أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الإله السباهي - جذور واهية...قصة قصيرة















المزيد.....



جذور واهية...قصة قصيرة


عبد الإله السباهي

الحوار المتمدن-العدد: 2495 - 2008 / 12 / 14 - 05:00
المحور: الادب والفن
    


"وخلقنا من الماء كل شيء حي" قران كريم

" وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه المياه" التوراة سفر التكوين

الأديان كلها تبجل الماء، ولكن علاقة الدين المندائي بالماء تصل إلى حد التقديس.
فالمندائي يرى أن الماء الذي يجري في الأنهار، فيه قدر من ماء الحياة.
من أنهار العالم السماوي النوراني.
ومن يلوث مياه الأنهار يكون قد اقترف ذنبا وخطيئة لا تغتفر.
كل طقوس المندائيين تعتمد على الماء الجاري،
لذا سكنوا جوار الأنهار.
ومازن مندائي ولد في قلعة صالح. في بيت جاور نهر دجلة. فعرف النهر قبل أن يعرف اليابسة.
ظل يتذكر كيف كانت أمه تنقل الماء في جردل صغير من النهر. وكان هو يركض وراءها فتبعده عن طريقها.
كانت تدخل إلى شريعة النهر المرتفعة الجرف، وتقطف الماء من النهر بعيدا عن الضفة التي تكون عادة مغطاة بأوراق الصفصاف والغار المتساقطة في النهر.
تنقل الماء بكل حرص إلى البيت وتصبه في جرة كبيرة من الفخار تسمى ( حب- بكسر الحاء-) وتكرر تلك العملية الشاقة عدة مرات لكي يمتلئ الحب، فهو يسع ما يزيد على خمسة عشر جردلا.
والحب هذا وعاء صنعه الإله السومري (آنكي) أو صنعه أجداد مازن السومريون الأوائل ربما منذ زمن ما قبل الطوفان الكوني الذي أغرق الأرض ولم ينج من البشر غير النبي نوح. والذي يبجله المندائيون أيضا.
الحب هو الوعاء الكبير المصنوع من الفخار، ينتصب في ركن من الدار الأمامي عادة، يرفعه عن الأرض محمل من الخشب وتترك نهايته المخروطية طليقة إلى الأسفل، ويغطى بغطاء من الخشب أيضا.
يوضع تحت الحب مباشرة وعاء صغير من الفخار أيضا ولكنه صلب قليل المسامات يسمى( الحبانة) تتجمع فيه قطرات الماء التي تكون قد شقت طريقها عبر مسامات الناقوط خالية من الشوائب.
كان مازن يجلس ساعات على الأرض يراقب قطرات الماء وهي تخرج شفافة من أسفل الحب ( الناقوط ). لذا ظل منظرها وهي تتساقط في الحبانة عالقا في ذاكرته الفتية.
عندما كبر مازن وأدرك أن حياته مرتبطة بالماء بشكل مباشر قرر أن يكشف سر هذا السائل الشفاف الذي ظل ينافس حليب الأم حتى انتصر عليه.
أنهى مازن تعليمه الأولي بتفوق ملفت للنظر وهكذا كانت نتيجة تعليمه الثانوي. ثم التحق بعدها بكلية الهندسة لينهيها بتفوق أيضا.
كان مازن شديد الذكاء، هادئ الطباع، لا تشغله ملاهي الحياة، وظل الماء شغله الشاغل، فتخصص بدراسته وحصل فيه على درجات علمية متقدمة.
حاول مازن أن يعمل في الجامعة كمدرس. معتقدا أن الدرجات العلمية التي حصل عليها، تؤهله لشغل تلك وظيفة كأستاذ في الجامعة، ولكنه وجد الجامعات العراقية توصد أبوابها أمامه، ولا تفتح إلا لمن كان منتميا لحزب السلطة.
حار مازن في أمره، كيف سيجد وسيلة للعيش في بلده والأبواب موصدة أمامه؟
هل يترك بلده وأهله ليبحث عن مستقبله في مكان آخر في أرض الله الواسعة؟
علم من صديق للعائلة، بأن هناك وظائف شاغرة في المديرية المخصصة فقط لتصفية المياه، وربما تحتاج لخدماته، فذهب إليها، بأمل أن يجد فرصته هناك.
ذهب إلى تلك المديرية والتي كانت تتوسط بغداد، وقدم ملفا كاملا بنسخ من شهاداته وبعضا من بحوثه في موضوع تصفية المياه، التي حصل بموجبها على درجاته العلمية المتقدمة.
و بعد أن أرفقها بطلب للتعين وكذلك بشهادة الجنسية العراقية من نوع ( ج ) والتي كتب عليها أنه من التبعية العثمانية. أي أنه عراقي مائة في المائة، وكان الأجدر بهم أن يكتبوا أنه من التبعية السومرية، فأجداده هم من أسس العراق وبنا حضارته.
جاء بعد أسبوعين وفق الموعد.
أدخلوه لمقابلة المدير.
كان مكتب المدير فخما مفروشا بأثاث غالي الثمن، والطاولة التي يجلس المدير خلفها كبيرة وواسعة صنعت من خشب الصاج، وعلى الجدار خلفها علقت صورة للسيد القائد.
المدير لا يكبر مازن كثيرا، كان مقطب الجبين، وقد اعتنى كثيرا بشاربيه، جلس لابسا بدله زيتونية اللون. لا هي بدله رسمية، ولا هي لباس عسكري، كويت بعناية فائقة.
ألقى مازن التحية وظل واقف شابك يديه أمام المدير.
وهذا لم يدعوه للجلوس فورا، وإنما تركه واقفا ليتأمله
وليزيد من رهبة اللقاء.
دعاه بعد ذلك للجلوس وراح يكلمه من خلف الملف الذي بين يديه.
أستاذ مازن، إنك مولع حقا بالمياه وهذا ما نحتاجه هنا بالضبط، ولكن لا يكفي أن تحصل على الشهادة وإنما حب الاختصاص الذي درسته هو المهم.
هل أنت منتمي إلى الحزب؟
تفاجأ مازن بهذا السؤال الخارج عن الموضوع وراح يفرك يديه مستجمعا إرادته للإجابة التي أعدها سلفا.
أنا يا سيدي لا أعرف من السياسة شيئا، ولم أهتم طيلة سنين دراستي بغير العلم والكتب العلمية.
ألا تعجبك الحرية و الاشتراكية و الوحدة العربية التي ندعو إليها؟
المسألة يا سيدي ليست مسألة إعجاب، كلها أهداف جميلة ونبيلة، ولكنني لا أتقن السياسة، ولا لي فيها أية رغبة.
ولكن الإخلاص للوطن هو مسألة أساسية، وواجبا على كل فرد يعيش في هذا البلد يا أستاذ مازن.
نعم، إنني يا سيدي مخلص بكل جوارحي لبلدي وأجسد هذا الإخلاص بعملي الذي لا أجيد غيره.
مادمت مخلصا بعملك سأعتبرك حزبيا وإن لم تنتمي، وأترك ذلك للأيام القادمة. لكنني أطلب منك إذا عملت معي أن تكون مخلصا وجادا في عملك وتطيع الأوامر.
سأكون عند حسن ضنكم بعون الله.
وهكذا عمل مازن في تلك المديرية.
استلم أول مرتب شهري منها. لا بل قل أول نقود يجنيها في حياته، فعاد بها إلى البيت فرحا.
أعطى نصفه لأمه وأبيه واشترى هدايا كثيرة لأخوته.
كان مدير الدائرة المختصة بتصفية مياه الشرب في ورطة، قبل مجيء مازن، فقد كلفته القيادة بإعداد بحث عن المياه في العراق للمشاركة في المؤتمر العلمي المقرر عقده في الإتحاد السوفيتي بعد عدة أشهر. والذي قررت القيادة بالمشاركة فيه بمستوى عال.
لم يكن المدير والعاملين معه قادرين على إعداد بحثا يرتقي إلى طموحات القيادة، لذا جاء مازن في الوقت المناسب تماما.
أستدعى المدير مازن، وشرح له طلب القيادة بوضع بحث جاد عن المياه في العراق، للمشاركة بالمؤتمر المزمع عقده في باكو عاصمة أذربيجان السوفيتية.
و وعده بأن يصطحبه معه في الوفد المشارك. وأن يسعى كذلك للحصول له على زمالة خارج القطر لتطوير بحوثه عن المياه إذا أعد بحثا يليق بمركز العراق.
كان مازن قد أعد بحثا رائدا في مجال تصفية المياه بطرق المرشحات الغشائية الغير تقليدية منذ أيام الدراسة، فكان طلب رئيس الدائرة فرصة لمازن في تطوير ذلك البحث، وفرصة في البحث عن تطوير مستقبله.
لم يخطط مازن لكل تلك التفاصيل الدقيقة في حياته، وإنما أغلبها جاء كما أملته عليه الظروف. ولكن، والحق يقال، إن الرجل كان مثابرا، وشديد الذكاء.
هذا الذكاء، وتلك المثابرة خلقت منه عالما كبيرا يشار له اليوم بالبنان، و أورثته التعب والمتاعب أيضا.
تعقد في كل أنحاء العالم مؤتمرات علمية في شتى النواحي، ومن فترة لأخرى. فتقوم الدول والمؤسسات المختصة، وبعض الجامعات بالمشاركة في تلك المؤتمرات، فترسل إليها متخصصين أحيانا ومتفوقين أحيانا أخرى، وفي الكثير من الحالات تستغل تلك اللقاءات من قبل المسئولين في هذا البلد أو ذاك. فيأخذ هذا زوجته أو عشيقته لتمضية أوقات سعيدة معها.
فرح مازن كثيرا عندما أبلغ رسميا بأن يعد نفسه ليلتحق بالوفد الحكومي المشارك في مؤتمر باكو للمياه.
عقد المؤتمر في مدينة باكو عاصمة أذربيجان، والتي كانت جزأ من الاتحاد السوفيتي السابق.
كان ذلك في شهر آب عام 1978. وكانت تلك أحسن فرصة لمازن ليهرب فيها من حر آب ( والذي يذيب المسمار في الباب- كما يقول المثل الدارج) وربما يجد الفرصة في الهرب إلى أي بلد، بعد أن شدد المسئول الحزبي عليه في مسألة الانضمام إلى الحزب. وكانت هذه (مودة) سائدة في تلك الأيام، حيث يجبر الناس على الانضمام للحزب الحاكم. ولكن خيبة مازن كانت كبيرة في البداية. فالحر في باكو في موسم الصيف لا يرحم. والوفد الحكومي العراقي كلن أكثر تشددا في مراقبته والضغط عليه .
كان الوفد المغادر يتكون من رئيس الوفد، وهو حزبي متقدم طبعا، وأربعة مرافقين له جلهم من الأمن يتجسسون له ويتجسسن عليه وعلى بعضهم البعض، وباحث واحد، هو مازن، وكلهم يراقبونه.
و كالعادة، في دولة يقودها نظام شمولي، استأثر رئيس الوفد بالبحث الذي وضع فيه مازن عصارة فكره، وألقاه رئيس الوفد وكأنه هو الذي أعده.
لاقى البحث استحسانا كبيرا من الوفود المشاركة.
و طرحت أسئلة علمية كثيرة عن هذا البحث الرائد في علم تصفية المياه خلال تلك الجلسة.
كان البحث رائدا بالفعل في مجاله، و الأسئلة كانت كثيرة حوله، حولها المحاضر طبعا إلى مازن الذي كان يجلس قربه مع باقي أعضاء الوفد، لغرض مناقشتها والرد عليها (فالمحاضر لا يكلف نفسه بالتفاصيل الصغيرة!).
شاركت العديد من الدول الغربية في هذا اللقاء العلمي الهام. وكانت اليونان حاضرة في هذا المؤتمر بوفد ضم رجلا كبير السن وسيدتين. إحداهن تصغر مازن قليلا والأخرى جاوزت سن الشباب منذ أمد طويل، ولكنها ظلت متمسكة فيه بقوة.
كان العراق في تلك الفترة محط أنظار المستثمرين والباحثين عن الفرص السهلة في الربح السريع. فكان الوفد العراقي مرحبا به من قبل الجميع.
وفي أثناء الاستراحة القصيرة التي تتخلل الكلمات، انزوى مازن في ركن من المقهى الملحق بقاعة المؤتمر مع فنجان من القهوة، يفكر في نجاح بحثه الذي تعب في إعداده، والتصفيق الذي حصده رئيس الوفد جراء هذا البحث.
و هنا انضمت السيدتان اليونانيتان إلى طاولة مازن بعد استئذان وبأيديهن فناجين من القهوة وقطع من الحلوى.
أخذت السيدة المسنة ذات الملامح اليونانية المميزة تكثر من الأسئلة عن العراق، وعن الفرص التي يمكن أن تتوفر للاستثمار فيه. و لكنها كفت عن ذلك بعد أن علمت أن مازن عضو (ثانوي) في الوفد العراقي. فهو ليس أكثر من باحث.
ولكن السيدة الشابة التي كانت برفقتها، والتي كانت ذات ملامح شرقية أخاذة. كانت أكثر اهتماما بمازن.
