ثم اندفع لإدانة العقلانية الغربية بأكملها :" فهل العقلانية (أي عقلانية الغرب الأوروبي) تقاس بمواجهة محدودة مع تزمت كنيستهم ،أم يقاس مفهوم عصر العقل هذا بما قدمه من نظريات وعلوم اجتماعية صبت في خدمة التعبئة الأوروبية العامة للسيطرة علي العالم واقتسامه ، وأسهمت في تدمير الشعوب وحضاراتها وقيمها وتراثها ؟" (ص23) . وهو يعزو هذا " الدور " للعقلانية الغربية إلي ان " مجمل الظروف التي شكلت المشروع الأوروبي كانت قمينة بإفراز مقولات ومفاهيم وأبنية نظرية تعبر ( بشكل أو بآخر، صراحة أو ضمنا) عن مخطط السيطرة الغربية علي النظام الدولي " (ص . (22 وصل الأمر بعادل حسين إلي حد وضع نظرة " طرفية المركز – ان جاز التعبير – محل النظرة أوروبية المركز التي يفترض ان الدنيوية تروج لها . . فمن وجهة نظره لم يكن " تحرير الاقنان ( من أجل خدمة ) متطلبات داخلية ( الصناعة ) فقط ، ولكن كان خدمة للهجرة ( أي الاستعمار ) ولتعبئة الجيوش . وكذلك لم يكن دعم الدولة المركزية استجابة للتطورات الداخلية وحدها ، ولكن كان ضرورة لبناء الإمبراطورية أيضا . وكذلك الصناعة ، انها لم تمول من التراكم الداخلي وحده ، فالنهب واستعباد مئات الملايين في الخارج كان موردا لا يقل أهمية " . إلي هنا لا غبار ما دمنا في إطار تعداد آثار هذا الفعل أو ذاك ، الداخلية منها والخارجية . . ولكن أيها الحاسم ؟ أيها محرك التاريخ ومفجر هذه التطورات ؟ يستكمل عادل حسين عبارته:" ان الثورات البرجوازية لم تكن إذن حصادا للتطورات الداخلية وحدها ، وكذلك لم تنحصر نتائج نجاحها في المسرح الداخلي ، ولكن كانت النتائج الداخلية بمثابة إعادة ترتيب للبيت وحشد أكفأ للإمكانيات المحلية من أجل تثبيت ما ُفرض من سيطرة خارجية وتوسعية " (ص23) . هكذا حسم عادل حسين موقفه . . ليقدم لنا صورة كاريكاتيرية لتاريخ أوروبا نكون نحن محوره . . فإذا مددنا فكرته علي استقامتها قلنا ان الثورة البرجوازية ومجمل التقدم العلمي والتكنولوجي، فضلا عن العقلانية نفسها . . كلها لم تقم وتنشأ أصلا إلا من أجل استئناف الحروب الصليبية بشكل أكثر نجاحا ! والغرب إذن لا هم له إلا السيطرة علينا وتحطيم حضارتنا . . كل هذا يقال دون ذكر مبرر واضح لهذه العداء " الطبيعي" . . انه منطق " الفكر العربي الجديد" . والملاحظة الأخرى انه يعمم الدور التبريرى الذي لعبته بعض النظريات الأوروبية لصالح الغزو الاستعماري علي كل نتاج الفكر الغربي ! وكان عليه ان يراجع – بموضوعية ونزاهة – موقف المفكرين الثوريين الأوروبيين ، ومنهم ماركس ولينين وروزا لوكسمبورج وعشرات آخرين ، بدلا من ان يصور لنا كل مفكري الغرب علي انهم جميعا (سيسيل رودس) يلبسون قناعا نظريا . والملاحظة الأخيرة ، انه ينفي للمرة الألف أي أهمية للصراع الطبقي الداخلي في تلك المجتمعات فلا فرق عنده بين البرجوازية والبروليتاريا الأوروبيتين . وربما يوضح الاقتباس التالي هذه المسألة أكثر " مفهوم ان يحتفي الغربيون بمراحل النهضة والتنوير ، فهي بالفعل مراحل تقدم في تاريخهم ، ولكن كيف نحتفل نحن أيضا بهذه المراحل باعتبارها مراحل نهضة عالمية أو تنويرا عالميا ، رغم ان شعوبنا من ضحايا هذه المراحل ؟ "(ص24). انه صراع أمم وحضارات دون لبس . . صراع جعله ينسي ان عمال الغربيين وفلاحيهم دفعوا هم أيضا ثمنا فادحا في هذه المراحل ، الثمن الذي لا يمكن بدون إدراكه فهم سلسلة الثورات والحروب الأهلية في أوروبا في القرنين السادس عشر والتاسع عشر .
لما كانت الدنيوية عند عادل حسين هي أساس المشروع الحضاري الغربي ، الذي هو من حيث الجوهر استعماري ، استنتج مؤلفنا بالتالي ان استقلالنا لابد ان يستند إلي ما يسميه " بنية نظرية مستقلة " والدعامة الجوهرية لهذه البنية الموعودة هي " الإقرار بحقيقة المفهوم المحوري عندنا هو الإيمان بالله الواحد الخالق …حسبي ان أثبت ان هذا هو المفهوم المحوري في العقيدة السائدة التي تملأ عقول الناس ووجدانهم " (ص30). وأهميتها انها " ستلعب الدور نفسه الذي لعبته العقيدة الدنيوية في الغرب في انشاء مدارس اجتماعية مستقلة (أي إسلامية عربية)"(ص30). في هذه العقيدة " يهتم الإنسان الفرد والجيل الاجتماعي بالحياة الدنيا … مع إيمان بأن الحياة الدنيا ليست كل شئ وان بعدها حسابا" (ص31)،" هناك احترام لقدرات الإنسان ودوره ولكن مع وضع قدرة الإنسان ودوره في إطار الكل الأشمل الخاضع لله تعالي "، ومن ثم كان المفكرون الإسلاميون عموما – وفقا لأصول عقيدتهم – يرون الإنسان معمرا للطبيعة في إطار التعاون والتناغم معها وليس في إطار الصراع معها"[16] (ص37) هكذا يرصد الكاتب اختلافات حادة ومطلقة وفوق تاريخية بين الحضارتين ، جاعلا هذه الاختلافات المحور الذي يتحرك حوله التاريخ ، فيري ان كل متغيرات واقعنا وتاريخنا – سواء ما كان منها له نظائر عالمية كالأمة والطبقة ( ولكن مع صبغها بالصبغة الإسلامية) أو خاصة بنا ، كدور الطوائف والقبائل والنفط …إلخ هذه المتغيرات " في مضمونها وفي أوزانها النسبية وفي علاقاتها المتبادلة وفي تشكيلها عبر كل ذلك للنسق النظري – تتحدد أو تتحور وفق ارتباطها مع العقيدة السائدة وقلبها الإسلامي " (ص33) .
المسألة إذن ليست مجرد أخذ خصوصيات تاريخنا بعين الاعتبار ، انها مأساة فكرية . . فالمطلوب بوضوح كامل ان يتمحور الإنجاز العلمي حول صيغة ميتافيزيقية غير مبررة ، وان يكيف نفسه تبعا لها ، انها ببساطة دعوة لا عقلانية . والكاتب لم يتورع عن إثبات هدفه صراحة :" لنبدأ باستيعاب أصول عقيدتنا (إسلامنا) وتاريخ أمتنا ( بالمعني الواسع للتاريخ )، وظروفها الموضوعية الحالية ، ولنبحث في مناهج التجدد الذاتي وفق منطق هذه العقيدة وهذا التاريخ وهذه الظروف ، ولتتعدد بعد ذلك المدارس"(ص35). وإذا تساءلنا عن العلاقة بين هذه المحددات الثلاثة فالأمر واضح جلي . . فليس معقولا انه سيسمح لنا " بأن نبحث تاريخ أمتنا أو ظروفنا الموضوعية بالمفاهيم العقلانية الغربية ، وإنما فقط في حدود " أصول عقيدتنا" . . هكذا يفتح باب الحكم الثيوقراطي (الديني) إلي أقصي مداه باسم " الفكر العربي الجديد " ويتم التبرير لسيطرته علي الفكر والعلم .
وحتى يقطع علينا " الفكر العربي الجديد" كل المسالك الجانبية نحو العقلانية الغربية يظهر لنا بوضوح ان هذا التحديد لنطاق الفكر " المسموح به " ليس له أساس علمي وإنما هو صيغة ميتافيزيقية. . حتى لا يملك أحد الاعتراض أو المناقشة . يقرر عادل حسين بوضوح انه لا مفاضلة بين الدنيوية والإسلامية ، فكلتاهما صيغتان ميتافيزيقيتان وليستا علم في مواجهة ميتافيزيقا . . ثم يعزينا قائلا ان كل ميتافيزيقا منهما لها عقلانيتها : عقلانية إسلامية عربية مقابل عقلانية دنيوية غربية . . " لقد وجهت الدنيوية العقلانية الغربية الحديثة فوصلت إلي نتائج معينة ، والإسلام وجه العقلانية عندنا فوصلت إلي نتائج مغايرة ، وبوسع العقلانية الإسلامية ان تجتهد وتطور هذه النتائج "[17] (ص31) .
بهذه الطريقة حاول عادل حسين ان ُيجهز علي الأساس الوحيد للتفكير العلمي ، ألا وهو مبدأ وحدة العقل الإنساني . وهنا بالذات كان عادل حسين متسقا مع نفسه ، فمد فكرته علي استقامتها دون معونة منا . . فنفي وجود العلوم الاجتماعية أصلا . صحيح انه أقر – دون ان ندري علي أي أساس فعل – بأنه " في وسعنا ان نكشف بعض الاتجاهات العامة التي تحكم المجتمع البشري في كل شموله وأعماقه التاريخية" (ص15)، الأمر الذي لم يحدث في رأيه حتى الآن علي نحو مرض ، ولكنه يعود فيتحفظ علي هذا الكلام ثلاث مرات في نفس الصفحة – فضلا عن عدم اهتمامه بتوضيح ماهية هذه الاتجاهات العامة ، "فارق كبير بين ان نكتشف قواعد اللعبة ( في المجتمع) ، وبين ان نتنبأ بنتائج المباراة أو ان نتحكم فيها" : ان إخضاع العقيدة لمتطلبات العلم الوضعي أو غير الوضعي مسألة مستحيلة " : ان القوي الفاعلة في المجتمع الحي لا تخضع – في ظروفها وفي قياسات إمكانيات دورها – لوحدات نمطية (من قبيل الطبقة والنخبة …إلخ) ، ولا لعلاقات نمطية بين هذه الوحدات "(ص15). ولكن ألم يقدم لنا " الفكر العربي الجديد" مشروعا للاستقلال ؟ علي أي أساس يتنبأ الأستاذ عادل حسين بإمكان تحقق هذا المشروع ؟ كيف سيحدد " القوي الفاعلة في المجتمع الحي" التي ستنجز هذا المشروع ؟ انها تناقضات " الفكر الجديد" والتي تنحل كلها في رصد واحد غير دقيق . . ألا وهو تأثير الأيديولوجيا الإسلامية . يعترف عادل حسين بأن " الغرب انشأ مدارس ممتازة بمعايير بيئتها وظروفها ، ولكنا نواجه من موقع التبعية والتخلف الاقتصادي أسئلة غير أسئلة الغرب ويتطلب هذا ان ننشئ مدارس تختلف عن مدارسه " (ص22) . ليس هناك إذن سوي أسئلة تتطلب مدارس !! ولكن حتى بفرض صحة هذا . . كيف سنحدد الأسئلة ونجيب عليها ما دام " ليس هناك وحدات نمطية . . إلخ "؟ انها معجزة العقيدة الإسلامية التي ستغنينا عن كل شئ آخر .
ولكن عادل حسين – برحمته –أبي ان يتركنا في هذه الحالة المذرية ، فواسانا قائلا :" ان الاقتراب من نموذج فعال للتنمية يتحقق حاليا بقدر الجرأة علي تحدي النظريات الأوسع ، ان الثورة الصناعية بدأت في انجلترا وتواصلت دون نموذج نظري للتنمية " (ص151). ياله من عزاء براجماتى ! فليذهب العقل البشري ووحدته إلي الجحيم فكل شئ سيسير علي ما يرام في ظل " عقيدتنا المباركة " ، بإذن الله .
لابد ان القارئ يتساءل ، ما الذي دفع الأستاذ عادل حسين في هذه المنزلقات الفكرية ؟ ان التفسير بسيط . . لقد انطلق الكاتب من فرضية – أوحي له بها في الغالب المد الإسلامي في العالم العربي – مؤداها ان المنظور الحضاري الإسلامي هو وحده الكفيل بدفع الجماهير للفعل الثوري والتغيير ، في إطار بعث قومي أصيل . . (ص67). " ينبغي ان نعترف ان الإحساس بالدونية يتملكنا تماما . . والقدرة علي اتخاذ قرار مستقل فيما يتعلق بحاجاتنا المعيشية اليومية ثورة بالغة العمق في نفسية المجتمع والأفراد …وساعتها سنعتز بقدرتنا علي الابتكار وعلي التوصل إلي التشكيلة التكنولوجية التي نراها ملائمة لصنع احتياجاتنا وما ارتحنا إلي استهلاكه …وهذه الثورة البالغة العمق ، لا يولدها ولا تشمل آثارها ، مجرد التمرد علي نمط الاستهلاك السلعي المفروض ، فهي بالضرورة في إطار نظرة أشمل إلي نمط الحياة ، أو هي في إطار ثورة فلسفية ، أو في إطار ثورة في تشكيلة الأفكار والمعتقدات الموجهة ، أو في النسق القيمي للأفراد … وحين ننطلق … في اتجاه التجدد الذاتي والحضاري ، سيكون الجو مهيئا للسيطرة علي نمط الاستهلاك الملائم ، ولبناء قوة اقتصادية مستقلة ، ويصبح الصبر علي ضريبة التكافل الاجتماعي ،أى تحديد دخول الملاك كما وكيفا كما مر بنا ،كما فى استرتيجية إشباع الحاجات الأساسية – أمرا محتملا"(ص75). انه يحتاج الإسلام أيضا لأن مشروعه نظرا لما يكتنفه من تحديات وصعوبات – يتطلب " قدرا هائلا من الإيمان بعقيدة مقدسة تدفع الأمة إلي قبول التضحية ، بل وطلب الشهادة "(ص88). انه مشروع للانتفاع بالإسلام لصالح مخطط مرسوم في الذهن سلفا .
هذا هو منطق "الفكر العربي الجديد" . لقد حرر نفسه أولا من العلوم الاجتماعية فأنكر وجودها واستبدلها بنظرية حضارية . ولما فعل هذا أمكنه ان يعيد النظر للتاريخ فيعتبره صراعا حضاريا بالدرجة الأولي وليس اجتماعيا ، الأمر الذي ترتب عليه اعتبار خلافات مختلف المدارس الفكرية من حيث هي اختلافات حضارية ، وإهمال الأسس الاجتماعية لهذه المدارس . ومن هذا المنطلق انتقل لمناقشة قضية الاستقلال والتبعية . . فصارت التبعية مسألة حضارية وليست بنية اجتماعية محددة الخصائص ، وبالتالي أمكن استنتاج ان قضية الاستقلال هي قضية بعث حضاري إسلامي في مواجهة الهيمنة الحضارية الغربية العلمانية(الدنيوية). . وجعلها قضية كل الطبقات والفئات الاجتماعية . ويبدو لنا ان هذا الأمر الأخير هو مربط الفرس والدافع وراء كل هذا الضجيج النظري .
وإذن ، ارتكز منطق " الفكر العربي الجديد" علي الهجوم علي العلوم الاجتماعية وعلي التفسير العلمي – الموضوعي للتاريخ . ولكن هذا الفكر في حركته كان يفرز بالضرورة تناقضاته في كل خطوة ، ليست تناقضات مع الواقع فحسب ، ولكن حتى تناقضات داخلية بين أفكاره نفسها . هذه التناقضات الفكرية تتبلور فيما يمكن تسميته " منهج الفكر العربي الجديد" والذي سنختتم به نقدنا
2- أعلم اجتماعى موضوعى أم ذاتية حضارية؟
حينما قام الفيلسوف الألماني العملاق كانط بمحاولته لتحديد قدرات العقل البشري المعرفية ، توصل إلي ان الإنسان يستطيع – بواسطة التجربة العلمية ومجموعة من المقولات العقلية التي افترض وجودها في الذهن البشري بشكل مسبق – ان يتعرف علي هذه الحقيقة الجزئية أو تلك بالنسبة لشئ معين ، فيمكن ان يعرف ان السكر – مثلا – حلو المذاق ، قابل للاحتراق، صلب ، قابل للذوبان فى الماء إلخ ولكنه يعجز عن معرفة ماهية هذا الشئ ، ناهيك عن ماهية الوجود أو الكون . وقد أسمي هذه الماهية غير القابلة للمعرفة باسم الشئ في ذاته . هذا الشئ في ذاته مثل عند كانط نهاية المعرفة البشرية . ولما كان كانط يبحث في قدرات العقل البشري عامة ، يمكن القول ان هذا الشئ في ذاته موضوعي [18] . . وهو الشئ الوحيد الموضوعي في نظرية المعرفة عند كانط ،لأن دلالة النظرية ان الإنسان عاجز عن معرفة ماهية أي شئ . ولكن معرفة هذا الشئ في ذاته فضلا عن المعرفة الجزئية، هي معرفة موضوعية أو ذاتية بالنسبة للعقل البشري بما هو كذلك " أي تنطبق علي البشر جميعهم .
لكل هذه الأسباب اشتهرت فلسفة كانط باسم المثالية الذاتية . ويمكن – بغرض تقريب منطق الأستاذ عادل حسين إلي الأذهان – تلمس جذور النظرية الحضارية في هذه المثالية الذاتية ، وهو قياس مع الفارق . . الهائل . فبدلا من الشئ في ذاته العالمي لدي هذا المفكر العملاق ، يستنتج لنا عادل حسين "شئ في ذاته " فيما يخص كل " حضارة" علي حدة . ويتمثل هذا الشئ في ذاته " الحضاري" في قيمة أو مجموعة من القيم تعتبر غير قابلة للإخضاع للبحث العلمي من جهة ، وتهيمن من جهة أخري علي مصائر الشعوب والمجتمعات ، لأنها تحدد مجريات الصراع داخلها ومع الخارج . واذا كان الشئ في ذاته عند كانط العظيم نهاية العلم وبداية الجهل ، فهو في طبيعته " الحضارية" الجديدة بداية العلم ، فالعقلانية تتحدد بمفاهيم حضارية غير عقلانية ، وعلي الأولي ان تخضع للأخيرة . ومن أجل هذا الفارق " البسيط" نستطيع القول ان خطوة كانط في التعرف علي العقل البشري كانت خطوة جوهرية في تاريخ الفلسفة ، كانت نقطة انطلاق أمام كل الفلسفات التالية ، بينما لن يلعب " الفكر العربي الجديد" سوي دور وحيد مؤهل له تماما ، وهو محاولة ضرب العقلانية والتنوير وحرية الفكر؛ هذا من جانب . ومن جانب آخر لن تفلت هذه الفلسفة الحضارية الجديدة من السمة التي تعم كل نظرية ذاتية في المعرفة ، وهي اللا أدرية . فما دمنا عاجزين عن اكتشاف ماهية الشئ أو الكون فهذا معناه اننا عاجزين عن اكتشافه بصفته كذلك ، أي لا ندرى عنه شيئا محددا يقينا . لدينا إذن قضيتان مركبتان مطروحتان : هل المعرفة ذاتية أم موضوعية أم ان الصفتين ممكنتان ؟القضية الخطيرة الثانية المطروحة والتى تدين "للفكر العربى" بطرحهما هى قضية وحدة التاريخ والعقل البشريين، وجودا أوعدما .
هل المعرفة ذاتية ؟ ان العالم موجود حولنا دون شك ، وهناك تصوران ممكنان بصدده . . اننا نعرفه أو اننا لا نعرفه، وإنما نعرف عنه أشياء تقع فى حدود معينة، وتختلف عن "حقيقة وجوده" . فلنفحص هذا الفرض الثانى : إذا قلنا اننا نعرف العالم معرفة موضوعية فمعنى هذا (انه ينطوى على حقيقة أخرى ، أكثر جوهرية واصالة لا نعرفها) . ولكننا قلنا الآن توا اننا نعرفها – رغم ادعائنا العكس – فقد قلنا انها حقيقة ومختلفة ، وأكثر جوهرية وأكثر اصالة . هذه كلها معرفة لا شك فى هذا ، نظرا لما تحمله هذه المعانى من دلالات محددة فى ذهننا. فاذا اضفنا بعد ذلك اننا (لا نعرفها) – أى كل هذه المعانى نفسها – وأردنا ان نشرح ذلك، قلنا – مثلا – ان المعرفة التى نعرفها سطحية، اما المعرفة الجوهرية، فعميقة وتحددها ماهية الشئ ومفهومه ومصيره وطبيعته … إلخ . ومعنى هذا – عكس ما يبدو – اننا عرفنا أكثر عن الشئ فى ذاته المزعوم ، وهكذا ، فكلما . حاولنا ان ندافع أكثر فأكثر عن ذاتية المعرفة توغلنا – رغم عنا – فى إثبات موضوعيتها[19] . لا مفر أمامنا سوى تقرير موضوعية المعرفة .
يقول لنا عادل حسين ان العلم عالمى (أى ينطبق عليه قانون وحدة العقل البشرى) بينما لا تشكل العلوم الاجتماعية علما . . (فلا ينطبق عليها القانون المذكور). كما يقول لنا – من جهة أخرى – انه بالنسبة لهذه العلوم الأخيرة ، انها تخضع للمفاهيم الأيديولوجية، غير العقلانية باعترافه . ان القضية المطروحة إذن هى وحدة العقل البشرى فى التاريخ، وبمعنى آخر ، إمكان وجود نظرية عقلية تفسر حركة المجتمعات البشرية من عهد الإنسان البدائى حتى وقتنا هذا . مثل هذه النظرية إذا وجدت – ولابد فى رأينا ان توجد – تضع تصورا معينا للعلاقة بين مختلف مستويات وأنماط الفعل البشرى، وبالتالى بين مختلف التنظيمات الاجتماعية المعبرة عن والمنظمة لهذه الأنشطة البشرية . ومنطقيا لابد وان يقتنع كل من يعتقد فى موضوعية المعرفة بإمكان وجود مثل هذه النظرية، لأن تصور استحالة قيامها لا يعنى فحسب ان الإنسان عاش ويعيش أبدا مغتربا عن تاريخه و فعله الخاص ، لأنه غير قابل للمعرفة . بل وأيضا معناه ان هذا التاريخ بالذات ، تاريخ الإنسان الخاص ، يمثل شيئا منفصلا – كجوهر وماهية – عن الإنسان نفسه ، ولا يمكن إدخاله إذن فى إطار المعرفة العلمية ، أى انه ينتمى لمجال "المعرفة الذاتية" . . ولا يمكن للإنسان ان يتبنى هاتين الفكرتين المتناقضتين معا باتساق : أى ان معرفة الإنسان بالعالم الخارجى (الطبيعة) موضوعية ، بينما تعتبر معرفته بنفسه – ككائن له تاريخ – معرفة ذاتية .
إلا أن هذا التصور الشاذ قد تبناه بالفعل بعض المفكرين الغربين، وأشهرهم على الإطلاق الفيلسوف الالمانى شبنجلر . لقد ذهب الأخير إلى ان المقولات الأساسيةللعلوم الطبيعية تختلف اختلافا جذريا عن مقولات العلوم الإنسانية . وأهم مقولات الأولى هى العلية بينما أهم مقولات الثانية هى مقولة المصير .
وقد رتب هذا الفيلسوف على فكرته هذه ان المنهج العلمى (الاستقرائى والاستنباطى) لا يصلح للتطبيق على العلوم الإنسانية واهمها التاريخ . ويدعى المدافعون عن هذا المنهج ان العلية تستند لفكرة الحتمية و الأخيرة فى رأيهم غائبة فى التاريخ . وهم لا يذهبون إلى انه لا يمكن تعليل أفعال الإنسان، كل منها على حدة ، وإنما إلى انه لا يمكن استنباط احكام كلية (أى شاملة ،حتمية ، عامة) تحكم منطق حركة التاريخ. ومن ثم لا مجال للتنبؤ بالتاريخ والتحكم فى مساره ، نظرا لأنه لا يمكن استنباط قانون كلى يستند إليه هذا التنبؤ والتحكم والحجة الكبرى التى يستندون إليها ان الذات والموضوع (المؤرخ مثلا مقابل الوقائع والأحداث فى التاريخ) ينتميان لمقولة واحدة هى الإنسان على عكس العلوم الطبيعية حيث الإنسان (عامة) يبحث موضوعا خارجه . هذا الأمر يفسر فى نظرهم كل ما ذكرناه من خصائص حول منهج العلوم الإنسانية .
كل هذه الحجج تبدو قوية متماسكة (يكمل بعضها البعض) لسبب وحيد، انها جميعا لا تعترف إلا بمنهج واحدا للدراسة العلمية : المنهج الاستقرائى . ولاشك ان هذا المنهج يعجز تماما عن استخلاص قوانين عامة للحركة التاريخية – مما يعطى وزنا كبيرا للنظرية الحدسية – فأقصى ما يستطيع الوصول إليه – على حد تعبيرهم – ان يصل إلى تقرير وقائع واحداث جزئية بهذه الدرجة من الدقة أو تلك .
