|
اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني
جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين
الحوار المتمدن-العدد: 2496 - 2008 / 12 / 15 - 09:37
المحور:
الارشيف الماركسي
الدرس الثاني ميزة الجدلية الأولى الترابط قانون التفاعل والترابط الشامل
1 – مثال 2 – ميزة الجدلية الأولى 3 ـ في الطبيعة 4 – في المجتمع 5 – خلاصة
1 – مثال يشارك صاحبنا فلان في النضال من أجل السلام، ويجمع التواقيع على نداء ستوكهولم، ويقوم بتعليق الإعلانات من أجل مؤتمر الشعوب، ويأخذ بالنقاش مع صديقه في العمل أو مع شخص غريب حول حل المشكلة الألمانية حلا سلميا أو حول ضرورة إيقاف الحرب في الفيتنام، كما أنه يدعو ساكني الحي إلى اجتماع في بيته لتأليف اتحاد وطني من أجل السلام. وسوف يقول البعض: "وماذا يعتقد هذا المسكين أنه يفعل؟" أنه لا شك يضيع وقته وجهده". يبدو عمل هذا الرجل، لأول وهلة، عبثا لا طائل تحته. فهو ليس وزيرا، ولا نائبا ولا قائدا في الجيش ولا صاحب مصرف أو سياسيا. إذن؟ وهو مع ذلك محق في عمله. لماذا؟ لأنه ليس وحيدا.ومهما كان شخصه متواضعا فأن لمحاولاته هذه قيمتها وتأثيرها لأنها ليست محاولات فريدة. بل عمله جزء من عمل كبير هو نضال الشعوب العالمي من أجل السلام. إذ هناك ملايين الرجال الذين يعملون مثله، في نفس الاتجاه ضد نفس القوى. فهناك ارتباط شامل بين جميع هذه المحاولات التي تكون حلقات صغيرة في نفس السلسلة. كما أن هناك تفاعلا متبادلا بين جميع هذه المحاولات، لأن كلا منها تساعد الأخرى بما تضربه من مثل وما تكسبه من خبرة أثناء فشلها وانتصارها. حتى إذا قام جميع هؤلاء الرجال بالمقارنة بين محاولاتهم اكتشفوا أنهم لم يكونوا فيها فريدين بالرغم من اعتقادهم ذلك. كل شيء أذن مرتبط بالأخر. (Tout se tient) هذا مثال بسيط استقيناه من الواقع. وهكذا نرى أن قانون الجدلية الأول هو الذي يسمح، لوحده، بتأويل هذا المثال بصورة صحيحة. وبهذا تتعارض الجدلية مع الميتافيزيقا تعارضا أساسيا. ولن يفكر إلا ميتافيزيقي مثل هذا التفكير فيقول: "ما الفائدة من كل هذا الجهد، من صعود الطوابق ومناقشة الناس؟ لأن مصير السلم ليس بأيدي الناس العاديين" لأن الميتافيزيقي يفصل ما هو في الواقع غير منفصل. تكلم في تشرين الأول سنة 1952، في مؤتمر آسيا والباسفيك من أجل السلام، عالم، هو جون هنتون، وكان قد شارك، في لوس آلموس، في صنع القنبلة الذرية الأولى فقال: "لمست بيدي أول قنبلة ذرية ألقيت على ناجازاكي. وأني لأشعر الآن بالجرم الذي ارتكبته، كما أشعر بالخزي لأنني قمت بدور مهم في إعداد هذا الجرم ضد الإنسانية. ولكن كيف حدث أني رضيت القيام بهذه المهمة؟ ذلك لأنني كنت أومن بفلسفة "العلم من أجل العلم" الخاطئة. هذه الفلسفة هي السم الذي يقضي على العلم الحديث. ولقد كان من نتيجة الخطأ الذي يقوم على فصل العلم عن الحياة الاجتماعية والكائنات البشرية أني انتهيت إلى العمل في صنع القنبلة الذرية خلال الحرب. إذ كنا نعتقد أننا، كعلماء، يجب علينا أن نكرس جهودنا من أجل "العلم الصرف" وأن على المهندسين ورجال السياسة إتمام الباقي. وأني لأخجل من القول بأنني انتظرت فظائع ضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية لكي اخرج من برجي العاجي وأدرك أنه ليس هناك من "علم صرف" وأن لا معنى للعلم إلا بقدر خدمته لمصالح الإنسانية جمعاء. وأني لا توجه اليوم إلى العلماء الذين يعملون الآن، في الولايات المتحدة وفي اليابان في صنع الأسلحة الذرية والميكروبية قائلا: "فكروا فيما تفعلون!" ولا يعتقد الميتافيزيقي أن ما يفعله مرتبط بما يفعله الآخرون. ذلك شأن العالم الذري الذي خيل إليه أنه يتصرف حسب "روح العلم" وكان موقفه، في الواقع، موقفا مناقضا للعلم لأنه لم يتساءل عن الظروف الموضوعية لنشاطه المهني وعن طريقة استخدام عمله. وهذا موقف شائع جدا. وهو موقف الرياضي الذي يردد في كل مناسبة "الرياضة هي الرياضة، والسياسة هي السياسة. أنا لا أتدخل في السياسة" ولا شك أن الرياضة والسياسة شيئان منفصلان. ولكن من الخطأ القول بأن ليس بينهما أية علاقة إذ كيف يمكن للرياضي أن يشتري أدواته الرياضية إذا انخفضت قدرته الشرائية. أو توقف عن العمل؟ وكيف يمكن بناء الملاعب وأحواض السباحة إذا التهمت ميزانية الحرب الاعتمادات الضرورية للرياضة؟ وهكذا ترى أن الرياضة ترتبط ببعض الشروط التي يجهلها الميتافيزيقي ويكتشفها الجدلي، لأنه لا رياضة بدون اعتمادات، ولا اعتمادات بدون سياسة سلمية، فلا تنفصل الرياضة إذن عن السياسة. ولا يخدم الرياضي، الذي يجهل هذا الارتباط، قضية الرياضة بل هو يحرم نفسه من الوسائل للدفاع عنها. لماذا؟ لأنه إذا ما جهل أن كل شيء مرتبط بالآخر فانه لن يناضل ضد سياسة الحرب. حتى يحين الوقت الذي يفقد فيه الرياضة وذلك إما لأن خراب البلاد قد قضى على معدات الرياضة وإما لأن الحرب قد وقعت.
2 – ميزة الجدلية الأولى لا تنظر الجدلية، على عكس الميتافيزيقا، إلى الطبيعة على أنها عبارة عن مجموعة من الأشياء والظواهر المنفصل بعضها عن البعض بل على أنها كل موحد منسجم حيث تتصل الأشياء والظواهر اتصالاً عضويا ويرتبط كل منها بالآخر. لهذا يرى المنهج الجدلي أنه لا يمكن تفسير أية ظاهرة طبيعية إذا نظرنا إليها على حدة خارج الظواهر المحيطة بها، لأنه يمكن تحويل أية ظاهرة في أي مجال من الطبيعة إلى شيء لا معنى له إذا ما نظرنا إليها في منأى عن الظروف المحيطة بها وفصلناها عن هذه الظروف ، كما أنه، على العكس، يمكن فهم أية ظاهرة وتفسيرها إذا نظرنا إليها من خلال علاقتها بالظواهر المحيطة التي ترتبط بها. تدل الميزة الأولى للجدلية على طابعها العام، وتتحقق هذه الميزة بصورة شاملة في الطبيعة وفي المجتمع.