فقدمت نفسها كونها صحفية ملحقة بالوفد اليوناني وأضافت أن اسمها (آليه – ربما كانت عاليه-) وهي في الثلاثينيات من العمر، وهي مهتمة جدا في الحديث مع باحث عراقي متخصص بموضوع المؤتمر. و لم تتركه إلا بعد أن حصلت منه على وعد بلقاء ثاني.
و هنا نبهها مازن أن لا تذكر كونها صحفية أمام باقي أعضاء الوفد العراقي، فالرقابة مشددة عليه.
و في المساء استغل مازن انشغال أعضاء الوفد بالوليمة الفخمة المقامة على شرفهم في مطعم فخم في وسط العاصمة باكو، فخف متسللا لموعده الذي ظل ينتظره لساعات على أحر من الجمر، بحجة أنه مصاب بصداع و لا يستطيع السهر.
عالية، شابة يونانية ذات ملامح وجمال شرقي ساحر، فالعيون سوداء كحيلة، والخدود نضرة وبلون القمح، لم تكن طويلة القامة و لكنها كانت رشيقة، وفي مشيتها الكثير من الكبرياء. طلعتها الجميلة هذه سحرت مازن منذ اللحظة الأولى. فكان للقهوة حينها طعما آخرا.
عندما كانت عالية تتطلع إليه في ذلك الركن المعزول، أحس مازن أن رفيقة العمر يجب أن تكون بتلك المواصفات.
جاءت عالية في الموعد المحدد، ولم تتأخر دقيقة واحدة. ورغم ذلك فمازن كان قلقا من أنها سوف لن تأتي. فالدقائق التي قضاها في الانتظار، كانت تجري بطيئة وثقيلة في ذات الوقت.
هب واقفا عند رؤيتها، وكاد يسقط الشمعة التي توسطت الطاولة.
كانت عالية هي المبادرة في كل شيء، وأدارت اللقاء بطريقة لبقة كأي صحفي محترف، ولم تترك لمازن فرصة الانطواء الذي اعتاد عليه، فهو قليل الكلام جدا.
وعلى الرغم من ذلك راحت تستل منه الحديث بدون تكلف. فانطلق دون تحفظ على غير عادته وحذره.
حدثها عن معاناته في التكيف مع العيش في العراق في ظل الوضع القائم، وكيف أن طبيعة الأنظمة تحد من تطلعاته العلمية، وعن الملاحقات التي يتعرض لها من قبل أجهزة الدولة الأمنية، مؤكدا عليها في كل مرة أن لا تلتقي بباقي أعضاء الوفد العراقي، فجلهم من المخبرين، وهذا ما سوف يعرض مشاريعه وربما حياته للخطر.
حدثها مازن كيف أنه قد حصل على زمالة دراسية لمدة سنتين في لندن في موضوع اختصاصه، وربما سيلتحق بتلك الزمالة بعد عودته إلى العراق.
لم يستطع مازن إخفاء مشاعره نحو عالية، وراح يتغزل بجمالها خجلا على طريقة أبناء الريف. ولكنها فهمت الرسالة تماما، وراحت تخطط لتطوير تلك العلاقة. فأعطته وعدا قاطعا بأنها سوف تزوره في لندن إن التحق بزمالته هناك. وإن دارها مفتوحة له في اليونان متى يشاء. فهي تعيش مع أبيها وزوجة أبيها بعد أن هجرتهم أمها عندما كان عمرها أربع سنين. و وعدت مازن بأنها سوف تكون في انتظاره دائما.
تبادلا العناوين وتبادلا الصور، وهكذا مضى الوقت مسرعا، وهنا راح مازن يحذرها مرة أخرى من أن لا تكتب له أي شيئا خارج حدود المجاملات العامة، فالرسائل في العراق مراقبة أيضا.
حان وقت الانصراف، فقام يودعها شادّا على يدها الصغيرة بقوة. و هنا طبعت عالية قبلة حارة على خده بأمل اللقاء ثانية، وظل يذكر تلك القبلة إلى يومنا هذا.
انتهى المؤتمر سريعا وعاد مازن مع الوفد إلى العراق، وعينه تتطلع إلى السفر من جديد للقاء الحبيب. فقد حسم أمره على أن عالية هي حبه، وهي التي يجب أن تكون شريكة حياته، وكأن الأمر منتهيا، أو أن ذلك يعتمد على قراره وحده.
كان سلوك مازن أثناء المؤتمر موضع تقدير من قبل رئيس الوفد وباقي أعضاءه، فقد كان ايجابيا فيما يخص البحث، ولم يتذمر أو يحدث فضيحة كون البحث معد من قبله ولا علاقة لرئيس الوفد بهذا الموضوع العلمي، كما أنه لم يخالف المواعيد أو يقيم علاقات بعيدة عن رقابة الجميع. وقد كان يطمح بأن رئيس الوفد سوف يرفع تقريرا جيدا عنه للجهات المسئولة.
انتهى الصيف، وبدأ العام الدراسي الجديد، وقد حصل مازن فعلا على زمالة لتطوير بحوثه في لندن موضوع المرشحات الكربونية، على شكل إيفاد من الجامعة التي كان يعمل فيها. وبراتب كامل مع مخصصات إيفاد تدفع من قبل الحكومة العراقية.
أنجز مازن كافة الأوراق المطلوبة وأخذ بحوثه معه و وضع باقي حاجياته في حقيبة سفر كبيرة وثقيلة زاد من ثقلها أكياس (الكليجة) التي أصرت أمه على أن يأخذها معه.
قطعوا له تذكرة سفر في الدرجة السياحية على الخطوط الجوية العراقية.
وفي صباح يوم جميل عكرته دموع المودعين، غادر مازن إلى عاصمة الضباب، مودعا العراق ربما لآخر مرة.
وصل لندن والنهار لازال في بدايته، ففرق الوقت كان لصالحه.
أخذ قطار الأنفاق لأقرب محطة، ومن هناك استأجر سيارة أجرة لتوصله للعنوان المطلوب.
كان قد استأجر غرفة ومرافقها قريبة من الجامعة التي التحق فيها في داخل المدينة عن طريق أحد معارف العائلة.
عندما كانت السيارة تقطع شوارع لندن، كان مازن شامخا في جلسته وكأنه في سيارة ( الروز رايز) فسيارات الأجرة في لندن مميزة حقا.
دفعه الفضول وحب الاستطلاع إلى أن يلتصق بزجاج النافذة إلى أن وصلوا المكان المطلوب، و كان يحاول طيلة الطريق رسم معالم المدينة في ذهنه ولو على عجل.
بعد أن وصل العنوان المطلوب، وأنزل أغراضه ودفع أجور التاكسي، ولج سكنه الجديد بعد أن رسم في ذاكرته خارطة للمكان.
سوف لن أتعبكم بوصف السكن الذي استأجره مازن، فهو يفي بالغرض ولكن دون رفاه.
راح يرتب أغراضه على عجل ثم جلس إلى الطاولة التي انمحت ألوانها بفعل السنين، وأخذ يكتب رسالة مختصرة، ليرسلها إلى ( عالية) كأول عمل يقوم به.
بعد أن أنجز ذلك الواجب، التقط أنفاسه وتمدد على السرير وأخذ يسترجع في ذاكرته الفوضى التي عمت الطائرة بعد إقلاعها من بيروت.
فبعد أن مرتّ بضع دقائق على طائرة الخطوط الجوية العراقية وهي في الجو، وبعد أن فك ركابها الأحزمة. قام مضيفوا الطائرة بلباسهم الأخضر الجميل، بتقديم وجبة طعام على الركاب، كان من ضمن الوجبة برتقال علت قشره الجميل لصقه صغيرة براقة كتبت عليها كلمة (يافا).
وهنا قفزت صورة رئيس المضيفين الذي كان على متن تلك الطائرة وهو يرتجف أثناء جمعه البرتقال من أمام الركاب بأدب معتذرا بأسلوب يثير الشفقة.
كان هذا الرجل يمت بصلة قربى بمازن. وقد دلله كثيرا في تلك الرحلة. فراح مازن يتصور المصير الذي ينتظر المضيفين عند عودتهم إلى العراق ومنهم طارق رئيس المضيفين، على الرغم من أن المضيفين لا علاقة لهم بتجهيز الطعام على الطائرة.
لم يضع مازن الوقت وأرسل رسالة عالية في اليوم التالي، ثم ذهب بعد ذلك إلى الجامعة، وراح يرتب أمور موضوع بحثه مع الأساتذة.
انهمك مازن في موضوع بحثه بكل همة وكأنه يقرأ المستقبل الذي لا يطمئن باستمرار زمالته، لذا راح يقتصد بمصروفه بشكل قاسي.
أخذ الوضع السياسي في العراق يتأزم يوما بعد يوم، وكانت الحكومة العراقية تعد للحرب مع إيران، فأخذت تصفي القوى السياسية المعارضة، وراحت سماء بغداد تتلبد بغيوم سوداء من ذلك الصراع الدامي.
لم يأتي رد عالية على رسالة سريعا، حتى أنه راح يظن بها الظنون، ولكن بعد شهرين تقريبا جاءه الرد مع شرح مبرر لأسباب عدم الرد بسرعة كونها لم تكن في بلدها ولم تطلع على الرسالة إلا منذ وقت قريب.
كانت عالية في رسالتها تستفسر عن إمكانية زيارته في لندن، أو هل عنده الإمكانية والاستعداد في استغلال أعياد الفصح لزيارتها في اليونان. فالطقس رائع في جزيرة رودس حيث تقيم في دار صغيرة مطلة على البحر، بخلاف الجو البارد في لندن.
فرح مازن كثيرا بالرسالة التي جاءت متأخرة إلى حد اليأس من وصولها، إلا أنها أحيت الأمل في بعث مشاريعه القديمة من جديد.
لم تكن أمور مازن على ما يرام في ذلك الوقت، فانهماكه في بحثه لم يترك له دقيقة فراغ واحدة، فكان يرجع إلى البيت منهكا في وقت متأخر من كل يوم، ليأكل ما يجده في البراد من أطعمة باردة يشتريها مرة في الأسبوع ربما.
وهنا جاء اقتراح عالية بتمضية عطلة عيد الفصح في رودوس فرصة لم يحلم بها وخاصة أن تلك الأعياد قريبة، ربما تأتي بعد شهرين أو أكثر قليلا. فكتب لها شاكرا الدعوة ومعتذرا عن استقبالها الآن في لندن لانهماكه في الأعداد للبحث، واعدا إياها بالعمل على تلبيه دعوتها في زيارة رودس.
ثابر مازن في بحثه بشكل أثار اهتمام أساتذته، ولكن حدث ما كان يخشاه، فقبل أن يأتي عيد الفصح بأسابيع قليلة، ألغت الحكومة العراقية زمالة مازن وعدد من الطلبة الآخرين، وطلبت منه العودة إلى العراق والالتحاق بوظيفته فورا.
أن حملة مطاردة اليساريين والشيوعيين في العراق وصلت إلى ذروتها في تلك الفترة. فقد تم زج العديد من رفاق مازن في السجون، وربما، أو على الأكثر أن اسمه قد ورد في التحقيق مع بعضهم.
لم يستطع إقناع الجامعة في منحه مهلة لإتمام بحثه الذي قطع فيه شوطا كبيرا على حسابها، كونه مرسل من قبل الحكومة العراقية وهي التي تصرف على أبحاثه للجامعة، على الرغم من تمسك الأستاذ المشرف بمازن.
ولكون مازن قد حصل على إقامة لأغراض دراسية لمدة عام تجدد لاحقا، فإن مسألة بقاءه في بريطانيا لم تشكل مشكلة بالنسبة إليه من الناحية القانونية ولكن وضعه المالي لا يسمح له بتحمل تكاليف العيش والدراسة على حسابه الخاص، لذا وجد في دعوة عالية فرصة لترتيب وضعه من جديد بشكل يجنبه العودة للعراق.
راسل بعض المنظمات الطلابية والديمقراطية التي كانت تعمل في خارج العراق والناشطة في الخارج منذ عهد ثورة 14 تموز، شارحا وضع زمالته والمرحلة المتقدمة التي وصلت فيها أبحاثه، كما أشار إلى الصعوبات وربما المخاطر التي تنتظره في العراق، إذا ما قرر العودة إليه بأمل الحصول على زمالة بديلة في دولة أخرى.
جاءت أعياد الفصح بعد انتظار بدا طويلا لمازن. وعندها اشترى بطاقة سفر مرجعّة إلى رودس من مدّخراته ومن راتب المنحة الأخير الذي صرف له قبل أسابيع من فصله، بعد مراجعات ومساومات عدة مع المسئولين في القسم الثقافي في السفارة العراقية في لندن.
وتحسبا لكل طارئ حسم الكثير من المتعلقات، منها التي تخص الجامعة مثل الوثائق والأوراق المطلوبة، ومنها ما يخص مكان إقامته، ووضع أهم المصادر الخاصة ببحثه وحقيبة سفره التي جاء بها من العراق عند أحد الأصدقاء بأمل إرسالها إليه إذا تعذر عليه العودة، وقبل كل شيء جدد جواز سفره، فأصبح نافذا لأربعة أعوام أخرى.