ونحن نعتقد ان المنطق الجدلى هو الوحيد الذى يضع أساسا متينا لنظرية فى المعرفة ، تصلح خصيصا لدراسة العلوم الإنسانية المتعلقة بذات الإنسان، أى العلوم التى تدرس نوعا من العمليات إلى تحدث مرة واحدة ولا تتكرر. وهذا المنطق هو الذى يضع أساسا قويا للوحدة المطلقة بين الذات والموضوع ، وهو يضع هذا الأساس بطريقة منطقية – موضوعية ، متجاوزا الشىء فى ذاته" . وهذه المسألة تحتاج إلى دراسة طويلة نرجوا ان تمكننا الظروف من طرحها فى دراسة خاصة .
على ان الأستاذ عادل حسين لا يتبنى هذه "المعرفة الحدسية" بشكل عام – ولا حتى صراحة – وإنما يتبنى نوعا معينا منها . . وهو ذاك الذى يقيم معرفته الحدسية على مبدأ "روح الحضارة" ، باعتبار الأخيرة ظاهرة روحية لها تصور واضح متميز عن العلم يتبلور فى دين وفن و فلسفة وسياسة وعلم ، أى شخصية حضارية معينة – على حد تعبير شبنجلر، بل انها – فى رأى الأخير – تنظم ما حولها من فوضى وتفرض عليها طابعها فتطبع الإنسانية بطابعها . الحضارة إذن هى التى تفسر التاريخ لأنها هى التى تحدد البنية الاجتماعية ككل ، ولأنها هى الوحدة الحقيقية لدراسة التاريخ . ويلعب الدين دورا محوريا فى تحديد هذه الشخصية الحضارية عند شبنجلر وتوينبى على حد سواء ، فمن أهم معالم شيخوخة الحضارة عند الأول سيطرة الاتجاهات اللادينية ، بينما تقوم الديانة عند الثانى بدور القابلة للحضارة الجديدة بنقل مقومات الحياة والإبداع لها ، كما يرى ان ورء كل حضارة قائمة ديانة عالمية . ويحدد شبنجلر مقولة المصير ، التى تحكم عنده حركة التاريخ – باعتباره تاريخ حضارات – بأنه تعبير عن "جزع الروح " لما يهدد وجودها أو كيانها (أى انها تحدد بعامل خارجى) ، وتفاعلها من أجل إثبات الذات، وهذه هى نفسها نظرية التحدى و الاستجابة عند توينبى ، والتحدى عنده ، نوعان، طبيعى : بيئة صعبة، وبشرى : غزو أو ضغط خارجى متواصل . والاستجابة هى بالطبع الاستجابة الدينية التى تحشد الهمم وتقيم الحضارة التى ترد ردا ناجحا على هذه التحديات [20] باختصار، نحن لسنا إزاء نظرية ، وإنما مجموعة التشبيهات البليغة ، تعتمد على تطبيق مقولات السلوك الفردى ـ أو بالأحرى مجموعة مختارة منها – على الأمم والشعوب ، لا مجال هنا لصراع طبقى داخلى إلا كتعبير عن انهيار الحضارة ، كسمة من سمات هذا الانهيار ، الناتج – كما يقول توينبى – عند فقدان الأقلية الحاكمة "لطاقاتها المبدعة" . وجدير بالذكر ان هذا الفقدان ، يفتقر لأى تعليل سببى متماسك عند توينبى . أما شبنجلر ، فلم يناقش القضية أصلا معتبرا ان كل حضارة تمر بمراحل النشأة و الشباب والنضج والكهولة كقدر محتوم . ما هو منشأ الحضارة وما تفسيره؟ التحدى . . أى عامل خارجى . وما هو منشأ هذا التحدى ؟ حضارة شاخت تقوم بالتوسع على حساب غيرها أو ظروف طبيعية عسيرة . وهكذا ندور فى حلقة مفرغة فالتحدى هو سبب الاستجابة ، التى هى بدورها – عند مرحلة الشيخوخة - سبب نشوء التحدى عند شعوب أخرى وهكذا . وفضلا عن ذلك لا تفسر النظرية الحضارية حدود كل حضارة ، أى حدودها الجغرافية ،ولماذا لاتستكمل انتشارها عند شعوب أخرى مجاورة لتندمج بدورها فى نفس الحضارة ، الأمر الذى يفتح أوسع الأبواب للنظريات العنصرية . . بحيث يصير كل شعب أو مجموعة بعينها من الشعوب مؤهلة لاكتساب حضارة معينة دون غيرها من الشعوب لأسباب مجهولة تخص "طبيعتها" . هكذا تعجز نظرية الحضارة عن تفسير الحضارة نفسها . ولما كانت الحضارة التى تفسر كل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها بالنسبة لكل الشعوب التى تتقبل هذه الحضارة (وأساسها الدين) ، نقول ان هذه النظرية لا تفسر شيئا على الإطلاق ، اللهم سوى طبيعة الذهنيات التى أنتجتها[21].
ولما كان الأستاذ عادل حسين مفكرا ذاتيا حدسيا حضاريا مخلصا ، فقد امتنع عن تقديم مبررات موضوعية لفكرته عن البعث الحضارى العربى على أساس إسلامى . فحسبه ان يثبت – على حد تعبيره – ان العقيدة التى يدعو إليها "تملأ قلوب الناس ووجدانهم" . ليس لنا ان نناقش ونعترض، وإنما علينا ان نؤمن و نعتقد ، وننحنى إجلالا للميتافيزيقا قدرا يكتنفنا ، إذا ما كنا حقا مؤمنين برسالة البعث الحضارى لأمتنا ونرغب فى تخليصها من التبعية ! من الغريب حقا ان يستهل مفكر ينتمى للمدرسة الحضارية كتابه بالحديث عن ضرورة مناقشة المسلمات ، بينما يدافع الوقت عن مسلمة كبرى تعرض بصفتها غير قابلة للنقاش .
لقد نقدنا فكر عادل حسين حتى الآن – فى هذا الفصل – باعتباره خطأ منهجيا جسيما . ولما كان المنهج الذاتى الحدسى غير قابل للنقاش العقلانى – من وجهة نظره – لأنه يعرض نفسه باعتباره حقيقة واقعة فهمناها ام لم نفهمها ، كان علينا بالمقابل ان نستكمل نقدنا بتبيان عدم واقعيته نفسها . ولن يكون هذا إلا بمناقشة وحدة العقل البشرى فى التاريخ من حيث أسسها الواقعية ومرتكزاتها .
بالإضافة إلى وحدة التكوين التشريحى والنسيجى للدماغ البشرى ، تستند وحدة العقل البشرى إلى وحدة الممارسة الإنسانية على سطح المعمورة . وليس المقصود بذلك ان التجارب العلمية للبشر متطابقة تماما فى كل مكان وزمان فهى تختلف حتى من شخص لآخر، وإنما نقصد انها جميعا تمارس فى أطر معينة واحدة . فالإنسان يعيش فى كل مكان ككائن اجتماعى ، وتشكل اللغة الكائن الجماعى لكل وحدة بشرية . هذه اللغة هى خطاب الإنسان الاجتماعى عن خبرته ، أى تاريخه . والملاحظ ان كل لغات البشر متماثلة من حيث الجوهر فى تركيبها ، فهى تتكون من تجريدات من قبيل : تفاحة – أكل – هذا … إلخ، وان تركيب هذه المجردات هو وسيلة التعبير عن العينى الجزئى ،كذلك يلاحظ ان قابلية اللغات للترجمة بعضها لبعض فائقة . . ولعل الاختلاف يكمن فقط فى ظلال الكلمات ، الناشئة عن تعدد معانى الكلمة وطبيعة اشتقاقها، الأمر الذى يشكل صعوبة تواجه مترجمى الأدب . هذا الاختلاف يعود فى جانبه الأكبر – لا ننكر – إلى اختلافات حضارية وان كان يمكن تلمسه حتى ضمن إطار القومية الواحدة ، كما يلاحظ فى اللهجات المختلفة والتركيبات اللغوية المحلية . والحال ان اللغة هى أداة العقل البشرى، بل هى محتواه إذا شئنا الدقة ، فقد برهن العلم على انه لا يوجد تفكير دون لغة .
والبشر بصفة عامة ، وعلى اختلاف حضاراتهم ، يمارسون نوعين من العلاقات ، علاقات مع الطبيعة ، وأخرى اجتماعية فيما بينهم . والعلاقة الأولى تتم بتوسط الثانية ، أى ان الإنسان الاجتماعى (المجتمع) هو الذى يستخدم الطبيعة ويعيش عليها – بتحويلها – وليس الإنسان الفرد . والعلاقة الأولى هى العلاقة الأكثر جوهرية لأنها هى الهدف الأول للتنظيم الاجتماعى . هذا التحديد يمكن البرهنة عليه بحقيقة أخرى، ان الإنسان الاجتماعى ، بحكم تكوينه ، مضطر لأن يأكل ويحمى نفسه من الأخطار كهدف أول ، حتى يمكنه ان يحيا ويحقق ذاته . ولتحقيق هذا الهدف الأول ابتدع الإنسان تقنيات وأدوات متزايدة التعقيد أتاحت له اشباع حاجاته ، التى لا تنفك هى بدورها تتزايد ، بطريقة أيسر وبعمل أقل . على انه لا يجب الظن بأن الإنسان مجرد عامل فى ورشة الطبيعة ، بل هو على وجه الدقة ليس كذلك إلا بقدر ما يطور من علاقاته الاجتماعية بجوانبها المختلفة .
ولما كان الإنسان كائنا اجتماعيا ، كان لابد وان تمثل العلاقات الاجتماعية بالنسبة لكل فرد الشرط المسبق الضرورى للحياة . وبالتالى ينشأ ميل فى ذهن الإنسان الفرد – ميل يعبر عن واقع موضوعى – لاعتبار الجماعة كائنا أعلى، منفصلا عنه . انه يدرك بسهولة ان الجماعة ستستمر بقى هو أوانتهى ، بينما يستمد هو نفسه كل مقومات وجوده من المجتمع . وباختصار ، تبدو الجماعة دائما أكثر حقيقية من أفرادها . هذه الحقيقة الأولى العليا ، تدفع العقل البشرى لأن ينسج تصورا معينا عن طبيعة هذه الجماعة ، وان يكتسب الأعراف (أو القوانين) التى تعبر عن هذه الروابط الاجتماعية – أى عن الجماعة بصفتها كذلك – طابعا مقدسا ، ومن هنا منشأ الأخلاق . وحيث ان التعامل اليومى إزاء الطبيعة هو الجانب المحورى من حياة الجماعة بصفتها كذلك ، تنحو روابط الجماعة المقدسة لأن تكتسب قدسيتها من تصور عن الطبيعة ، وهذا هو منشأ الدين ، والعلاقة التى تربط بين الأخلاق والدين . وربما كانت عبادة الأسلاف والتوتمية[22] التى ترتبت عليها، أولى الأديان التى اعتنقها البشر ، وان اتخذت مظاهر مختلفة. ونظرا لقدم هذه العبادة فهى قمينة بأن تكشف بأعلى شفافية ممكنة العلاقة بين الجماعة بما هى كذلك والدين . فواضح هنا العلاقة بين تقديس الجماعة ونشأة الدين،وبين كل ذلك والطبيعة . وتنحو العلاقات بين البشر فى هذه الحال لأن تتخذ شكل علاقة بين التواتم (الأرباب)، فاعتداء جماعة على أرض جماعة أو على أفرادها لا يشكل اعتداءا ماديا فحسب ، وإنما أيضا اعتداءا على التوتم، أى على مقدسات العشيرة، والخارجون على الجماعة هم خارجون على السلف المقدس وسيحل بهم عقابه . أما فى حقيقة الأمر ، فكل هذه الأمور المدانة أخلاقيا ودينيا هى من حيث الجوهر إضرار بالجماعة وبأسسها الاقتصادية – الاجتماعية.
والخلاصة اننا حين نقرر ان النشاط الاقتصادى هو محور الحياة الاجتماعية، وان الأخيرة هى أساس التصورات الإنسانية الاجتماعية شاملة الدين ، فاننا لا نعبر بذلك عن أيديولوجيا دنيوية مزعومة وإنما نقرر حقيقة موضوعية . اما الحدسية الحضارية فهى ترفض هذه الحقيقة ، وتتقبل معتقدات الجماعة عن نفسها دون تمحيص . انها ترفض النظر إلى ما يكمن وراء التوتم وتتشبث به بعناد حرون . ولما كان منطقها ضعيفا ، كان عليها ان تمنع الآخرين من استخدام المنطق ، ليست هناك علوم اجتماعية ، فلتؤمنوا جميعا بتوتمكم وتشبثوا به حتى ولو كنتم لا تفهمون، ألا ترون كيف ان أعضاء عشيرتكم تحركهم فكرة الدفاع عن كرامة توتمهم ! وحتى إذا افترضنا جدلا ان هذا المنطق جائز حين ندرس التوتمية، التى تعتنقها غالبا مجتمعات مشاعية، إلا أنه غير جائز فى حالة المجتمعات التى عرفت الانقسام الطبقى والدولة ، لأن الجماعة لم يعد لديها توتم واحد وإنما تفسيرات عديدة لهذا التوتم، وطبيعته، والأخلاق التى يدعو لها ، أى انه يصير أيديولوجيا. . يصير متناقضا .
والفكرة التوتمية – من جهة أخرى – لصيقة الصلة بالعنصرية ، لأنها تعزو وجود الجماعة إلى جد مقدس ، تعتبر قدسيته أساس تقديس مبادئ الجماعة . ويعتبر هذا التقديس – فى فكر الجماعة التوتمية – أساس الحفاظ على بقاء المجتمع واستمراره . هذه القدسية تتجسد فى مجموعة من العادات والطقوس التى تمثل مظاهر طاعة الجماعة للجد المشترك (الأخلاق) وتقديسه (الدين) . ويترتب على ذلك ان ينظر لعقيدة الجماعة (ومظهرها الطقوس) والعلاقات الاجتماعية (ومظهرها العادات الاجتماعية) ، كمنشأ لوحدة الجماعة . ونظرا لأن هذا المنشأ متميز فى آلاف التفاصيل عن أى جماعة أخرى فهو كفيل بفصل الجماعة من غيرها من الجماعات وتمييزها . وهنا نلج باب العنصرية ، لأن عقيدة كل جماعة غير مبررة ولكنها مقدسة، ومن ثم تصر كل جماعة على الأفضلية المعنوية (الحدسية) وليست المعرفية (العلمية) لعقيديتها . وماذا تكون نظرية الحضارة غير طبعة جديدة من هذه الفكرة ؟ ففى الأزمنة الحديثة صارت القومية، وليست القبيلة، هى الوحدة الاجتماعية الثقافية ، ودينها –من وجهة نظر حضارية – أفضل دين، وان اقتضت الصياغة العلمية أحيانا ان تستبدل هذه الفكرة الفجة : انه ديننا وشخصيتنا الحضارية.
وصلنا إلى ان الحضارة هى تصور معين لأعضاء المجتمع عن أنفسهم والعالم، أى انها ظاهرة تنتمى لما نسميه البناء الفوقى للمجتمع . وبصفتها كذلك، تمارس الحضارة تأثيرا على البنية التحتية أيضا . ولكن هذه الأخيرة هى المحدد الأول والحاسم للتطور التاريخى للمجتمع . وهنا سيقول لنا "الفكر العربى الجديد" : ان كل ما قيل لا ينفى أهمية الشكل الحضارى وقدرته على بعث أمة معينة ، ونحن (أى "المفكرون العرب الجدد") لم ننكر ان الحضارة ميتافيزيقية . . صحيح انكم ترجعونها للبناء التحتى ولكن هذا الأمر لاينفى مطلبنا العربى – الإسلامى .
كل هذا حسن . ولكننا نضيف أيضا ان الفكرة الحضارية أو الشكل الحضارى يتطور ويتغير بالنسبة لنفس الأمة . فو ليس معطى ثابتا تخضع له كل البنى الاجتماعية. وأهم أشكال تغير الشكل الحضارى هو تغير قالبه . وعلى سبيل المثال أبدل الفتح العربى لمصر إطارها الثقافى السابق بالإطار الإسلامى . . ولم يمنع ذلك ان تستمر عناصر كثيرة من التراث الفرعونى القديم ضمن هذا الإطار الجديد، وحتى وقتنا هذا . ولا يقتصر الأمر على مجرد عادات الدفن والاحتفال وبعض الأعياد ،بل يمتد حتى يشمل العقيدة نفسها مثل استمرار الاعتقاد بوجود المحكمة الباطنية وغير ذلك . [23] كما نضيف أن رصد أهمية الإطار الحضارى شئ ، واتخاذه إطارا مرجعيا لتفسير حركة التاريخ شئ آخر ، فهذا الأمر الأخير ينطوى على إنكار أهمية اكتشاف القوانين العامة لحركة المجتمع البشرى ، فضلا عن رفض فكرة التفسير من أساسها . ان إنكار القوانين العامة لحركة التاريخ يعجزنا حتى عن فهم ظاهرة الحضارة نفسها.
على ان الملحوظة الأكثر جوهرية هى ان الجماعة البشرية ليست مجرد هوية ، حضارية كانت أو غير ذلك، وإنما هى هوية فى تناقض. وفى ظل المجتمع الطبقى يكون التناقض هو الجانب المحورى من حياة الجماعة، وهو الأمر الذى تتجاهله النظرية الحضارية، مما يحرمها من استشراف المستقبل، إمكاناته وآفاقه . و "الفكر العربى الجديد" يقع فى كل هذه المحاذير، فهو يبرز الوحدة الحضارية على حساب الصراع الاجتماعى ، ويخلط بين القومية والحضارة ويدمج العقلانية – وهى بطبيعتها عالمية كما سنرى – فى أطر العقيدة ) الأيديولوجيا).
أولا : العقلانية والأيديولوجيا (العقيدة) : إذا كان من الممكن رصد أطر حضارية مختلفة لأيديولوجيات الطبقات السائدة فى مختلف أنحاء المعمورة ، إلا أنه يصعب ان يقال نفس الشئ عن العقلانية . يمكن القول بوجود عقلانية دنيوية وأخرى اسلامية – كما فعل عادل حسين – بشرط واحد ، هو تسطيح مفهوم العقلانية . يمكن ارتكاب هذا الخطأ إذا ما اعتبرنا العقلانية عبارة عن القدرة على استخدام مجموعة من أدوات البحث العقلية والمادية للتوصل إلى مجموعة من النتائج فى أفرع المعرفة المختلفة . بهذا المعنى السطحى وحده لا تعارض مطلق بين العقلانية وبين أى عقيدة[24] . وفى نظرنا، العقلانية هى فى حقيقتها موقف فلسفى من العالم ، يقوم على أساس ان العالم مدرك أو قابل للإدراك والمعرفة الصحيحة ، أى ان المعرفة موضوعية – عكس منطق عادل حسين الذاتى – وليس من اختراع الذهن البشرى ، ومن ثم يكون المفهوم الذى يكونه الإنسان عن العالم منشقا من وجود حقيقى قائم لهذا العالم . ولا ننكر ان المدارس الفلسفية ونظريات المعرفة التى يمكن إدراجها ضمن هذا التعريف عديدة ومتنوعة، وعلى أية حال تعتبر العقلانية ان المعرفة قابلية موجودة فى الذهن البشرى العام، ولا تختلف باختلاف الحضارات أو غيرها من التقسيمات الممكنة للمجتمعات البشرية .
ومنذ ان نشأ الإنسان الحديث Homo Sapiens على سطح الارض، وهو يمارس حياته على أسس عقلانية، لأن العالم معقول ولأن البشر لا يستطيعون ان يفعلوا فيه إلا بوصفه كذلك، فالعقلانية موقف "طبيعى" للإنسان ان جاز التعبير . وينسحب ذلك بالطبع على المجتمعات البشرية على امتدادها فى الزمان والمكان . اما الأيديولوجيا فهى بناء فكرى – غير متجانس غالبا – يقوم على مجموعة من المسلمات غير المبررة، ويتسم بالجمود، لهذا تستدعى حركة المجتمع فى التاريخ إعادة تفسيرها بشكل مستمر بحيث تواكب هذه الحركة . والحق ان هذا الأمر هو منشأ تناقضات الأيديولوجيا ، التى تضطر دائما لتقديم التنازل تلو الآخر امام الحركة الجبارة للتاريخ . ومن ثم نقول ان هناك دائما درجة من التعارض، قد تصل إلى حد التناقض، بين الأيديولوجيا والحركة العقلانية للتاريخ – أى قوانينه الموضوعية . ويمكن عادة – فى حدود استمرار سيادة نفس نمط الإنتاج – أى قوانينه الموضوعية . ان يحل التعارض بإعادة تفسير الأيديولوجيا، والتحايل على نصوصها – إذا كانت تستند إلى نص مقدس . ويقدم لنا تاريخ الإسلام فى العصر الوسيط مثالا على هذا ، من خلال نشوء الفرق (الأحزاب) المختلفة ، الشيعية والخارجية بأفرعها المختلفة . بحيث عبرت عن الصراعات الاجتماعية الدائرة فى شكل مجابهات فكرية وعسكرية (بين من يعتبرون دينيا إخوة فى الإسلام)، فضلا عن الحركات والأفكار المهدوية والصوفية.
والنصوص الدينية المقدسة بطبيعتها تشكل أصعب العوائق أمام مطلب الحركة التاريخية الملح بإعادة تشكيل الأيديولوجيا . واذا كانت الأيديولوجيا عموما تفرض قناعا مضللا على الحركة الفعلية للمجتمع وتعوقها ،فان النصوص المقدسة هى أصلب جزء فى هذا القناع. ولعل فى تاريخنا الإسلامى ما يؤكد صدق هذه المقولة. فى العصر العباسى حدثت نهضة تجارية ضخمة، الأمر الذى استوجب إدخال – أو انتشار بالأصح – نظام الاقراض بالفائدة ، وهى أمر محرم بنص قرانى صريح ، فابتدع الفقهاء طرقا معقدة لتحقيق شرعية الإقراض بفائدة بحيث لا يأخذ شكل الربا مباشرة[25].
وليست العقلانية كذلك ، انها لا تسعى لصب المجتمع ومصالحه المتناقضة فى قالب محدد سلفا يفترض انه قالب منسجم – على عكس الحقيقة . إنه مرة أخرى الفرق بين الموضوعية والذاتية فى المعرفة . ان العقلانية تستند إلى أرض الواقع نفسه ، ولا تفرض عليه قوانين من خارجه ، ويفترض منهجها الموضوعى ان الخلافات بين مدارسها يمكن ان تحل فى إطار الاستناد للعملية التاريخية الواقعية . تنتقد المدارس العقلانية بعضها البعض من حيث أغفلت هذا الجانب أو ذاك من جوانب حركة الواقع ، أو انها لم تتنبه لكل دلالاته العميقة. أما المدارس الأيديولوجية – الدينية فلا ترى فى الخارجين عليها سوى مارقين على الدين أو انهم – فى أفضل الأحوال – أغفلوا هذا النص أو ذاك لينتهى الأمر بحوار طرشان بين حملة نصوص –يعبر ولا شك عن اتجاهات متعارضة فى حركة الواقع ولكن دون ان يأتى بجديد أو يقدر ان يطور نفسه .
الأمر الأخير الذى نود الإشارة إليه بخصوص العلاقة بين الأيديولوجيا الدينية والعقلانية ان الأولى – كإطار للحضارة – ليست قابلة لتجاوز نفسها بالكامل فى جميع الأحوال . فنواتها الصلبة من النصوص لا يمكن تحويرها عبر التاريخ ، ويمكن ان تأتى لحظة يصبح فيها وجودها نفسه كنص مقدس أمرا متعارضا مع الحركة التاريخية وظروفها ، وهذا ينقلنا للنقطة التالية .
ثانيا : الأيديولوجيا والثورة الصناعية : انتقد عادل حسين – ومعه بعض الحق – الربط المطلق بين الثورة الصناعية والثورة البرجوازية[26] . ولكن السؤال الذى نطرحه هو هل ترتبط الفلسفة العقلانية- اىالعلمانية فى رأينا – بالثورة الصناعية ام بالثورة البرجوازية ؟ أهى منتج ذو صفة عالمية ام انها مجرد منتوج دنيوى غربى ناشئ عن الظروف الأوروبية الخاصة؟
ماذا تعنى الثورة الصناعية ؟ انها تعنى ضمن ما تعنى – وهو الأمر الذى يخصنا فى هذا المقام – تطبيق العلم على الإنتاج ؛ العلوم الطبيعية. لقد أرست العلوم الطبيعية منهجا معينا فى المعرفة ، يمكن ان نقول عليه بصفة عامة انه منهج استقرائى . ولا شك ان اكتشاف وتطبيق المنهج الاستقرائى أقدم من الثورة الصناعية بقرون . ولكن الثورة الصناعية اقترنت بمنهج استقرائى ذى خصائص بعينها : رفض المسلمات المتوارثة والتعامل مع الطبيعة على انها مجموعة من الظواهر القابلة للمعرفة ، أى انها موضوع للمعرفة الإنسانية . واستخدام هذا العلم فى شئون الإنتاج يعمق مفهوم الطبيعة كموضوع ، لأن البحث العلمى يصبح موجها بصفة أساسية لغرض إنسانى مادى محدد هو الانتفاع بالطبيعة، فأينشتين لم يسهم فى اكتشاف الطاقة الذرية بهدف التأمل فى إعجاز الخلق – رغم إشاراته المشهورة إلى هندسة الكون – وإنما لأهمية موضوع الطاقة ومصادرها فى ظروف عالمه. والمجتمع الذى يحقق ثورات تكنولوجية تصنيعية يشكل بالضرورة فكر أعضائه على نفس النمط العلمى فيصبح التفكير العلمى ظاهرة اجتماعية يمارسها البشر فى شئون حياتهم اليومية.
