|
المونودراما وفنون مابعد الحداثة
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2491 - 2008 / 12 / 10 - 02:46
المحور:
الادب والفن
- دراسة في معمار النص - المونودراما تركيبة درامية من المونولوج والمناجاة والجانبية ،علي هيئة مسرحية قصيرة تأسست بنيتها علي صور متشظية لصراع نفسي يدور بداخل شخصية واحدة ، متعددة الأصوات . وهي أصوات درامية مستدعاة أو مستعادة من موقف أو مواقف ماضية من حياة الشخصية المونودرامية نفسها ، محمولة علي صوت واحد هو صوت تلك الشخصية نفسها ، علي أن استدعاء الشخصية لصور ومواقف ماضية تمت بينها وعدد من شخصيات اشتبكت معها في مواقف من حدث مضي ، دون أن يسفر اشتباكها مع الآخرين عن نتيجة ما لصالحها مما ترك آثارا رسبت في وجدانها وسببت لها جرحا نفسيا غائرا أو حزنا أو ضيقا أو حيرة أو وجها من وجوه الشك أو الحنق أو الأمل أو الغبطة الداخلية المشوبة بالخوف مما تتوقع . لذا تستعيد الشخصية المونودرامية صورا مما جري بينها والآخرين وتعيد إنتاجها بالتشخيص الذهني ؛ بهدف إعادة تقييم النتيجة التي أسفر عنها صراعها ؛ ومن ثّمّ تقويم موقفها من ذلك الحدث نفسه .
ملابسات التعريف:
لا شك أن هذا التعريف الذي صدّرت به مقالي هذا هو تعريف مصنوع أو منحوت ؛ وبذلك فهو متجاوز لتعريفات سابقة منها تعريف د. عبدالعزيز حمودة " المونودراما بطبيعتها تنحو نحو الدراسة النفسية . إلاّ أن ذلك لا يلغي عنصر الحدوتة تماما . بل إن الرحلة داخل أعماق النفس دون الاهتمام المتعمد بعنصر الحدوتة." وقد تلاحظ لي أن د. حمودة يركز علي الهدف من المونودراما باعتبارها لونا من الألوان الدرامية التي تستهدف دراسة سيكلوجية الشخصية . وهو بهذا يقربها من السيكودراما ، بمعني أنها هدف ووسيلة في ذاتها أما المخرج سمير العصفوري فيركز علي دورها كمهارة أدائية وحل لمشكلات الإنتاج في الفرق المسرحية تخلصا من أعباء إنتاجية اقتصادية وإدارية إذ يقول:" المونودراما هذا النوع من الإبداع الدرامي يستعرض مهارة الممثلين المتميزين ، وفي نفس الوقت يقدم متعة فنية منفردة وتحل كثيرا العديد من المشكلات الإنتاجية في المسرح . نحن في حاجة إلي المزيد من هذه التجارب الفنية." واعتقد أن المونودراما كانت تلبي حاجة مسرح الغرفة أو القاعة التي أنشأها المخرج عبد الغفار عودة بفرقة المسرح المتجول في الثمانينيات ، وقاعة صلاح عبد الصبور التي أنشاها العصفوري نفسه مقتطعا مساحة من صالة العرض بمسرح الطليعة عندما كان مديرا له . أما كاتب المونودراما أمين بكير فقد رأها وسيلة فاعلة في معاونة طلاب التمثيل علي إنجاز مشاريع تخرجهم ضئيلة التكلفة، ربما إظهارا لمهارة الطالب . القضية إذن عند العصفوري وبكير مقصورة علي حلول تيسر للمنتج المسرحي إنتاج عروض بلا إنتاج وللممثل محترفا استعراض مهاراته الأدائية ولمشروع الممثل الطالب إنجاز مشروع تخرجه. ومع تسليمي بصحة تعريف هؤلاء الأساتذة ، للهدف من تقديم هذا اللون من الفن المسرحي إلاّ أن هذه التعريفات لم تتعرض لتقنية البناء الدرامي والفني للمونودراما. لذا فإنني أتوقف عند معمار بنائها الدرامي والجمالي.