وهكذا عاد مازن من جديد إلى مطار لندن( هيثرو) بذات الطريقة التي جاء بها قبل عدة أشهر، وكان يلصق عينيه في نافذة السيارة التاكسي (الروز رايز !) ولكنه هذه المرة ليس بدافع الفضول، وإنما ليودع تلك المدينة التي لم يتسنى له التعرف على معالمها بشكل جيد.
ركب الطائرة في مقعد ملاصق للنافذة وراح يحدق فيها بلا مبالاة.
أقلعت الطائرة بعد أن زمجرت وكأنها ترفس أرض المطار بأقدام من حديد، وغدت محلقة في جو ماطر وسماء ملبدة بالغيوم.
أخذ مازن في البداية يفكر كيف ستستقبله عالية في المطار كما وعدت، وكيف ستبدو عند لقاءها، ثم كيف يتصرف في لحظة اللقاء تلك، ترى هل سيحتضنها مقبلا كما يشتهي، أم يكتفي بمصافحة حارة من باب الأدب؟
ثم راوده شعور محبط، ماذا لو لم تأتي إلى استقباله أصلا؟ وكيف سيتصرف عندها، هل سيقضي يوما أو يومين في اليونان ثم يعود إلى لندن؟.
عندها رضي عن نفسه للترتيبات التي أجراها هناك في لندن والتي تؤمن له خط رجعة مؤقت على الأقل لحين تدبير الأمور. لكنه عاد وطرد تلك الأفكار من رأسه، وعندما جاءت مضيفة الطائرة وعلى رأسها قبعة زرقاء، أبرزت وجها ملائكيا، توسطته عيون شديدة الزرقة، تدفع عربة الوجبة السريعة، راح يتطلع إليها بعيون رجل شرقي، و تذكر قريبه طارق وباقي مضيفي الطائرة العراقية وقد غطت الشوارب وجوههم وراح يقارن بين وباقي مضيفي الطائرة العراقية وقد غطت الشوارب وجوههم ، تذكر عندها برتقال حيفا والضجة التي أحدثها هذا البرتقال على متن الطائرة حينها. ابتسم، ثم طلب قدحا من الشراب وراح في شبه إغفاءة.
لم يحصل في لندن حينها على طيران مباشر إلى رودس، لذا اضطر إلى تبديل الطائرة في العاصمة اليونانية أثينا. كانت هناك فسحة زمنية بين وصوله للمطار وإقلاع الطائرة الثانية منه، يمتد لأكثر من ساعة، ذهب فيها إلى الأسواق الحرة التي تجدها في كل مطار، وراح ينتقي هدية مناسبة لعالية فيها، وهو لا يزال في شك من استقبالها له.
اشترى عطرا فرنسيا من النوع الغالي الثمن، وكذلك قنينة من الويسكي الاسكتلندي الراقي، فشعر حينها بأنه قد تحرر من تأنيب الضمير.
أخذ يطمأن شيئا فشيئا عندما وجد اليونانيين، شعب مضياف، فقد استقبل بالابتسامة حيثما سار في الأسواق وقاعة الترانزيت في المطار، وكذلك من قبل موظفين هناك.
أقلعت الطائرة من جديد ولكنها كانت صغيرة الحجم هذه المرة، وقد ازدحمت بالركاب وغالبيتهم من السائحين.
وصل مطار رودس والشمس على وشك المغيب، وراح يتلفت يمينا وشمالا وهو لا يزال على سلم الطائرة.
إجراءات المطار من انتظار لوصول الحقائب وفترة ترقبها وهي على الحزام الناقل، أخذت تثير مازن وجعلته عصبي المزاج على غير عادته، ثم أربكه كثيرا تشابه الحقائب على ذلك الحزام، وندم كونه لم يضع علامة فارقة لتميز حقيبته من غيرها، وأخيرا عثر عليها بعد أن سار بضع خطوات مع حركة الحزام وهو يقرأ العنوان الذي كتبه عليها قبل شحنها.
كانت الحقيبة تمثل الكثير بالنسبة له ففيها أوراق بحثه وأوراق مهمة أخرى.
عندما خرج مازن من بوابة الجمارك، وجد وجها جميلا يلوح له بكل قوة، فانطلق إليه مسرعا.
كانت عالية تنتظره بلهفة، رمى الحقيبة جانبا وذاب في عناق لا إرادي.
أرادت أن تحمل الحقيبة عنه، ولكنه أصر كأي عراقي أن لا يتركها تفعل ذلك، ولكنها تمسكت بيده الأخرى وراحت تجرجره إلى سيارتها الصغيرة التي رصفتها في موقف السيارات القريب.
كان مازن مرتبكا كثيرا ولا يعرف كيف يتصرف، سألها على حياء هل حجزت له في فندق قريب؟
كان سؤاله مفاجئا لعالية وشعرت بقليل من الخيبة، ولكنها تذكرت أن الرجل شرقي الطباع والتربية، وإن كان قد جاء من لندن،
لماذا الفندق يا مازن وأنت ضيفي؟ بيتنا مفتوح لك.
ولكن ألا يسبب ذلك حرجا بالنسبة لك أو لأسرتك؟
إنك على الرحب والسعة وستكون ضيفا مرحبا به من قبل أبي أيضا، وإن كان سيصل إلى البيت متأخرا هذا المساء.
قطعت السيارة طريقا طويلا بين الجبال قبل أن تصل إلى مدينة صغيرة تحيطها أشجار الرمان الذي لم يكشف بعد عن أزهاره الصارخة الحمرة.
كانت عاليه تقود السيارة وتتلفت إليه بكثرة مما أثار خوفه في أن السيارة سوف تنحدر بهم من الجبل إلى الوادي.
وصلوا أخيرا و أركنت عالية السيارة في مرآب كان مفتوحا على مصراعيه أمام دار جميلة صغيرة جمّلت واجهتها أزهار الجيرانيوم الحمراء.
راحت تفتح باب الدار على عجل وهو يسير خلفها بعد أن أنزل حقيبته والأكياس التي جاء بها من السوق الحرة، بعد أن أغلق باب السيارة بقوة.
وما أن دخل الدار حتى أغلقت الباب خلفه وشدته في عناق حار جدا أفقده توازنه.
أخذته إلى غرفة الضيوف، بعد أن فتحت النوافذ المطلة على حديقة صغيرة معتنى بها كثيرا، و وضعت أمامه قنينة من النبيذ الأحمر وحبات من الزيتون الأخضر وشربت معه نخب وصوله.
ثم تركته وحيدا و راحت تعّد له شيئا يأكله. تبعها إلى المطبخ الصغير، وظل واقفا بجانبها يتطلع إليها وهي تعد الطعام برشاقة، راح يحدثها عن رحلته وفي يده قدح النبيذ. وفي اليد الأخرى قدحا أداره لها فأخذته منه بفرح ووضعته جانبا وانغمست في تسخين قطعة من اللحم وحبات من البطاطس كانت قد طهيت مسبقا.
عادا إلى غرفة الجلوس، وهناك راح يقص عليها ما آلت إليه أمور بعثته، وكيف تصرفت معه الحكومة العراقية.
استمعت إليه بانتباه كبير ونظراتها توحي إلية بالطمأنينة
و التعاطف، ثم راح يستنطقها عن عملها وأمورها الأخرى وطال حديثهم لساعات وكان التعب والجهد باديا على مازن.
أرشدته إلى غرفة نومه وطلبت منه أن يخلد إلى النوم وغدا سوف تعرفّه إلى والدها ويكملون أحاديثهم.
اندس في الفراش الذي أخذته إليه وهو على وجل، ولم تغمض عيناه بسهولة خاصة إنه ينام في فراشها هي وفي غرفتها وعلى سريرها، لكن هدير محركات الطائرة الذي ضاعفته كؤوس النبيذ أخذته في نوم عميق لم يصح منه إلى والشمس قد تربعت في الحديقة.
لم تنم هي تلك الليلة كالمعتاد، في البدء ظلت تنتظر أبيها الذي عاد مبكرا هذه المرة من الحانة الصغيرة التي يمتلكها على ساحل الجزيرة، وراحت تحدثه عن مازن وعن مدى إعجابها به، ثم جفاها النوم وهي في أحضان الأريكة تراودها رغبة جامحة في اللحاق بمازن ولكن!
جلس ثلاثتهم في الشرفة المطلة على الحديقة يتناولون طعام الفطور الذي أعدته لهم عالية، وهناك تعارف مازن مع أندرياس أبي عالية. و كان هذا الأخير ينطق بعربية ركيكة ولكنها مفهومة إلى حدّ ما مما أثار فضول مازن فراح يسأله كيف تسنى له معرفة اللغة العربية؟
ألم تخبرك عالية بأن أمها في الأصل عربية؟
أثارت هذه الحقيقة دهشة مازن و فضوله، فعالية لم تتحدث عن ذلك مطلقا.
نعم لقد عملت في العراق زمنا ليس قصيرا، وهناك تعلمت العربية التي نسيتها الآن، وهناك طبعا تعرفت على أم عالية وجئنا إلى هنا سوية عام 1936.
أبي دع الحديث عن هذا الموضوع الآن ودعنا نتمم فطورنا وسوف أحدث مازن عن هذه التفاصيل.
تناول الجميع فطورهم بمتعة وعلى مهل، فالشمس المشرقة أضفت على أزهار الحديقة ألوانا براقة فغدت وكأنها أحجار كريمة.
البيض الذي تربع على المائدة، رسمت عليه أشكالا هندسية بألوان جميلة، ولكنه ظل على المائدة دون أن يمسه أحد، واكتفى الجميع بالجبن والزيتون والقهوة، ثم تعاون الجميع على رفع الأواني ونقلها إلى المطبخ.
و هناك لم تسمح عالية للرجال بالاقتراب من حوض الغسيل وأنهت تلك المهمة بسرعة فائقة.
ودع الأب مازن داعيا إياه لزيارة حانته القريبة من ميناء المدينة.
الميناء والمسمى( ماندرال) يمثل إرثا تاريخيا ومعماريا جميلا، فقد بني منذ عام 291 قبل ميلاد المسيح. ولغرض الوصول إليه عليك أن تمر بنصب( هيليا) البالغ ارتفاعه 32 مترا والذي تفتخر به مدينة رودس لا بل الجزيرة كلها.
لابد انك شديد اللهفة يا مازن لزيارة المدينة والتعرف على قلاعها وكنائسها ومساجدها التي تعايشت بدعة و سلام منذ عهد الصليبيين والعثمانيين.
وسوف نكمل حديثنا عندما نتمشى على الرمال الجميلة في هذا اليوم المشمس، ما رأيك؟
أجابها مازن بهدوء على عادته كما تشائين سيدتي. طبعت على خده قبلة سريعة وراحت تغير ملابسها على عجل.
أغلقا الباب خلفهم وتركا السيارة في مكانها وسارا مشيا على الأقدام حتى ولجا دروبا ضيقة مزدحمة بالناس الذين كانت البسمة تعلو وجوههم.
حافظت المدينة على طرازها القديم رغم التجديد الذي أجراه الايطاليون على المدينة منذ عام 1912 وحتى عام 1943.
سارا من جانب متحف الفن البيزنطي المقام في كنيسة العذراء المبنية منذ نهاية القرن الثاني عشر وراح مازن يتطلع إلى المتحف بإعجاب. فوعدته عالية بزيارة المتحف في يوم آخر، وهكذا ظلا يسيران في شوارع المدينة. ثم عرجا على الشاطئ وجلسا في إحدى المقاهي المطلة على البحر لتناول شيئا من المرطبات، فالحر هذا العام جاء مبكرا.
لم تتركه يدفع فاتورة الحساب للنادل، على الرغم من أنه قد أخرج نقودا يونانية كثيرة كان قد اشتراها من المصرف في المطار، وراحت تضحك عليه كونه لم يتعرف بعد على ( الدراخمه) عملتهم الوطنية، فأخرج مبالغ تكفي لشراء فستان ليدفع ثمن كوبي عصير.
راحت عالية تتنطط على الرمال بشكل طفولي عابث وظلت تلتقط الصور وصاحبنا على هدوءه وتحفظه، فكانت تجر الحديث من لسانه جرا.
عندما سأل مازن عن قصة أبوها وعمله في العراق وعن أمها، راحت تعطيه معلومات عامة قليلة، ولم تدخل في التفاصيل، والتي لم تكن تعرف عنها ما يشبع الفضول قائلة:
كان أبي يعمل في العراق وهناك التقى بأمي فأحبها وهربت معه، وتزوجها وعاد إلى موطنه هنا في رودس.
كيف حدث هذا، حدثيني بكل ما تعرفينه عن الموضوع وبشيء من التفصيل رجاء فإن الموضوع يثير فضولي بشكل كبير ولابد أنه شيق. فلا أروع من قصص الحب، ألا توافقيني الرأي؟
نعم قد أوافقك ولكن أغلب قصص الحب تنتهي نهاية حزينة. طيب عندما نعود إلى البيت سوف أطلعك على بعض الأوراق والرسائل التي أحتفظ بها منذ أن تركتنا أمي وهي مكتوبة بلغتك أيها العزيز مازن، وتلك فرصة أيضا تشرح لي فيها على ما تحتويه تلك الرسائل، فما أعرفه عن أمي لا يشبع فضولي أيضا، وقد تركتني صغيرة لحضن أم أخرى هي زوجة أبي، الفلاحة اليونانية.
و الآن دعنا نتمتع بهذا الجو الرائع ولا تنسى أن أبي قد دعانا لتناول الغداء معه في المدينة، والشيوخ مثل أبي لا يحتملون الانتظار، وخاصة عندما يكون الموعد لوجبة طعام، هل أنت موافق؟