من هنا تأتى ضرورة العلمانية كظاهرة فكرية مصاحبة للثورة التكنولوجية (الصناعية). وليس صدفة ان انتصار العلمانية واكب كل ثورة فى التاريخ الحديث استهدفت تصنيع الإنتاج الاجتماعى . لقد تغلغلت العلمانية، ليس فى أوربا الغربية والشرقية وروسيا السوفيتية فحسب، وإنما أيضا فى الصين وفيتنام وكوبا . ان كل تجارب التنمية المستقلة فى عالمنا تدل على ارتباط العلمانية بالثورة الصناعية وليس الثورة البرجوازية . ولكن "الفكر العربى الجديد" له منطق آخر، منطق محاكمة التاريخ من منطق تعاليمه الخاصة به . . لذلك نجد الأستاذ عادل حسين يلوم ماو على تبنيه الماركسية – ومعلوم مدى ارتباطها بالعلمانية – كأيديولوجيا فى كفاحه من أجل تحقيق استقلال الصين ( ص 33) ، ويبدو انه يرى انه كان يجب على ماو ان يتبنى الكونفوشيوسية ! فعلى ماو ان ان يعتذر لمحكمة المنطق الذاتى الحضارى !!
يعترف عادل حسين بعلمية العلوم الطبيعية . ولكن هذه العلوم لم تكن لتحقق ما حققته لولا وجودها فى إطار فكرى عقلانى علمانى . ان العلمانية لا تفصل الدين عن الدولة والتعليم العام فحسب، وإنما تفصله أيضا عن حركة العلم والمعرفة . وكما انه لا يمكن تصور انتصار فكرة جاليليو عن المجموعة الشمسية فى الغرب دون العلمانية ، لا يمكن بالمثل تصور انتصار فكرة داروين عن أصل الأنواع فى بلادنا بدونها[27] . هل يعتقد عادل حسين ان توقف الإبداع فى العلوم الاجتماعية لدينا فى عصرنا هذا راجع فقط إلى التبعية للامبريالية؟ أليس تأثر البحث العلمى بالتراث المتجمد السابق ، له دور هام فى هذا الصدد (دون إغفال العوامل الاجتماعية) ؟ بل أليست دعوة الأستاذ عادل حسين نفسها إلى بحث المتغيرات الخاصة بواقعنا فى إطار العقيدة الإسلامية وحصر الخلاف بين المدارس المختلفة بصدد منهج التجدد الذاتى فى نفس الإطار، تشكل دعوة غير عقلانية بقدر ما هى غير علمانية؟
اننا نقول للاستاذ عادل حسين ان منهج التجدد الذاتى يعنى دائما – ضمن ما يعنى – تثوير البنية الإنتاجية للمجتمع وتطويرها ، كشرط أولى لتحقيق الاستقلال عن الامبريالية . . انه يعنى ثورة أو ثورات صناعية . ومن ثم – بناء على المناقشات السابقة – يعنى العلمانية ضمن ما يعنى . نقول أيضا ان العقلانية لا تنفصل عن العلمانية – كمنهج – ومن ثم يصعب القول بأن العلمانية معادية لنا بالكامل باعتبارها من اصل غربى . . ولكن هذا أمر آخر ، نتعرض له فى الفصل التالى .
اننا لا ننكر وجود أزمة نظرية عالمية ، ولا ننكر ان الكثير – بل أغلب – المدارس الفكرية الغربية والشرقية هى مجرد أيديوليوجيات وليست علوما ، إلا أننا نعتقد بناء على تحليلنا السابق بإمكانية وجود علوم اجتماعية عالمية. ولا يعنى هذا انه يمكن وضع نظرية نسقية كاملة عن التاريخ البشرى ولكن يمكن وضع بنية مفاهيم عريضة للغاية ودقيقة فى نفس الوقت تكون مرجعا نظريا شاملا للحركة التاريخية للمجتمعات . وهذا الأمر هو ما سبق وان قبله الأستاذ عادل حسين نفسه بتحفظ كبير (ص 15) ، وعاد ينكره ضمنا عدة مرات. ونعتقد بأن هذه البنية المفهومية العلمية قد ُوضع بالفعل حجر الزاوية فيها بواسطة كارل ماركس أساسا انطلاقا من الإنجازات العظيمة لمدارس سابقة ، وخصوصا الهيجلية والاشتراكية الفرنسية . ومن البديهى انه ليس ذنب ماركس وليس ذنب هذه البنية المفهومية انها قد تشوهت إلى حد كبير على أيدى مفكرى اليسار الرسمى والماركسيين المبتذلين . وهذا ينقلنا لمناقشة السؤال : هل الماركسية علم ؟ وما الذى تقدمه للعلوم الاجتماعية ؟
لقد قدم ماركس إسهامات عديدة وقيمة فى مختلف مسائل العلوم الإنسانية ، ولكن ربما توجز عبارته التى ذكرها فى مقدمة كتابه "نقد الاقتصاد السياسى" النتائج العامة الأساسية التى توصل لها . تنص هذه العبارة على ان الناس يدخلون فى إنتاجهم الاجتماعى فى علاقات اجتماعية معينة وضرورية ومستقلة عن ارادتهم ، تناسب درجة تطور قواهم المنتجة ، وان علاقات الإنتاج تحكم علاقات التبادل والتوزيع والاستهلاك ، و فوقها جميعا يبرز بناء فوقى كامل من العقائد والأوهام ، من قوانين وأعراف ونظم سياسية … إلخ . استنادا إلى هذا التصور للمجتمع البشرى فى حركة التاريخية نقدنا عادل حسين . . وفى أماكن متفرقة من هذا النقد أعدنا البرهنة على صحة هذا التحليل .
هذه هى ماركسية ماركس ، ولكن هل الماركسية المعاصرة ملتزمة بهذا الوضوح النظرى ؟ وإلى أى حد ابتعدت عن أسسها العلمية للتحول إلى عقيدة جامدة (أيديولوجية) تستند إليها فرق متصارعة بشكل غير عقلانى؟ ليس بإمكاننا هنا ان نقدم تحليلا كاملا للماركسية المعاصرة ، ولكن يمكن القول ان المتغيرات العالمية على مدى هذا القرن أدت إلى فقدان الماركسية لطابعها الثورى عند كثير من معتنقيها، الأمر الذى أدى بهؤلاء إلى تبرير تحول مواقفهم الاجتماعية استنادا إلى الماركسية بشكل دوجمائى . وكانت أول هذه التحولات نشوء الأرستقراطية العمالية فى أوروبا وتبنى أحزاب الأممية الثانية التى ما زالت قائمة حتى الآن لفكر إصلاحى ديمقراطى برجوازى باسم الماركسية، ثم أتى نجاح ستالين فى تولى قيادة الدولة السوفيتية الناشئة – وما يعنيه هذا النجاح من تبلور الطبيعة الاجتماعية غير الاشتراكية للنظام هناك – ثم هيمنة هذه الدولة على الأممية، إلخ، ليؤدى إلى تحوير وظيفة الماركسية إلى تبرير ما نتج عن هذه التحولات من ممارسات غير برليتارية وغير أممية، مثل ممارسات الدولة السوفيتية القائمة على مصالح وطنية . هكذا أيضا كان الأمر فى الصين بعد نجاح الثورة . كانت التيجة النهائية هى نمو أيديولوجيا ماركسية رجعية تعبر عنها الشيوعية الأوروبية والأنظمة البيروقراطية والأحزاب الشيوعية التقليدية فى مختلف البلدان .
ولكن هل معنى هذا ان الماركسية فقدت قيمتها نهائيا كنظرية ثورية؟ اننا ندفع بأن هذا غير صحيح، لأن المنجزات العلمية للماركسية ما زالت هى أهم وأخطر أساس نظرى لإجراء التحولات الثورية فى العالم . والانحراف المرصود عن أسس هذه النظرية إنما يعبر عن ظروف دولية واجتماعية معينة تقلل من حدة الصراع الاجتماعى فى مناطق بعينها فى العالم ، وبالتالى تقلل من وزن ودور حملة مشعل الماركسية الثورية . ما زال للماركسية دور خطير لتلعبه فى صراع الكادحين من أجل تغيير العالم، لأنها – فى نهاية المطاف – النظرية الوحيدة التى أعطت لدور الصراع الاجتماعى فى تغيير العالم أهميته المحورية اللائقة به . ولكن مازال على الماركسية ان تطور نفسها إزاء التطورات العالمية الجارية، ما زال عليها ان توصل افكارها النظرية بصدد المشكلات المستحدثة وأهمها ظاهرة البلدان "الاشتراكية" وظاهرة التخلف. ولن يتأتى هذا إلا بمعاناة نظرية فى استكشاف وتحليل الواقع العينى والتعامل مع نظرياته وأفكاره فى هذه البلدان، الأمر الذى سيقوم به حتما المثقفون الراديكاليون وهم يواجهون مشكلات واقعهم . خاصة القول ان النظرية الماركسية ما زالت هى المرشحة لأن تكون حجر الزاوية لاى نظرية ثورية فى عصرنا .
أما بالنسبة للانتقاد الأساسى الذى وجهه الأستاذ عادل حسين للنظرية الماركسية فهو قيام الثورة الاشتراكية فى بلدان متخلفة . وهو يعتقد بأن هذا الأمر يعبر عن خلل خطير فى نظرية ماركس . ونحن نوافقه مبدئيا على فكرة ان نظرية ماركس تتضمن بالضرورة حتمية حدوث الاشتراكية فى البلدان الرأسمالية المتقدمة . ولكن كان على كاتبنا ان يكون أكثر "عقلانية" فلا يستند إلى المسلمة القائلة بقيام ثورات اشتراكية فى بلدان متخلفة – وهو الذى دعا فى البداية إلى نبذ المسلمات ، وهو الذى شكك فى مواضع عديدة فى "اشتراكية" هذه البلدان – فمن الذى قال ان هذه ثورات اشتراكية أصلا ؟ انه الفكر الماركسى الرسمى . . الماركسية الرثة . هل تضمنت النظرية الماركسية هذه الطبعة من الاشتراكية المزعومة؟ كلا . ونحن نعتقد بأن النظم الاشتراكية" الحالية ليست فى الحقيقة سوى تشكيلات اقتصادية – اجتماعية طبقية (أو بمعنى اصح مراتبية) بيروقراطية ، وهى أمر لم تطرحه أبدا الماركسية الرثة ولكن البنية المفهومية التى أشرنا إليها منذ قليل يمكن ان تتضمنه . وسوف نعود إلى هذه المسألة فيما بعد.
3- أصراع حضارى أم صراع أمم و حضارات؟
أصراع أيديوليوجيات طبقية أم حضارية؟
يعرف القارئ ان الأستاذ عادل حسين يدافع عن الفكرة الأخيرة؛ انه صراع امم وحضارات وبالتالى – على مستوى الفكر – صراع أيديوليوجيات حضارية . وقد سبق ان أوضحنا انه عجزعن تأصيل فكرته نظريا ، مكتفيا بالإشارة إلى الأمة والحضارة كظاهرة ملموسة وكفى . ولسنا الآن بصدد كشف أخطاء الأستاذ عادل حسين المنهجية وإنما بصدد مناقشة عينية تفصيلية للثنائية التى يشير إليها ويرتكز عليها : ثنائية الحضارة والأيديولوجيا الإسلامية مقابل الحضارة والأيديولوجيا الدنيوية .
وقبل ان نناقش كيف لوى الأستاذ عادل حسين عنق العلمانية والإسلام لتبرير مشروعه الحضارى، يهمنا هنا التقدم بملاحظة معينة حول علاقة القومية بالأيديولوجيا . فعادل حسين يربط بسهولة – أو قل باستسهال – بين الحضارة الإسلامية والقومية العربية، هكذا ربط الأمور بشكل مطلق دون تمحيص . وكان أدعى للاتساق مع نظريته ان يتبنى مشروع الجامعة الإسلامية القديم ، فيدخل ضمن مشروعه للتوحيد المنطقة الممتدة من جزر المحيط الهادى التى يدين سكانها بالإسلام إلى المحيط الاطلسى . ان الأيديولوجيا التى يتبناها عادل حسين تتسق مع فكرة الجامعة الإسلامية ولكنها لا تتسق مع فكرة القومية العربية ، لأن الإسلام ببساطة لا يعترف بالقومية ، ولا يعترف بالتالى بحق تقرير المصير للقوميات التى تدين بالإسلام . ان العلمانية هى التى قدمت تاريخيا – وهى كفكرة تقدم – الأساس النظرى لفكرة القومية ، فيمكن ان تتقبل فكرة العلمانية ان تنشأ دولة فرنسية وأخرى المانية … إلخ ، على أساس التمايز القومى رغم انها جميعا تدين " بالدنيوية" كما يسميها الأستاذ عادل حسين . ولا نجد تفسيرا لعدم اتساق المؤلف هنا سوى المنافع التى يتوقع الحصول عليها من نشر الفكرة الإسلامية ، كما ناقشنا سابقا .
ننتقل الآن لمناقشة موضوع العقيدة الدنيوية التى يرفضها عادل حسين . ويهمنا أولا، ان نناقش اعتراضاته على المفهوم "الدنيوى" لعلاقة الإنسان بالطبيعة و نظرية القيمة – العمل، نظرا لأهمية هذه المفاهيم – فى رأينا – كأسس لفهم التاريخ فهما موضوعيا، ثم ننتقل بعد ذلك لكشف أبعاد الصراع الاجتماعى داخل الأيديولوجيا الدنيوية لنرى ما إذا كانت معادية لنا بكل مدارسها ام لا ، وما إذا كانت الأيديولوجيا تقوم على أسس طبقية ام حضارية . كذلك سنناقش الإنجازات الايجابية للفكر الغربى ثم نختم بتبيان أخطاء عادل حسين المنهجية فى نقده للدنيوية .
هل تحديد العلاقة بين الإنسان والطبيعة بانها علاقة صراع أو سيطرة من جانب الإنسان على الطبيعة مجرد فكرة غربية ام هو اكتشاف علمى؟ اننا ندعى انه اكتشاف علمى فالثابت تاريخيا ان البشر على اختلاف حضارتهم سعوا دائما لتطوير قواهم الإنتاجية، وان نهوض المجتمع ورخاءه، ارتبط دائما بتسارع هذا التطوير، على عكس فترات الركود والانحطاط التى تميزت بتباطؤ أو توقف أو تراجع تطور قوى الإنتاج. وقد سبق ان ناقشنا قبل ذلك كيف ان السيطرة على الطبيعة كانت دائما الهدف الأول للمجتمعات البشرية .
ولكن الأستاذ عادل حسين يرى أمرا غربيا هو ان علاقة الإنسان بالبيئة (الطبيعة) يمكن ان تكون علاقة تعاون وتناغم – شرط سيطرة الأيديولوجيا الإسلامية ! وليسمح لنا المؤلف ان نتساءل عن أساس هذا التعاون والتناغم . . عن ماهية "الأهداف المشتركة" بين الإنسان والطبيعة !! واذا كان السيد عادل حسين سيتكفل – من جانبه – بتغيير نظرة الإنسان للطبيعة بفضل العقيدة الإسلامية ، فهل يسمح سيادته بأن يذكر لنا ماهية نظرة الطبيعة للإنسان !!! فبدون هذا الأمر الأخير لن نضمن ان "تتفاعل" الطبيعة وتتناغم بدورها مع الإنسان ، الذى سيقع فى هذه الحالة فريسة لحب من طرف واحد !! غنى عن البيان ان علاقة أى ذات بموضوعها هى علاقة امتلاك أو استحواذ!! ، والسبيل الوحيد لنفى استحواذ الإنسان على الطبيعة ان تكون الطبيعة ذاتا والحال ان هذا غير وارد . لقد كان استحواذ الإنسان "كمجتمع" على الطبيعة هو الشرط الأول دائما لوجوده . وحتى حين كان الإنسان يعيش متجولا غير مستقراَ كان يستحوذ على الطبيعة استحواذا مؤقتا . ولكى يرتقى الإنسان ماديا وروحيا ، كان عليه ان يغير الطبيعة، ان يزيد من طرق وفاعلية استخدامه لها . وحتى حين كان الإنسان البدائى يقدس الطبيعة أو بعض مظاهرها، لم يمنعه هذا من "الاعتداء" عليها، فيستأنس النبات والحيوان لينتج منهما كميات محددة متجانسة من أنواع بعينها ولا يظل أسيرا لعلاقة "التعاون والتناغم" . وليس غزو الفضاء سوى خطوة إضافية فى مسيرة الإنسان لإخضاع الطبيعة أكثر فاكثر لأغراضه البشرية المحضة .
هل هو صحيح ما يدعيه الأستاذ عادل حسين من ان تخريب البيئة نتاج للأيديولوجيا الدنيوية إياها؟ كلا بالطبع، ان تخريب البيئة يمكن أن يكون عرضا جانبيا لفعل الإنسان فى الطبيعة، وهو أمر حدث فى كل العصور ولا يرتبط بالضرورة بأى أيديولوجيا بعينها . فالإنسان قبل ان يمارس الزراعة كان يعيش على الجمع والصيد، وحين كان عدد السكان يزيد كان الضغط على الموارد التى تقدمها الطبيعة تلقائيا يزداد بدوره ، الأمر الذى كان يترتب عليه تخريب البيئة، مما كان يدفع الإنسان القديم إلى الرحيل إلى مناطق بكر أخرى لم ُتستنزف بعد. إن مسيرة الإنسان العلمية تعمل – على العكس – على ترشيد استخدامه للطبيعة . وفى ظل الأيديولوجيا الدنيوية يبحث العلماء، تساندهم الحكومات فى الغرب ، عن طرق لمكافحة التلوث الذى تمخضت عنه الثورات الصناعية، وتنفق هذه الحكومات المليارات على الأبحاث والمشاريع المخصصة لهذا الغرض ، فهل هى تفعل هذا ياترى – فى إطار مشروع للتخلى عن الأيديولوجيا إياها ؟!
هناك أيضا جانب اجتماعى فيما يخص موضوع تلوث البيئة . ويتصل هذ الجانب بمسألة قابلة للبحث وهى هل ينفق الغرب المبالغ اللازمة للتخلص من تلوث البيئة؟ ولماذا بيئته الخاصة بينما يصدر الصناعات الملوثة للبيئة إلى البلدان المتخلفة؟ فى رأينا انه لا علاقة للأيديولوجيا الدنيوية بهذا السلوك، وإنما هو مسألة مترتبة على طبيعة النظام الاقتصادى – الاجتماعى الرأسمالى الذى يجرى هذا التخريب فى ظله، انه امتداد لدور الرأسمالية التخريبى لأرواح وأجساد العمال فى بلادها وسكان العالم المستعمر وشبه المستعمر، والذى ميز مسيرتها التاريخية. خلاصة القول ان تخريب البيئة والحفاظ عليها باعتبارها شرطا جوهريا لعملية إعادة إنتاج الحياة على كوكبنا ترتبط أشد الارتباط إيجابا بالتقدم العلمى ، وسلبا أو إيجابا بالصراع الاجتماعى فى العالم . وليس بخاف على الأستاذ عادل حسين الأثر الذى أحدثته الحركات الشعبية المضادة لتخريب البيئة فى الغرب فى هذا المجال .
والأغرب من كل ذلك ربط فكرة "التعاون مع الطبيعة" بالإسلام تحديدا. ولعله كان من الأنسب ربطها بالديانة البراهمية (فى الهند) مثلا . فهناك فى القران آيات عديدة تتحدث تحديدا عن تسخير الطبيعة للإنسان ، كالشمس والقمر والريح وغيرها . وفى التطبيق – ان جاز التعبير – شهدت فترات انحطاط الدول الإسلامية إهمال نظم الرى فى مصر وبلاد الرافدين وانتشار المجاعات والأوبئة بسبب ترافق ذلك مع نهب رهيب مفزع للأهالى . وعلى سبيل المثال هلك نحو ثلاثة أرباع سكان مصر بسبب المجاعات والأوبئة فى عهد المماليك والعثمانيين دونما حاجة لاى أيديولوجيا دنيوية . ثم أليس مشروع السيد عادل حسين نفسه يهدف لتطوير قوى الإنتاج ، أى تقدم سيطرة الإنسان العربى على الطبيعة ؟ لسنا ندرى والله ماذا نقول، فليس معقولا ان هذه البديهيات غائبة عن أذهان اولئك القوم المثقفين ، فهل نسوها أم تناسوها ؟
كذلك يرفض الأستاذ عادل حسين مفهوم القيمة – العمل، لأسباب أهمها انه نتاج للأيديولوجيا الدنيوية ، ثم يتبنى مفهوم ابن خلدون الذى يحدد القيمة بما يقدمه العمل الاجتماعى والطبيعة معا – على حد تعبيره . وهو يتبناه أيضا لأسباب أهمها أنه يعكس مفاهيم العقيدة الإسلامية ، كما يراها من وجهة نظره .
ماذا يقول ماركس فى نظرية القيمة؟ انه يقول ببساطة ان العمل الاجتماعى المجرد هو معيار القيمة التبادلية، وان معيار القيمة الاستعمالية هو العمل العينى، ولا نجد أنفسنا بحاجة لإعادة إثبات صحة هذه النظرية ، فيمكن للأستاذ عادل حسين أو من يشاء من القراء الرجوع إلى الفصل الأول من الجزء الأول من "رأس المال" . على أن الكاتب يتهم النظرية أيضا بانها خاطئة – دون أن يوضح أسباب الاتهام . وعادة ما يقال عن نظرية القيمة – العمل انها خاطئة لأنها" لا تنطبق على الواقع" ، فالأرض الزراعية أو أرض البناء – مثلا – لها ثمن رغم انها ليس لها قيمة طبقا للنظرية، وغير ذلك من الأمثلة كثير . وقد أوضح ماركس فى أجزاء كتابه الثلاثة رده على هذه الانتقادات. ولكننا يهمنا هنا ان نوضح أمرا منهجيا معينا ، وهو الفارق بين مفهوم الظاهرة وتعريفها التوصيفى . إذا قارنا بين نظرية القيمة – العمل ونظرية القيمة – المنفعة والندرة نجد ان الأخيرة أكثر انطباقا على الواقع من حيث الشكل المباشر . فمن الصحيح تماما انه لا توجد سلعة ذات ثمن ليست لها منفعة ما بالنسبة لعدد ما من البشر فى ظروف السوق المعينة ، وتكون فى نفس الوقت سلعة نادرة . بالمقابل ، أى شئ لا يخضع لهذين الشرطين لا يمكن ان يصبح سلعة فنظرية المنفعة تقدم إذن صيغة وصفية أفضل فيما يبدو . . ولكن هل معنى هذا انها تقدم مفهوما صحيحا للقيمة ؟ كلا . إنما هى نظرية القيمة – العمل التى تقدم لنا مثل هذا المفهوم ، لأنها تفسر لنا حركة القيمة وتتيح معرفة كلية بها، قائمة على معرفة قوانين حركتها القائمة على التناقض بين القيمة الاستعمالية والتبادلية، وعلى هذا الأساس توضح لنا – مثلا – لماذا تنخفض قيمة السلعة مع إدخال التحسين التكنولوجى فى صناعتها رغم ثبات منفعتها الحدية . ويمكنها – بتوسطات معينة – ان تشرح لنا تطور حدود التبادل بين سلع مختلفة تشبع حاجات مختلفة تماما للإنسان ، فضلا عن إيضاحها ظواهر معينة من قبيل النقود والأزمات الدورية فى النظام الرأسمالى … إلخ . أما الصيغة الوصفية فلا يمكنها إلا أن تتابع الواقع على أسس تجريبية دون ان تنجح أبدا فى تحديد البواعث الحقيقية لحركة القيمة . وعموما ، يمكن للقارئ ان يجد أفضل دفاع فلسفى عن حقيقية المفهوم وعينيته فى كتاب علم المنطق لهيجل أو فى شروحاته المختلفة .
والواقع ان المفهوم البديل الذى يطرحه الأستاذ عادل حسين للقيمة تدافع عنه مدرسة أخرى تنتمى بدورها إلى "الدنيوية" إياها، وهى المدرسة النيوكلاسيكية، التى ترفع لواء فكرة المنفعة الحدية لعوامل الإنتاج وهى الأرض والعمل ورأس المال ، كما انه يتفق تماما مع الانتقاد الذى اورده كولاكوفسكى الفيلسوف الماركسى البولندى "التائب"[28] بعد هجرته إلى الغرب ، ذكر فيه انه لا يفهم لماذا ُيعتبر عمل الإنسان خالقا للقيمة بيما لا ُيعتبر كذلك عمل الحمار الذى يصاحب الفلاح فى الحقل مثلا (أى الطبيعة). ووجه الاتفاق ان الاعتراضين يشتركان فى رفض اعتبار مفهوم القيمة مفهوما اجتماعيا فحسب . ونحن نرد على التساؤل بتسأول آخر : إذا كان الحمار ينتج قيمة فلماذا لا يشترك فى عملية التوزيع والتبادل والاستهلاك كطرف مستقل ؟ هل هذا بسبب خضوعه "لاضطهاد" من جانب الإنسان؟ هل لأنه طبقة مستغَلة؟ ربما أوضح هذا التساؤل لعادل حسين النتائج التى تترتب بالضرورة على رفض الإقرار بأن مفهوم القيمة مفهوما اجتماعيا فحسب . اما إذا ما اقر صاحبنا بأنه مفهوم اجتماعى ، فلن يجد سوى معيارا واحدا للقيمة هو العمل الاجتماعى، الأمر الذى سيجره إلى الإقرار بصحة مفهوم ماركس للقيمة التبادلية والاستعمالية .