3 – في الطبيعة تفصل الميتافيزيقا المادة الخام عن المادة الحية وعن الفكر. لأن الميتافيزيقا تعتبر أن هذه مبادىء ثلاثة منعزل كل منها عن الآخر. ولكن هل يوجد الفكر في الذهن؟ وهل يوجد بدون الجسد؟ كما أن علم النفس (وهو علم يدرس النشاط الفكري) يستحيل إذا ما جهلنا علم وظائف الأعضاء (وهو علم وظائف الكائن الحي) كما أن هذا العلم وثيق الاتصال بالبيولوجيا (علم الحياة عامة). وكذلك تستعصي الحياة على الفهم إذا جهلنا العمليات الكيمائية كما أن الكيمياء تكتشف تركيب الجسيمات (molecules) الذري، ودراسة الذرة خاصة بالفيزياء. فإذا ما أردنا اكتشاف أصل هذه العناصر التي تدرسها الفيزياء، أفلا يؤدي بنا الأمر إلى علوم الأرض التي تظهر لنا طريقة تكوينها؟ ومن ثم ننتقل إلى النظام الشمسي (علم الفلك) الذي تكون الأرض جزءا منه؟ وهكذا نرى أنه بينما تقف الميتافيزيقا في وجه التقدم إذا بالجدلية تعتمد على العلم في وجودها. ولا شك أن هناك فروقا بين العلوم، إذ تدرس علوم الكيمياء والحياة ووظائف الأعضاء والنفس ميادين مختلفة سوف نعود إليها فيما بعد. ولكن هذه العلوم تكون، مع ذلك وحدة أساسية تعكس لنا وحدة الكون. لأن الواقع كل. هذا ما تعبر عنه الميزة الأولى للجدلية. ولا شك أنه من المفيد توضيح التفاعل والترابط بين الأشياء بواسطة الأمثلة. أمامنا رقاص معدني. فهل يمكننا أن ننظر إليه في منأي عن الكون المحيط به. كلا لأن هناك رجالا قاموا بصنعه (المجتمع) من معدن استخرجوه من الأرض (الطبيعة). ولنتأمل هذا الرقص جيدا. فهو في سكونه ليس مستقلاً عن الظروف المحيطة: كالثقل والحرارة والصدأ إذ يمكن لهذه الظروف أن تؤثر فيه ليس فقط في وضعه بل في طبيعته (الصدأ). ولندل قطعة من القصدير فإذا بقوة تؤثر على الرقاص وإذا به يتمدد وإذا بشكله يتغير إلى حدا ما، فيؤثر الوزن في الرقاص ويؤثر الرقاص في الوزن لأن بينهما تفاعلاً متبادلا، وأكثر من هذا أن الرقاص مكون من جسيمات ترتبط فيما بينها بتأثير قوة جاذبة فإذا ما بلغ الرقاص وزنا معينا عجز عن التمدد وانكسر فتنقطع العلاقة بين بعض الجسيمات. حتى إذا ما سخنا الرقاص تغيرت العلاقات بين الجسيمات بطريقة أخرى (التمدد). نقول إذن ان الرقاص مكون بطبيعته وتغيراته من تفاعل ملايين الجسيمات التي يتكون منها. كما أن هذا التفاعل مشروط هو نفسه بعلائق الرقاص (في مجموعه) بالوسط المحيط به. لأن الرقاص والوسط هما كل واحد، يقوم بينهما فعل متبادل. فإذا ما جهلنا هذا الفعل أصبح صدأ الرقاص وانقطاعه واقعتين لا معنى لهما. ولقد علق ستالين على ميزة الجدلية الأولى بقوله: "لهذا يرى المنهج الجدلي انه لا يمكن فهم أية ظاهرة طبيعية إذا ما نظرنا إليها على حدة. خارج الظواهر المحيطة بها ". ومن ابلغ الأمثلة على التفاعل الرباط الذي يربط بين الكائنات الحية وبين ظروف حياتها و "بيئتها". فنرى النبتة، مثلا، تمتص الأكسجين من الهواء وتدفع بغاز الكربون وبخار الماء. وهذا التفاعل يغير كلا من النبتة والبيئة. وتستخدم النبتة الطاقة التي يمدها بها نور الشمس فتقوم، بواسطة عناصر كيمائية تمتصها من الأرض، بتركيب للمواد العضوية يسمح لها بالنمو. فهي في نموها تغير الأرض أيضا كما تغير ظروف نمو نوعها في المستقبل. وهذا يعني