نعم سيدتي إني موافق وكما يقولون عندنا "أبصم بالعشرة".
هل تشرح لي لطفا ما معنى العبارة بالضبط؟
نعم سأشرحها بالتفصيل ولكن ليس الآن والمهم أنني موافق!.
و هكذا عادا إلى وسط المدينة وكل واحد منهم لم يجد الأجوبة الشافية على أسئلته، ولكنهما ركنا إلى الأمل الذي تتضمنه إجابة صاحبه.
زارا أندرياس في مقهاه الصغير الجميل المطل عل الساحل، وعندما حان وقت الغداء أخذهم إلى مطعم شعبي قريب يشوي السمك الطازج، وكان ذلك بناء على رغبة مازن، فإنه يحن بعمق إلى صحن السمك المشوي الذي كانت تعده أمه مع خبز التنور الساخن.
كانت الوجبة شهية جدا بالنسبة لمازن، وكان مذاق النبيذ المحضر محليا من أعناب جزيرة رودس الشهيرة، رائعا ولا يعلو عليه نبيذ آخر. واستغرب مازن عندما طلب قدحا من الشاي بعد تلك الوجبة الشهية جاءه الشاي في قدح يشبه ( الأستكان) .
دفع أندرياس الفاتورة وقد لاحظ مازن أن المبلغ المدفوع زهيدا، مما يدل على رخص الحياة على هذه الجزيرة.
راح يفكر في متعة الحياة هنا، وماذا لو قضى بقية حياته عليها، وشرد ذهنه حتى أيقظه صوت عالية وهي
تناديه بعد أن وقف الجميع ليغادروا المطعم.
عادوا إلى مقهى أندرياس مرة أخرى. و دار هناك حديث خافت بين الأب وابنته لم يفقه مازن منه شيئا فكان باللغة اليونانية التي لا يفقه منها ولا كلمة واحدة.
طبعت البنت قبلة على خد أبيها الذي قارب السبعين من العمر، وأخذت مازن من يده وغادرا المقهى بعد أن صافح مازن الرجل وشكره على وجبة الغداء الممتعة.
ظلت كلمة ( عوافي) التي نطقها الرجل بلهجة بغدادية صافية ترن في أذن مازن!
وضعت عاليه مازن في الصورة وهي تسير بجانبه ملتصقة به:
أباها سوف يسافر اليوم إلى القرية في أعلى الجبل ليلتحق بزوجته ويحيوا عيد الفصح هناك، كالعادة التي درجوا عليها منذ أمد بعيد ولو لم يكن هو بجانبها لسافرت مع أبيها إلى تلك القرية الجميلة التي قضت فيها طفولتها. ولن يعود أبها من هناك قبل عدة أيام.
فرح مازن لسفر الأب، رغم أن الرجل كان لطيفا معه و أحبه بالفعل. فغياب الأب لبضعة أيام سيترك له فرصة الانفراد بعالية، وسوف تكون عاليه له وحده ولن تنشغل بغيره.
بعد أن تعبوا من التسكع في الدروب الضيقة عادوا إلى البيت ليأخذوا قسطا من الراحة. ففي المساء تنتظرهم سهرة صاخبة.
استلقى مازن على فراشه وراح يفكر في ترتيب مستقبله، هل يترك البحوث ويقضي بقية أيامه هنا؟ أمر يبحث عن طريقة يجمع فيها بين البحث وحياة واعدة بالسعادة مع عالية؟ ولكنه استبعد فكرة عودته إلى العراق بشكل قاطع.
وفيما هو فيه انسلت عاليه إلى فراشه واستلقت بجانبه. كم كان يحلم بتلك اللحظة! فضمها إلى صدره بقوة كادت تزهق أنفاسها.
لم ينطقا بحرف وإنما آهات اللذة كانت هي التي تنطق ويسمع صداها من بعيد.
تحققت أمنية مازن، وها هي عالية مستسلمة له بكل كيانها.
كانت دقائق سعادة لا توصف، ثم غطوا بعدها بنوم خفيف أو تظاهروا بذلك على الأقل إلى أن غلبهم النوم حقيقة.
لم يغفوا طويلا.نهضت عاليه أولا وبعد زيارة قصيرة إلى الحمام راحت تعد القهوة وهي لا تزال بملابس خفيفة.
تبعها مازن إلى المطبخ وهناك قبلها بكل جوارحه وكأنه يشكرها على السعادة التي وهبتها له، أو ربما محاولة في دفعها لتكرار ما حدث.
قبلته هي بدورها ولم تستجب للإغراء الجديد بحجة أن الأيام والساعات أمامهم وهكذا كان.
جلست في الحديقة ومعها فناجين من القهوة، تبعها مازن إلى هناك وجلس بجوارها لا بل ملتصقا بها.
راحت عالية تقص عليه قصة أمها:
عندما كبرت قليلا ورحت أدرك بعض أمور الحياة، حدثتني أمي عن حياتها الأولى قبل أن تأتي إلى اليونان. لم أفقه ما كانت تقوله لي، فهو أكبر من سنيي الأربع حينها. وعندما نضج فكري وأصبحت أدرك الأمور لم آخذ ما قالته لي حينها على محمل الجد، فقد شاع عنها أن قواها العقلية لم تكن متزنة في ذلك الوقت.
ثم أن الحكايات التي ظلت عالقة في ذاكرتي الصغيرة، كانت حكاياتها خيالية وكأنها قصص من كتاب آلف ليلة وليلة.
كانت تقول إنها أميرة من أميرات العراق، وكان أخوها ملكا وأبوها ملكا. و إنها كانت تعيش في قصور ملكية عامرة لكنها التقت بأبي، وكان يعمل طباخا عندهم في القصر فأحبته بقوة. ولكون الفارق الاجتماعي كبير جدا بينهم، ولكون أبي يعتنق دينا آخر، كان من المستحيل أن توافق العائلة المالكة على ذلك الزواج.
وفي إحدى الرحلات الملكية إلى بيروت اتفقت مع أبي على الهرب وجمعت ما كان عندها من حلي ونقود وهربا سوية إلى رودس، حيث ولد أبي في القرية التي قصدها منذ ساعات.
عتمّت على أخبارها ومكانها خوفا من القتل وظل مكان إقامتهما سريا ولم يكتشف، على الرغم من الجهود التي بذلها الملك غازي في الوصول إليها. فلم تكن المرأة تسلم بفعلتها تلك من القتل حسب شرعكم وعرفكم كما قالت.
مازن هل صحيحا أنكم في العراق تقتلون المرأة التي تحب؟
لا يا عالية، ليس كذلك بالضبط، وإنما جرت الأعراف هناك على أن تتزوج المرأة بمن تحب قبل معاشرة من أحبت أو اختارت أو اختاروه لها، وتلك عادات قديمة متوارثة لا تطبق الآن بشكلها هذا، ولكن المرأة تبقى ملامة على ذلك.
حاول مازن أن يتملص من هذه الورطة، فهل أن عالية آثمة بحبها له ومعاشرتها له قبل قليل؟
إن كان كذلك فما هو دوره في هذا الآثم، وهل كان شعوره كذلك عندما عاش معها السعادة منذ دقائق؟
و هنا واصلت عالية روايتها نقلا عن أمها، فأبيها لم يتكلم قط في هذا الموضوع رغم إصرارها على معرفة الحقيقة منه، ففي كل مرة كان يتركها ويذهب كلما تفتحت تلك السيرة. وكأنه يدفن ألمه على فراق أمها.
تقول أمي:
عندما وصلنا إلى هنا كنا في قمة السعادة، وكتبت رسائل إلى أخي صاحب الجلالة! أعتذر فيها عن ما بدر مني، وما سببته له من إحراج وألم، ولكنني لم أجد طريقة أبعث بها تلك الرسائل.
ومرت الأيام والسنين، ثم حدثت الحرب العالمية الثانية وهرب أبوك إلى قرية نائية في أعلى الجبال خوفا من قوات المحور.
عشنا هناك حياة بدائية لم أعتدها، ولا عهد لي بها من قبل، ولكنني صبرت عليها كوني كنت حاملا بأخيك الذي توفي عند ولادته في تلك الظروف البدائية.
وقبل أن تنتهي الحرب حبلت بك، وبعد ولادتك كانت الحياة صعبة جدا. والفقر والحنين إلى أسرتي قد أفقدني عقلي فرحت أستفسر عن أسرتي بكل الطرق، وقد أرهقت أبيك في ذلك، وكدت انتحر عندما علمت أن أخي الملك قد قتل وإن ابنه الذي لم أراه أو أسمع به يحكم الآن تحت وصاية خاله الحقود ابن عمي.
وبعد أن عدنا إلى رودس راسلت سرا ابن عمي الآخر وهو ملك أيضا على دولة أخرى، فشجعني على القدوم .
وكما ترين يا أبنتي وحبيبتي لا أستطيع العيش على هذه الحالة أكثر، فأما أن أقتل نفسي أو أهرب من جديد إلى أسرتي.
ثم ودعني أمي بقبلة كادت تزهق روحي ودموعي أتقطع حزنا كلما تذكرتها، تاركة لي صندوقا صغيرا كله رسائل وأوراق، قالت سوف تقرأينها ذات يوم، وستعلمين أن أمك لم تكن مجنونة ثم أخذت تضحك وتهذي ولم أرها بعد ذلك. حاولت كثيرا معرفة أخبارها دون جدوى.
لم ينتظر أبي كثيرا فتزوج في قريتهم من امرأة فلاحة بحجة رعايتي، وكانت بالفعل قد رعتني كابنة لها، ولم تفرقني عن أخوتي الذين رزقت بهم.
أرسلك الله يا مازن لأستعين بك كي تفك لي رموز خطكم العربي الذي لا تعرف بدايته ولا نهايته، ولأستبين حقيقة أمي.
أزاحت مازن جانبا ونهضت من مكانها لتجلب الصندوق، لكن مازن اعترض على ذلك طالبا منها أن ينتقلوا إلى غرفة الجلوس أولا ويحتفلوا هناك بشكل رسمي بفتح ذلك الكنز. و عليه، يجب أن يكون النبيذ الفاخر شاهدا على ذلك الحدث الهام، أو المصيري.
آه يا مازن هل ستدمن النبيذ من الآن، تنتظرنا ليلة صاخبة اليوم فلا تستنفذ كل طاقتك.
كما تريدين ولكن قدح منه لغرض الاحتفال يكفي.
جاءت عالية بقدحين صغيرين وقنينة نبيذ معتق، وهي تمسك بها بحرص شديد، وبعد أن وضعت ما تحمله على الطاولة الصغيرة التي توسطت غرفة الجلوس ذهبت لإحضار الكنز كما يسميه مازن.
صندوق صغير من الخشب الأسود صنع بدقة وبدون زخارف أو رسوم. لم تكن عملية فتحه سهلة، وإنما تحتاج إلى دراية مسبقة بطريقة فتحه الغير عادية. فهناك قفل شبه مخفي يسع مفتاحا صغيرا، ويجب كذلك الضغط على بقعة صغيرة بقدر العملة ( الدراخما القديمة) أثناء إدارة المفتاح في القفل.
قامت عالية بكل تلك الحركات ببراعة وأخرجت ما في الصندوق بعناية شديدة.
كانت هناك مجموعة من الأوراق وبعض الصور لفت كلها بقطعة من قماش( القسطور المخملي).
أول صورة وقعت عين مازن عليها، هي صورة الملك غازي بملابسه العسكرية. صرخ عندها هذه صورة الملك غازي وتلك صورة الملك فيصل الأول.
راحت عالية تنقل عينيها بين الصور وبين وجه مازن، علها تجد تعبيرا يشير فيه إلى السخرية، ولكن مازن كان جادا ، وعلى وجهه بدا تعبير هي مزيج من الإجلال والخوف والرهبة.
أخذ الورقة الأولى بين يديه وإذا بها رسالة معنونة إلى الملك غازي أخذ يقرأها بصمت وكانت كما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي ومولاي صاحب الجلالة الملك غازي المفدى.
أخي ونور عيني.
عهدتك يا سيدي رجلا مؤمنا بالله، وتعرف ربنا جيدا، ولا تعترض على إرادته. وهفوتي تلك كانت بإرادة رب العالمين.
تمنيت أن أموت قبل أن أضعك وأضع نفسي في هذا الموقف المذل.
أحببت الرجل الذي اختاره قلبي، وتزوجته حسب الشرائع السماوية، فلم أخضع لغواية الشيطان، ولم أترك ديني، دين الرحمة والحمد لله، وإنما أعيش معه كل على دينه.
أختك التي ربتك صغيرا تدعو الله في كل صلاة أن يحنن قلبك عليها، وتعفو عني وتريحني من العذاب الذي أنا فيه.
أتذكرك طفلا صغيرا وأتذكرك يافعا وأتذكرك شابا يعلو جبينك نور أجدادك ورفعة الملك الذي أنت أهلا له.
سيدي جلالة الملك.
إني نادمة أشد الندم على فعلتي تلك، وإن كنت صادقة في حبي لذلك الرجل الذي هو زوجي.
أتوسل إليك يا سيدي أن تعفو عني ، لأكون خادمة تحت قدميك وقدمي فيصل الصغير.
إني أفقد عقلي كل يوم بذكراكم. و أموت كل يوم في بعدي عنكم وفي حنيني وشوقي لكم.
أستحلفك بروح جدك وروح أبينا المغفور لهم، ملوك العرب
أن ترحمني وتعفو عني.
اخترت هذا اليوم لأكتب لك فيه، لأنه مولد أبن جلالتك، فيصل الثاني، ليحفظه الله ويحفظك ويديم ملكك على العالم أجمع .