وأخيرا نوجه هذا السؤال أو التساؤل إلى الأستاذ عادل حسين : هل يمكن ان تتم عملية التبادل فى السوق خارج إطار قانون القيمة – العمل؟. ليست المسألة فى نظرنا مسألة اختيار تفضيلى بين هذا القانون أو ذاك ، وإنما تقوم عملية التبادل نفسها بوضع قانونها الخاص، وهى عملية "دنيوية" بحتة – ان صح التعبير – لأنها عملية تبادل منافع مادية أى عملية بيع وشراء ، ولهذا بالذات اختارت قانونها الذى يعتبره عادل حسين قانونا دنيويا والأمر قد يختلف إذا ما تمت عملية التبادل لا على أساس المنفعة وإنما على أساس التعاون الإنسانى ، وفى هذه الحالة يكف التبادل عن ان يكون تبادلا سلعيا ويصير مجرد عملية توزيع اجتماعى للإنتاج ، وهو الأمر الذى تبنته النظريات والحركات الشيوعية، ولا يتحقق إلا فى مجتمع اشتراكى (يظل مع ذلك "دنيويا" أيضا !) .
والواقع ان الأستاذ عادل حسين كان منساقا للدفاع عن هذه المفاهيم الغربية لحاجته الشديدة إلى ادراج الماركسية ضمن الفلسفة الغربية الدنيوية المعادية لنا – فى رأيه- ليفسح الطريق امام العقيدة الإسلامية . لقد كان عليه ان يغفل تماما ، بل ان يهدم ُبعد الصراع الطبقى الداخلى فى الغرب كما انعكس فى أيديولوجياته المختلفة، وكان لابد للماركسية ان ُتحشر حشرا فى سلة واحدة مع أشد النظريات الغربية رجعية . ولكن الكاتب تناسى فى لهفته أشياء كثيرة ، وأركبته أهدافه الفكرية الموضوعة سلفا متن الشطط – والجموح ، فدفعته رغبة حارقة لا سيطرة له عليها إلى تقرير مقولة خطيرة لا يوردها إلا من يستمد معلوماته عن الماركسية عن الكراسات المبسطة والكتب الدعائية، فقرر ببساطة شديدة ان مفهوم القيمة التبادلية هو أساس نموذج ماركس الاقتصادى للرأسمالية ! كذا !! يمكن للسيد عادل حسين ان يطالع – لا نقل كتاب رأس المال كله – وإنما الفصل الأول منه ، حيث يجد عرضا رائعا لتطور التبادل ومراحل انفصال القيمة التبادلية عن القيمة الاستعمالية حتى يصل إلى حد الانفصال والتناقض الكامل بينهما مع الوصول إلى مرحلة التبادل السلعى المعمم، إلى مرحلة الرأسمالية. هذا التناقض بين القيمة الاستعمالية والتبادلية، هو الأساس الحقيقى لتحليل ماركس للرأسمالية وتناقضاتها . ولا يفوت ماركس ان يختتم الفصل بإيضاح نتيجة هذا التناقض، انه التشيؤ السلعى والاغتراب الإنسانى فى المجتمع الرأسمالى . يصعب حقا ان يجد "الإنسان الاقتصادى" الذى يعتبره المؤلف المفهوم المحورى الكامن خلف الفكر الاقتصادى الغربى . ان ماركس، مثل كل المفكرين الشيوعيين ، بشر بمجتمع لا مجال فيه للقيمة التبادلية، لا مجال فيه إطلاقا لهذا التشيؤ السلعى ، لا مجال فيه بالتالى "للإنسان الاقتصادى" . ان الثورة الاشتراكية التى بشر بها ماركس ستفجر التناقض بين القيمة الاستعمالية والتبادلية، ثم تلغيه تماما فى المجتمع الشيوعى ، بالإجهاز على الأخيرة [29].
كان لابد ل"لفكر العربى الجديد" من ان يشوه الماركسية – ماركسية ماركس – حتى لا يواجه الحقيقة : ان مفهوم الإنسان الاقتصادى أو المجتمع الاستهلاكى يمتد بجذوره، الحقيقية إلى مرحلة انحطاط نمط الإنتاج الرأسمالى، وبالتالى السيادة البرجوازية الاحتكارية وأيديولوجيتها السلعية المجردة، وليس إلى أيديولوجيا دنيوية مجردة فوق طبقية وفوق تاريخيه[30]، وفاقده لكل تأصيل علمى .
على ان اخطر النتائج المترتبة على إهمال البعد الاجتماعى فى رصد ظاهرة "الإنسان الاقتصادى"، انها – أى الفكرة – تؤدى بالضرورة إلى إغفال أثر تغلغل الرأسمالية والعلاقات السلعية فى إطار التبعية على ظهور واتساع نفس الظاهرة فى بلادنا، لصالح التصور القائل بالتبعية الحضارية ، وبالتالى إغفال أهمية القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالى والعلاقات السلعية فى بلادنا العربية فى مشروع التحرر القومى .
ثم يقفز بنا الأستاذ عادل حسين – للتدليل على صحة تصوراته الحضارية – إلى الحديث عن محاولات التوفيق بين الماركسية والوظيفية و دخول الشيوعيين الحكومة الفرنسية . هذا فى رأيه مجرد ظواهر ، لا يستنتج منها سوى ميل " فصائل" العقيدة الدنيوية للتجانس والتوحد فى أطر نظرية وعملية . ليست هناك أية إشارة إلى متغيرات أحوال الصراع الطبقى فى أوروبا ، باعتبارها الأساس الموضوعى لهذه الظواهر ، ولا اهتمام بإمكان حدوث هذا التأليف النظرى دون القضاء على جوهر النظرية الماركسية . لا شئ من هذا فالمهم ان الأيديولوجيا الدنيوية فوق الطبقية وجدت لها أخيرا سندا من الواقع وكفى !
هذا التحليل المبتسر الذى يتجاهل حتى ظاهرة انحطاط الثقافة الأوروبية المعاصرة تترافق معه نظرة الثقافة الأوروبية على انها شئ ثابت كلى لا يتغير ، ومرفوض بالطبع لأنه معادى . ولكننا نرى على العكس ان ثقافة البرجوازية الأوروبية فى فترة صعودها – عصر النهضة حتى عصر التنوير – قدمت إنجازات عظيمة للفكر الإنسانى، وكذلك الأمر بالنسبة للثقافة الثورية للبروليتاريا بعد هذ العصر . كيف يمكن إنكار القيمة الإنسانية العالمية للأدب والفن الغربيين؟ هل لوحة بيكاسو الشهيرة (جورنيكا) التى ترمز لبشاعة النظام النازى ولا إنسانيته معادية ؟ هل اعمال مالرو وكافكا وسارتر الأدبية (وغيرهم) التى كشفت بشاعة ولا إنسانية حضارة الاحتكارات معادية؟ هل القيم الإنسانية الرفيعة التى تتغنى بها اعمال شكسبير وجوته وهوجو قيما عدوانية غربية وغريبة علينا ؟ هل توضع كل هذه الاعمال العظيمة فى سلة واحدة مع افلام رامبو الأمريكية التى تمجد البطل الأمريكى فى مواجهة "المتوحشين" الفيتناميين ؟ قد يقال ان كل هذه الاعمال يمكن ان توضع فى إطار الأيديولوجيا الفردية. ولكن هل الفردية بالمعنى الواسع للكلمة، بما تعنيه من جعل العلاقات بين البشر علاقات موضوعية هى نفسها الفردية التى تروج لها أجهزة الدعاية الاستعمارية الحقيرة؟ هل كل القيم التى أبدعتها اوروبا فى ثورتها الصناعية ذات طابع حضارى خاص فحسب ؟ ماذا عن احترام قيمة العمل المنتج والوقت والنظام والانضباط؟ اليس الفكر العقلانى المستقل عن اللاهوت ذو قيمة إنسانية عامة؟ بل أليس المنهج العلمى المتطور والتقدم العلمى الحاصل من الأمور التى نسعى – أيا كان مشروعنا للتحرر – لاكتسابها؟ ثم أليست هذه كلها قيما إنسانية عامة ، تستدعى منا الاحتفاء بالنهضة والتنوير الأوروبيين باعتبارهما منجزات روحية ومادية عظيمة ؟ ولكن لا . . إن "الفكر العربى الجديد" يذكرنا بالاستعمار الاوروبى، ثم يربط بينه – بشكل متعسف جدا – وبين كل هذه القيم الروحية والمنجزات المادية .
كذلك نلاحظ أن الأستاذ عادل حسين لا يحدد لنا بشكل قاطع – للأسف – مفهومه للدنيوية التى صب عليها جام غضبه . . فهو تارة يصفها بانها اعتبار الإنسان مركز العالم وتارة أخرى يعتبرها عقيدة تستهدف وُتعلى من شان تحقيق المنفعة واللذة الحسية فحسب . ونحن نرى ان الدنيوية بالمعنى الثانى لم تكن سائدة فى الغرب دائما وإنما فى عصر انحطاط الرأسمالية فحسب . اما الدنيوية بالمعنى الأول فهى جوهر الوجود الإنسانى نفسه فى كل الحضارات وفى كل زمن . أما نقيض الدنيوية بالمعنى الأول . . فهو الأيديولوجيات الدينية (إسلامية – مسيحية) التى كانت سائدة فى الشرق والغرب ابان العصور الوسطى ولكنها كانت سائدة بمعنى شكلى وسياسى أساسا .
هناك أخيرا ملاحظة منهجية جوهرية، ان الكاتب رفض أصلا ان يقدم تحليلا متماسكا لأفكاره . ماذا لديه ضد أيديولوجية الغرب ؟ لا شى سوى مجموعة قرائن وأمثلة منتقاه، قام بتعميمها بشكل تعسفى دون مناقشة موضوعية . ففى رأيه ان الوجه الآخر للعلمانية هو ما يسميه مسلمة تفوق الغرب ، وتبرير مشروع سيطرته على العالم . والأمر الأخير وثيق الصلة بالطبع بنمط الإنتاج الرأسمالى كما ناقشنا . والحق ان مسلمة تفوق الغرب لا تعود للفكر العلمانى بقدر ما تعود لكونها حقيقة موضوعية[31]. حسنا، ان الغرب متفوق بالطبع ، والا كيف استطاع ان يحتل كل قارات العالم القديم لعقود عديدة ؟ ولماذا ما زلنا نرسف فى أغلال التبعية؟ بل ولماذا مشروع الاستقلال أصلا إذا لم نكن نجابه بقوة متفوقة؟
والأهم ان الأستاذ عادل حسين لم يثبت بأى شكل منطقى وجود هذه الرابطة الضرورية المفترضة بين العلمانية ومسلمة تفوق الغرب ، بل اكتفى بذكرها، وعلينا ان نصدقه ، لا لشئ إلا لأنه يقول هذا ! ان إثبات الأفكار بالأمثلة هو حجة من ليس لديه حجة ! فباستطاعة أى مطلع على الفكر الغربى ان يأتى بترسانة مضادة من الأمثلة ، خذ مثلا مؤلفات جيمس هنرى بريستد عن الحضارة المصرية القديمة ، ومؤلف توينبى الشهير فيما يختص بالحضارة الإسلامية . وعلى صعيد الحركة السياسية ، لماذا يتناسى الكاتب مواقف بلنت الانجليزى فى مساندة أحمد عرابى ، ومظاهرات الانجليز ضد حرب 1956 ، واحتجاج الشباب الأوروبىضد حرب امريكا فى فيتنام ؟انه نسيان متعمد ، لأنه يتسق مع التصور القائل بأن كل التطورات الاجتماعية فى أوروبا كانت تستهدف فى المقام الأول تثبيت وفرض التوسع الخارجى . كما يفهم من ذلك – مثلا – ان الثورة الفرنسية العظمى لم تقم لتصفية الصراع بين البرجوازية والاقطاع وإنما من أجل إنفاذ الحملة الفرنسية واحتلال الجزائر ! أما الثورة البلشفية فلم تقم بدورها فى إطار الصراع الاجتماعى الرهيب ضد البرجوازية والإقطاعيين الروس وإنما تمهيدا لمخطط توسعى جهنمى ستتكشف أبعاده لاحقا ! ولا مانع – على سبيل الاحتياط – من أخذ بروتوكولات حكماء صهيون الشهيرة بعين الاعتبار !!
مقابل هذا النموذج المظلم للأيديولوجيا الغربية الحديثة يقدم لنا الأستاذ عادل حسين أيديولوجيته الجديدة … الإسلامية المضيئة ، أولا باعتبارها غير دنيوية، وثانيا باعتبارها متجاوزة للصراع الاجتماعى – مثلها مثل الدنيوية، وثالثا باعتبارها "مفيدة " فى تحقيق مشروعه الحضارى ، وبالطبع بوصفها تحمل عقلانيتها الخاصة . وقد ناقشنا من قبل دور الأيديولوجيا عموما فى التاريخ ، والعقلانية باعتبارها مفهوما علمانيا مضادا لنظرية الحضارة فلا يتبق لنا سوى مناقشة النقاط الثلاث سابقة الذكر .
هل الحضارة الإسلامية – وبالتالى الأيديولوجيا الإسلامية – غير دنيوية ؟ لقد ناقشنا من قبل طبيعة الأيديولوجيا عامة وعلاقتها ببنى المجتمع الفعلية ، كما ناقشنا الحضارة بما ُيفهم منه انها شكل للحركة الاجتماعية للبشر . والسؤال الآن ، هل الحضارة والعقيدة الإسلامية استثناء من القاعدة ؟ هل يمكن ان تكونا غير دنيويتين ؟ بالنسبة للحضارة الإسلامية، يمكننا فى حدود هذه المساحة مناقشة الجانب السياسى منها، نظام الحكم ، أى الخلافة ، لنرى هل هى دنيوية ام لا ؟ يقول المواردى وابن خلدون ان الخلافة هى "الولاية العامة الجامعة القائمة برئاسة الدين وسياسة الدنيا به" هذا هو المثال الدينى . ولكن ماذا كانت الخلافة فى حقيقة أمرها؟ نرى انها كانت شكلا للحكم الوراثى المطلق المستند إلى أساس دينى (ثيوقراطى) . فمنذ عهد الدولة الأموية ساد نظام الحكم الوراثى المطلق سائر انحاء العالم الإسلامى . ويظهر الأساس الدينى لهذا الحكم بوضوح فى نظام "البيعة"، التى لا تقتصر على مبايعة الخليفة فحسب ، بل مبايعة ولاة العهد أيضا فى عهد الخليفة نفسه . هكذا كان الحال فى عهد الدولة الأموية والعباسية والفاطمية وأمويو الاندلس . ليس هذا فحسب ، بل اتخذ الحكم شكلا دينيا صريحا فى عهد العباسيين والفاطميين ، فصار نظام الحكم الملكى مقدسا ، فقال المنصور – المؤسس الحقيقى للدولة العباسية – مثلا – إنما انا سلطان الله فى أرضه . وأضافت الخلافة الفاطمية إلى ذلك فكرة تقديس الإمام وعصمته، وصار توريث الخلافة من الأمور المقدسة . اننا نتكلم هنا عن عهود ازدهار الخلافة و الحضارة الإسلامية عامة وليس عن فترات أخرى حين حكم الأتراك (الغز) وبنو بويه والمماليك باسم الخلافة دون ان يكون للأخيرة أى نفوذ سياسى فعلى . ولعل من الأمور الملفتة للنظر انه حتى الخوارج الذين ثاروا باسم الشورى وحق كل المسلمين فى تولى الخلافة دون تمييز، أقاموا فى المغرب دويلاتهم على أساس المبدأ الوراثى .
وقد يقال ان هذا ليس "نظام الخلافة الإسلامى الحق" وان عمرا قد قال لا خلافة بدون شورى . ولكن هذا القول يعادل القول بأن تاريخ المسلمين السياسى طوال اربعة عشر قرنا إلا قليلا ليس هو تاريخ الإسلام ! والواقع لا يمكن تفسير شورى عمر بن الخطاب إلا كمرحلة انتقالية بين أمة المسلمين التى أسسها الرسول والتى كانت متأثرة بعمق بالتقاليد القبلية فى الرئاسة وبين دولة الحكم المطلق . انه مرحلة انتقالية بين الدويلة الصغيرة التى قامت فى صحراء العرب وبين الامبراطورية الشاسعة التى أقيمت فيما بعد . . من مجتمع المساواة الصحراوى إلى المجتمع الطبقى الزراعى . باختصار، لا يمكن تفسير تاريخ العرب فى هذه الفترة استنادا إلى فكرة الحضارة الإسلامية، وإنما فقط استنادا إلى الصراع الاجتماعى الدائر والتحديات الفعلية الداخلية منها والخارجية . ما هو موقع الإسلام كدين من هذا التاريخ السياسى ؟ انه شكله العقيدى ، الإطار الذى تم فيه تبرير دولة الحكم الملكى المطلق ، بل وحكم القادة العسكرين باسم الخلفاء .
نخلص من هذه المناقشة السريعة إلى انه لا يمكن فهم الخلافة – الشكل السياسى المميز للحضارة الإسلامية – وتطورها من حيث المضمون والشكل إلا بتفحصها من وجهة نظر "دنيوية"، إلا بالكشف عن طبيعتها باعتبارها الشكل السياسى لمجتمع بشرى يخضع لكل القوانين التى تنطبق على المجتمعات البشرية عامة .
ونفس الأمر ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية . فلا يمكن فهم نجاح الدين الإسلامى السريع فى الحلول محل الأديان المختلفة فى المنطقة الواسعة التى انتشر فيها ، وتغير اللغة فى مساحة واسعة من هذه المناطق المفتوحة ، دون ان نأخذ بعين الاعتبار ان الإسلام ساوى جميع المسلمين – نظريا على الاقل – فى الحقوق والواجبات . لقد احتل الرومان مصر نحو ستة قرون فما أفلحوا فى إدخال عبادة الامبراطور ولا مذهبهم المسيحى الملكانى فيما بعد إلى مصر، فضلا عن اللغة اللاتينية أو اليونانية ، وذلك لسبب بسيط ، انهم لم يعترفوا أبدا بمساواة سكان الامبراطورية بالرومان . وليست مسألة المساواة هذه مجرد مسألة روحية ، وإنما يترتب عليها المساواة فى الحقوق والواجبات وحق التقاضى بل والثورة على جور الحكام استنادا إلى هذه المبادئ نفسها وليس بالخروج على مبدأ الدولة[32] .
من جهة أخرى لا يمكن التعرض للجانب السياسى من الحضارة الإسلامية دون رؤية الوجه المقابل لدولة الخلافة، الوجه الثورى . لقد ثار الخوارج على الدولة الأموية باسم مبدأ الشورى وحق كل مسلم فى الخلافة، وباسم مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقالوا بتكفير مرتكب الكبيرة . وكان مغزى هذه المبادىء آنذاك الدعوة الصريحة لإسقاط الأموية، الدولة التى حولت الشورى إلى ملك وراثى، واعتمدت على العصبية العربية فاعتبرت الموالى (أى غير العرب) المسلمين أشبه بالناس و رفضت إسقاط جزية الرأس عنهم . وبالمقابل ادعى عبد الملك بن مروان وعامله الحجاج انهم (أى دولتهم) المسلمون الحقيقيون ، ورفعوا من شان القائلين بمذهب الإرجاء لأنه يعطى مشروعية دينية لحكمهم. وتحت راية الدفاع عن (إسلامهم) قام الحجاج بحروب عديدة ضد الخوارج ونجح فى الإجهاز على فرق كاملة منهم . فهذا إسلام وذاك أيضا، وهؤلاء مسلمون وكذلك الآخرون . . لم يمنع هذا قيام الحروب الأهلية والثورات المتعاقبة. هذه الحقيقة توضح لنا مرة أخرى طبيعة الأيديولوجيا كستار أو مظهر للتناقضات الاجتماعية ، وكيف انها تنطبق أيضا على الأيديولوجيا الإسلامية .
لقد كان "الفكر العربى الجديد" مضطرا لأن يتناسى هذا كله من أجل ان يقنع قراءه بأن الصراع العالمى صراع حضارات (ثقافات) وليس صراعا طبقيا، وان الحضارة وأيديولوجيتها مسائل غير مبررة، وإنما هى مسائل انتماء لا تخضع للتحليل العقلى، ومن ثم يستطيع ان يظهر مشروعه للاستقلال بواسطة حشد الناس على أساس عقيدتهم بمظهر عقلانى ومنطقى . والحال ان بناء المشروع التحررى على هذا الأساس لا يتفق مع العقلانية ولا المنطق، ولا حتى – كما ناقشنا – مع حقائق التاريخ .
بقى ان نشير إلى ان كل هذا البناء النظرى ينطلق من ملاحظة غير دقيقة مؤداها اننا كنا نتمتع بالاستقلال حين كنا نعيش فى ظل الثقافة الإسلامية، وان التبعية ارتبطت بإدخال نمط الاستهلاك الغربى إلى بلادنا . . والحال ان نمط استهلاك أى شعب جزء لا يتجزأ من ثقافته (حضارته) . وقد رتب الكاتب على هذه الملاحظة القول بضرورة العودة إلى البناء الثقافى القديم حتى نستعيد استقلالنا . وسوف نناقش هذه الفكرة بالتفصيل فى الفصل التالى
4- هل التبعية حضاريةأم هى بنية اقتصادية-اجتماعية؟
المقصود بالطبع من هذا التساؤل هو مفهوم التبعية، فمن الواضح ان كون التبعية حضارية فى جوهرها لا ينفى ان لها جوانب اقتصادية واجتماعية ، والعكس صحيح . وأغلب دارسوا التبعية بمختلف اتجاهاتهم يتفقون على وجود هذه الجوانب الثلاثة وغيرها فى علاقة التبعية. ومشروع الأستاذ عادل حسين للاستقلال الحضارى يقوم – ضمن أسس أخرى – على فكرتين عن التبعية ، أولاهما انها من حيث الجوهر تبعية حضارية ، وثانيهما الفصل بين ظاهرتى التخلف والتبعية.
أولا : نمط الاستهلاك والحضارة والتحديث : اننا نوافق تماما على ان إدخال نمط جديد للاستهلاك ضمن بنية اقتصادنا العربى كان الخطوة الأولى فى إنشاء علاقة التبعية[33] ، ولكن بأى معنى؟ هذا يتطلب أولا ان نعرف كيف أسهم استيراد نمط الاستهلاك فى نشوء علاقة التبعية . لقد كان معنى النهوض الاقتصادى فى الغرب – حتى قبل الثورة الصناعية – ظهور قوى اقتصادية وعسكرية كبرى لها مصالح اقتصادية واستراتيجية معينة، الأمر الذى فرض على الدول الأخرى – غيرالأوروبية – تعديل بناها الأساسية الداخلية بما يتلائم مع هذه الحقيقة . وبالطبع تفاقم أثر هذه الحقيقة مع قيام الثورة الصناعية . تمثل هذا الأثر أولا وقبل كل شئ فى اضطرار دول العالم التى تعرضت لهذا الضغط لانشاء جيوش واساطيل حديثة، وبالتالى كان لابد من تحديث البنية الاقتصادية لسد هذه الحاجات الملحة الجديدة . ولكن هذه المسألة فى حد ذاتها لم تكن لتؤدى بالضروة إلى نشوء علاقة التخلف – التبعية . ولدينا مثل تاريخى على ذلك . . هو تجربة التحديث فى اليابان فى عهد امبراطورية الميجى . لقد استطاعت اليابان آنذاك ان تحدث تحويلا اجتماعيا جذريا يلائم مطلب تحديث البنية الاقتصادية الضرورى لصيانة استقلالها، وبالطبع رافق ذلك علمنة الثقافة . كذلك لدينا مثل آخر، وان كان قد فشل ، هو محاولة محمد على تحديث الاقتصاد المصرى وحلم ابنه ابراهيم انشاء امبراطورية عربية . ماذا نفهم من هذين المثلين ؟ أولا : ان التبعية ليست نتاجا للتحديث كما يظن الأستاذ عادل حسين وإنما هى نتاج لفشل التحديث . . فقد ترتب على هذا الأمر الأخير ان انفتحت ابواب هذه الدول على مصراعيها لكى ينجز الرأسمال الاوروبى "التحديث" الذى يوافقه فى القطاعات التى تخدم نهوضه الصناعى – قطن مصر والهند مثلا – بدلا من تحديث البنية الاقتصادية – الاجتماعية الداخلية نفسها . ولم تكن مصالح الرأسمال الاوروبى متوافقة مع مصالح البنية الداخلية ، لا بسبب عداء حضارى ما ، وإنما بسبب ان هذه البنى الاقتصادية- الاجتماعية التى صارت متخلفة وتابعة لم تكن قابلةللتحديث بالمعنى الثانى فى وقت وجيز[34]. لقد ترتب على فشل التحديث ان تحولت قطاعات إنتاج معينة لخدمة حاجات السوق الدولى (أى الدول الرأسمالية) حتى يمكن الاستمرار فى استيراد المنتجات الأوربية اللازمة للتحديث الجزئى المبتسر . . وكان طبيعيا إزاء ذلك لا ان تتحول هذه الدول إلى دول مستعمرة فحسب ، ولكن أيضا ان تتغير نظرة الطبقة السائدة للامبريالية وان تشعر نحوها بالدونية والتبعية و تندفع فى تقليدها فى نمط استهلاكها الفردى ، الأمر الذى عمق من التبعية . ونحب هنا ان نلفت نظر السيد عادل حسين إلى انه على صعيد بنية الاستهلاك فى المجتمعات المتخلفة لا تلمس ظاهرة تغريب هذا النمط وإنما ازدواجه. . لأنه يستحيل ان يسود تماما أى نمط بعينه للاستهلاك حتى ولو كان "غربيا" دون ان يتم تحديث البنية الاقتصادية – الاجتماعية ككل، والخروج من مأزق التخلف –التبعية .