أن النبتة لا توجد إلا متحدة مع وسطها الذي تنمو فيه. وهذا التفاعل بينهما هو أساس كل نظرية علمية عن الكائنات الحية لأنها الشرط العام لوجودهما. إذ يعكس نمو الكائنات الحية تغير الوسط الذي تعيش فيه وهذا هو مبدأ العلم عند ميتشورين وسبب نجاحه. فلقد عرف ميتشورين، بعد أن فهم أن الحي والوسط كل لا يتجزأ، كيف يغير الأنواع بتغيير بيئتها. كما أنه لم يكن باستطاعة عالم وظائف الأعضاء الكبير بافلوف أن يؤسس علم نشاط الأعصاب لو أنه جهل الاتحاد الوثيق بين الجسم والبيئة. ويجري هذا التفاعل بينهما في القشرة الدماغية (Cortex) ولهذا كان مجموع الجسد تحت تأثير القشرة الدماغية، كما أن هذه القشرة الدماغية تتأثر بدورها بالإثارات الماضية والحاضرة التي تصدر عن الوسط الخارجي (وعن الجسم). وهكذا تتعلق جميع الظواهر التي تحدث في الجسد (كالمرض مثلا) بنشاط الأعصاب الذي يشرف على مختلف الوظائف، والذي يتأثر بالظروف المسيطرة في البيئة الطبيعة وفي المجتمع. ولقد كان هذا المبدأ في وحدة تفاعل الظواهر ضروريا لتقدم جميع العلوم. ويمكننا أن نعدد الأمثلة عليه ولنكتف هنا باكتشاف الضبط الجوي على يد توريشلي (1644). فنحن إذا قلبنا أنبوبا مملوءا بالزئبق على وعاء مملوء بالزئبق أيضا، رأينا أن الزئبق لا يهبط في الأنبوب إلى ما تحت ارتفاع معين ويظل على ارتفاع أعلى من مستوى الزئبق في الوعاء. ونحن طالما عزلنا هذه الظاهرة عن ظروفها لم نفهمها ولكن إذا لاحظنا، على العكس، أن سطح الزئبق (في الوعاء) الذي غمسنا فيه الأنبوب ليس منعزلا بل هو على اتصال بالجو، وأن هناك تفاعلا بين ما يجري في الأنبوب والظروف المحيطة تبين لنا تفسير ذلك: يظل الزئبق معلقا في الأنبوب لأن الهواء يضغط (الضغط الجوي) على صفحة الزئبق الذي يحتويه الوعاء ولذا قال توريشلي يجب أن ننظر إلى الوعاء كما لو كان في قعر محيط من الهواء ولن نستطيع القيام باكتشافات علمية إذا ما اعتدينا على القانون الأول في الجدلية، فعزلنا الظاهرة التي ندرسها عن ظروفها المحيطة بها.
4 – في المجتمع تقوم الميتافيزيقيا بعزل الظواهر الاجتماعية كلا منها عن الاخرى فتعزل الواقع الاقتصادي عن الحياة الاجتماعية وتعزل الحياة السياسية عنهما. كما أنها تدخل الحواجز داخل كل من هذه الميادين. وهذا يؤدي إلى القول بأن "إعدام آل روزنبرج الأبرياء على يد الحكومة الأميركية غباوة لا معنى لها". ويرد الجدلي على ذلك بقوله: "لهذا الإعدام مغزى فهو يعكس سياسة الزعماء الأميركيين بأجمعها، وهي سياسة حرب تحتاج إلى الأكاذيب وإلى الذعر". ولا يفهم الميتافيزيقي تاريخ المجتمعات بل هو عبارة عن خليط من العوارض (أي الظواهر التي لاسبب لها) ومن الصدف العابثة حتى أن هناك فلاسفة يؤكدون (ومنهم البير كامو) أن جوهر العالم هو العبث (L absurde) هذه الفلسفة مفيدة لصانعي الكوارث. أما الجدلي فهو يعلم أن كل شيء في الطبيعة مرتبط بعضه ببعض. فإذا ما انهارت المدارس فليس ذلك لعجز الحاكمين بل لأن سياسة الحرب تتطلب تضحية أبنية المدارس. ولقد لاحظ (أراجون) أن الاستعداد للموت يقصر الحياة "كل شيء يتعلق بظروف المكان والزمان". وتستطيع الجدلية أن تفهم الظواهر الاجتماعية وتفسرها لأنها تصلها بالظروف التاريخية التي تولدت عنها والتي تتفاعل معها. أما الميتافيزيقي فهو يعيش في التجريد، ولا يعبأ بظروف المكان والزمان. وهكذا يعتقد البعض، بنية حسنة، أنه كان بإمكان العمال الفرنسيين في سنة 1944، بقيادة الحزب الشيوعي، الاستيلاء على الحكم، وأن تقاعسه عن ذلك "فوت عليه الفرصة". وهذا تقدير مغر لأول وهلة ولكنه تقدير خاطىء. لماذا؟ لأنه يفصل جانبا لا معنى له الا في علاقته بالمجموع. الخطأ أنما هو في معرفة طابع حركة المقاومة وهدفها. ولا شك أن القوة الأساسية كانت الطبقة العاملة التي يقودها الحزب الثوري الا وهو الحزب الشيوعي. غير أنه لم يكن هدف حركة المقاومة القيام بثورة عمالية، بل كان هدفها تحرير البلاد والقضاء على الفاشية. ولقد وحد هذا الهدف الفرنسيين في جميع الطبقات (حتى أنه قسم البرجوازية على نفسها وانفضت طائفة منها عن حكومة فيشي). وهكذا اتخذت حركة المقاومة صورا شتى من نضال مسلح، واضرابات العمال، ومظاهرات النساء في الشوارع، ورفض الفلاحين تسليم المحصول، ونسف لجهاز حكومة فيشي الاضطهادي على يد الموظفين، ونضال الشبان ضد الخدمة الإجبارية في ألمانيا والمعلمين والعلماء ضد الهتلرية المضللة. فكانت حركة المقاومة عملا قوميا عظيما. ذلك هو طابعها الأساسي. ويرجع الفضل للشيوعيين الفرنسيين في أنهم فهموا الوضع بمجمله، فعملوا على تكوين جبهة وطنية واسعة للنضال ضد هتلر ومعاونيه، ولم يسمحوا بأن تصبح حركة المقاومة حزبا منفصلا عن جماهير الشعب الفرنسي. وهكذا أمكنت الثورة الوطنية عام 1944 ضد العدو الذي أصبح وحيداً آنذاك. ماذا كان يحدث لو أن طبقة العمال حاولت، في تلك الأيام، "القيام بثورة" وتأسيس الاشتراكية؟، لو أن الشيوعيين في سنة 1944، بينما كانت الحرب ضد هتلر لا تزال مستمرة، قالوا: "لم يعد هدفنا تحرير فرنسا و العالم من النازيين بل القيام بالثورة العمالية"، لو فعلوا ذلك لرأوا ملايين الفرنسيين من مختلف الطبقات، المستعدين للنضال من أجل تحرير البلاد، ينفضون عن طبقة العمال لأنهم غير مستعدين لمساعدة حركة ثورية، فيا له من عيد للهتلريين وأعوانهم من البرجوازية الفيشية الرجعية! وهكذا تصبح طبقة العمال وحيدة في الميدان فتفقد قيادة حركة المقاومة، تلك القيادة التي بذلت من أجلها أغلى التضحيات. ويخلو طريق الدكتاتورية أمام ديغول بمساعدة الجيش الأميركي. وذلك لأن الجيش الأميركي، وهذه هي المسألة الثانية التي يجب توضيحها، لم يهبط أرض فرنسا إلا لأن الانتصارات الروسية قد جعلت الجبهة الثانية أمرا لا مفر منه في أوروبا. كان غرض الزعماء الأميركان حرمان الشيوعية من الاستفادة من انهزام هتلر في البلاد المحتلة. فإذا ما اندفعت الطبقة العاملة، متجاهلة هذه الأوضاع الموضعية، للاستيلاء على الحكم لكان مصير شعبنا القتل، ولاتخذ الجيش الأميركي صفة الجيش المحتل كما يفعل اليوم، ولقضى على الثورة بمساعدة النازيين العائدين كما عادوا إلى أورادور. ألم يكن أمل ألمانيا الهتلرية والبرجوازية الألمانية (كآل كروب الذين أطلق الأميركان سراحهم) زوال التفاهم بين الكبار الثلاثة؟ وهكذا عاد تحالف ميونيخ بين البرجوازية والرجعيين ضد بلد الاشتراكية، ضد الاتحاد السوفياتي الذي قام بدور كبير في تحرير الشعوب. فإذا بجميع الفوائد والجهود والآلام التي عانيناها خلال أربعة أعوام يمحوها دم الشعب الفرنسي. بينما كانت المطالبة بالقضاء على الفاشية وإقامة جمهورية ديمقراطية برجوازية تتفق ومجموع "الظروف المحيطة" وهذا ما فعله الشيوعيون. وكان ذلك مطلبا في مستوى جماهير الشعب الفرنسي، يمكن تحقيقه بصورة تدريجية لأنه كان يمثل خطوة كبرى إلى الأمام. وذلك لأن طبقة العمال تجد في الجمهورية الديمقراطية البرجوازية أفضل الظروف لنضالها الطبقي. ويفسر لنا هذا ازدهار حركة العمال الفرنسية في الأشهر التي تلت التحرير، وقد حمل هذا الازدهار الشيوعيين إلى الحكم وعاد على شعبنا ببعث اقتصاده وارتفاع مستوى المعيشة والضمان الاجتماعي وتأميم الصناعات وإيجاد مجالس الإدارات وبدستور ديمقراطي، وورقة الانتخاب، وإعطاء المرآة حق التمثيل في المجلس، وقانون الموظفين. الخ.. وهكذا وجدت الطبقة العمالية نفسها في عام 1947 في أفضل الظروف النضالية لمجابهة قوى الرجعية في هجومها المعاكس. كما أتاح استمرار تفاهم الكبار الثلاثة، على المستوى العالمي، ضد ألمانيا الهتلرية، والقضاء على الطيران الألماني(Wehrmacht)، كما أنه أمكن من تكوين الأمم المتحدة وعقد اتفاق بوتسدام، فأصبح ذلك فيما بعد حجر عثرة في وجه النزعة الإمبراطورية الأميركية. كما سهل مهمة الديمقراطيين الشعبيين الشبان في أوروبا، وهذه مسألة مهمة جدا. ولو أن الشيوعيين الفرنسيين اتبعوا سياسة خرقاء عام 1944 لكان من الصعب الحصول على هذه الانتصارات. ولقد اضعفت هذه الانتصارات الرأسمالية العالمية. ولهذا يجب النظر إلى الحركة العمالية في بلد ما في نفسها بل في علاقتها بالمجموع. لا نستطيع تحليل العديد من الأمثلة الأخرى التي تدل على ضرورة النظر إلى الحوادث في ترابطها وكليتها وأن لا نفصل الواقعة عن "ظروفها" المحيطة، ولنكتف بالمثل التالي: أن المطالبة بجمهورية ديمقراطية برجوازية ضد البرجوازية الفاشية هي مطلب يتفق تماما ووضع الحركة العمالية الفرنسية اليوم. وهي مطالبة بامكانها أن تضمن أكبر تجمع للشعب حول طبقة العمال ضد العدو الرئيسي وهو البرجوازية الرجعية التي لا أمل لها، كي تعيش، الا في القضاء على شرعيتها الخاصة. غير أن المطالبة بنفس الشيء في الاتحاد السوفياتي لا معنى لها. لماذا؟ لأنه إذا كانت الديمقراطية البرجوازية تعتبر تقدما على الفاشية، فأن الجمهورية الاشتراكية السوفياتية (التي تضمن للعمال ملكية وسائل الإنتاج) تعد أيضا تقدما باهرا على الجمهورية البرجوازية. وهكذا يصبح ما كان خطوة إلى الأمام، بالنسبة لشعبنا، خطوة إلى الوراء بالنسبة للاتحاد السوفياتي. يجهل الميتافيزيقي أوضاع الزمن والمكان، ولهذا يفصل الديمقراطية عن ظروفها، كما لا يميز بين ديمقراطية برجوازية وديمقراطية سوفياتية. وبما أنه لا يعرف سوى الديمقراطية البرجوازية فهو يماثل بينها وبين الديمقراطية، فيأخذ على الاتحاد السوفياتي بأنه ليس "ديمقراطية". وهذا حق، فليس الاتحاد السوفياتي ديمقراطية برجوازية لأنه قضى على الاستغلال الرأسمالي وأوجد ديمقراطية جديدة تجعل السلطة كلها بيد العمال. ومجمل القول أن الميتافيزيقي يفصل ويجرد الصورة السياسة عن مجموع الظروف التاريخية التي أوجدتها والتي تفسرها بينما الجدلي يعود إلى الأخذ بهذه الظروف.