أختك المسكينة التائبة عزة ابنة فيصل
2 مارس عام 1937

ترك مازن الأوراق جانبا وراح يسأل عالية:
هل حقيقة إنك لم تعرفي هوية أمك ومن تكون؟
قد قلت لك أنها تركتنا وأنا صغيرة لم يتجاوز عمري عند ذلك الأربع سنين.
لقد حدثتني كثيرا، ولكنني كنت لا أفقه ما تقوله وكانوا قد شككوا في قواها العقلية عندما ذكروها لاحقا، وقد شاع ذلك عنها.
عزيزتي صاحبة السمو الأميرة عالية، إن أمك هي الأميرة عزة ابنة الملك فيصل الأول. وأخت الملك غازي الأول.
هل تعرفين شيئا عن جدك الملك وخالك الملك وعن عائلتك التي كانت تحكم دولة العراق؟
لم ألتفت لكل ما قالته لي أمي في حينها ولا بعد ذلك. هل الأمر جدي وحقيقي، أم إنك تمزح معي؟
لا أعرف كيف أبدا معك، وكيف أحدثك عن أشهر عائلة في تأريخ العالم العربي المعاصر، وحسب معرفتي القليلة بعائلتك فإنها تستحق البحث والدراسة لما لها من أثر في مصير العالم العربي.
ولكن أريد هنا أن أسألك:
هل أرسلت أمك هذه الرسالة لأخيها؟
لا أدري، لماذا؟
لأنه مات مقتولا بعد عامين من تاريخ الرسالة.
وجد مازن ورقة أخرى مكتوب فيها شيئا عن العائلة.
عن أبيها الملك فيصل وجدها الملك حسين شريف مكة وعمها عبد الله ملك الأردن وابن عمها طلال، وعن أخيها الملك غازي، وأخيه محمد وأخواتها الأميرات رافعة وراجحة، وعن عمها الأمير زيد وعماتها الأميرة صالحة والأميرة سارة والأميرة فاطمة.
ثم في ورقة أخرى عن زواج الملك غازي، وولادة ولي العهد الأمير فيصل الثاني. وغيرها من التواريخ والأحداث العائلية.
ثم وجد أوراقا أخرى كتبت فيها مسودات رسائل كانت تنوي إرسالها إلى عمها عبد الله ملك الأردن في تواريخ لاحقة، وإلى ابن عمها ترجوهم فيها احتضانها وإعادتها إلى كنفهم. فهي لم تعد تطيق العيش بدون أهلها ولغتها. واشتملت أوراق أخرى بعضا من شعر جدها..
ذهلت عالية من تلك المعلومات وراحت تفرغ دهشتها وحيرتها في أقداح النبيذ التي توالت تترا.
حزن مفاجئ وشوق كبير انتابها لمعرفة أخبار أمها الأميرة وعائلتها المالكة.
توجهت بالحديث إلى مازن بلهجة آمرة:
كوني أميرتكم، أطلب منك أن تخرجني مما أنا فيه من حزن وحيرة.
فضمها إلى صدره وغرق معها في عناق ملكي.
أبعدته عنها، طالبة هذه المرة أن يعدها بالبحث عن كل ما يتعلق بأمها وعائلتها.
نعم أميرتي سوف أضيف بحوثك الملكية إلى بحثي، وربما سوف أبدء به وهذا وعد مني .
والآن دعينا نحتفل احتفالا يليق بسليلة الملوك ونكمل ليلتنا بأبهى ما يكون.
كانّ المساء جميلا، فخرجا من البيت لقضاء سهرة صاخبة في أحد المراقص الليلية. عادا بعدها ثملان ومنتشيان، فقد أرهقت الموسيقى الصاخبة والرقص العنيف كل خلايا المخ.
التصقا على السرير وكأنهم جسد واحد، وبقيا في نشوة عارمة حتى الصباح.
لم تشفهم أقداح قهوة الصباح من خدر الأمس.
و خدر عالية الآن من نوع جديد، خدر أميرات شرقيات يحلم بالحرير والمجوهرات والخدم.
أصغ إلي جيدا عزيزي مازن، أنا أميرة كما تبين لك، وتجري في عروقي اليوم نسبة كبيرة من الدماء الزرقاء، ومن الآن فصاعدا عليك أن تعاملني وتددلني كأميرة !
سمعا وطاعة أميرتي، ولكنني أفعل ذلك منذ التقيت بك وقبل أن أعرف حقيقتك المرعبة فأنت أميرة قلبي،
هل تعرفين أميرتي أنني أنا أيضا سليل (مهراجا) هندي من بومباي؟
ماذا تقول؟ أصحيحا هذا أم أنك تمزح أيضا؟
لا تلك حقيقة وسوف أقصها عليك لاحقا.
لا إنه شيئا لا يصدق، هل نحن في زمن العجائب؟
انحنى فوق رأسها وهي جالسة على الأريكة وقبلها بعطف وحب وقور.
متى تلتحقين بعملك يا أميرتي؟
دعني من العمل و أتركني أعيش أيام الحلم الشرقي اللذيذ.
سيأتي أبي من القرية بعد يومين وأظل معه يوما آخر، ثم أسافر بعدها إلى العاصمة أثنا لألتحق بعملي،
وما هي مشاريعك أنت أيها المهراجا الجليل.
الحقيقة يا عالية إنني في حيرة من أمري. مسألة عودتي إلى البعثة الدراسية قد حسم فلا زمالة لي بعد الآن في لندن، والحكومة العراقية تطالبني بالعودة، وعودتي محفوفة بخطر أكيد.
حاولت الحصول على منحة دراسية في بلد آخر، ولكن أي بلد غير البلدان الاشتراكية يهتم لبحثي ومستعد للإنفاق عليه؟
كتبت طلبا بذلك وأرفقته بمختصر عن البحث الذي أنجزته وأرسلته منذ شهرين إلى جهات عدة وإنني أنتظر الرد.
بماذا تشورين عليّ أنت؟.
أسمع أيها الصديق الحبيب:
أستطيع أن أضمن لك إقامة دائمية هنا في اليونان، وإنني سوف أدعمك ولكن لا أضمن لك فرصة مواصلة البحث أو العمل في مجال اختصاصك.
إنني على استعداد الآن للذهاب معك إلى الدوائر المختصة، وتسجيل زواجنا بشكل رسمي هناك، عندها تصبح مواطنا يونانيا بعد إجراءات بسيطة. والقرار قرارك.
ليتنا نهرب من هذا العالم سوية يا عاليه كما فعل أبوك وأمك، ليت الأمور بهذه البساطة. تنهد مازن مرددا ذلك بصوت منخفض.
سيدتي سوف أذهب معك إلى أثنا إذا لم يكن عندك مانع، وأرجو أن تساعديني هناك في تعقب مسألة المنحة الدراسية، فإذا وفقت فيها فسوف أعدك بأننا سنعيش سوية كأميرة ومهراجا.
أما الأعمال اليدوية فلا أتقنها للأسف ولا أستطيع تحملها حتى. إنني وطيلة حياتي ورأسي يعمل أكثر من يدي، ولن أكون عالة عليك مهما كانت الدوافع والأسباب.
والآن، دعينا نعود إلى عسل السعادة لننهل منه ما دام في العمر بقية.
في اليوم التالي ألحت عليه عالية بأن يقص عليها حكاية نسبه للمهراجا الهندي.
في الحقيقة وجد مازن أن الجلوس والبقاء مع عاليه في البيت أكثر متعة من التسكع في شوارع المدينة، لذا ظلا في البيت ينهلان من السعادة قدر استطاعتهما.
هل أقص عليك حكاية جدي بالتفصيل أم أختصر لك الموضوع؟
مازن! ما هي مهنتي؟، ألست صحفيّة تعشق التفاصيل الدقيقة؟
تفضلي سيدتي، لقد جنيت على نفسك، ربما سوف لن أنتهي منها قبل مجيء أبوك من سفرته، وإليك القصة من البداية:
كنت أحلم منذ زمان في زيارة الهند، وزيارة مدينة بومباي بالذات، والسبب طريف جدا:
في ذات يوم عندما كانت صغيرا، سمعت حديثا خافتا كان يدور بين أمي وخالي، التقطت نتفا منه، فهمت منها أن أباهما،" أي جدي قد ترك زوجته الأولى والتي هي جدتي وترك العراق وسافر إلى الهند، وإلى مدينة (بومباي).
ظلت تلك الكلمة عالقة في ذهني منذ الصغر.
وعندما كبرت، توسلت بأمي لتحدثني عن تلك الحادثة فروتها لي بالتفصيل الممل كما أرويها لك الآن:
بعد أن خاض ما يقارب المائة وثلاثون ألف ثائر، من الفلاحين والبدو، وسكان المدن، حربا ضروس في ثورة ضد قوات الاحتلال البريطاني في العراق.
وبعد أن سحقت ثورة العراقيين تلك والمسماة بثورة العشرين من قبل الجيش البريطاني، وقضي على غالبية الثوار، لم يستسلم العراقيون للمصير الذي أراده البريطانيون لهم، بل خاضوا انتفاضات على مدى السنين القادمة حتى أجبروا البريطانيين على إنهاء الانتداب ودخول العراق عصبة الأمم في 3 تشرين الأول عام 1932 وكان ذلك قبل وفاة جدك الملك فيصل الأول بعام تقريبا.
بعد أن حافظ البريطانيون على مصالحهم في العراق عن طريق معاهدة (1930) واخذوا يمارسون احتلالهم للبلد بشكل غير مباشر، أي عن طريق تلك المعاهدة التي ضمنت لهم سيطرة تامة على كل مرافق الحياة وموارد البلد، وعن طريق عملائهم الحكام الذين نصبوهم.
استمرت الانتفاضات خلال بداية الثلاثينيات من القرن الماضي،
وهكذا راح الاحتلال يفقر الشعب العراقي ويغرق البلد بالمواد المستوردة، تصوري حتى السفن النهرية التي خلفتها الحرب البريطانية التركية، لم يجر بيعها في العراق، وإنما راحت بريطانيا تبيعها في مدينة بومباي في الهند.
طبقت سلطات الاحتلال هيمنتها كذلك على الأراضي الزراعية. وطبقت سياسة حصر الأرض الزراعية بيد حفنة من الإقطاعيين. وكما نشرت جريدة التايمز اللندنية في يوم الثالث والعشرين من تشرين الأول عام 1919:
"سياسة الدولة كانت موجهة في الأساس للقضاء على الحيازة الصغيرة للأرض في العراق".
وهكذا هجر الفلاحون الأراضي الزراعية، وشاعت هجرتهم إلى المدن فانتشرت الحرف اليدوية. حرف ومهن عدة لا تراها اليوم في العراق ولا في كل أنحاء العالم حتى.
هل تريدين أن أحدثك عنها؟
هل أحدثك عن (خياط الفرفوري) أو (راشوق السطوح) وهل (سمعت بنقار الرحى) أو ( غطاس بئر) أو...؟
راح يوصف لها تلك المهن مستخدما كل وسائل الإيضاح التي وهبها الخالق للإنسان. ورغ ذلك وصلت الفكرة بصعوبة لعالية.
نعم لم أسمع بمثل تلك الحرف ستعرفني بها أكيد، ولكن انتظر قليلا.
ذهبت مسرعة إلى غرفتها وعادت بدفتر مسودات وراحت تدون فيه ما يقصه مازن.
وظل مازن يردد بصوت غير مسموع :" لك هاي غير ورطه ".
أظنه سوف يكون موضوعا رائعا يا مازن، ألا توافقني؟