ثانيا، وبناء على ما سبق أيضا : ان منشأ التبعية ليس هو إدخال نمط استهلاك جديد، وإنما بالتحديد إدخال نمط استهلاك ليست له أسس فى بنية الإنتاج الداخلية . لقد ذكر الأستاذ عادل حسين نفس الفكرة . ولكن لأنها لا تتسق مع مجمل تحليله سرعان ما تناساها ، فارتكز فى موضوع الخروج من التبعية على رفض نمط الاستهلاك الغربى بصفته كذلك ، أى بصفته" أجنبيا عن حضارتنا". خلاصة القول ان إشكالية التخلف – التبعية هى فى جوهرها قضية اتساق بنية الاستهلاك مع بنية الإنتاج ، وليس مع نمط حضارى خارج إطار الفهم وفوق تاريخى Transhistorical . ومن البين ان الأستاذ عادل حسين لا يفهم استيراد نمط الاستهلاك كعملية ُيعاد إنتاجها باستمرار، حيث ان نمط الاستهلاك "الغربى" نفسه دائم التغير . وللسبب الأخير بالذات لا ُتعد عملية استيراد نمط الاستهلاك عملية استيراد حضارى بالدرجة الأولى وإنما استيراد نمط استهلاك لا يتلائم مع بنية الإنتاج القائمة، بل يحدث العكس، إذ يكيف القطاع الحديث للإنتاج نفسه ويعيد تكييفها باستمرار مع نمط الاستهلاك الوارد ، ومن ثم تكون العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والتبادل معكوسة: فى البلد المستقل يحدد الإنتاج كل شئ وفى البلد التابع يحدد الاستهلاك كل شئ .
اننا ما زلنا نواجه نفس المشكلة التى واجهها أجدادنا فى زمن نشوء التبعية، مشكلة تفوق الحضارة الغربية الرأسمالية، تلك الحضارة التى قطعت فى ميادين العلم والمعرفة فى عمرها القصير أضعاف أضعاف المسافة التى قطعتها البشرية عبر تاريخها الطويل السابق كله . اننا باختصار ما زلنا نواجه مشكلة التحديث، التى فشلت مجتمعاتنا قديما فى حلها لضعف القوى الاجتماعية القادرة على إنجازها وبسبب تدخل الاستعمار السياسى والعسكرى . والإجراءات التى سُتتخذ للحد من نمط الاستهلاك الغربى ستستهدف أولا وأخيرا إعادة التوازن بين نمط الإنتاج ونمط الاستهلاك فى إطار ستحدده طبيعة البنية الاقتصادية – الاجتماعية التى سيجرى إنشاؤها .
ويمكن ان نضرب أمثلة لتوضيح فكرتنا . لقد ابتكر الغرب أنواعا محسنة من البذور تنتج أضعاف ما تنتجه البذور التقليدية ، ولكن يعيبها انه لابد من استيرادها مع كل محصول جديد لأن البذور الناتجة لا تحمل نفس الخصائص الوراثية. فاذا افترضنا مثلا ان هذا هو الحال فى حالة بذور القمح ، فاننا سنمتنع بالتأكيد – فى حالة إنهاء وضعية التبعية – عن استيرادها، فإما ان نمتلك التكنولوجيا التى تنتج لنا إعادة إنتاج البذور المحسنة فى معاملنا ، أو ان نعتمد على بذور أقل جودة لدينا ونطورها . . ولكن ليس مطلوبا للخروج من التبعية ان نمتنع مثلا عن تصنيع المكرونة و أنواع الخبز الغربى ونعود إلى كتب المقريزى كى نعرف "طبيعة الخبز الإسلامى" و أنواعه ! كذلك الأمر فى صناعة النسيج، المسألة ليست ان نصنع من القماش بذلة ام جلبابا ولكن مسألة ان نصنع القماش نفسه بتكنولوجيا غير مستوردة (على خلاف الصناعة الناصرية !) . والغرب نفسه يعلمنا هذا الدرس ، فهو لا يخاف على "هويته الحضارية" حين يستهلك شايا هنديا و بنا برازيليا و أناناسا أفريقيا، أو ان تنتشر فيه "موضة" فرعونية أو هندية . فالمسألة الجوهرية هى هل يضر ذلك بتناغم بنى الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك ام لا ؟ لقد توقفت الحضارة الإسلامية عن تطوير نمط استهلاكها منذ قرون – وهى نفسها القرون التى شهدت أعظم تطوير عرفته البشرية فى إنتاجها واستهلاكها على السواء – فهل نعود من حيث توقفنا أم من حيث توقف العالم – مع فترة انتقالية مناسبة بالطبع؟ ان العلوم الطبيعية التى يعترف كاتبنا بانها علوم عالمية، هى أمر مفروض علينا شئنا ام أبينا ، لأننا ببساطة لا نعيش وحدنا على هذا الكوكب . والحال ان تطوير هذه العلوم وتطبيقها سيلعب دور الرافعة فى بناء مجتمعنا العربى المستقل ، والحال ان تطبيقها يفرض ألوانا معينة من العلاقات الاجتماعية بين البشر، مثل الأخلاق الفردية – بالمعنى الإيجابى للكلمة الذى ذكرناه من قبل – وغير ذلك .
ماذا يقدم لنا بالمقابل المفهوم الحضارى للتاريخ فى تفسير ظاهرة التبعية ؟ مجرد صورة غير واضحة المعالم تسمى التبعية الحضارية تستند بالضرورة إلى فكرة الصراع الحضارى كمحرك للتاريخ [35] . طبقا للمفهوم"الحضارى" للتاريخ يجب ان نعتبر الولايات المتحدة على رأس الدول التابعة !! فهذه المستعمرة البريطانية السابقة فى العالم الجديد لا تتمتع بأى استقلال حضارى عن أوروبا الغربية . . أمها الشرعية ! كما ان استجابة اليابان لمنطق التحديث على النمط الأوروبى – دون ان ننفى احتفاظها بمظاهر معينة تعود لماضيها الحضارى – تعد من أكثر الدول إيغالا فى التبعية (انهم يلبسون البذلة … إلخ) !!
ثالثا : العلاقة بين التبعية والتخلف : لا يعترف "الفكر العربى الجديد" بوجود ظاهرة تسمى التخلف – التبعية، وإنما هناك ظاهرة تسمى التخلف وأخرى تسمى التبعية . وقد عرفنا ما هى التبعية، فما هو التخلف ؟ لم يهتم الأستاذ عادل حسين بتحديد هوية التخلف، وهذا طبيعى ، فالتخلف مفصولا عن التبعية لا يمكن ان يعنى وفق منطق "الفكر العربى الجديد" – منطق تحليل التاريخ كصراع حضارات – سوى نظرية عنصرية فى التاريخ، فحيث ان الإنسان أسير "حضارته" ، وحيث ان هناك حضارات أو شعوب تعد متخلفة دونما حاجة لسيطرة خارجية تكون النتيجة المترتبة بالضرورة ان هذه الشعوب متخلفة بطبيعتها "الحضارية" . ان الاتهام الذى وجهه الأستاذ عادل حسين للفكر "الدنيوى" ينقلب عليه بالضرورة ، ولكنه أبدا لا ينطبق على المفهوم العلمى – الماركسى للتاريخ . ان اعتبار التبعية هى جوهر ظاهرة التخلف (الأمر الذى يبيح استخدام مفهوم التخلف – التبعية)، يفرق بين حقيقتين أو ظاهرتين : الأولى انه وجدت فى كل فترات التاريخ شعوب أقل تقدما من جميع النواحى من شعوب أخرى معاصرة ، ولكن كل منها له بنية اقتصادية – اجتماعية متماسكة ومتكاملة ومستقلة ، والثانية ان تختل هذه البنية نفسها وتفقد أى آلية لإعادة الإنتاج الذاتى وتتمحور حول الخارج – أى تقع فى إطار التبعية – وهنا نتحدث عن ظاهرة التخلف[36] . بالسبة للحالة الأولى ، فقد فسرها مفكرو "الدنيوية" الإنسانيون العظام بعوائق طبيعية – جغرافية أو ظروف تاريخية بعينها ، الأمرالذى لا ينطوى على أية عنصرية . وعلى سبيل المثل ، مرصود دور البيئة الاستوائية فى تأخر النمو الحضارى للشعوب التى تقطنها بكافة مستوياته . . انه أمر حقيقى؛ فالاستعمار وجد عند فتحه هذه المناطق شعوبا كانت ما تزال تعيش فى أطر قبلية و تتبنى معتقدات توتمية وتتميز بتأخر اقتصادى واضح . هذه المجتمعات تعد متأخرة من زاوية منظور عالمى لما بلغته قوى الإنتاج فى العالم من تطور ، ولكنها ليست متخلفة .
والواقع ان هناك تناقضا ملموسا فى تصور الأستاذ عادل حسين للتخلف ، فحين يتعرض لمسائل عينية بخصوص التحرر من التبعية يشير للتخلف – من وجهة نظر استراتيجية التنمية المستقلة التى يتبناها – بأنه حالة قزم مشوه وتابع وليس حالة تاخر زمنى . . أما فى لحظات "التجلى الحضارى السعيد"، فيفصل بين التخلف والتبعية كما رأيناه هذا التناقض لا يمكن فهمه إلا فى إطار رغبة مؤلفنا القاهرة فى إحلال مفهوم حضارى للتاريخ محل المفهوم الاقتصادى – الاجتماعى .
ويدخل ضمن انتفاع الأستاذ عادل حسين من الفصل بين التبعية والتخلف ، فى تطوير مفهومه الحضارى للتاريخ ، التصور الذى أورده ، بإمكان قيام علاقة تبعية بين الدول المسماة "بالاشتراكية" . لن تتعرض هن" لتكاسل" الأستاذ عادل حسين عن تحديد طبيعة البنية الاقتصادية – الاجتماعية فى هذه المجتمعات، كما لن نتعرض فى هذا الفصل للأسباب التى من أجلها نعتبر هذه المجتمعات مجتمعات طبقية – أو بالأصح مراتبية – وإنما سنناقش إمكانية ان تلحق هذه الدول دولا أخرى بها فى علاقة تبعية .
فى رأينا انه لا يمكن الحديث عن إمكانية قيام علاقة التخلف – التبعية خارج إطارنمط الإنتاج الرأسمالى تحديدا . ففى الماضى قامت امبراطوريات عديدة، منها الامبراطورية الرومانية والعربية والفارسية، وفيها جميعا سيطر شعب معين – أو طبقته الحاكمة بالأصح – على شعوب أخرى عسكريا وسياسيا ، كما رافق ذلك نهب اقصادى لفوائض هذه البلدان . فمصر مثلا كان يذهب فائضها من القمح وورق البردى والمنسوجات وغيرها إلى روما فبيزنطة فالمدينة ثم دمشق باختلاف الغزاة[37] ، فهل معنى ذلك ان مصر دخلت مع هذه العواصم الامبراطورية فى علاقة تخلف – تبعية؟ كلا بالطبع، لأن مصر آنذاك لم تفقد قدرتها على إعادة الإنتاج الذاتية ، واحتفظت بتكامل هيكلها الاقتصادى التقليدى ونظم الإنتاج التقليدية فيها . واذا كانت مصر قد ُحرمت من إمكانية إعادة الإنتاج الموسع بسبب نزيف الفائض إلا انها لم تدخل فى إعادة إنتاج موسعة طبقا لنموذج التنمية بالانتشار ، ولم يتغير نمط استهلاكها تغيرا جوهريا . ترى ما هو الفارق الجوهرى الذى أدى لاختلاف النتائج بهذا الشكل بين الاستعمار القديم والامبريالية؟ انه بالتحديد طبيعة نمط الإنتاج السائد فى الدول المستعمرة . فمن خصائص نمط الإنتاج الرأسمالى الفارقة فى هذا الصدد أنه ينزع نحو توسيع لامتناه للسوق الدولى ، بالإضافة إلى قدرته الفائقة على تثوير الإنتاج ، مما يمنحه إمكانية توجيه عملية الإنتاج فى البلدان السابقة على الرأسمالية بما يخدم تطور وتكامل الإنتاج فى البلد الام ، وتتحقق هذه الإمكانية بمختلف الأساليب العسكرية – الاقتصادية ، كما يلعب نشر الثقافة البرجوازية على الصعيد العالمى دورا كذلك.
والآن ، ما هى إمكانات البلدان الاشتراكية فى إلحاق بنى اقتصادية أخرى؟ واضح انها لا تملك أصلا الإمكانية، لأن اقتصادها الداخلى نفسه لا يقوم أصلا على أساس القيمة التبادلية وفعاليات السوق ، وما يبدو هناك فى صورة بيع وشراء ليس فى الحقيقة سوى انعكاس مباشر- فى الغالب – لقرارات التخطيط الإدارية التى تحدد الأسعار النسبية للمنتجات كوسيلة لضبط عملية التنمية فى إطار الخطة الموضوعة و لمحاسبة المؤسسات الاقتصادية المختلفة لمعرفة معايير ادائها . انه من حيث الجوهر اقتصاد اكتفائى ، لا يعانى من ظاهرة فيض الإنتاج كظاهرة هيكلية ، حتى نفترض انه يسعى لحلها على حساب دول أخرى ، انه ليس فى حاجة لأسواق خارجية من أجل تحقيق القيمة التبادلية لسلعة لأن اقتصاده ، لا يقوم ببساطة على هذه القيمة ، و لأن سوقه لا يعانى من أى اختناق هيكلى . وهو لا يعانى صعوبة فى تحقيق التراكم الداخلى كى يلجأ إلى الاستثمار الخارجى . ولعله ما من دليل أوضح – عيانيا – على ما نقول من ضعف مشاركة هذه البلدان فى التبادل الدولى بالمقارنة بحجم اقتصادياتها الكبير
ليس المقصود مما سبق ان بنى هذه البلدان الاقتصادية – الاجتماعية بنى"نموذجية" أو عديمة المطامع الخارجية ، فهى فى التحليل الأخير بنى مراتبية . اما المقصود هنا ان إمكانات إضرار هذه البلدان بالبنى الاقتصادية – الاجتماعية لمجتمعات أخرى لا تنطوى على إمكانية إلحاق . . وإنما يمكن ان تنطوى علىإمكانية نهب ، على غرار الامبراطوريات القديمة فى التاريخ . مثال ذلك عملية نقل التكنولوجيا من المانيا الشرقية التى قام بها الاتحاد السوفيتى بعد الحرب الثانية مباشرة ، ويمكن تصور ان يؤثر هذا البلد بثقله العسكرى والسياسى فى وضع حدود التبادل بين الدول الأعضاء فى الكوميكون . معنى ذلك ان هناك إمكانية للنهب. وهذه الدول تحتاج للتبادل الخارجى – كحد أدنى على الأقل – للحصول على الموارد الطبيعية المستخدمة فى الإنتاج و التى لا تتوفر فيها . ولا شك ان لها مصلحة فى ان تكون حدود التبادل لهذه المنتجات لصالحها . . هذا هو كل شئ . ولكن حتى إمكانية النهب هذه محدودة للغاية طالما استمر وجود الامبريالية ، لأن الأخيرة تجبر هذه البلدان علىاتخاذ موقف الدفاع التاريخى إزاءها[38] ، ولذا نجدها تهتم بالدرجة الأولى فى علاقاتها الخارجية بالأبعاد الاستراتيجية ، أى الحفاظ على أمنها الاستراتيجى إزاء المعسكر الامبريالى الغربى . مثل هذا التوجه ُيحد كثيرا حتى من إمكانية النهب ، ويدفع "بالمعسكر الاشتراكى" أحيانا إلى تقديم هبات اقتصادية غير ٌمستردة . وعلى الجانب الآخر نجد ان هذه البلدان لا تميل موضوعيا للوقوع تحت سيطرة بلدان أخرى ، وذلك بسبب الهيمنة المطلقة لبيروقراطية الدولة ونزوعها لهذا السبب بالذات نحو إقامة اقتصاد متكامل ، ذلك انها سلطة ومرتبة اجتماعية فى الوقت نفسه ، ولذلك توجد علاقة مطلقة بين سيطرتها السياسية كسلطة وسيطرتها الاجتماعية – الاقتصادية كمرتبة اجتماعية .
ولدينا هنا سؤال توضيحى لأطروحتنا (عدم إمكان قيام علاقة تبعية بنيوية بين البلدان المسماة اشتراكية) . . هل إذا ما استقلت دول حلف وارسو عن النفوذ السوفيتى – بأن صارت لها مظلة نووية خاصة أو أى سبب آخر – هل سيستتبع هذا تغيير بنى الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك ؟؟؟
نحن لسنا بصدد الدفاع عن "النمط السوفيتى" كما يسمى ، ولكن لابد من معرفة طبيعة الكيانات الخارجية التى سيتعامل معها أى مشروع مقبل للاستقلال فى وطننا العربى . ولن يستفيد هذا المشروع كثيرا من تعمية الفروق بين الامبريالية و الكتلة الشرقية ، وبالتالى أخذ موقف "محايد" إزاء صراعهما . اننا قطعا لا ندعو لأن ينضم أى مشروع عربى للاستقلال إلى حلف وارسو، فهو مشروع قومى مستقل بطبيعته ولديه القدرة على التأثير كطرف مستقل فى توازنات العالم السياسية –الاستراتيجية . لكن ليس معنى هذا "الاستغناء" ان نشكل تاريخ العالم على هوانا، فنصم تجارب عظمى للاستقلال مثل تجارب فيتنام و كوبا بانها انتقلت من نظام للتبعية إلى نظام آخر للتبعية ! وقد سبق لنا ان ذكرنا كيف ان أفكار الأستاذ عادل حسي تنطوى على مثل هذا الاتهام ضمنا .
نخلص من كل هذا إلى ان مفهوم الأستاذ عادل حسين للتبعية متغير حسب الهدف . . فالتبعية عنده مرتبطة بالتخلف إذا كان الحديث يتناول نماذج التنمية المستهدفة ، ومنفصلة عنه فى السياقات النظرية الحضارية ، ولكنها فى كل الأحوال فاقدة لتحديد البعد الاجتماعى ، ويمكن القول ان هناك تجاهلا واضحا لدور الفئات الاجتماعية المسيطرة فى إعادة إنتاج ظاهرة التخلف – التبعية ، الأمر الذى سمح للاستاذ عادل حسين بالمطالبة بعدم ازاحتها فى مشروع الاستقلال المرتقب . . ولكن هذه قصة أخرى تنقلنا إلى مناقشة مفهوم الاستقلال عن السيطرة الامبريالية لدى "الفكر العربى الجديد".
5- طبيعة الاستقلال عن السيطرة الامبريالية
ليس موقف "الفكر العربى الجديد" من الملكية الخاصة بخاف على القارئ الآن ، وقد تعرضنا من قبل لجذور هذا الموقف من الناحية الفكرية ، وآن لنا ان نفند أطروحات "الفكر العربى الجديد" بصددها . . هذه الأطروحات تتمثل فى ان الملكية الخاصة ليست شرا وتعد جذرا للديمقراطية ، و انها تتسق مع مشروع الاستقلال عن السيطرة الامبريالية وعن طريق "إعادة تربية الطبقة المالكة"
بصدد النقطة الأولى ، لا ندرى ما هى مستندات عادل حسين بصددها . . فربما يعرف كاتبنا ان عمر البشر على سطح المعمورة يقدر بنحو المليون من الأعوام ، ولم تعرف فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلا فى الاعوام الآلاف الستة الأخيرة ، وهذا بالنسبة لأقدم الحضارات . ومن واجبنا ان ننوه هنا بأن الإنسان حقق أهم اكتشافاته العلمية ، من استئناس للنبات والحيوان وصناعة الفخار والسلال وغيرها فى ظل هذه النظم المشاعية . وفى غياب الملكية الخاصة عرف الإنسان مجتمعا منظما بطرق عقلانية راقية حيث شهدت المجتمعات المشاعية أقل قدر شهده المجتمع البشرى من تبديد الموارد . ونحن لا ننفى ان المجتمع الطبقى قد أفاد من هذا التقدم و أضاف إليه بحيث شهدت فترات الحضارة أعظم ما قدمته البشرية من تقدم علمى و تكنولوجى و فكرى . . ولكن كل هذا قد تم على حساب العلاقات الاجتماعية بين البشر ، و التى شهدت انحطاطا خلقيا ومعنويا يمكن تلمسه الآن بسهولة بإجراء مقارنة بسيطة بين ما سجله الأنثروبولوجيون عن مشاهداتهم لدى الجماعات البشرية التى وجدوها فى مجاهل الأرض وبين ما نعيش فيه من أوضاع .
لقد شهدت المجتمعات المشاعية القديمة الشكل الوحيد الراقى للديمقراطية الذى عرفته البشرية حتى الآن . لم تكن ديمقراطية سياسية ، إذ لم تكن هناك أحزاب أصلا كما لم يكن هناك جهاز يسمى جهاز الدولة .. كانت ديمقراطية بسيطة .. تتمثل فىاشتراك كل أعضاء الجماعة فى إدارة شئون الجماعة المشتركة . ان يأتىعادل حسين بعد ذلك ليعلمنا ان جذور الديمقراطية هى الملكية الفردية ، فهذا مجرد تشويه مباشر للتاريخ ، لا أكثر ولا أقل .
ولا نكاد نصدق ان يقول مفكر انتمى فى وقت ما لليسار بأن الملكية الخاصة ليست شرا، أو تنطوى على استغلال بطبيعتها . . لقد عاش البشر أغلب تاريخهم فى ظل الملكية المشاعية، فمن أين ياترى جاءت الملكية الخاصة ؟ كيف تسنى لحفنة أفراد ان يحولوا ملكية المجتمع إلى ملكية خاصة بهم ؟ هناك تصور مضحك يقول انه كان هناك أفراد نشطون و آخرون كسالى، فالأولون صاروا ملاكا و الآخرون صاروا معدمين . . !هكذا وبهذه البساطة . . ولا نعتقد ان الأستاذ عادل حسين يمكن ان يصل به الأمر إلى حد تبنى هذه السخافة ، ولكنه إذا لم يتبنها يصير مجبرا على الاعتراف بالحقيقة التاريخية : ان ذلك التحول قد تم فى ظروف تاريخية محددة فرضت على البشر التحول إلى نظم الملكية الخاصة وان هذا التحول قد تم بالعنف . . عنف خارجى ضد الجماعات الاخرى لاستعبادها بشكل أو بآخر وعنف لتثبيت سيطرة العائلات المحظوظة . . ومن هنا كانت ضرورة الدولة كجهاز يحمى هذه الأوضاع الجديدة المنافية "للطبيعة البشرية" ان جاز التعبير . حول هذه الملكية الخاصة دارت الحروب والمعارك الدامية فى الداخل و الخارج ، ومن أجلها تمت التضحية بكل القيم التى كونها الإنسان عبر تاريخه الطويل ، بل ومن أجلها تم أضعاف المجتمعات البشرية وتكبيل قدرتها على حماية نفسها بتحويل سكانها إلى رعايا مدجنين لا يحملون السلاح ، الذى اقتصر حملة علىالطبقة المالكة ومأجوريها . فى ظل هذه الملكية الخاصة ترعرعت نشاطات جديدة تماما ؛ الدعارة و السرقة وأخلاقيات الجشع والانانية و الاحتيال على كل القيم الإنسانية النبيلة[39]. هذه هى منتجات الملكية الخاصة فى كل عصر ومكان، أم يا ترى يظن الأستاذ عادل حسين انها منتجات حضارية دنيوية، أو فوق تاريخية تنتمى "لطبيعة الإنسان" ؟!