معمار المونودراما: صدّرت مقالي هذا بتعريف نحته نحتا لهذا اللون المسرحي ؛ إذ قلت : " هي تركيبة درامية من المونولوج والمناجاة والجانبية علي هيئة مسرحية قصيرة تأسست بنيتها علي صور متشظية لصراع نفسي يدور بداخل شخصية واحدة ، متعددة الأصوات." ولأن الحدث أو الصور المستعادة عبر ذهن الشخصية المنفردة في المونودراما بوصفها مسرحية الممثل الواحد ، محمولة علي صوتها المحمل بعدد من الأصوات المسترجعة دون ترتيب منطقي متسلسل للحدث أو المواقف الدرامية التي مضت وانقضت وذلك وفق أسلوب (المونتاج) الذهني ، تشخيصا يعيد تصوير مقتطفات متفرقة لصراع ما يزال صداه فاعلا في نفسية تلك الشخصية المونودرامية، بما يتوافق شكلا مع المونولوج الذي هو عندي" حديث فرد لنفسه في حوارية تدور بين صوت عقله وإرادته وصوت مشاعره ، حيث يتغلب فيها صوت المشاعر علي صوت العقل . وهو نتاج عدم التوازن بين صوتي إرادتين في شخصية واحدة (صوت المنطق وصوت الشعور) عند شخصية واحدة." وهو ما يمثل له د. مجدي وهبة بحديث معاناة هاملت " أن تكون أو لا تكون" غير أن د. وهبة نسب هذا إلي المناجاة ، فهو لا يفرق بين المناجاة والمونولوج ، بينما أراهما مصطلحين لا مصطلحا واحدا . فأنا أري أنه " علي الرغم من أن كلا من المناجاة والمونولوج صراع بين العقل والعاطفة إلاّ أن العاطفة تنتصر علي العقل في المونولوج والأمر علي العكس من ذلك في المناجاة التي ينتصر فيها العقل علي العاطفة" وأضيف إلي ما تقدم أن المناجاة هي موقف مناشدة تتوجه بها الشخصية المنفردة بالحديث إلي نفسها أو إلي قوة غيبية إعلانا لهزيمتها أمام الشرط الموضوعي ( المحيط الخارجي) فالمناجاة إذن هي الصورة الدرامية للنتيجة التي تمخض عنها الصراع بين صوت عقل الشخصية نفسها مع صوت مشاعرها وهذا التعريف يتطابق مع ما قال به د. وهبه. والشخصية المونودرامية تستعين بالمونولوج وبالمناجاة معا عند البوح بمعاناتها السابقة في صراع صوتها المسترجع لإرادتها مع أصوات مناوئة لها في حدث درامي أو موقف انقضي في غير صالحها ، فضلا عن مسحة النقد الذي توشّح بها تلك الصور المسترجعة من الحدث علي غير تسلسل منطقي ، تعبيرا نفسيا يسقط ما بداخلها من مرارة عالقة بنفسها من نتيجة ذلك الصراع .؛ لذلك تستعين بالجانبية (الوشوشة المسرحية) أيضا . وهي :" صوت خافت يدور داخل الشخصية ، كاشفا عن وعيها المتمثل في نقدها أو انتقادها لحدث ما ، بهدف تلبية الجمهور إلي ما عساه يجري في اللحظات المقبلة"
ولأن استعادة الشخصية المونودرامية لبعض الصور أو المواقف التي انقضت ، تاركة في نفسية تلك الشخصية بعضا من الغضاضة أو الضيق والحزن أو شيئا من سرور مبهم لأمل متوهم متوقع التحقق ؛ لذلك تتداخل الصور وتتقاطع وتتواصل ، بما يقاربها بعملية المونتاج . ذلك أن استرجاع عدد من الصور هي عملية انتقائية ذهنية تقوم بها الشخصية باختيار مجموعة من الصور التي تبلور جوهر الحدث الذي مازالت آثاره فاعلة في نفسيتها . وهذا الانتقاء لا يتوافق كنسق تسلسلي يصل النهايات بالبدايات مرورا بوسط موضوعي ، لذا يتأسس معمار النص المونودرامي علي البني الجزئية المتشظية ، حيث تتجاور مجتزئات الصور وتتداخل ، وتتكررـ أحيانا ـ دون قصد من الشخصية نفسها. ولما كان الأساس الاتصالي بين صوت الشخصية المسترجع للحدث محملا بالأصوات المتعددة للشخصيات المتصارعة معه ، مجتزئة أو متشظية ، عبر بعثه أو استنساخه لها عبر التخيل لونا من ألوان صراع إرادات متعارضة داخل الشخصية المونودرامية نفسها ؛ لذا فإن معمار البنية الحوارية الاتصالية لم يخرج عن مركب تعبيري درامي مزجي بين معمار بنية المونولوج مع بنية المناجاة وبنية الجانبية ، تعبيرا نفسيا عن حالة بوح لشخصية عزلت نفسها بإرادتها عن كل ما حولها وتركت نفسها ساحة مفتوحة لصراع داخلي محتدم بين جوهر ما تريد وما تشعر في مواجهة ما يراد لها ممن يسعي حثيثا للحيلولة دون تحقيقها لإرادتها . فهي إذن منظومة بناء ذهني مفكك النسق ، عاكس لمواقف متشظية منتقاة بلقطات متفرقة متداخلة في غير ترتيب منطقي ، بغية إعادة عرض صور مناهضة لإرادتها بتصوير نقدي . وهنا لا يكون أمامها إلاّ توظيف السرد الإنعكاسي ، حيث يمكّنها من اجتزاء مقولات من مجمل أقوال معارضيها وعرضها عرضا فيه من التشويه بالقدر الذي يشفي بعضا مما في النفس من غضاضة أو كراهية أو ضيق . لذلك كان تعبيرها إسقاطا لبواعث أزمتها ، وتنفيسا لمعاناتها .
ولأن معمار النص هنا قائم علي التداخل الزماني بحكم انقضاء الحدث في الماضي وإعادة إنتاجه عبر صور متشظية في الحاضر تنفيسا وتمهيدا لما هو آت ، فضلا عن التداخل المكاني بحكم تعدد صور الأمكنة التي يستعيدها ذهن الشخصية للأماكن والمناظر التي جري فيها الحدث إلي جانب تداخل الأصوات المستعادة محمولة علي صوته وتعبيراته ، متداخلة البواعث من جهة نظر الشخصية المونودرامية - وحدها غالبا علي غير الحقيقة ، لتحاملها علي المعارضين لها - مما ينتج تعدد دلالات ذلك الحدث المسترجع مفككا لنسق خطاب الآخرين وناقضا له ؛ لذلك أري مرتاحا أن الشخصية المونودرامية شخصية حدثية بطبيعتها ، لأنها منقسمة علي ذاتها ، إذ أنها مجموعة أصوات مصطنعة ، أو متوالدة من صلب صوت شخصية واحدة ، وهي متراكبة علي صوت تلك الشخصية نفسها في تعبير متشظ قائم علي السرد الانعكاسي – وسواء عرفت المونودراما قبل ظهور الحداثة وما بعدها أو لم تعرف ، فذلك لا يعني عدم وجودها الذي لم يتمكن القدماء من إدراكه ؛ فعدم تراقص فروع الأشجار لا ينفي وجود الرياح – بتعبير بريخت- فظهور اختراع حديث في أي عصر ، يؤدي إلي أساليب ثقافية حداثية لها القدرة علي اكتشاف المتغيرات التي أتي بها الاختراع الحديث والتعامل معها- .
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظريات المسرح
-
ليس ثمة من وطن .. حيثما الدين وطن
-
سفر الخروج من (طما ) مونودراما الممثل الواحد
-
الماركسية في الحضور وفي الغياب
-
التجريب بين حلم شكسبير وحلم كولن باول
-
الوصايا السبع للمسرح التجريبي
-
جواز (فاطمة) من (يوسف) باطل
-
المقامة التنظيرية الأردشية والصدمات المسرحية
-
التجريب المسرحي بين عروض الحكي وعروض المحاكاة
-
المسرح وفكرة المخلص المستبد العادل
-
شهرزاد/ موناليزا ..في كباريه وليد عوني السياسي
-
الفن والعلم بين التعليم والتعلم
-
( لير) قبل العرض ..(لير ) بعد العرض
-
إشتراكية ( سوسولوف) و نظام رأسمالية الدولة
-
مؤثرات الفابية في البنية المسرحية ل(جمهورية فرحات)
-
مسرح.. كليب
-
بيرجينت.. وفن الإهانة
-
جماليات الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضارى - دراسة في تح
...
-
الميتا ذات .. طفل الأنابيب المسرحى
-
ذاكرة المسرح السكندرى
المزيد.....
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|