لا أعرف ولكن حسب رأيي، أن لهذه الأحداث خصوصيتها ولا أظنها تهم القارئ اليوناني.
وهل كل ما تبحث عنه وتدونه يخص العراق وحده؟
سوف لن أناقشك، خذي راحتك في تدوين ما ترينه مناسبا، وفي الحقيقة، لو كنت صحفيا مثلك لكان اهتمامي منصب على قصة نسب الأميرة عزة، إنها خبطة صحفية لا مثيل لها،
" حب جارف بين أميرة عراقية وعامل يوناني بسيط!".
وهل تظن أني سوف أفوت ذلك السبق الصحفي؟ كل ما في الأمر إنني سوف أبدأ بجمع كل المعلومات الدقيقة اللازمة عن الموضوع، ودوافعي هنا ليست صحفية وحسب كما تعلم، إنه شوق جارف وحب استطلاع كبير يدفعني للبحث في تلك الجذور الواهية، وسوف تساعدني أنت بذلك كما وعدت قبل قليل، ستقرأ ذات يوم تلك القصة أو تساهم في كتابتها،
والآن، خذ راحتك في الحديث، وهذه أغلى قنينة نبيذ في البيت هدية لك، وإليك فوقها قبلة من كل قلبي.
بعد كل تلك الخدمات المغرية، تمدد مازن على الأريكة التي تجلس عليها عاليه، واضعا رأسه في حضنها، وسيقانه الواحدة فوق الأخرى وكأنه مهراجا حقيقي وتابع بهمة:
في أواسط العشرينيات من القرن الماضي، كان جدي يعمل مع بعض أخوته في محل لهم لصياغة الفضة في البصرة.
كانوا من الصاغة المهرة حاذقين في صناعة التحف الفضية المطعمة بالمينة السوداء. والتي كانت سوقها رائجة بين ضباط الجيش البريطاني المحتل.
ظلت أمورهم تسير على ما يرام،وازدهر متجرهم الصغير، وبعد أن بلغ جدي سن الرشد، أرسل أمه لتبحث له عن فتاة مندائية جميلة. فوجدت الأم الفتاة المطلوبة في مدينة أخرى لا تبعد كثيرا عن مدينة البصرة. وبعد الموافقات الأولية ذهب العريس مع مجموعة من وجهاء الطائفة إلى قلعة صالح لخطبة الفتاة.
ثم أقترن بها بعد أن عقد مهرها في مندي قلعة صالح، وقام بمراسيم عقد المهر كبار رجال الدين المندائيين هناك.
توقف قليلا أرجوك. ما هذا الدين الذي تعتنقه، إنني لم أسمع به من قبل؟ هلا زودتني بتفاصيل أكثر عنه؟
مهلا حبيبتي، المواضيع كثيرة ومتشعبة فإذا دخلنا في التفاصيل فحديثنا لن ينتهي. دوني في حاشية كراسك المرعب كل الأسئلة التي تخطر ببالك وسوف أجيبك عنها لاحقا قدر استطاعتي، ودعيني أكمل، فحضنك الدافئ يغري بأكثر من الحديث والكتابة.
عاد سالم وذاك اسم جدي بعروسه إلى البصرة وسكنوا في العشار في شارع الوطني الشهير،القريب من متجرهم.
عاش جدي ردحا من الزمن في بحبوحة وسعادة، فأنجبت له جدتي واسمها نسيمه، صبيان وابنتين هما أمي وخالتي.
ولكن بعد الركود الاقتصادي الحاد الذي ساد الثلاثينيات وبعد موت جدك الملك فيصل الأول، ترك جدي وأخوته محلهم وسافروا جميعا للبحث عن الرزق في الهند.
وصلوا مدينة بومباي وعاشوا فيها ردحا من الزمن، بعد أن فتحوا متجرا لصياغة الفضة هناك.
ازدهرت تجارتهم هناك وتوسعت، كونهم حرفيين مهرة ثم أنهم أدخلوا لونا جديدا من فن الصياغة إلى البلد.
ولكن الحنين إلى الوطن والأهل أجبرهم على العودة فعادوا إلا جدي سالم. فقد عشق ابنة أحد المهراجات والتي كانت تتردد على محلهم.
في الحقيقة، أعجبت الفتاة بجدي الذي كان وسيما جدا فرتبت أمر زواجهما وتزوجها وظل هناك.
ولكون من يترك دينه، يكون منبوذا من جماعته وأهله، قاطعت العائلة جدي. ورغم محاولاته في التواصل مع أسرته وأخوته، ورغم النقود التي يرسلها لعائلته بين الحين والحين. إلا أن موقف العائلة كان قاطعا وصارما ولم يتغير، فتوقف عن التواصل معهم وانقطعت أخباره، عدى خبر غير دقيق ورد بعد فترة كونه يملك أكبر متجر للذهب والفضة في مبوباي.
تنتابني رغبة جادة في السفر إلى الهند والبحث عن أخبار جدي وأسرته الجديدة هناك.
ما رأيك بهذه القصة؟
كثرت مشاريع بحثك يا مازن، وكبر ضياعك،وكبر خوفي عليك.
طيب وأن كنت أنا لا أهتم كثيرا للأديان بعكس أبي فهو أرثوذوكسي متعصب. ولكن أرجو أن تحدثني عن دينكم، كنت أظنك تعتنق الدين الإسلامي، فأنت عربي ونحن نعتقد أن كل العرب هم مسلمون.
المسألة بغاية البساطة، ليس كل من في العراق يعتنق الدين الإسلامي، ففي العراق الكثير من الأديان والقوميات والتي تعايشت بسلام طيلة تاريخ العراق الطويل.
المسلمون في العراق يشكلون الغالبية العظمى من السكان وهم منقسمين إلى سنة وشيعة بنسب متساوية على ما أظنن فليست هناك إحصائيات دقيقة، رغم أن إحصاء السكان الأخير لعام 1977 يقول أن نسبة السنة تصل إلى 47% من مجموع سكان العراق.
وهناك مسيحيون تصل نسيتهم إلى 2,14% وبقايا من اليهود ويزيديون وشبك ومندائيون وكاكئيون وبهائيون وزردشتيون ومانويون وبابيون والعديد من الفرق الصوفية والطرق والمشايخ.
أنا يا عزيزتي من المندائيين، وهم بقايا دين توحيدي كان له شأن في غابر الزمان، حتى أنه كان ينافس المسيحية الأولى.
وأنا يا سيدتي من المجموعة التي اعتنقت هذا الدين الموغل في القدم بحكم أني ولدت من أبوين مندايين.
أهم صفات المندائية هو التوحيد المطلق للخالق، واعتقادهم بأن هناك حياة أخرى بعد الموت ولكن للنفس فقط وليست للأبدان.
طقوس المندائية تعتمد بالأساس على التطّهر بالماء الجاري، وهي تكره العنف وتحب الطبيعة.
وبعد أن ساد الإسلام المناطق التي كنا نسكنها، غلق ديننا ولم يعد تبشيريا، وهكذا فكل من ولد من أبوين مندائيين يكون مندائي ولا سبيل غير ذلك.
هل معنى هذا إنني لا أستطيع أن أصبح مندائية، حتى لو رغبت بذلك؟
نعم لا تستطيعي ذلك وللأسف، فرجال ديننا ظلوا متمسكين بتلك النظرة المتزمتة رغم أن ديننا كان دينا تبشيريا.
وهل أنت متعصب لدينك؟
لا يا سيدتي، أنا لست متعصبا لتلك السلفية ولكنني متعصب جدا لمبادئ ديننا كونه يحب الحياة والطبيعة ويقدسها.
تصوري أن من يلوث النهر أو الطبيعة يعد اثما. ومن يقتل حيوانا يكون قد ارتكب إثما، و حتى صيد الحيوان يعد في ديننا من المحرمات.
شوقتني كثير، وأغلب تلك الأفكار تناسبني وتتفق مع طبيعتي. حدثني بشكل تفصيلي عن ذلك، لترضي فضولي الصحفي أولا والأنثوي ثانيا.
دعينا من كل ذلك الآن وأظن أيامنا ستكون طويلة لتكفي إشباع كل فضولنا.
مازن، قد تكون مشاغلك كثيرة، ومشاريعك أكثر، ولكنني مصرة على أن تبدأ في مشروع البحث في تفاصيل تاريخ أسرتي تذكر ذلك دائما.
نعم وأعدك بذلك.
في البوم التالي أجرى اتصالا تلفونيا بصديقه حسام في لندن مستفسرا عن ما هو جديد في بريده.
نعم مازن جاءتك رسائل عدة منها من السفارة وأخرى من جيكوسلوفاكيا وثالثة من أهلك ورابعة من الجامعة وثلاث أو أربع رسائل أظنها من البنك ودائرة الكهرباء والتلفونات، وكثيرا من رسائل الدعاية والمجلات.
عزيزي حسام أرجوك افتح رسالة جيكوسلوفاكيا وخبرني بمحتواها، سأنتظر منك مكالمة وسأظل قرب جهاز الهاتف.
مازن إنها رسالة تبشر بخير، يطلبون منك مقابلة الملحق الثقافي الجيكي في لندن، وقد تركوا عنوانه في أسفل الرسالة .
الحبيبة عالية، أظن أن أمورنا قد حلت بشكل لا بأس به
إذا وفقت في الالتحاق بزمالة دراسية في جيكوسلوفاكيا فسأكون قريبا منك. وسوف أنهي بحثي بالسرعة القصوى، أعدك بذلك. عندها قد تنفتح أمامي فرص كبيرة للعمل في العديد من بلدان العالم. ونستطيع العيش سوية.
من طبعي يا مازن أحكم على الأمور الواقعية، ولا أهتم بتفسير ما قد يحدث، أي أن لكل حادث حديث. ولكنني أعدك بأنني أبذل المستحيل لنظل سوية.
عاد أندرياس من القرية بعد يومين مفعما بالنشاط والحيوية، وقد استقبلوه عند محطة الحافلات مرحبين به.
وعلى مائدة الغداء ألح مازن على أندرياس بالحديث عن أم عالية، وكذلك توسلت به ابنته أن يلبي طلبهم هذه المرة على الأقل إكراما لمازن.
نعم أيها الشباب كانت أيام رائعة، قالها بنشوة بعد أن أتى على ما في الكأس مرة واحدة.
ابنتي العزيزة عالية، كنت أعمل طباخا على سفينة تقل السياح الأجانب بين جزر بحر إيجة الرائعة. وأنا شاب مفعم بالنشاط، وكنت أعد وسيما بتميز.
لا زلت كذلك يا أبي.
اسكتي ولا ضرورة لهذا التملق.
على ظهر تلك السفينة تعرفت على ضابط انكليزي كان مهتما بتدوين معلومات عن أحد ملوك أو شيوخ الجزيرة العربية، كان منفيا في جزيرة قبرص.
ساعدته بلملمة بعض المعلومات من هنا وهناك، وقد أعجب بي كثيرا.
دماثة خلق هذا الضابط وسخائه المفرط دفعني إلى دعوته لزيارة رودس وليحل ضيفا علينا في القرية،
أخذ عنواني ووعد بأن يكتب لي.
بعد أشهر استلمت رسالة من هذا الضابط وأظنه كان برتبة كولونيل، يعرض علي العمل عند العائلة المالكة في العراق، بصفة طباخ.
كانت تلك مغامرة مغرية بالنسبة لي، وترضي اندفاع الشباب ومجازفاتهم.
كتبت له بالموافقة فورا، وقام هو بالترتيبات اللازمة.
كل معلوماتي عن بغداد لم تتعدى كتاب الف ليلة وليلة، وقد سرح خيالي مع مغامرات السندباد. وهكذا خضت إحدى مغامراته.