وإذا كان السيد عادل حسين قد مر مرور الكرام على فكرة الطبيعة الخيرة الممكنة للملكية الخاصة فانه استفاض فى شرح علاقة الملكية الخاصة بمشروعه. ومؤدى هذه العلاقة كما أوضحنا من قبل هو "إعادة تربية الطبقات المالكة" بحيث تنحاز لمشروع الاستقلال العربى – الإسلامى. ولكنه إذ فعل هذا اضطر لتجاهل كل دروس التاريخ التى تثبت بما لا يدع مجال للشك العلاقة الوثيقة بين الملكية الخاصة الفردية فى البلدان المتخلفة وبين الوقوع تحت طائلة التبعية. فمن الثابت تاريخيا ان الامبريالية – على عكس الاستعمار قبل الرأسمالى – سعت بكل طاقاتها إلى إدخال الملكية الخاصة للأرض حيث لم تكن موجودة و إشاعة التبادل النقدى حيث وجدت المقايضة ، وتركيز وسائل الإنتاج وحرمان الغالبية من ملكيتها . . كل هذا على حساب أشكال الإنتاج الطبيعى. هكذا فعلت الامبريالية فى الهند ومصر والجزائر وجنوب أفريقيا وغيرها[40]. ولا تخرج بلادنا عن هذه القاعدة . . فقد قطعت مصر خطوات هامة على طريق الإفلات من السيطرة الامبريالية فى ظل نظام الاحتكار فى عهد محمد فى على بينما قطعت طريقا عكسيا فى عهد فك الزمام و إدخال الملكية الخاصة للأرض – وسيلة الإنتاج الرئيسية آنذاك[41]. هل هى مصادفة يا ترى ان كبار من انتفعوا بهذه القوانين هم الذين هرعوا لاستقبال الفاتح الانجليزى فى الإسكندرية و خانوا الثورة العرابية ؟ أليست هذه الفئات المالكة هى التى كبلت حركة النضال ضد الاستعمار فى إطار "التفاوض من أجل الاستقلال" ؟ على الجانب المقابل يمكن ان نقارن بحركات مجتمعات القبائل المناهضة للاستعمار ومدى جذريتها فى الفكر والعمل . . قارن مثلا بحركة عمر المختار فى ليبيا . . شتان. و إذا كان الأمر كذلك فلماذا يتمسك الأستاذ عادل حسين بالحفاظ على هذه الطبقات المالكة ، وخاصة انه اعترف بانها ليست مستقلة ولا تقود تنمية مستقلة ؟ انه مرة أخرى مشروع "إعادة التربية" اللعين. والسؤال هو مدى واقعية هذا المشروع. لم يقدم لنا التاريخ مثلا واحدا يثبت ان الطبقة المسيطرة يمكن ان تتخلى طواعية عن مصالحها المادية من أجل مصالح "حضارية" مزعومة، سواء فى أوروبا أو فى الشرق الإسلامى أو غيره. و إذا كان البرهان التجريبى لا يكفى فإليك أيها القارئ تحليلا لهذه المسألة : الملكية الخاصة هى – إذا ما استعرنا لغة الأستاذ عادل حسين – حالة دنيوية ، أما بلغتنا الخاصة فهى علاقة بين البشر فيما يخص الأشياء المادية ، ولهذا تتصرف الطبقات المالكة وفقا لمصالحها الخاصة ، و أى نوع آخر من التصرف يجب ان يؤدى فورا إلى الاستغناء عن هذه الملكية . وفى الحالة الأخيرة سيصبح طرح مسألة الملكية الخاصة عديم المعنى. فالطبقات المالكة إذن تتصرف وفقا لمصالحها الطبقية، أى بتعبير عادل حسين تتصرف بطريقة دنيوية، فإذا كانت هذه الطبقات ترتبط ( فى بلادنا) – كما توصلنا من قبل – ارتباطا مطلقا ببنية التخلف – التبعية فانه يكون من السخف ان نفكر بإعادة تربيتها على طريقة الأستاذ عادل حسين، بل ويجب ان نتوقع – وهذا أمر حتمى – ان تدخل هذه الطبقات مع مشروع الاستقلال القومى العربى فى مواجهة مسلحة، وحينئذ، لن تتحقق السلطة العربية القومية والمعادية للامبريالية إلا على جثة هذه الطبقات تحديدا . . جثة عينية ملموسة ، وإلا لاقت هذه الحركة القومية حتفها. هذا ما تعلمنا إياه دروس التاريخ . . لقد أثبتت هذه الفئات المالكة فى الدول المتخلفة دوما ان ارتباطاتها بالامبريالية أوثق حتى من ارتباطها بقوميتها . . ألم يكن تشانج كاى تشيك هو الذى ذبح حليفه الوطنى، حزب ماو الشيوعى، فى الصين مرتين و تحالف مع الامبريالية ؟ ألم تعبر الطبقات المالكة فى الصين عن استعدادها للاشتراك فى مؤامرة تقسيم البلاد بين البلدان الاستعمارية رغم التاريخ الطويل للصين كأمة موحدة ؟ لقد كانت الميزة العظمى لماو كقائد سياسى انه أدرك هذه الحقائق . . فرغم انه استمر فى رفع شعار حلف الطبقات الأربع الشهير إلا أنه لم يقيد حركته السياسية بآفاق و حدود الفئة الرابعة فى التحالف (أى البرجوازية الوطنية) ولم يتخل عن أهدافه باحثا بأى ثمن عن الالتقاء بحركتها . . وحين ان أوان المواجهة المسلحة خاضها بلا تردد . . بالمقابل ، كيف فشلت كل حركات التحرر فى منطقتنا العربية ؟ لقد فشلت – ضمن أسباب أخرى – لأنها عجزت عن إدراك هذه الأبجدية فى نظرية التبعية – الاستقلال . . فربطت دائما برامجها ونضالاتها بحدود هذه الفئة الرجعية – قمامة التاريخ الأكثر قذارة – بدعوى ربطها بمشروع الاستقلال.
ماذا يقدم "الفكر العربى الجديد" إزاء كل هذه الحقائق ؟ لا شئ سوى إيمان طوبوى بجدوى مناقشة الأخلاقيات العربية – الإسلامية للفئات المالكة و روحها الوطنية ! ولدينا– بناء على ما سبق – كبير شك فى ان تفلح هذه المناشدات فى إقناع سادتنا الحاليين بالتخلى عن انتماءاتهم ومصالحهم الطبقية. لقد قيل منذ زمن بعيد ان البرجوازية كطبقة تسعى للسيطرة على سوقها القومى ، ومن ثم تكون معادية للامبريالية . . ولكننا نلاحظ انه فى حالة بنية التخلف ليست هناك أصلا طبقة برجوازية متبلورة ، كما انه ليس هناك سوق قومى ، وتكوين هذا السوق وهذه البرجوازية عملية شاقة طويلة ، تستمر، بفرض إمكان نجاحها ، عقودا طويلة حتى يتحقق تكامل قطاعات الاقتصاد و تتوطد بنية الإنتاج الداخلية بحيث يمكنها ان تواجه تحديات الامبريالية التى تفرض عليها فى السوق الدولى . . وحتى تكتمل هذه العملية بدرجة كافية ، تظل مصالح أية طبقة من رجال الأعمال الأفراد فى بنى التخلف مرتبطة جوهريا بالسيطرة الامبريالية ، ومن ثم ينبغى تحطيم نفوذها طوال فترة الانتقال. ان مشروع عادل حسين ممكن بشرط ان يعثر لنا على "ثلاجة تاريخية" نحفظ فيها هذه الطبقة متجمدة لحين عبور فترة الانتقال !! أما خلال الفترة نفسها، فانها ستنقض حتما على التجربة ، أو على الأقل ستخربها . . ولسبب بسيط ، انه لا يمكن ان تسمح بوجود الملكية الخاصة التى تستغل – أو تستخدم حتى لا يغضب صاحبنا – عمل الآخرين وبين ان تحدد هذه الملكية . . لأن الأمر الأول يؤدى للتراكم، وهذا التراكم لا مفر له سوى أمرين . . أما ان يجرى تبديده ، الأمر الذى لا يعنى تبديدا فحسب ولكن أيضا توجيه النشاط الاقتصادى لخدمة هذه الفئة و متطلباتها وأما ان يعاد استثماره ، الأمر الذى يتنافى مع مبدأ تحديد الدخول كما يطرح مشروع عادل حسين . . فإذا ما سمح لها فى فترة الانتقال بإعادة الإنتاج الموسع ، سيقوى هذا الأمر من سلطتها فى الداخل ، الأمر الذى سيعجل بعودة التبعية ، وخاصة ان هناك – كما يعلم الأستاذ عادل حسين – قوى خارجية امبريالية ستتلهف وقتها على ان تقتنص من هذه الطبقة خيط الرغبة فى جنات السوق العالمى ونعيمه . . وستجد الوسيلة المناسبة لمساعدتها.
هناك أمر أخير نلفت إليه انتباه القارئ – وعادل حسين أيضا – وهو العلاقة الوطيدة بين النظرية الحضارية الجديدة ونظرية الثورة الوطنية الديمقراطية. ماذا تقول النظرية الثانية ؟ انها تقول بوجود برجوازية وطنية صراحة، أما "الفكر العربى الجديد" فيقول بوجودها بالقوة – إن جاز التعبير – فيمكن "استخراجها" من البرجوازية التابعة بواسطة الشعارات القومية الإسلامية. تقول هذه الفكرة بأن البرجوازية الوطنية عاجزة عن قيادة الثورة وسيقودها العمال. ويقول عادل حسين أيضا بأن النخبة الحاكمة ستراعى مصالح الطبقة المسيطرة دون ان تندمج فيها . . ففى الحالتين ستحقق دولة لا تسيطر عليها البرجوازية "مهام الطبقة البرجوازية"[42] ، مع الحفاظ على امتيازاتها ومراعاتها فى البرنامج السياسى. تؤجل فكرة الثورة الوطنية الديمقراطية التحول الاجتماعى الجذرى – عمليا – إلى أجل غير مسمى ، بينما يلغيه الأستاذ عادل حسين من مشروعه نهائيا . . ولكن النتيجة واحدة . . ففى كلتا الحالتين كما ناقشنا لن تتحقق الثورة الوطنية الديمقراطية لا فى طبعتها الماركسية و لا الحضارية. وهكذا تكتشف ان الأستاذ عادل حسين لم يبعد كثيرا عن جذوره الفكرية كما يظن . . كل ما فى الأمر ان الإطار النظرى قد اختلف وكذلك طبيعة القوى السياسية التى يتصور انها ستشارك فى هذا المشروع.
ننتقل الآن لمناقشة نقطة أخرى فى مشروع الاستقلال المطروح، ألا وهى طبيعة المسألة القومية فى مشروع التحرر من الامبريالية. وبعبارة أخرى أنحن إزاء مشروع عربى ذو محتوى إسلامى أم ذو محتوى اجتماعى ؟ لقد سبق لنا ان ناقشنا المبررات النظرية لفكرة المحتوى الإسلامى، نظرية الصراع الحضارى وما ترتب عليها من أفكار وخاصة تصور التبعية الحضارية ، فلا يبقى سوى ان نناقش المبررات العملية ، والتى تتلخص ببساطة فى ان الإسلام عقيدة الأمة العربية ، الأمر الذى علينا ان نقبله ، فهمنا ، أم لم نفهمه. وعلى حد تعبير عادل حسين : " إذا لاحظنا مثلا ان إعادة الوفاق بين مفهوم العروبة والإسلام يؤدى إلى وحدة الأمة وإلى مزيد من الاندفاع فى حركتها ضد العدو المشترك ، يكون علينا ان نقبل هذه النتيجة ونتعامل على أساسها حتى إذا عجز البعض منا (نتيجة التكوين الثقافى الخاص) عن إدراك العلاقة السببية التى تربط طرفى المعادلة"[43] (ص 256). وسنغض النظر هنا عن المنطق الذرائعى للفكرة ، وسنجارى "الفكر العربى الجديد" وسنتساءل : متى لعب هذا الربط بين الإسلام و العروبة دور توحيد الأمة وتحقيق المزيد من اندفاعها ؟ فى الماضى أم فى الحاضر؟
أما بالنسبة للماضى ، فالأدلة ضد هذه الفكرة كثيرة، فلنراجع مثلا فترة الحروب الصليبية. كان العالم الإسلامى آنذاك مفتتا بين قوى أهمها السلاجقة الذين هيمنوا على الخلافة العباسية السنية والدولة الفاطمية الشيعية فى مصر والمغرب. ماذا كان موقف الدولة الفاطمية ؟ انتهزت فرصة الهزائم التى حلت بالسلاجقة فهاجم الوزير الأفضل مدينة القدس واستولى عليها، ولكنه لم يهنأ بها طويلا فسرعان ما استولى عليها الصليبيون فى العام التالى. ومعروفة أيضا سلسلة الحروب الأهلية التى دارت لمدة أحد عشر عاما تقريبا بين صلاح الدين (الكردى) و بين أعدائه أو منافسيه الأتراك حتى أمكنه إقرار الأمن فى مصر و الشام وتوحيدهما تحت سلطته قبيل موقعة حطين والحملة الصليبية الثالثة. و فى هذه الحملة المذكورة تحالف السلاجقة مع الصليبيين ضد صلاح الدين، الذى تحالف بدوره مع الدولة البيزنطية … إلخ. وإذا ما أردنا ان نذكر تنازع السلطات الحاكمة . . القبائل والأجناس والعصبيات تحت راية الإسلام و فى ظله لما و فى بغرضنا مجلد، بل مجلدات . على ان غرضنا ليس استعراض سلسلة الحروب الأهلية فى التاريخ الإسلامى، ولكن غرضنا ان نوضح ان موضوع و حدة الأمة العربية و انقسامها لا علاقة له بموضوع العقيدة الإسلامية، فهذه الأخيرة قابلة لأن تتشكل حسب المصالح الفعلية وليس حسب التفسيرات الفقهية . . فالمطلوب إذن من أجل تشكيل وحدة الأمة هو النظر لهذه المصالح و معالجتها باعتبارها مصالح متصارعة ، وليس النظر فى العقيدة فى حد ذاتها. لقد ذكر ابن خلدون أثر العقيدة فى الذهاب بالتحاسد بين العصبيات كمقدمة ضرورية لانشاء الدول الجديدة ، ومقولته لا تنطبق على الفتح العربى فحسب ، بل و على الحركة الفاطمية و حركة الموحدين و المرابطين فى المغرب … إلخ. ولكن ينبغى ان نلاحظ ان ابن خلدون يتكلم عن زمن مضى؛ زمن كانت تقام فيه الدول بأن تغزو القبائل الحضر و كانت العقيدة سواء كانت دينا أو مذهب تقوم بالتوحيد بين القبائل ، الأمر الذى يعد ضروريا من أجل الغزو الناجح. وواضح ان الأمور اختلفت كثيرا عن الماضى ولم تعد النظرية الخلدونية فى نشوء الدول وسقوطها بمستطيعة ان تسعفنا فى الأوضاع الراهنة.
أما إذا كان السيد عادل حسين يقصد بعبارته السابقة الحاضر وليس التاريخ، فالأمر أسوأ بكثير . . والتجارب التاريخية الحديثة خير دليل. لقد حقق الشعب العربى أعظم انتفاضاته ضد الاستعمار بدون هذا العامل الدينى : الانتفاضات العظيمة فى الشام ضد الاستعمار العثمانى والثورة العربية فى سوريا 1921، والانتفاضات الثورية فى مصر منذ أواخر القرن الماضى … إلخ. لقد قدمت الجماهير فى هذه النضالات تضحيات لا تقدر، وإذا كانت هذه الحركات لم تحقق أهدافها بالكامل فى التحرر من التبعية ، فهذا أمر لا يعود لضعف البعد الأيديولوجى الإسلامى الملائم لاستنهاض همم الجماهير – من وجهة نظر عادل حسين – وإنما لعوامل أخرى عديدة؛ بؤرتها جميعا عدم التركيز على البعد الاجتماعى وتمييع الموقف من رجال الأعمال الوطنيين المزعومين.
ليست الجماهير العربية العريضة هى التى تحتاج إلى الحافز الروحى الإسلامى كى تتمرد على أوضاع التبعية ، فقد كانت هى الضحية فى عملية التغريب وإدخال نمط الاستهلاك الغربى، ولأنها تعيش أصلا تحت مستوى الفقر بمعجزة يومية فى أغلب انحاء هذا الوطن. انها محرومة من أبسط حقوق الإنسان فى ظل ما نعاصره من تقدم علمى وتكنولوجى. هذه الحقوق تعد بالنسبة إليها حلما لا يمكن تحقيقه فى ظل بنية التخلف. ان حق هذه الجماهير فى الحياة الكريمة المنتجة الهادفة. الإنسانية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانى ، هو أنبل الأهداف قاطبة، انه الهدف القادر على جذبها إلى معترك النضال ضد التبعية. ان من لا يرون فى مثل هذا المطلب سوى أيديولوجيا "دنيوية" تهدف لإشباع غرائز حيوانية ليسوا سوى مجموعة من حثالة المثقفين ديدان الكتب الذين انفصلوا عن واقع هذا الشعب ليعيشوا فى ضباب الروحانيات الإسلامية الأزرق . . فى نظر هؤلاء وحدهم يعتبر شعار الأرض لمن يفلحها – مثلا – شعارا دنيويا يخاطب "البطون" لا "الأرواح" [44].
لم يبق من المبررات العملية الممكنة التى يمكن ان نتصور انها كامنة خلف "الفكر العربى الجديد" إلا النهوض الجديد للأصولية الإسلامية فى المنطقة العربية . . وهذه ستكون موضوعا لمناقشتنا ضمن الفصل القادم. والأحرى ان نعود هنا لمناقشة طبيعة المسألة القومية فى مشروع التحرر المقبل. لقد ركزنا بما فيه الكفاية على المضمون الاجتماعى الضرورى لحركة التحرر من الامبريالية ، و نبقى ان نناقش العلاقة بين ذلك المضمون و الإطار القومى العربى ، وان نقدم رسالة الأمة العربية الموضوعية.
لعل أهم ما يربط قضية الثورة الاجتماعية بالمسألة القومية هو التخلف ذاته ، مفهومه وعلاقته بالتبعية. تتميز بنى التخلف – كما ناقشنا فى مقالنا "بنية التخلف" –(سبقت الإشارة إليه) بتمفصل قطاعات الإنتاج المختلفة مع الخارج بحيث تتم عملية إعادة الإنتاج عن طريق العلاقة مع الخارج. ويحدد هذا التمفصل أوزان القطاعات الإنتاجية التداولية المختلفة فى الداخل وأشكال تمفصلها مع بعضها البعض. ومن ثم نقول ان التبعية هى جوهر التخلف. فى ظل هذا الوضع يسود الرأسمال التجارى على بنية الإنتاج الداخلية ، ولا يمكن الحديث فى مثل هذه الحالة عن سيادة أى من أنماط الإنتاج الداخلية. هذا الرأسمال يسود باعتباره أداة علاقة التبعية على المستوى الاقتصادى. ويترتب على هذا التصور بالضرورة ان كل الفئات الاجتماعية المالكة لوسائل الإنتاج ضالعة فى علاقة التبعية ومستفيدة منها، مما يجعلها أداة فعالة فى إعادة إنتاج هذه العلاقة. هذا التصور لا ينفى الصراعات الداخلية بين الفئات الاجتماعية المالكة، فتطور وسائل الإنتاج فى بعض القطاعات – المحكوم فى التحليل الأخير بتغير طبيعة الطلب فى السوق الدولى- يؤدى لتغير الثقل النسبى لمختلف الفئات الاجتماعية المالكة ، دون ان يعنى ذلك تغير نمط الإنتاج السائد أو انتصار البرجوازية على الإقطاع، إلخ من التعابير المستعارة من التاريخ الأوروبى.
مغزى كل ذلك هو تزايد أهمية الإطار القومى فى أى حركة اجتماعية مناهضة للتخلف، لأنه لا يمكن إنهاء وضعية التخلف دون الخروج من إطار التبعية ، أى تحقيق الاستقلال القومى ، ولأن الإطار القومى هو الذى سيجمع الجماهير المضطهدة الرازحة تحت عبء التخلف، نظرا لأن وضعية التخلف تمنع تبلور الطبقات الاجتماعية أصلا بسبب اختلاط و امتزاج أشكال الاستغلال الاقتصادى فى عملية إعادة إنتاج التخلف ، ومن ثم يصعب بل و يستحيل ان تتبلور قيادة طبقية تاريخية للنضال المرتقب. لا محل فى رأينا للقول بقيادة تاريخية للطبقة العاملة للنضال ضد التخلف – التبعية، وإنما هى تحتل موقعا من النضال الاجتماعى – القومى يتناسب مع نموها العددى والتنظيمى و الظروف الخاصة التى ميزت تطور الصراع الاجتماعى تاريخيا فى ظل بنية التخلف.
هذه هى الأطر العامة لحركة تحرر فى بلد متخلف ضد السيطرة الامبريالية. وهى فى هذه الأطر العامة لا تختلف عما حدث فى روسيا والصين وفيتنام وكوبا وغيرها . . فكلها تميزت بخاصية عدم تبلور الطبقات الاجتماعية و اختلاف وزن الطبقات المقهورة فى النضال ضد التبعية ، وكلها انتهت بالقضاء على الفئات الاجتماعية المالكة لصالح قيام مشروع لبناء مجتمع مستقل – متطور تحت إدارة مرتبة اجتماعية Stratum هى بيروقراطية الدولة. ونحن نقول انها مرتبة مسيطرة – على عكس التصور الشائع – لاننا نأخذ بعين الاعتبار ان نمط الإنتاج يتحدد بالشكل الاجتماعى لإنتاج وإعادة إنتاج الفائض الاجتماعى، وان الطبقة المسيطرة (المرتبة فى هذه الحالة) تتحدد بانها الطبقة المتحكمة فى العملية الاجتماعية لتدوير الفائض الاجتماعى وإعادة إنتاجه. ومن ثم يمكن القول ان نمط الإنتاج السائد فى – هذه البلدان هو "نمط الإنتاج البيروقراطى الحديث".
ولعل هذا التطور يفسر لنا – دونما حاجة للتعميمات الحضارية – أسباب التحويرات أو الإضافات التى أدخلها قادة الحركات الثورية فى هذه البلدان على الماركسية ؛ فبدون وعى منهم، وجدوا أنفسهم مطالبين بأن يستخدموا النظرية الماركسية لأغراض مختلفة عن الغرض الذى من أجله أنشئت فى البدء. ومن أجل هذا تحولت الماركسية على أيديهم إلى عقيدة دوجمائية تعاليمية واكتسبت صبغات وطنية. ولكن من جانب آخر لا يمكن ان تغفل حقيقة ان الماركسية كعلم – أو جانبها العلمى بالمعنى الذى تناولناه ، من قبل – رغم كل شئ ما زالت نظرية الثورة فى هذا العصر، وهى التى تحققت تحت راياتها أعظم انتصارات الشعوب المضطهدة بدءا من الثورة الروسية حتى ثورة نيكاراجوا مرورا بالصين وكوبا وفيتنام وانجولا و موزمبيق . وليست هذه الحقيقة محض مصادفة وإنما هى نتيجة منطقية للميزة الأساسية التى تتمتع بها النظرية الماركسية : انها تنظر لكل حركة سياسية على انها حركة اجتماعية "طبقية"، وان كل إشكاليات المجتمع البشرى – طالما ما زلنا فى إطار المجتمع الطبقى والدولة – هى فى التحليل الأخير إشكاليات اجتماعية، ويتبلور هذا كله فى النهاية فى موقف علمى واضح من الدولة، وكل حركة سياسية، حتى ولو كانت ماركسية تناست هذا الدرس، لاقت الهزائم والمذابح.
وبعد، فان الحركة الثورية العربية لن تخرج عن هذا الإطار العام. والأمثلة التى ضربتها كل شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة تثبت هذا، كما تثبته بتقديم مثل سلبى كل هزائم الحركات القومية فى المنطقة العربية. على ان الحركة الثورية الاجتماعية القومية العربية لها خصوصيتها التاريخية ورسالتها الموضوعية التى لن يقدر لأى جزء آخر فى العالم الثالث ان يلعبه، بفضل موقعها الإستراتيجى وإمكاناتها الاقتصادية. وخصوصية امتنا نابعة من تراثها، على ان ندرك ان تراثها وتاريخها – مثل أى تراث وأى تاريخ – يحوى مفاهيم متناقضة تنبثق من تناحرات اجتماعية دارت بين قوى متصارعة، وبالتالى يحوى تراثنا عناصر سلبية رجعية وأخرى ثورية إيجابية. هذا الجانب الأخير من التراث نؤيد توظيفه فى خدمة أهداف هذه الأمة ومعركتها المصيرية، على ان ندرك جيدا اننا نواجه مشكلات جديدة بشعارات جديدة، وان هذا التراث غير قابل للاستخدام من قبل جميع "طبقات" الأمة، وإنما سيخضع بالضرورة لعمليات إعادة تفسير متناقضة تنبعث من التناقضات الأساسية التى تحكم حركة المجتمع. ومن ثم لا يمكن ان ننصح أى قوة قومية عربية بأن تظاهر مطالب حضارية مبهمة من حيث مضمونها الاجتماعى مثل مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن تمييع التناقضات الاجتماعية فى الشعارات السياسية لا يعنى الحياد وإنما يعنى مساندة القوى الاجتماعية السائدة . . فكل من يقف موقفا سلبيا من الصراع الاجتماعى يكون مثله كمثل من ألهى حملا بينما الذئب يقترب . . فمن باب أولى إذن ان نعارض من يروج للذئب عند الحمل، ونقصد الدعاية النظرية الجديدة "للفكر العربى الجديد" التى تقف صراحة فى صف الإبقاء على الامتيازات الاقتصادية الاجتماعية لطبقة من رجال الأعمال. ولسنا نقف هذا الموقف دفاعا عن مصالح جماهير العرب الكادحين فحسب، وإنما أيضا للحيلولة دون الحركة القومية العربية ودون الوقوع فى مستنقع مصالح هذه الفئات المضادة للاستقلال القومى. هكذا نفهم التشابك، بل والتماهى بين الهدف القومى والهدف الاجتماعى فى عملية الاستقلال القومى العربى المضادة للتبعية للامبريالية.