5 – الخلاصة ليست الطبيعة وليس المجتمع خليطاً يستعصي على الفهم بل ان جميع جوانب الواقع تترابط فيما بينها بروابط ضرورية متبادلة. ولهذا القانون أهمية عملية. يجب إذن أن ننظر إلى وضع أو حادثة أو مهمة نظرة تحيط بالظروف التي تولد هذه الأشياء وتفسرها، كما يجب الاهتمام دائما بما هو ممكن وما هو غير ممكن. إذ لا يجب أن نجعل من رغباتنا حقيقة واقعة، ويجب على الثوري أن يدرك الوقائع في حقيقتها. وهكذا أعتقد أننا نتخذ قرارا معينا في ظرف معين حتى إذا ما تغير الظرف اتخذنا قرارا مختلفا عن الاخر الذي اتخذناه أولا. فنحن نتراجع إذا لم تعد ظروف النجاح كافية، كما نسير رأسا إلى القتال إذا أملنا بالنصر بهذا الهجوم. وعلى كل لا يمكن أن نرتبط بصيغة أو قرار لأننا لا يمكننا أن نعرض حركتنا للخطر وما تجاهل ظروف العمل الا نزعة عقيدية متطرفة (dogmatique) إذ بينما مصلحة العمال في احترام هذا القانون الأولي للجدلية فأن البرجوازية تود أن تنسيهم اياه لأن مصلحتها تتعارض وهذا القانون. فهي تجيب على الذين ينددون بالظلم الاجتماعي "هذا نقص موقت!" كما أنها تصور الأزمات الاقتصادية على أنها "ظواهر سطحية عابرة". ويجيب العلم الجدلي على ذلك بأن الظلم الاجتماعي والأزمات الاقتصادية هي نتائج حتمية للرأسمالية. يقدس الفلاسفة البرجوازيون الميتافيزيقا لأنها تتيح تجزأة الواقع وتشويهه لمصلحة الطبقة المستغلة. حتى إذا بلغ التفكير الواقع في كليته اعترض هؤلاء الفلاسفة قائلين بأن ذلك لم يعد "تفلسفا". لأن الفلسفة عندهم ملف تحتفظ فيه كل فكرة بمكانها: فهنا الفكر وهناك المادة، هنا "الإنسان" وهناك المجتمع، الخ... أما الجدلية فهي تعلمنا أن كل شيء مترابط مع الآخر وأن ليس هناك من جهد ضائع لتحقيق هدف معين. وهكذا يعلم المناضل من أجل السلام أن الحرب ليست ضربة لازب لأن كل عمل يقوم به لمنعها هو عمل له قيمته، يمهد السبيل لانتصار السلام. ولهذا يدرك المناضل الثوري، وقد تسلح بالجدلية، مسؤولياته. فهو لا يترك شيئا للصدف بل يقدر كل جهد قدره. ويتيح لنا هذا الفهم للواقع أن ننظر بعيدا. كما يمدنا بالشجاعة التي لا تقهر حتى أن الفيلسوف الجدلي ف. فلدمان استطاع أن يصرخ في وجه الجنود الألمان الذين رموه بالرصاص قبل أن يخر صريعا: "يا لكم من أغبياء. أني أناضل من أجلكم!". وقوله حق، لأنه كان يناضل من أجل الشعب الألماني كما ناضل من أجل الشعب الفرنسي، لأن مصير كل منهما مرتبط بالآخر.
تعريب شعبان بركات المكتبة العصرية صيدا .بيروت
#جورج_بوليتزر_وجي_بيس_وموريس_كافين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اصول الفلسفة الماركسية
المزيد.....
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|