وصلت بغداد بحرا عن طريق البصرة. ووجدت جنديا بريطانيا في انتظاري. ومن البصرة سافرنا بالقطار إلى بغداد.
لم أجد في هذا البلد شيئا ساحرا عدى غابات النخيل الجميلة، ولم تكن بغداد تلك التي رسمتها في خيالي. فكانت بلدة فقيرة تعلوها الأتربة وكأنها قرية كبيرة والفقر سمتها الأهم.
بالمناسبة كان البريطانيون هم الذين أسسوا المملكة العراقية الحديثة، وكان ضباط مخابراتها يشرفون على ذلك. والضابط الذي حدثتكم عنه هو واحد من قادة تلك المخابرات.
المهم التحقت بعملي، وحرصت أن التزم بقواعد القصر ونظامه وأن أخلص في عملي.
لم يكن يسمح لنا في التجوال داخل القصر الجديد، والذي بني
على الطراز الفرنسي في ضواحي بغداد .فكانت الحياة فيه رتيبة ومملة، سواء بالنسبة لنا نحن العاملين في القصر أو حتى بالنسبة لساكنيه.
كثرت المناسبات التي كنت أقوم فيها بتحضير المائدة للملك الشاب الغريب الأطوار، والمندفع في كل أموره إلى حد التهور أحيانا. فتارة يمازحنا وأخرى يهيئ لنا المقالب وغيرها.
حزت على رضاه وإعجابه كوني كنت متفانيا في عملي أولا وملتزم جدا بقواعد السلوك، فقربني إليه وراح يكلفني بالأشراف على حفلاته الخاصة، وكان يستشيرني ببعض أنواع النبيذ، وأنا ابن رودس حيث تزرع أروع أنواع الكروم في الدنيا.
سافرت في معيته أكثر من مرة، وبعد أن اطمأن لي وأحبني.
أخذت أتعلم العربية من خدم القصر، وكنت أحاول أن استخدمها بحضور الملك، كونه كان يسر كثيرا ويضحك كثيرا على نطقي بتلك اللغة الصعبة المخارج الصوتية.
وذات مرة وأنا أعد مائدة الملك التقيت بأمك،
كان قوامها الممشوق وجمالها الأخاذ مصدر عذاب لي في ليالي بغداد القارصة البرد.
لم لا أكون سندباد وأغازل الأميرة ياسمين؟ لابد أن الحياة مملة في هذا القصر بالنسبة لفتاة مثلها، ودعت أيام المراهقة وحيدة منذ أمد.
كثرت الصدف التي كنت ألتقي بها بالأميرة، وكانت هي تتعمد تلك الصدف كما قالت لي بعد ذلك. لا أطيل عليكم فوقتكم أثمن من ذكريات رجل عجوز، أحيينا بعضنا بقوة.
كانت العائلة المالكة تقوم بسفرات كل صيف إلى لبنان، وفي عام 1936 سافر عدد من الأميرات منهن أمك عزة وبعض الخدم والعاملين في القصر إلى بيروت. وكنت ضمن من أرسل مع الأميرات. وهناك كانت الرقابة قليلة على الأميرات فتسنت لنا الفرص العديدة بأن نلتقي وبحرية،
كنت في حب جارف لأمك، ولكن لا أمل لنا في الزواج بسبب الفارق الاجتماعي والديني، ولكن حبنا كان أقوى من كل تلك الفوارق، ولا أمل لنا غير الهرب.
حصلت للأميرة سمة دخول إلى اليونان بدون علم أحد، وجمعت
هي ما خف حمله من ملابس وأغراض وبعض الحلي والنقود وهربنا على أول مركب مغادر إلى قبرص.
تركت الأميرة رسالة إلى أختها الأميرة راجحة، شرحت فيها وضعها راجية إياها أن تغطي على فعلتها لحين وصولنا إلى بر الأمان.
وعلى الباخرة عقدت مراسيم زواجنا وكان شهودنا بعض البحارة.
وبعد أن وصلنا إلى قبرص أخذنا أول سفينة مبحرة إلى رودس. وعشنا في رودس ردحا من الزمن بسعادة غامرة.
وبعد أن أفقنا من نشوة الحب، راح الخوف والحنين لحياة القصر ينغص عيش أمك وعيشنا.
وذات يوم علمت أمك بمقتل أخيها والذي نشر في إحدى الصحف فجنت من الأسى والبكاء عليه، حتى أنها راحت تعذب نفسها جسديا، فكانت تبكي وتلطم عليه بكلتا يديها، وتكرر ذلك كل يوم.
وبعد أن أخذت الجيوش الألمانية في التقدم في البلقان أخذت أمك إلى الجبل وعشنا في القرية،
كانت حزينة وقنوطة طيلة السنين التي بقيت فيها معي في تلك القرية، وزاد في حزنها وقنوطها موت أبنها البكر في تلك الظروف المعيشية الصعبة.
لن تعتاد أمك على حياة الفقر وحياة الريف، راحت تراسل أهلها في العراق، ولكنني لم أكن أوصل تلك الرسائل خوفا على حياتها.
وبعد أن اقتنعت بأنها إذا استمرت في العيش هكذا، فإنها ستفقد عقلها، أو تقتل نفسها، وكانت هناك علامات تدل على ذلك. رحت أبعث رسائلها ،ولكن عن طريق أثنا زيادة في الحيطة.
ثم ولدت أنت وكنت سلوى لها فكانت تناغيك وتدللك وكأنك الشيء الوحيد لها على هذه الأرض.
أخذت أتقصى أخبار عائلتها فعلمت أن فيصل الصغير قد عين ملكا على العراق بعد والده الملك غازي، أي خالك، ولكن تحت وصاية خاله الأمير عبد الإله، والذي يكره عزة جدا وكانت هي تبادله ذات الشعور. وعلمت أن عمها عبد الله أصبح ملكا على الأردن.
أخذت عناوين رسائلها تتبدل من دولة العراق إلى دولة الأردن.
وذات يوم استلمت رسالة جاءتها من الأردن تدعوها للمجيء إلى عمّان عاصمة المملكة.
لم يعد لي خيار غير أن آخذ أمك إلى قبرص وأضعها على متن السفينة التي هربنا عليها، لتعود إلى أهلها بعد أن أصبح عيشها معنا من المستحيل. فالأميرة عزة راحت تفقد قواها العقلية بسرعة. وكانت ترجوني وتتوسل بي كل يوم، حتى أنها قبلت أقدامي ذات مرة من أجل مساعدتها في العودة إلى وطنها وكيف يهون عليّ فراقها؟.
كان عمرك حبيبتي عالية أربعة أعوام عندما سافرت أمك وتركتنا.
آه لو تعلمين كم تشبثت بك! ولكنني لم أكن أستطيع أن أفرط بك، وفي الحقيقة كنت أخشى عليك. فلم تكن تصرفات أمك لتدلل على عقل سوي.
عدت بك إلى قريتنا وهناك تزوجت أمك(دافني) وهي التي ربتك ورعتك بكل حب.
وهذا الصندوق الذي احتفظ به لك بناء على وصية أمك، هو ذات الصندوق الذي جلبته معها على الباخرة أول مرة.
استلمت منها رسالة واحدة من الأردن تقول فيها انها وصلت بسلام إلى أهلها. ومنذ ذلك اليوم أخبار أمك قد انقطعت عنا تماما.
أبي أود أن أسألك.
قاطع أندرياس ابنته . وبشكل حازم، أجلي أسئلتك يا عالية فليس عندي مزاج للحديث أكثر عن الموضوع فهو يؤلمني جدا، فلازلت أحب أمك.
خذو راحتكم أيها الشباب وأنا خارج إلى حانتي. سنلتقي في المساء.
انقضت الأيام مسرعة، وحل يوم السفر. أوصلهم الأب إلى المطار بذات السيارة الصغيرة.
قبل ابنته وشد على يدّ مازن مودعا وقال له:
أحذر الأميرات يا مازن، ولكن إن عشقت إحداهن فلا تفرط فيها وتلك نصيحة مجرّب.
اتفق مازن مع عالية أن يقضوا بضعة أيام في أثينا العاصمة، وبعدها سوف يسافر مازن إلى لندن لترتيب مسألة زمالته الدراسية، وعلى ضوء ما سينتج، يقررون خطواتهم اللاحقة.
لم تكن أيام أثنا مفرحة وسعيدة لمازن كما كانت أيام رودس، فعالية التحقت بعملها وراحت همومها الصحفية تشغلها منذ اليوم الأول، حيث تكدست عشرات التقارير التي هي بحاجة إلى لمساتها.
ثم أن مازن كان مشغول الفكر تماما بمسألة فراق عالية، وبالزمالة الدراسية القادمة، فلم تعد تفرحه الآثار الشامخة في تلك المدينة العظيمة. وأخيرا جاء موعد سفره.
كانت ليلة وداع حزينة رغم عمق ودفئ المشاعر التي سهرت معهم حتى الصباح. أوصلته عالية من الصباح الباكر إلى المطار.
ودعته والدموع في عينيها. قبلته بشدة وكأنها قبلة وداع، وعادت مسرعة إلى عملها، فزحام المرور شديد في هذه المدينة.
وصل مازن إلى لندن يرافقه شعور خليط من الخوف واليأس والحزن .
التقى بصديقه حسام، وأخذ بريده المليء بالرسائل والتي لم يجد فيها ما هو مهم عدى رسالة من أمه تشكوه الحنين والشوق والقلق على أخباره، ثم تخبره بشكل غير مباشر بأن رجال الأمن قد جاءوا إلى البيت وسألوها عنه، وهي قلقة جدا وتحذره من العودة إلى العراق، أو الاتصال بالسفارة،ففي ذلك خطر كبير عليه.مع باقة من دعاء الأم الصادق له بالخير والنجاح.
المهم أيضا في بريده هو قبوله في الزمالة الدراسية في براغ ، وطلب مراجعة القنصلية.
في صباح اليوم التالي ذهب إلى القنصلية الجيكية ومعه كل الأوراق الضرورية، استلمها منه الموظف المسئول وطلب منه المجيء ثانية بعد ثلاثة أيام.
قضى مازن أيامه الثلاث تلك في تصفية كافة المتعلقات وأصبح جاهزا لتوديع لندن.
اتصل بعالية تلفونيا لأكثر من مرة ولم يظفر بها. فالهاتف ظل يرن لوحده في كل مرة وما من مجيب.
كتب رسالة لها بكل التفاصيل، ثم ذهب إلى المكتبة العامة وراح يتصفح أرشيف وزارة الخارجية البريطانية بحثا عن معلومات تفيد عالية في بحثها عن أسرتها الملكية.
وجد المعلومات عن العائلة الملكية العراقية مكتوبة هناك بشكل مقتضب. ففكر في البحث في مكان آخر في المستقبل، ولكنه أرسل تلك المعلومات على علاتها برسالة إلى عالية
عزيزتي عالية، كما وعدتك فإن أول بحث قمت به بعد وصولي إلى لندن هو البحث عن جذورك، وقد اتصلت بك هاتفيا عدة مرات دون جدوى. إنني في طريقي لإنجاز معاملات السفر إلى براغ وسوف أوافيك بكل ما يستجد عندي.
أرجو أن تجدي حلا لمسألة التلفون رجاء، وليكن لنا موعدا ثابتا معه تحددينه أنت وأنا في انتظار رسالة منك.