أما من ناحية الرسالة الموضوعية لأمتنا العربية، فهى بتواضع ليست أقل من الإجهاز على السيطرة الامبريالية على قارتى آسيا وأفريقيا . . فالدولة العربية الموحدة، كما تفضل و أشار الأستاذ عادل حسين ستكون القوة العظمى الثالثة فى العالم بعد الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتى، الأمر الذى سيترتب عليه إعادة بناء التوازنات الدولية، الأمر الذى سيترتب عليه على مدى أطول انحسار السيطرة الامبريالية عن أفريقيا وغرب ووسط آسيا. وما نتصور ان هناك مشروع آخر فى العالم يستطيع ان يوجه مثل هذه الضربة العميقة القاتلة للامبريالية، وان يفتح بالتالى أمام شعوب العالم أجمع – بما فيها شعوب هذه البلدان الامبريالية نفسها – سبل تطور حر جديد نحو مجتمع إنسانى بكل معنى الكلمة ؛ مجتمع لا طبقى يحرر الإنسان نهائيا من الاضطهاد والعبودية للقمة العيش، ويفتح أمام الإنسان أبواب تاريخه الحقيقى …
وإلى ان تتحقق كل هذه الأحلام / الأهداف، يهمنا ان ننوه هنا – مرة أخرى – ان الحضارة التى ستقيمها امتنا العربية ستكون حضارة دنيوية، مثلها مثل كل حضارة سابقة فى كل مكان من المعمورة. حضارة دنيوية على نحو صريح بمعنى ان هدفها هو الإنسان . . حضارة ستطور قوى الإنتاج وتقيم مجتمع الرفاهية وتشجع الإبداع العلمى والأدبى والفكرى وستسهم بالتالى فى تطوير أركان العلمانية العقلانية العالمية، بتحريرها لأفراد هذا المجتمع من الفقر والجهل والمرض.
6- منهجية "الفكر العريى الجديد"
فى الفصول الأربع السابقة تعرضنا للأفكار الرئيسية التى استند إليها "الفكر العربى الجديد" بالنقد . . وهدفنا الآن ان نتعرض لمنهجية هذا الفكر . . تناقضاته ومسلماته، فضلا عن الأسس غير المعلنة التى نرى ضرورة نقدها لارتباطها الوثيق بطبيعة هذا الفكر، و نعنى بها تحديدا نشاط التيارات السلفية المتزايد.
أولا : رد المعلوم للمجهول : وضح للقارئ الدور الخطير الذى تلعبه الفكرة الحضارية فى "الفكر العربى الجديد" . . فبموجب هذه الفكرة أمكن تنحية فكرة الصراع الاجتماعى كمحرك للتاريخ لصالح "الصراع الحضارى"، و أمكن نفى العلم الاجتماعى استنادا إلى الأصل الحضارى للنظريات الاجتماعية ، وبفضلها سيمكن تحويل "طبقة" سائدة تابعة إلى "طبقة" سائدة قومية مستقلة. أما لماذا ينقسم العالم أصلا إلى حضارات وليس إلى طبقات اجتماعية فأمر لم يسع الكاتب لتحليله فى أى مكان. وبالطبع يمكن للأستاذ عادل حسين ان يقول انه أمر غير قابل للتحليل إلا من وجهة نظر حضارية، عن طريق بحث الفوارق بين الحضارات. ولكن معنى ذلك ان الفكرة الحضارية تبرر نفسها بنفسها، فهى مطلق من نوع جديد لا يمكن معرفته وبالتالى لا يمكن قبوله أو رفضه عقليا ، وقد تلافينا هذا المأزق الذى حاول عادل حسين ان يضع فيه خصومه بالرجوع إلى المستند الأول لكل مناقشة تتعرض للتاريخ وتفسيره، وهو التاريخ نفسه . . الوقائع.
وهكذا يمكن القول ان مشروع "الفكر العربى الجديد" بمجملة عبارة عن تناقض كبير أو بالأدق مصادرة كبيرة على المطلوب . . فهو يحاول ببساطة ان يقنعنا عقليا بأن العالم الإنسانى غير معقول ، ولعل هذا التناقض يبرز بأكثر أشكاله حدة فى ان عادل حسين استهل كتابه بالدعوة للمناقشة بعيدا عن المسلمات بينما هو يستند أصلا إلى المسلمة الكبرى غير القابلة للنقاش التى أوردناها أعلاه. وبصورة أعمق، لا يمكن للإنسان ان يتبنى النظرية الذاتية والنظرية الموضوعية للمعرفة فى نفس الوقت (وليس للإنسان من قلبين فى جوفه) . . ولكن هذا بالضبط ما حاول عادل حسين ان يفعله. وبصفة عامة، تستند كل نظرية إلى مسلمات . . ولكنها فى حالة النظريات العقلانية مسلمات واقعية موضوعية ، من قبيل ان الإنسان كائن اجتماعى مثلا ، ولكن مسلمة عادل حسين كانت ذاتية كما ناقشنا من قبل.
ثانيا : ومن ثم ولدت المسلمة الأولى فى حركتها مسلمات عديدة . . على عكس مسلمات الفكر الموضوعى؛ فالمسلمة الموضوعية تبتلع التناقضات فى جوفها أثناء حركتها، كما أوضح هيجل فى منطقه، على عكس مسلمة عادل حسين. ومن أمثلة ذلك تسليمه بأن مجتمعات المعسكر الشرقى وما شابهها هى مجتمعات اشتراكية – أو بالأحرى تأرجح فى تقرير ذلك – والتسليم بانقسام العالم إلى حضارات، وبعداء الحضارة الأوروبية – بصفتها كذلك – لنا. صحيح انه قدم أمثلة هنا وهناك لإثبات أفكاره، ولكنه لم يقدم تحليلا يثبت فيه كيف تكون "الدنيوية" إياها معادية بالضرورة، أو كيف ان الانقسام الحضارى للعالم هو بالضرورة محرك التاريخ. والحال انه لا يمكن الحديث عن مقولة علمية خارج فكرة الضرورة، لأن ما هو غير ضرورى غير معقول، بمعنى انه لا يمكن الاعتماد عليه لا فى الفكر ولا فى العمل. كذلك الحال فى فكرته حول ان الإسلام هو الرسالة الروحية للأمة العربية، فهو يكتفى بالرصد ، وهو حتى غير دقيق.
ثالثا : ومن عيوب المسلمات الذاتية أيضا انها توقع نفسها فى التناقض حين تحاول ان تفض Unfold نفسها . . ومن ثم نجد تناقضا منطقيا بين فكرة شمولية هذه النظرية الحضارية وفكرة انقسام العالم إلى حضارات . . أى بين الفكرة ونفسها، لأن الحضارة فى هذه الحالة، كنسق مغلق، لا يمكن تفسيرها تفسيرا علميا بسبب أصالتها الذاتية، الأمر الذى يتناقض تناقضا بينا مع ادعاء ان جوهر وجود الإنسان هو الوجود الحضارى، وهو ادعاء لازم للنظرية وإلا باتت غير متسقة[45]. ولهذا التناقض امتدادته الأخرى، وأهمها هنا التناقض بين المحتوى الحضارى لمفهوم التبعية والاستقلال وبين محاولة وضع مشروع علمى للاستقلال يفترض انه خال من المسلمات . . أى انه يستند لواقع موضوعى. وحين نقول موضوعى نقول بالضرورة انه واقع قابل للمعرفة العلمية، الأمر الذى يتناقض مع رفض العلم الاجتماعى، المستند بدوره إلى المحتوى الحضارى … إلخ.
رابعا : البراجماتية : ولكن "الفكر العربى الجديد" لا يحلق فى تهويمات فلسفية عليا، لأنه يسعى فى نهاية المطاف لأن يروج مشروعا معينا، ومن ثم فلا بديل أمامه سوى البراجماتية : فإذا كان "الفكر العربى الجديد" عاجزا عن تبرير انقسام العالم لحضارات تبريرا موضوعيا، لأن الفكرة نفسها ذاتية لا تحتمل هذا التبرير، وإذا كان عاجزا من ناحية أخرى عن الإخلاص لذاتية منهجه ورفض إعلان أى تبرير أو تعليل لمشروعه، فان لديه مخرجا تقليديا مفتوحا، ان ينوه برصد معين غير دقيق ليبنى عليه مشروعه للتحرر : ان "الإسلام"[46] ، معادى للامبريالية ولنمط استهلاكها الذى قذف بنا إلى التبعية ، فمرحبا به ليخلصنا ! ولكن إقرار هذه الصيغة البسيطة التى لا تتعدى (واعرباه ! وإسلاماه !)، كان لابد له من ان يمر أولا على جثة موضوعية المعرفة البشرية و"علمية" العلوم الاجتماعية. ولكل هذه العيوب المنهجية، لا نجد أى مبرر موضوعى لمشروع الأستاذ عادل حسين ؛ فهو يختار موضوعه بناء على الملاحظة الحدسية المباشرة، دون ان يتعمق الاتجاه الحقيقى لحركة الواقع، وكيف يتعمق ما دامت المعرفة ذاتية ؟
وعلى الجانب المقابل لم يكن مقدرا لهذه الصيغة البسيطة ان تشرح نفسها جزئيا إلا باللجوء اضطرارا إلى العلم الاجتماعى الذى سبق لها ان رفضته، ويمكن لكل المطلعين على أدب التنمية وخاصة لدى كتاب أمريكا اللاتينية ان يروا بوضوح أثر هذه الكتابات فى مشروع "الفكر العربى الجديد" . . فهو لا يتعدى فك الارتباط مع السوق الدولى أداة الامبريالية فى فرض التبعية، مع رداء إسلامى ملفق.
خامسا : دور الفكر الغربى : يصعب ان تلمس تطبيقا للمنهج النظرى العربى الإسلامى المستقل فى كتاب الأستاذ عادل حسين، رغم كل ما أثاره من ضجيج حول هذه النقطة. فليست هناك رابطة واضحة بين العقيدة الإسلامية وبين نمط الاستهلاك المنشود الذى هو محور عملية الاستقلال المقبلة – على المستوى الاقتصادى. كذلك سبق ان أوضحنا ان الجذور الفلسفية للفكرة الحضارية مستقاة من الفلسفة الغربية الذاتية اللا أدرية، وكذلك الحال بالنسبة للبراجماتية. فيمكن القول إذن ان "الفكر العربى الجديد" استعاد من الفكر الغربى أسوأ ما فيه. بل ان النظرية الحضارية نفسها منتوج ثقافى غربى ، ألمانى – بريطانى على وجه التحديد . . ففكرة انقسام العالم إلى حضارات، كل منها لها مفهومها واستقلالها الخاص ، والذى لا يمكن إرجاعه إلى عوامل أخرى موجودة عند شبنجلر وكذلك فكرة الروح الدنيوية للحضارة الغربية المعاصرة ،والتى عبر عنها شبنجلر بفكرة "الفاوستية" أى الرغبة فى الانتشار والسيطرة، والاهتمام بالكم وحده . . الكم المادى دون الجانب الروحى الكيفى. ونسبة الحضارات إلى الأديان مأخوذة عن توينبى وكذلك دور الأديان فى أحياء الحضارات التى تعرضت للتحدى الأجنبى.
ولابد هنا من التنوية بأن النظرية الحضارية ناتجة عن تناقضات المجتمع الرأسمالى المستعصية، الأمر الذى أدى لانحطاط الفكر الأوروبى وتأزم العلاقات الاجتماعية فى ظل تقاعس القوة الاجتماعية القادرة على التغيير بسبب ما تبتلعه من رشاوى مادية تأتيها من قبل الامبريالية. هذه الأزمة دفعت بعض مفكرى الغرب إلى الاتجاه إلى "الروحانيات" والتنظير لها . . وهو نزوع عام قائم فى المجتمع الغربى يتمثل فيما نسمعه عن افتتاح معاهد وأقسام لدراسة السحر وقراءة الكف … والبحث عن الفردوس الروحى المفقود فى ضباب الكوكايين ، وانتشار حركات الهيبز . . وكل مظاهر التمرد غير العقلانية والفاقدة لكل مشروع للتغيير.
ونظن ان حالة اليأس والقنوط التى تمر بمجتمعنا العربى الآن مع توغلنا فى الحقبة البترولية – الإسرائيلية – رغم اهتمام عادل حسين ينفى ذلك – هى المسئولة عن امتداد هذه الأفكار إلى واقعنا. وليس بخاف على القارئ تفشى الأفكار الغيبية، التى وصلت إلى حد دعوة أحد زعماء الأحزاب الرسمية المحترمين إلى الدعوة بشكل جدى فى عدة أعداد من الجريدة الحزبية إلى البحث عن كنوز قارون فى الفيوم لحل مشاكلنا الاقتصادية !! والشعور السائد شعبيا فى هذه الحقبة المظلمة لا يقتصر على مجرد الشعور بانسداد الطرق والحصار، وإنما – وهو الأخطر – الشعور بالضياع . . غياب الهدف. ومن الطبيعى فى هذه الظروف ان ينبرى البعض بالبحث فى دفاتر التاريخ القديمة عن شئ يحرك شعبنا فى هذا الوضع القاتل . . ولسان حالهم يقول – وراء الحركة السلفية المعاصرة – لقد كنا العالم الأول طوال العصر الإسلامى، فهيا بنا نستعيد مكانتنا القديمة بالرداء القديم المجرب عينه . . ولكن رداء فارس القرون الوسطى المدرع المزركش لا يمكن ان يثير فيمن حوله ما سبق وان أثاره من رعب فى عهوده السالفة العظيمة، ولن يمكنه ان يبعث فارسه القديم من القبر . .
سادسا : وهذه نقطة لا ترتبط بالضرورة ب"الفكر العربى الجديد" أى النظرية أو الفكرة الحضارية، ولكن أقحمها عادل حسين دون مبرر واضح. ونقصد هنا دفاعه عن الناصرية، حيث انه لايتناسب مع أطروحته نفسها . . فأمر معروف ان الناصرية انتهجت فى الاقتصاد سياسة إحلال الواردات التى من شانها تعميق التبعية بتعميق التناقض بين نمط الاستهلاك وبين القدرة الذاتية على إشباعه – بتعبيرات عادل حسين. كما انها من جهة أخرى لم تركز على البعد الإسلامى الذى يتخذ لدى كاتبنا كما هو معروف موقعا محوريا، يكاد يكون فاصلا بين الاستقلال والتبعية. ولا شك ان تجربة بهذا الوصف جديرة بشجب "الفكر العربى الجديد" بدلا من القول بانها كانت تمضى "فى خط قريب من خطنا المقترح" (ص 121)، أو كان عليه ان يمتنع على الأقل عن وصف التجربة بأن هزيمتها لم تكن أكثر من هزيمة محتملة[47] (ص 204)!!
كذلك نلاحظ ان انتقاداته العينية الأخرى للناصرية لم تؤخذ بعين الاعتبار بشكل جدى – أى بتحليلها . . فقد أشار إلى القصور فى صلابة بنيتها ضد التحديات الخارجية وراديكالية توجهها الاستقلالى بمفهومه الحضارى الإسلامى (ص 121)، وان التغير فى النسق الاقتصادى وأوضاع الطبقات لم يكن كافيا لتواصل التنمية المستقلة مما أدى لتبديد جزء هام من الفائض (ص 169)، وان أصحاب الدخول العليا فى العهد الناصرى مثلوا طبقة أكثر ترهلا مما تتطلبه المهام الثورية، كما ان الجهود التى بذلت فى مجال التنظيم السياسى عموما كانت أقل مما تتطلبه حماية النسق المستقل واستمراره (ص 181)، كما ينتقد موقفها المعادى للديمقراطية وقمعها للنقابات العمالية والمهنية والجامعات (ص 247) وموقفها السلبى بل والعدائى إزاء العناصر السياسية التى باركت مشاريع الناصرية (ص 254). ونلاحظ أولا عمومية الصياغة وميوعتها فى مقاطع عديدة، كما نلاحظ ثانيا، وهو الأهم، ان الكاتب لم يقدم تفسيرا واحدا لهذه "الأخطاء"، وبعضها قاتل، يؤخذ عادة فى الاعتبار عند تحليل طبيعة النظام نفسه وحقيقة مشروعه. والأهم من ذلك انه رفض ان يربط بين أى من انتقاداته السابقة وبين سقوط الناصرية، وأعلن ان "أية ثورة يمكن ان تنتكس لأسباب من خارجها أو من داخلها" (ص 193)، رافضا ان يناقش أصلا. صحيح انه أشار إلى النفط العربى وهزيمة 1967 كأسباب، ولكنه أشار إليها كأسباب لتفسير سهولة سقوط الناصرية وليس السقوط نفسه.
ان هذا الدفاع المستميت عن الناصرية رغم تناقضها البين مع مشروعه يثير ما لا يعد من علامات الاستفهام. ولا نجد للأسف تفسيرا سوى العنصر البراجماتى الأصيل فى منهجية عادل حسين، فمشروعه لتوحيد القوى الإسلامية والعلمانية الثورية على أسس، هى فى التحليل الأخير نفعية براجماتية ، لابد وان يرتكز على أهم قوة علمانية فى الساحة السياسية الآن، وهى الناصرية. وإذا أردنا تفسيرا أكثر تعاطفا قلنا ان عادل حسين ما زال متأثرا بالحقبة الناصرية التى دافع عنها طويلا، وطالما حاول ترشيدها فى مجلة "الطليعة".
بقى ان نتعرض للملاذ الأخير "للفكر العربى الجديد"، فإذا ما جردنا هذا الفكر من كافة المصطلحات والألفاظ الحضارية – والتى تعد من وجهة نظرنا دنيوية بأحد المعانى التى يقصدها عادل حسين نفسه – يتبقى أمامنا شئ واحد : فالأستاذ عادل حسين يعلن انه يسعى إلى التوفيق بين الإسلاميين والدنيويين فى بلادنا من أجل إعادة توحيد عقل الأمة – على حد تعبيره. بل ولا مانع لديه من الاختلاف بعد ذلك وتعدد المدارس والاتجاهات ولكن على أرضية إسلامية. وهذا التصور ينطوى على قبول عام للتيارات الإسلامية الحالية التى تتمثل غالبيتها العظمى فى الجماعات الإسلامية بمختلف اتجاهاتها. وتؤول أفكار الأستاذ عادل حسين حول هذه المسألة إلى نتائج بالغة الأهمية، فالنظرية الحضارية تستوعب بالضرورة بل وتحتضن الجماعات الإسلامية الحالية. وقد يحتج الأستاذ عادل حسين على هذه الفكرة، ولكنه كما يبدو لن يستطيع ان يتهم هذه الاتجاهات بالدنيوية أو الانتماء إلى الغرب. فهى بالضرورة تقف فى معسكر ما يسميه بالحضارة الإسلامية. وبما انه قسم العالم إلى حضارات و وضع الإسلامية فى مواجهة الدنيوية، فمن الطبيعى ان يتبنى هذه الاتجاهات بشكل أو آخر، أما ما إذا قرر معاداتها و اعتبارها دنيوية تلبس عباءة الإسلام (أى منافقة بالمعنى الإسلامى الحضارى !) فانه يكون قد اقترب كثيرا من طريقنا ، فيصبح من الممكن فى هذه الحالة ان يعتبر الحضارة الإسلامية طوال القرون الماضية مجرد حضارة دنيوية اتخذت ثوبا إسلاميا شكليا . . وينتهى الأمر بسقوط أطروحته كلها تلقائيا. والحقيقة ان الأستاذ عادل حسين لم يقع فى هذا الفخ بل وجدناه يتبنى شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو الشعار الذى تعيش عليه هذه الاتجاهات دون ان يعلن انه ينتمى تماما إليها. ويبدو انه يعتقد بأن الجماعات الإسلامية تحمل إمكانية ثورية إسلامية دون ان تكون قد بلغت هذه المرحلة من التطور فعلا. أما خطته المتعلقة بالتقريب بين الإسلاميين والدنيويين فنظن انه يستهدف منها "أسلمة" الدنيويين و"عقلنة" الإسلاميين، فأفكاره تتضمن الاعتقاد بأن الجماعات الإسلامية مجرد مرحلة فى اتجاهه الإسلامى الخاص . . مرحلة تحتاج إلى تطوير. وبما ان الأستاذ عادل حسين يقدم نفسه للعالم كثورى معادى للامبريالية، فهو يعتقد إذن بوجود إمكانيات ثورية عند الجماعات الإسلامية المعاصرة.
فيم يتفق أو يختلف تصورنا عن عادل حسين ؟ اننا لا نقول ان كل فكر سلفى هو رجعى بالضرورة وفاشى … إلخ من التصورات المبتذلة الرائجة فى أوساط اليسار العربى . . فنحن نعرف ان الكنيسة فى أمريكا اللاتينية اتخذت مواقفا ثورية بل وشاركت فى دعم حركات ثورية ضد الامبريالية والتبعية، كما اننا نعرف بالطبع انه ليست كل حركة عقلانية (أى علمانية) ثورية بالضرورة، ولعل تاريخ الوفد خير دليل على ذلك، فضلا عن علمانية الامبريالية نفسها كما نعرف جميعا. أكثر من ذلك، نحن نعتقد بالفعل ان نظرية الأستاذ عادل حسين التى ترمى إلى التوحيد بين العداء للامبريالية والقضاء على التخلف – التبعية وبين الاستقلال الحضارى، يمكنها مستقبلا ان تخلق تيارا سلفيا أكثر استنارة وقابل للتحول ثوريا . . هذا إذا ما تناسينا موقفه من الملكية الخاصة. ولكن هذه الإمكانية مشروطة فى رأينا بظروف أخرى عديدة، ولا نرجح تحققها بالشكل والمعدل الذين نعتقد ان عادل حسين يتوقعهما. فهذه الجماعات تتميز بعدم قبول التعدد الفكرى والسياسى . . ليس هذا فحسب، بل ان أغلبيتها تفتقد لأى إمكانية للتعدد أصلا بسبب استنادها إلى مفاهيم أيديولوجية غامضة للغاية، كما ان لديها قناعات عمياء لا تعبر عن مصالح قوى اجتماعية ثورية من الناحية الموضوعية؛ فهذه الغيبية تعبر عن جماعات اجتماعية تفتقد لأى أفق موضوعى للتطور، أى لا يرتبط وجودها برسالة ثورية : جماعات الطلاب والمهنيين. وليس صدفة ان وجود الجماعات الإسلامية محدود للغاية وشكلى فى أوساط الفئات الاجتماعية الهامة : العمال – الفلاحين، وذلك رغم ضخامة عدد من تستطيع حشدهم لإقامة الصلاة[48] … إلخ. وهذا اللاتحدد والتغييب يصلحان أرضية مثالية لإمكان استخدام هذه الجماعات بواسطة القوى السياسية الفعالة فى المجتمع، وبحكم قناعاتها العمياء تكون هذه الجماعات قابلة تماما وعلى نحو يكاد ان يكون مطلقا للاستخدام بواسطة القوى الرجعية. وليس من الصدف ان هذه الجماعات تتمتع الآن بعطف فئات واسعة من أصحاب رؤوس الأموال (الإسلام الثروى بتعبير فرج فودة). كما لم تكن صدفة ان تاريخ التيار الدينى فى مصر فى حلقاته الثلاث التى ينقسم إليها،مر بمراحل متشابهة : التحالف مع الحكومة ضد التيارات اليسارية والوطنية [49]، طلبا لحرية الدعاية (وممارسة العنف أيضا) ثم إظهار الخلافات مع نظام الحكم حين يتخيل هذا التيار انه وطد أقدامه فى الساحة وبعد ان يكون قد أضعف التيارات المشار إليها، ثم الصدام فالهزيمة.
ولعل سودان نميرى تقدم لنا مثلا تطبيقيا واضحا . . فما ان فقد نظام نميرى كل شعبية له، وضاقت القاعدة السياسية التى يستند إليها حتى اقتصرت على ثلة اوليجاركية تنهب الدولة والأفراد، حتى تحول لشعار تطبيق الشريعة الإسلامية . . وقد نجحت الفكرة كما يعلم القارئ فمدت فى عمر النظام نحو عام كامل بسبب التأييد الفورى الذى لاقاه الشعار من قبل هذه الحركات التى تغذت عليه سنينا طوالا. وهكذا صارت قضية السودان هى التأكد من ان كل أوانى الخمر قد كسرت وان يد كل سارق – فى زمن المجاعة – قد قطعت، وان الاتصال الجنسى يسير فى حدود الشرعية . والواقع ان الجنس يلعب دورا خطيرا فى الدعوة الإسلامية المعاصرة، كرد فعل عكسى إزاء الكبت الشديد الذى يعانيه الشباب فى الظروف الراهنة. ولعل من حسن حظ السودان ان خطوة نميرى جاءت فى التوقيت الخاطئ بحيث عجزت عن منع الانتفاضة الشعبية . . ولكن لا شك ان الحكام العرب قد تعلموا الدرس.
اننا مجبرون على ان نستنتج ان هذا المشهد يمكن ان يحدث مرة أو مرات أخرى بصورة أنجح، وبأشكال مختلفة : ان يرفع نظام ما شعار الشريعة أو يرفعه انقلاب عسكرى ملتحى ومعمم، فى اللحظة المناسبة … إلخ.
واستنتاجنا الرئيسى هو ان عقلنة وتثوير هذه الاتجاهات يتطلب شرطا أساسيا هو تبلور و نمو اتجاه عقلانى – ثورى حقيقى و فعال مع تبلور حركة ثورية واسعة و قوية فى أوساط القوى الاجتماعية الأساسية. كما ان الأمر يحتاج إلى إلحاق هزائم مريرة بالتيارات السلفية نفسها، سواء على الصعيد المحلى أو على صعيد المنطقة (سقوط الخمينى والنظام السعودى وضياء الحق … إلخ). فالمسألة لا تتوقف على مجرد حوار فكرى مع الجماعات الإسلامية حيث ان أفرادها لا يستندون إلى منطق معين وإنما إلى مشاعر و غرائز جياشة ومبهمة. ألم يلحظ الأستاذ عادل حسين نفسه هذه الحالة فى ندوة "الإسلام والعلمانية" التى عقدت فى دار الحكمة فى يوليو 1986 ؟ والله لم يمنعهم من تحطيم المنصة وما عليها وسحل من عليها سوى وجود زعمائهم بالذات على هذه المنصة !!
