|
الراعي
محمد البوزيدي
الحوار المتمدن-العدد: 2496 - 2008 / 12 / 15 - 07:00
المحور:
الادب والفن
يكتسح الظلام البعيد ، فيعيد تشكيل وتفكيك الزمان والمكان الخاص به في احتفالية استثنائية ، حينها تبدو الأشجار وارفة الأغصان ، تحيي الواقف أمامها ، وتسترجع حيويتها بعد يوم مليء بحرارة عجيبة وغريبة. ينسل عبد الله بين الطرقات المحفورة من أثر حركات الدواب ، مرتديا قبعته المشهورة بلونها الأحمر والتي تبدو من بعيد . حينها يصيح الأطفال :اهربوا...... عبد الله قادم ، الراعي اقترب ، وما إن يسمع الإسم والصفة حتى يطلق الصغار سيقانهم للريح ، فعبد الله حارس أمين على الممتلكات في فترة الليل، إنه يستيقظ حين ينام الآخرون ليحرس ثرواتهم التي لم يستطيع تكوينها رغم أحلامه الذين تجاوزت الأربعين ربيعا. يحمل مصباحه اليدوي المشهور، ورفيقه المفضل جهاز الراديو الذي علاه الصدأ والذي كان قد عثر عليه منذ سنوات في الطريق إلى المدينة القريبة من القرية، ناهيك عن سلاحه الخاص الرهيب والذي لا يستعمله إلا لمواجهة الأفاعي والذئاب التي يصادفها في الحقول بالليل والتي تبحث عن طعامها حين ينام الناس ، ولإخفائه يعمد إلى غرسه في جانب سرواله في غمد خاص به صنعه بمهارة خاصة. تبدأ جولة عبد الله حين يتناول عشاءه بعد مغيب الشمس بقليل ، حينها ينسكب بهدوء متأملا أحزان وسكون الليل ، مارا قرب السواقي الفارغة من خرير المياه ، ووسط الأشجار والمزروعات المختلفة، يشتهر عبد الله بحشرجته القوية التي تسبقه والتي تنبئ عن وصوله إلى مكان ما ، إنها تنبعث بفعل أثر التدخين المتواصل لأكثر من عشرين سنة والتي تفضح مكان تواجده ، حينها ينتبه زوار الليل الذين يهبون لجني ثمار ليست لهم ، فينسلون هاربين أو مختفين وسط سنابل القمح التي بدأت في الارتفاع أو على أغصان الأشجار العالية. لكن بالمقابل فعبد الله بحشرجاته المختلفة يتميز بحاسة سمع استثنائية تلتقط كل حركة أو ماشابهها من بعيد ، حينها يضبط عبد الله بخبرته الطويلة وسط ردهات الحقول مكان تواجد السارق / الفريسة ، يستعد جيدا ، يقطع تنفسه لأمتار عديدة ويأخذ قنبا زرقاء يحملها معه منذ سنين ، يقترب رويدا رويدا فلا يشعر الهدف إلا وعبد الله يطوقه، يحاول تقييده بها مستعينا بقلدته وجثته الضخمة والتي تشل أي محاولة للتفكير في الهروب ، فيضبطه ويطلق حشرجاته ليستعيد تنفسه المتوقف قبل دقائق ، ومن بعيد تسمع الزفرات، فيهب الفضلاء الذين يعانقون الليل في جلسات صاخبة وسط الطبيعة، إذ يدركون أن معركة حدثت وانتصر فيها عبد الله ، فيتدخلون لفك الحصار عن الضحية بعد اكتشافه، حينها يقبلون رأسه ويحاولون التوسط لديه ولو بعلبة سجائر رخيصة الثمن. يحاول عبد الله تملك انضباطه والحفاظ على جديته، لكن حين يقدمون له علبة السجائر يفقد توازنه الخاص وتبدو أسنانه الصفراء كمقدمه لقبوله الصفقة لكن حتى الصباح فقط صائحا في الفريسة : اذهب فأنت معروف وهؤلاء شهود عليك . يبحث عن المصباح ليتبين وجه الضحية وينصرف. يواصل عبد الله طريقه منتشيا بالمهمة التي أنجزها والتي سيتقاضى عنها صباحا أجرا خاصا من صاحب الحقل الذي اشتكى إليه مرات من سرقة الرمان... بعد ساعتين مازال عبد الله يواصل الطريق فرحا ، يتجول ليلا مكتسحا المكان كأنه ملك في غابته الخاصة ، يقف أمام أحد المنازل المهجورة ، يجلس ليستريح....تمضي لحظات قبل أن يبدأ سماع شخيره..تبدأ حركات أخرى في التحرك، ينتبه بسرعة، فهو الذي يبقى يقظا ولو كان نائما، إنها أرانب ألفت زيارة المكان.... يستيقظ فجأة نادما على عدم أخذ آلة خاصة يصطاد بها الأرانب والتي تصبح مرشحة لتكون وجبته المفضلة في اليوم الموالي. عبد الله إنسان ليل بامتياز، ينام طول النهار، ألف الوحدة وعشقها، ككرة مغلقة بإحكام عجيب . مفتوح كشارع عام وسط مدينة كبيرة ، وحيد كعش نسر في أعالي جبل بعيد، غامض لدرجة مقرفة لا يعرف عنه أهل القصر شيئا إلا أنه راعي، يظهر ليلا فقط ونهارا لأخذ أجرته من الثمار والخضر التي يستعين بها على آلام الحياة المختلفة التي يبدو أنها لا تؤثر فيه من قريب ولا من بعيد . لا يغادر القرية إلا لماما حتى أصبح من مكوناتها الليلية حتى حفلات النهار يقاطعها ، يطلق لحيته وفقا لفلسفة خاصة في الحياة. حاول أحد الأساتذة وصف حالته، ففكر جليا وصرح أنه حل في الحلول مع جني ، وحين سأله مع صلاة الفجر حول التفسير المفترض، كان جواب عبد الله مدويا في دماغ المفكر : كأنك لم تغادر القرية ولا رأيت المدينة، أنا الذي حللت في الجني، يالك من مفكر متخلف أين يوجد الجني ...؟؟ هل تؤمن به ..؟؟؟ واختفى ....تاركا الغموض يلف كينونة المثقف الذي كان يقوم ببحث ميداني في علم الاجتماع، فاغرا فاه من مصطلح التخلف الذي صدر عن عبد الله .....
#محمد_البوزيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة
-
حوار مع الكاتب جمال الموساوي عضو المكتب المركزي لإتحاد كتاب
...
-
سلاما أيها البحر
-
قلب جريح
-
الدخول المدرسي بالمغرب
-
لوحات
-
حوار مع القاص المغربي محمد البوزيدي: التلوث الأدبي سمة النقد
...
-
ساحة سيرست
-
أرضي
-
الدموع المتجمدة
-
ممنوع من الكتابة
-
تراجيديا الواقع في *ورثة الانتظار * لعبد النور إدريس
-
العنف ضد المرأة أشكال وأنواع
-
عتبات الطريق 4+كشف الدجال المسمى الحاج دحال
-
قراءة في ديوان حتى يهدأ الغبار للشاعر المغربي يونس بن ماجن
-
3+الأزبال
-
إصدار جديد للناقد المغربي حسن المودن
-
قراءة في ديوان أطياف مائية للشاعر أحمد زنيبر
-
رحلة منتصف الليل
-
عتبات الطريق
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|