أما ما وجدته من معلومات ستجدينها أدناه:

الملك فيصل الأول هو ( الجد المباشر لك من الأم)
ولد عام 20 /5/1883 في الحجاز
توفي 8//11/1933 في بيرن في سويسرا
توج ملكا على العراق 23/ 8 /1921
وهو الابن الثالث لشريف مكة الشريف حسين بن الشريف على بن الشريف محمد بن عبد المعين بن عون الهاشمي.
اختير جدك عام 1913 ممثلا عن منطقة(جدة) في البرلمان التركي،
تولى قيادة الجيش الشمالي مع القوات البريطانية عام 1916 ودخل سوريا عام 1918 بعد جلاء القوات التركية عنها.
وأصبح ملك على سوريا لفترة قصيرة عام 1920 ثم ملك على العراق منذ عام 1921 لغاية 1933.
تزوج مرتين، وله ابنان هما الملك غازي ومحمد وبنات ثلاث هن: الأميرة عزة 1906-1987 (أمك)
الأميرة راجحة 1907 – 1959
الأميرة رافعة 1910-1934

ولد ابنه الملك غازي 21/5/1912 ( خالك) في مكة وعاش في كنف جده الشريف حسين بن علي.
تزوج غازي ابنة عمه الأمير علي بن الشريف حسين واسمها عالية ورزق بصبي منها اسماه فيصل الثاني.

توج الملك غازي في 8/11/1933
وتوفي مقتولا في 4/4/1939

ابنه الملك فيصل الثاني
ولد 1935
توج في 4/4/1939 ملكا تحت وصاية خاله عبد الإله.
توفى في مقتولا، وقتل خاله عبد الإله في ذات التاريخ أيضا 1958
ولم أجد معلومات عن محمد، الابن الثاني للملك فيصل الأول، ولا عن زوجته الثانية.
أما جدكم الأكبر هو الشريف حسين فقد ولد في اسطنبول حيث كان أبوه منفيا فيها، وعاد إلى مكة وعمره ثلاثة أعوام.
قاد عام 1916 الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك.
نفي إلى جزيرة قبرص عام 1925 من قبل الانكليز وظل هناك ثلاثة أعوام.
ثم مرض وعاد إلى عمّان في الأردن ومات في القدس ودفن فيها، وزوجته اسمها عادله وأبناءه هم الملك عبد الله ملك الأردن. والملك فيصل الأول والأمير علي والأمير زيد والأميرات فاطمة، وصالحة والأميرة سارة.
وجدت معلومة غير دقيقة تقول أن أمك الأميرة عزة قد توفيت في الأردن عام 1960 حيث كانت برعاية الملك الحسين ابن طلال ابن عبد الله، ودفنت هناك.
مع حبي مازن
ملاحظة:
تمت الموافقة على سفري إلى جيكوسلوفاكيا وحصلت على تأشيرة دخول إلى البلد الجديد، مع بطاقة طيران على الخطوط الجوية البريطانية.
بعد أن، أرسل الرسالة ذهب مازن إلى الجامعة القديمة وودع أستاذه المشرف وبعض معارفه، وانطلق مع صديقه حسام إلى المطار، وراح يودع لندن وشوارعها وهو جالس في المقعد الخلفي لسيارة التاكسي.
من عادات مازن التي دأب عليها في حياته هو التكتم وقلة الكلام، فلم يحكي لصديقه حسام عن تفاصيل سفرته لرودس
وظل الحديث يدور حول الدراسة في البلد الجديد، وعن استمرار التواصل بينهم، وأكد حسام على مازن أن يرسل عنوانه فور وصوله وعلى الأقل كي يرسل له الرسائل التي قد تصله.
التحق مازن بزمالته الدراسية الجديدة، وكان قد قطع شوطا جيدا في بحثه الذي طوره ليحصل فيه على درجة الدكتوراه. وعلى الرغم أن الأستاذ المشرف الجديد يتقن اللغة الإنكليزية، إلا أن الجامعة أصرت على دخوله دورة لتعلم اللغة الجيكية.
وبعد مناقشات ومساومات عدة وإصرار مازن على أن لا تكون اللغة سببا في تأخير بحثه، وافقت الجامعة على أن تكون دروس اللغة من ضمن المدة المقررة للبحث.
انطلق مازن بهمة على الدرس كعادته، ولم يلتفت لمباهج الحياة في العاصمة الجميلة، فكان أمامه هدف كرس كل جهده لأجله، وهو أن يحصل على شهادة الدكتوراه، ويجد له عمل لائق كي يبعث وراء عالية لتعيش بجانبه بقية العمر.
استمرت المراسلات بينهما بشكل منتظم، حتى صيف عام 1980.
في أواخر عام 1980 انقطعت أخبار عالية عنه، فاضطر للكتابة للصحيفة التي تعمل فيها عالية لمعرفة أخبارها وخاصة أنه قد أنجز بحثه وتحضر للدفاع عن رسالته.
جاءه رد الصحيفة متأخرا بعض الوقت يخبرونها أنها أصرت في الذهاب إلى العراق لتغطية أحداث الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت في بداية شهر آب.
تذكر شهر آب والمؤتمر الذي التقى فيه بعالية في باكو أول مرة في ذلك الشهر، وتذكر حر بغداد في هذا الشهر فأشفق كثيرا عليها، وراحت تراوده الهواجس كلما وصلته أخبار الحرب التي استعر أوارها.
أنهى بحثه، وحصل على تقدير جيد من اللجنة التي ناقشت رسالته، ومنحوه درجة الدكتوراه في الهندسة البيئية.
راسل بعض دول المغرب العربي للعمل أو التدريس في جامعاتها، وقد حصل على وظيفة بمرتب جيد.
بعد أن اشتد قلقه على عالية، لانقطاع الأخبار عنها، سافر إلى اليونان بإجازة قصيرة. وفي العاصمة أثنا ذهب إلى مقر الصحيفة التي تعمل فيها عالية، لمعرفة أخبارها أو ربما عسا أن يجدها وقد عادت.
لم يحصل على أية معلومات هناك وكانت الإجابات غير واضحة، فالمسؤولين في الجريدة رفضوا حتى مقابلته، كون المعلومات عن العاملين في الصحيفة سرية ولا يمكن كشفها إلا وفق القانون.
عندها سافر إلى رودس على أول طائرة للبحث عنها هناك.
اهتدى إلى حانة أندرياس وكانت الشمس قد استقرت في الأفق الغربي.
لم يجد الأب في الحانة، ولم يستطع التفاهم مع العمال فيها فقصد البيت، الذي حفظ الخطوات التي تربطه بالحانة.
طرق على الباب ولكن دون جدوى، فلا أحد فيها.
عندها قصد أحد الفنادق التي في وسط المدينة وقضى ليلته في إحدى الغرف المطلة على البحر.
هدير الطائرة الذي لا يزال يطن في أذنه وتلك المشاوير التي قضاها في البحث بين الحانة والبيت والفندق، وهدير الموج الصاخب أورث رأس مازن وجعا لم يقدر على تحمله، فلم يجد غير النبيذ. راح يشربه بجرعات كبيرة في مقهى الفندق ويقارن بين طعمه الآن وطعمه مع عالية منذ سنتين مضت.
لم يزده النبيذ إلا إرهاقا فذهب إلى الفراش مبكرا وراح يصارع الأرق والكوابيس.
في الصباح، وبعد أن تناول فطوره في الفندق، وشرب فنجان من القهوة، قصد حانة أندرياس.
كان الأب موجودا في الحانة هذه المرة، ولكنه كان حزينا، فارقت البسمة ملامحه وقد احمرت جفونه.
أخذ مازن بين يديه وراح يقبله والعبرة والدموع قد خنقت صوته فلم يفهم منه مازن شيئا.
أجلسه الأب في احد الأركان وجلب قنينة من الشراب، وراح يقص على مازن كيف أصرت عالية على السفر لتغطية أحدات الحرب العراقية الإيرانية. وكيف لم تنفع دموعه الغزيرة، وتوسلاته في ثنيها عن قرارها. ثم أجهش في البكاء وهو يروي كيف أنها قد غامرت في زيارة الجبهة الجنوبية، وهناك سقطت قذيفة فقتلتها وجرحت المصور الذي كان يرافقها. وكانت إصابة المصور خطيرة، ولكنه صور الحادث وسجلها قبل أن يغادر الحياة هو الآخر.
تكفلت الصحيفة التي عملا فيها بجلب جثثهم، وطلبت منهم أن يدفنوها هنا قريبة مني.
ذهب مازن والأب سوية إلى المقبرة القريبة من بستان الرمان الذي راحت أزهاره الصارخة الحمرة تستفز عيون مازن، وتعصر قلبه . كانت أكاليل الورد التي على القبر لا تزال يانعة، فقد كان أندرياس يزورها يوميا ويعتني بقبرها.
جلسا سوية على المسطبة المجاورة للقبر وغرقا في ظلمة من القنوط والحزن. عادا بعدها إلى البيت وهناك احتسيا النبيذ الذي كانت تحبه تخليدا لذكراها.
أخذ مازن الصندوق الأسود حسب وصية عالية قبل أن ترحل بعد أن أضافت إليه كل رسائله ومذكراتها التي دونها باللغة الانكليزية مع صورهم في عيد الفصح.
عاد مازن بخيبة كبيرة وحزن حفر في القلب على حب اغتالته الحرب دون ما سبب.
ظلت تلك المذكرات المحبوسة في الصندوق الأسود والقلب الذي سكن قلب مازن يرحل معه من بلد إلى بلد في هذا الكوكب البائس، بحثا عن حياة آمنة.
قد يجد جده المهراجا ذات يوم وقد ينشر مذكرات أبناءه مع مذكرات عالية، وقبل كل شيء قد يجد وطننا يمد فيه جذوره، بعد أن ضاع عراقه.
عبد الإله السباهي
الدنمارك في 2008
انتهى
أبطال هذه القصة هم أناس حقيقيون عاشوا على أرضنا . ولكن بعضهم عاش في مخيلة الكاتب فقط. فلا وجود له أصلا. أما المعلومات التي تخص الأسرة المالكة العراقية فقد نشرت على صفحات الأنترنيت وفي مواقع عدة.



#عبد_الإله_السباهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخل والخمرة والصديق
- دردشة عجائز مغتربات
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(4)
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(3)
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(2)
- كشف الأسرار عن سحر الأحجار
- أولاد المهرجان
- هكذا تسقط الأنظمة
- لعبة في الطبعة الأخيرة


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الإله السباهي - جذور واهية...قصة قصيرة