ورغم هذا لا يخلو الأمر من إمكانية تحول أقسام محدودة من الإسلاميين السلفيين تلقائيا أو من خلال الحوار فى اتجاه أكثر استنارة، ولكننا ركزنا فيما سبق على التوجه العام المحتمل لهذه الجماعات. ويمكن تلمس مثل حى لذلك من تاريخنا الحديث ، باستعراض مواقف سيد قطب فى نهاية الأربعينات وكتاباته عن العدالة الاجتماعية ومعركة الإسلام والرأسمالية، واضطرار الإخوان لنشر برنامج سياسى واضح ومحدد آنذاك.
وبناء على كل ما سبق نعتقد ان الشعار الذى يتبناه الأستاذ عادل حسين : تطبيق الشريعة الإسلامية لا يؤول إلى تغيرات اقتصادية – اجتماعية راديكالية، ولا حتى إلى تغييرات حضارية ملموسة. ومن الناحية العملية نجد مثالا متحققا لهذا التطبيق فى المملكة السعودية التى تطبق هذه القوانين بحذافيرها – تقريبا. والواقع ان مثال السعودية بالتحديد يوضح كيف يمكن تفسير حتى منهج عادل حسين العربى الجديد تفسيرا رجعيا : فمن حيث العقيدة الإسلامية وقلبها التوحيد فهو مطبق ، ومن حيث التمسك بالتراث والتاريخ – بمعنى ما – فهو حادث . . حيث لازال النظام القبلى العشائرى سارى المفعول ، وحيث النظام الملكى ذو الصبغة الدينية كما عرفه العالم الإسلامى فى أغلب عهوده ، وان كان مفتقرا لوشاح الخلافة ، ومن حيث الاستفادة من معطيات الحضارة الغربية الإيجابية فهناك الصناعة الحديثة والطرق والجامعات إلخ. وبالطبع يعلم الأستاذ عادل حسين ان العربية السعودية واحدة من أبشع نماذج التنمية التابعة فى العالم بأسره، وليس هو الذى يحتاج إلى تنبيه فى هذا الصدد بعد ما كتبه عن أثر المال النفطى فى تخريب الأمة العربية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ومن كل الوجوه. ولكننا نلفت انتباهه إلى حقيقة نبه إليها المفكر الكبير فؤاد زكريا فى ندوة دار الحكمة ، وهى ان صوتا لم يرتفع من جانب الجماعات الإسلامية فى الوطن العربى إلا بالتأييد و إظهار الولاء لهذا النموذج الإسلامى. كما ان صلات عديد من قادة الحركة السلفية المعاصرة بالعربية السعودية و أموال النفط مشهورة . . الأمر الذى يبرر تماما ما قاله الأستاذ فرج فودة عن الإسلام الثروى.
ولا شك ان الأستاذ عادل حسين يعرف منزلقات شعاره ، ولكنه كما نظن يعتقد ان قطع الأيدى والأرجل (وهو المعنى الشائع للشريعة الإسلامية كما يفهمها معظم أفراد الأمة) لن يكون إلا البداية التى لابد من خلال ضغط الإسلاميين ان تمتد لتشمل الحضارة العربية كلها . . انه إذن يراهن على إمكانية لم يحللها هو نفسه بدقة ووضوح ، حيث انه لم يضع تصورا واضحا للحضارة العربية الإسلامية المقبلة ، بل ترك أمورا جوهرية عديدة للظروف، مثل مسألة الملكية الخاصة والديمقراطية إلخ. ولهذا بالذات وقع فى فخ الجماعات الإسلامية و"منطقها" الفريد : فلنطبق الشرع ليصبح كل شئ على ما يرام، دون تحديد ما هو المقصود بالضبط بالشرع، ليتبقى شئ واحد هو "ما يعتقده غالبية أفراد الأمة" : قطع الأيدى … إلخ. وقد لجأنا هنا إلى اقتباس منطق عادل حسين نفسه : "ما يعتقده غالبية أفراد الأمة"، فهذه كانت بداية أطروحته كلها، فقد اختار العقيدة الإسلامية لهذا السبب بالذات، ومن الطبيعى ان يختار قطع الأيدى للسبب نفسه، وفى أفضل الحالات كبداية لمشروع يفتقد إلى المنظور الاجتماعى، ومن ثم يضع نفسه – بنفس الطريقة التى وضعت بها الجماعات الإسلامية نفسها – فى خدمة الإسلام الثروى المرتبط أشد الارتباط بالغرب.
وقد قدم لنا سيد قطب نفسه كمثال بارز يدعم وجهة نظرنا سابقة الذكر، ففى "معركة الإسلام والرأسمالية" الذى صدر فى الأربعينات شن هجوما عنيفا على الطبقة المسيطرة أما فى حقبة الثورة المضادة وسيادة الرجعية الناصرية، أعاد سيد قطب فى الستينات تأسيس السلفية على أسس أكثر رجعية، وفى كتابة "معالم على الطريق" حذر الجماعات الدينية من ان تتورط فى طرح برنامج سياسى . . هكذا بوضوح.
وبعد . . لقد أهدى الأستاذ عادل حسين مؤلفه الذى نقدناه إلى الشباب مستهدفا أن يقدم لهم دليلا للعمل يستوعب خبراته ويتجاوز سلبيات تاريخه ، حتى لا يكرروا الأخطاء نفسها وكى يبدأوا من حيث انتهى. ونحن – باعتبارنا ضمن "الشباب" – نشكره على هديته . . ولكن يبدو ان نقد سلبيات أى جيل لا يقوم به بالفعل سوى جيل تال . . ومن ثم نهديه بدورنا هذا النقد.
**********************
[1] كل الاقتباسات في هذا المقال من كتاب عادل حسين ما لم ُيشر لغير ذلك.
[2] لعل من قرأ كتاب عادل حسين يدرك الجهد الذي بذلناه في عرض وربط مقولاته المتناثرة، دون إلحاق أي تشويه بها . ويمكن للقارئ المتشكك ان يعود إلي الكتاب نفسه للتدقيق .
[3] ) واضح هنا ان الكاتب يستلهم منجزات مدرسة التبعية بصفة عامة ، والتي تحدد التبعية الهيكلية أو البنيوية جوهرا أو مضمونا لظاهرة التخلف الحديث، القائم في بلدان العالم الثالث . هنا – أي حيثما استلزم الأمر تحليلا علميا عقلانيا – لم يستلهم كاتبنا أي نوع من عقلانية إسلامية . وسيتضح مغزي هذه الملاحظة لاحقا .
[4] وسنري كيف سيتراجع عادل حسين عن هذا التشخيص الدقيق .
[5] لا ندري حقا لماذا يعتبر عادل حسين التجربة الناصرية " توجها جادا نحو الاستقلال" في ضوء هذا التحديد للتبعية!!فالناصرية لم تغير نمط الاستهلاك المستورد بل شجعته ونمته بسياسة إحلال الواردات ، ناهيك عن عنصر الضعف الخطير إياه !
[6] ص58. والنص مأخوذ من : إسماعيل صبري عبد الله ، نحو نظام اقتصادى عالمي جديد .
[7] سبق ان أوضحنا فى عرضنا أفكار الكاتب بصدد الناصرية مرتكزاته الفكرية : البعد الإسلامى و اهمال الصراع الاجتماعى. و هذا ما سيعود إليه الكاتب.
[8] هذا الفصل بين التخلف و التبعية يضر مشروع عادل حسين من جانب آخر ؛ فيمكن ان يفترض البعض ان حل مشكلة التخلف –بالتالي- يختلف عن حل مشكلة التبعية . ويتحول الأمر إلي نزاع "قيمي" لتحديد أي الظاهرتين أهم وأجدر بالمعالجة : التخلف أم التبعية ؟!!
[9] ولعل من أهم دلالات اهمال عادل حسين لمفهوم نمط الإنتاج في تحديد مقولاته انه شكك في مواضع متفرقة (43-45)، في الطبيعة الاشتراكية لهذه البلدان وامتنع رغم ذلك عن محاولة تحديد طابعها الاجتماعي الحقيقي!
[10] يعتبر عادل حسين ان الدنيوية هى العقيدة( الأيديولوجيا) العامة السائدة في الغرب ، و تنضوى تحتها كل المدارس الفكرية الغربية المتصارعة من الوضعية حتى الماركسية. والمطلق الحقيقي لهذه الأيديولوجيا عند عادل حسين هو المنفعة واللذة الحسية للإنسان ( ص 16-17 ) . وانعكاس هذا في الفكر الاقتصادي هو اتخاذ " الإنسان الاقتصادي مفهوما محوريا" (ص 37). هذه المحددات – فيما نعتقد – ترتبط بالنظام الرأسمالي . ولكن الكاتب يعرف الدنيوية – من جهة أخري – بانها العقيدة التي تجعل الإنسان مركزا للكون ( ص 30) . ويبدو انه يعتبر كل هذه التعريفات متماثلة .
[11] يضيف الكاتب بعد ذلك ما لا يمكن تسميته سوي " بملاحظات" حول الأيديولوجيا التي يتبناها الحزب الشيوعي الصيني ، مركزا علي اختلافاتها عن ماركسية ماركس ، لتأييد أطروحاته . وهذه الملاحظات يمكن تفسيرها بتفسيرات عديدة من نواحي مختلفة غير أسطورة الاستقلال الحضاري كما سنري .
[12] بالطبع تعني هذه العبارة ضمنا – وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار ما ذكره الكاتب حول الأساس الموضوعي للتبعية – ان دولا مثل فيتنام وكوبا ، لا تتمتع بالموارد الطبيعية الجبارة لروسيا والصين ، لم يؤد كفاحها البطولي الطويل سوي لاستبدال تبعية غربية بأخرى شرقية ! وهذا توكيد آخر لتجاهل الكاتب لتأثير الصراع الطبقي وتغير السلطة الاجتماعية في التاريخ
[13] وان كنا حقيقة نتعجب من هذا التقرير ، فأين دور الارض ( أو الطبيعة) علي حد تعبيره ؟ ألا يقع عادل حسين بذلك اسيرا للعقيدة الدنيوية !! ولكن عادل حسين بذلك لا ينسي ان يشير – في الصفحة التالية – ان ملكية الدولة لوسائل الإنتاج لا تتعارض مع نموذج – وبالتالي مشاريع – البنك الدولي بل ويساعد علي تشغيل هذا النموذج . وبودنا حقا ان يضطلع الأستاذ عادل حسين ذلك بإثبات ذلك ، شرط ان يأخذ مصائر الصراع الاجتماعي بعين الاعتبار دون الاكتفاء بفحص نماذج مجردة !
[14] رغم إشارته لموقف ماركس الحاد إزاء النسق البرجوازي الغربي . )ص(71
[15] راجع أيضا هامش (10)، لاحظ أيضا المفاهيم الماركسية التي أدخلها عادل حسين في إطار الأيديولوجيا الدنيوية .
[16] ويرتب عادل حسين علي ذلك ان الإسلام لا ينطوي علي تخريب البيئة بعكس الدنيوية . . فهو إذن يعتبر ان علاقة الإنسان بالطبيعة مفهوما نسبيا أو أيديولوجيا ، يختلف من حضارة لأخرى.
[17] قبل نشرع في نقد أفكار عادل حسين ، نري ان نوضح هنا – منذ البداية – ان الكاتب تولي بنفسه هدم أطروحته هذه . فهوهنا- كما هو مفترض – يقدم لنا مثالا لهذا التطوير . ولكن مهما اجهد القارئ نفسه في دراسة أطروحاته العينية ، فسيجد نفسه مجبرا علي استنتاج ان عادل حسين وضع مشروعا تفصيليا للاستقلال استنادا – مع التحوير والتحريف – إلي ما حققته المدارس الراديكالية العالمية في رصد أشكال التبعية للامبريالية ، وليس استنادا إلي نظرية عربية إسلامية تستند إلي المفهوم الجوهري سابق الذكر ، حيث انه لم يتعرض لهذه المسألة علي امتداد صفحات الكتاب إلا في أعم عمومياتها ، رغم محوريتها بالنسبة لتنظيراته .
[18] ومن هنا جاء نقد هيجل له ، وأثبت عن طريق هذه النقطة ان المعرفة البشرية كلها موضوعية .
[19] هذا تحليل مبسط نوعا . ويمكن الرجوع – مثلا إلى – كتاب امام عبد الفتاح امام: المنطق الجدلى عند هيجل ، حيث يعرض الكاتب نقدا أعمق لمفهوم الشئ فى ذاته .
[20] قارن مع افكار الأستاذ عادل حسين.
[21] لعل من أعجب المفارقات ان اصحاب هذه النظرية ، وهم الذين انكروا مبدأ العلية فى التاريخ ، أجهدوا اذهانهم – كما لاحظ القارىء – فى إيجاد تفسيرات سببية تدعم نظرياتهم . وان اثبت هذا شيئا فانما يثبت ان موضوعية الفكر البشرى قدر لا مفر منه لك من يتصدى للتنظير للمجتمع البشرى وتاريخه . اننا امام نموج مصغر من مقولة الشئ فى ذاته . . فكلما سعى منظرونا الحضاريون الذاتيون للبرهنة على صحة نظرياتهم الحدسية اندفعوا أكثر فاكثر فى هدم اسسها اللاادرية الحدسية .
[22] التوتم (أو الطوطم) هو نوع من النبات أو الحيوان تتصور العشيرة أو القبيلة انه جدها الاصل وانها انحدرت منه ، ولذا يكون محل عبادة ويحرم اكله .
[23] انظر : سيد عويس، الازدواجية فى التراث الدينى . .
[24] لم يوضح الأستاذ عادل حسين مفهوم العقلانية من وجهة نظره ، فاضطررنا لوضع التعريف الذى يتناسب مع أفكاره من عندنا .
[25] يقدم كتاب مكسيم رودنسون : الإسلام والراسمالية ، أمثلة عديدة على التحايل على النص القرانى الذى يحرم الربا مثلا، اثناء فترات ازدهار النشاط التجارى المشار اليها
[26] لا تخلو المقولة مع ذلك من صحة : ان المجتمعات الاقطاعية اثبتت أكبر مرونة تاريخية فى تحقيق الثورة الصناعية . ولا أدل على ذلك من ان انجلترا التى لم يكن يقطنها حتى القرن السادس الميلادى سوى قبائل بربرية هى التى حققت الثورة الصناعية الاولى فى العالم ، لقد تحققت بعد ذلك ثورات صناعية بأساليب مغايرة، ولكن فى ظل شروط معين اهمها وجود هذه الثورة الصناعية الاولى ونتائجها المتمثلة ف الاستعمار الامبريإلى . عدا ذلك نحن نجهل تماما ماكان يمكن ان يحدث لو ان ظروفا كارثية ما قد اجهزت على شعوب اوروبا واليابان جميعا .
[27] يكفى ان يلاحظ عادل حسين التزييف الذى يحيط بهذه الفكرة فى بلادنا . فمن الشائع تصوير التعديلات العلمية المحدودة، التى ادخلت على ترتيب داروين لنشوء الأنواع وتطورها كما لو كانت قد قضت على كل أسس فكرة داروين نفسها . ويتزعم الدعاة الدينيين المشهورين الترويج لهذا التدليس . . وليست بخافية منطلقات هذا التزوير الفكرية .
Main Currents in Marxism, vol. I . [28]
[29] أما الأستاذ عاد ل حسين فهو يدافع كما رأينا عن رجال الأعمال ودورهم المرتقب فى مشروعه الجديد ، أى انه يحاول الحفاظ على استمرارية الأساس الموضوعى لأيديولوجيا الإنسان الاقتصادى التى ينتقدها .
[30]والواقع ان هناك صياغات كثيرة متناثرة للكاتب توحد بين اوروبا بشكل مطلق لا تاريخىوبين الأيديولوجيا الدنيوية فى أسوا حالاتها . ولكن يعود فيقول (ص 71) : "ان الثورة الصناعية البرجوازية اقتلعت كل التراث السابق عليها من القيم وبلا تفرقة بين المتغير والثابت". وهذا القول بدوره بعيد تماما عن الصحة . وعلى سبيل المثال ، من المعروف ان نمط الديمقراطية البرلمانية الغربية يمتد بجذوره إلى العهد الاقطاعى (بل وإلى عهد دولة المدينة الاغريقية) ، إذ كان مبدأ الحقوق التصويتية المتساوية فى الأمور القضائية والتشريعية واتخاذ القرارات المصيرية معمولا به فى مجلس السيد الاقطاعى)الكبوريا) ومحكمته الخاصة . والامثلة فى كل المجالات تفوق الحصر . على اننا نود ان نستنتج شيئا من هذه المناقشة العابرة، هو ان الاستمرارية الثقافية- الحضارية لشعوب بعينها عبر الانقلابات الجوهرية (تغير نمط الإنتاج السائد) لا تعنى استمرار نفس الإطار الثقافى وإنما استمرار جوانب مختلفة من القيم والعادات الاجتماعية بعد ان يتبدل دورها وتتغير اهميتها ، وتخضع للتغير المستمر من كافة الجوانب .
[31] ولاينسى الأستاذ عادل حسين ان يزح بالماركسية فىالموضوع فيشير إلى نظرية نمط الإنتاج الآسيوى ، التى تقدم كتفسير لتاريخ الشرق ، ووضعها لهذا النمط فى لائحة أنماط الإنتاج الشهيرة قبل النمط العبودى . وكون ان هذا النمط ُوضع هذا الموضوع فهو امر يعود إلى الاحتفاط بالمشاعة القروية القديمة وقيام الدولة فوقها وليس على حسابها وتفكيكها . لقد تحولت المشاعات القديمة إلى مشتركات قروية فحسب ، ولم يقل ماركس ان هذا النمط أقل تقدما من الناحية التقنية والحضارية ، فقد اشار غير مرة إلى اعمال الرى العظمى التى اقيمت … إلخ . وفضلا عن ان الكاتب تجاهل ذلك فهو لم يناقش النظرية أصلا – أى لم يوضح وجه الخطأ فيها – مكتفيا بوصمها بالعداء للشرق . وليس هذا هو الموضوع الوحيد الذى رفض فيه الكاتب المناقشة ، فقد عودنا طوال الكتاب على هذا المسلك غير العلمى . وفضلا عن ذلك لا يقول كل انصار فكرة النمط الآسيوى – كما يدعى الأستاذ عادل حسين – ان هذه المجتمعات تنكبت الطريق الاغريقى "الصحيح" وإنما قالوا ببساطة انه طريق مختلف يعود لظروف موضوعية بعينها . اما عن إشارته الصحيحة إلى بشاعة العبودية عند الاغريق، فهى بالفعل فى محلها ، على ألا ينسى من فضله ثورة الزنج فى العصر العباسى .
[32] ليس هناك تصور أكثر سذاجة من التصور بأن سكان هذه المناطق الشاسعة قد تحولوا إلى الإسلام بسبب الاقتناع . فهذه الشعوب كانت امية لا تعرف القراءة أو الكتابة فى جانبها الاعظم ، فلم يتيسر لها القيام بمقارنة الاديان ببعضها مقارنة عقلية . هناك أيضا تصور ساذج مقابل يرجع انتشارا الإسلام إلى الرغبة فى الهرب من دفع الجزية وتولى المناصب العامة . لا يمكن انكار دور مثل هذا العامل ، ولكن اعتباره عاملا حاسما يحوى كثيرا من الشطط . فقد كان من الأولى طبقا لهذه الفكرة ان يخضع المصريون لعبادة الامبراطور الرومانى وان تتركز امالهم فى الحصول على المواطنة الرومانية .
[33] راجع مقال " بنية التخلف"geocities. com/sameh562001
[34] راجع مقال "بنية التخلف"geocities. com/sameh562001
[35] سبقت الاشارة فى عرضنا لافكار الأستاذ عادل حسين إلى البعد الاقتصاديوى المكمل لهذا البعد الحضارى ، ٌبعد "تكامل الموارد الاقتصادية" . ولا نفهم لماذا يعتبر الأستاذ عادل حسين بلدا مثل اليابان مستقلا، حيث انه من أفقر البلاد فى الموارد الطبيعية الجوهرية للصناعة ويعتمد على الخارج فى استيراد الجانب الأكبرمن احتياجاته منها !!
[36] نحن نميز مفهومىالتأخر والتخلف كالأتى : -
التأخر هو تأخر درجة نمو قوى الإنتاج ، وهذه مسألة نسبية . -
التخلف : بينية اقتصادية – اجتماعية تتمحور حول الآخر وليس حول ذاتها بحيث تنمو فى توافق مع الخارج لا مع نفسها .
[37] لا يمكن الحديث فيما يخص عصرى الخفاء الراشدين والدولة الاموية – على الاقل – عن ادماج شعب مصر فى الثقافة العربية الإسلامية بحيث يعتبر نقل هذه الفوائض نقلا محليا من منطلقة لاخرى داخل نفس التكوين الثقافى
[38] نقصد بموقف الدفاع التاريخى ، ان نمط الإنتاج السائد فى هذه البلدان يتميز بالضعف النسبى لآلية التراكم الداخلية به ، فلا تحركه الرغبة فى رفع معدل الربح كالبنى الرأسمالية ، ولا تنظيم شعبى ديمقراطى حقيقى يستند إلى مجتمع بدون طبقات أو مراتب اجتماعية متميزة . ومن ثم لا مفر من استنتاج ان معدلات واتجاه التراكم فيه تحركها إلى حد كبير متطلبات المحافظة على الاستقلال وتأمين المجتمع إزاء التقدم التكنولوجى وبالتإلىالعسكرى فى البلدان الامبريالية .
[39] مما لا يمكن انكاره ان الملكية الخاصة (سواء الملكية الفردية فى الغرب أو ملكية الدولة فى الشرق) لعبت دورا هاما فى تطوير القوى المنتجة وبالتإلى فى صناعة الحضارة. ولكن من الحقائق المعروفة فى التاريخ ان التطور الحضارى قد ترافق حتى وقتنا هذا – كما قال روسو – مع انحطاط انسانى.
Rosa Luxemburg, The Accumulation of Capital, chs. 27-30 [40]
[41] لا ندرى حقا لماذا يدافع عادل حسين عن الملكية الخاصة الفردية، رغم أنها كانت شبه غائبة وهامشية فى ظل الحضارة الإسلامية ! لقد توقف الأستاذ عادل حسين فى النقطة الخاطئة تماما عن المطالبة بالعودة للتراث، فى الوقت الذى لم يجد فيه مانعا من مناقشة مدى ملائمة الجلباب والجلوس على الأرض لنمطنا الحضارى المنشود !!
[42] نتحفظ على التعبير الوارد بين القوسين لأسباب ذكرناها فى مقالنا:" بنية التخلف".
[43] نلفت انتباه القارئ – عرضا – هنا إلى المنطق البراجماتى لهذا التصور، فضلا عن إعادة تأكيد فكرة المحتوى الحضارى للنظريات الاجتماعية؛ فإدراك العلاقة السببية ليس له علاقة هنا بصحة أو خطأ أدوات التحليل وإنما بتكوين ثقافى معين.
[44] نود ان نؤكد للقارئ اننا لا نقصد مطلقا ان نصف الأستاذ عادل حسين بهذه الأوصاف، فهو حقيقة لم يذكر ذلك فى كتاباته، وإنما نحن نمد الأمور على استقامتها حتى نبرز النتائج التى يمكن ان تترتب على أيدى البعض من انتشار هذه الأفكار.
[45] ليس هذا هو الحال فى النظرية الماركسية القائمة على فكرة الصراع الطبقى وانقسام العالم إلى طبقات، لأن الطبقة لا يمكن تعريفها إلا فى إطار أشمل منها، هو دورها الاجتماعى فى عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج . . أما الحضارة، فليس لها من إطار مرجعى مماثل، فلا مرجع لها سوى ذاتها، وهى وحدها التى تفسر نفسها بنفسها . . إلخ.
[46] نضعه بين قوسين إ شارة إلى طابعه المطلق الخالى من المحتوى الاجتماعى لدى "الفكر العربى الجديد" . . وقد سبق ان أوضحنا ان هناك أكثر من إسلام واحد. وسنرى لاحقا طبيعة الإسلام السائد الآن لدى المطالبين بتطبيق الشريعة، وكيف انه غير معاد بالضرورة للامبريالية والتخلف – التبعية.
[47] نحب ان تنوه هنا باننا نرى ان الناصرية كانت فى جوهرها ثورة مضادة نجحت فى تحطيم المد القومى الشعبى وأنقذت النظام الاجتماعى من ثورة محتملة، فى فترة عصيبة تميزت بانتعاش الجماهير العربية وصحوتها وعنف مواجهتها للامبريالية . . ولكنها كى تحقق هذا الهدف فى هذه الظروف كان عليها ان تظهر بمظهر ثورى وان تواجه شرائح بعينها من الفئات المالكة. ولما أدت الناصرية مهمتها ازيلت ببساطة( قدم عادل العمرى دراسة تفصيلية بعنوان:"الناصرية فى الثورة المضادة"- منشورة على:geocities. com/sameh562001
[48] لا يخفى علينا – وهذه رسالة خاصة للأستاذ عادل حسين حتى لا يسئ فهمنا – ان "السلفيين الماركسين" لا يختلفون اختلافا ملموسا عن السلفيين فيما يتعلق بهذه الأمور، اللهم باستثناء اللغة.
[49] نلاحظ ان التحالفات والخصومات جميعا كانت مع وضد قوى دنيوية ولصالح المعسكر الرجعى أو الأكثر رجعية فى أغلب الحالات