(في ذكرى مرور 25 عام على الثورة الايرانية، وبغية تسليط الضوء على واقع حال الثورة وظروفها، ارتاينا نشر هذه المقابلة (وعلى اجزاء) التي اجرتها جريدة انقلاب كاركري، الثورة العمالية، العدد 12 والصادر في 7 شباط 2004 مع مجموعة من قادة وفعالي هذه الثورة.)
(1)
انقلاب كاركرى:
في خضم اية اوضاع تشكلت ثورة 79؟ من زاوية عامة، ماذا كانت عليه الاوضاع العالمية العامة؟ برايك، ماذا كانت، بصورة موجزة، العوامل الحاسمة في مسار صياغة هذه الثورة والمسار الذي مرت به؟
ثريا شهابي:
ان تحولات عام 78 و1979 في ايران قد جرت في اوضاع كانت فيه الديكتاتوريات في عدد من البلدان التي تقع تحت نفوذ امريكا والاتحاد السوفيتي آنذاك، اي ما يسمى بمرحلة الحرب الباردة، بلدان تابعة لامريكا والاتحاد السوفيتي، تئن اثر ضربات حملات الجماهير في تلك البلدان. جنوب افريقيا، افغانستان، نيكاراغوا وايران كانت مراكز ازمات سياسية وحكومية وميدان العمل الاحتجاجي للجماهير. كان للعالم سيماء اخرى في تلك المرحلة. لم يكن ثمة اي معلم لسلطات اسلامية مثل طالبان وخميني.
لقد كانت السياسة المتشنجة لامريكا مع روسيا ومع الصين، سياسة "تعديل" الديكتاتوريات في البلدان التابعة، السلام العربي الاسرائيلي واتفاقيات كامب ديفيد بقيادة امريكا وخروج القوات الاسرائيلية من الضفة الغربية، كلها ردود فعل دول امريكا والاتحاد السوفيتي على التطلعات الانسانية العالية وتحركات الجماهير للتدخل في مصيرهم انذاك. ان كل هذه تدلل على ان اوضاع كانت بصالح اليسار، الجماهير وضد الرجعية. لقد ولدت الثورة الايرانية في خضم هذه الاوضاع. لقد كانت الاوضاع اكثر ملائمة من الاوضاع الان بدرجات.
ان تاثير هذه الاوضاع على الوضعية الداخلية لايران قد تمثل بتصاعد احتجاجات الجماهير من جهة وممارسة امريكا الضغط على الشاه للشروع ببعض "الاصلاحات" التي عرفت في وقتها باسم "سياسة الابواب المفتوحة". كان يؤمل من هذه السياسة، في الواقع، تفادي خطر ثورة ووصول تيار يساري في ايران. لقد كانت ايران بلداً مهما في في الشرق الاوسط. ان مصيرها السياسي من ناحية المكانة الاستراتيجية، جوارها للاتحاد السوفيتي وانها احد القواعد السياسية والعسكرية المهمة لامريكا في المنطقة، تتمتع بمكانة مهمة لدى امريكا. لقد كانت ايران على ابواب ثورة بوسعها ان تؤدي الى اقتدار اليسار واستلامه للسلطة. ان هذا الاحتمال يعني قلب الشرق الاوسط وحدوث تغيير مهم في توازن القوى بين كلا قطبي القوتين العالميتين (امريكا والاتحاد السوفيتي). ولهذا، اتجه استراتيجيوا امريكا واوربا بصورة تامة صوب ايجاد سبيل للخروج من هذه الازمة الثورية في ايران.
لقد اجبر الشاه، وفق سياسة امريكا، على التراجع تدريجياً. لقد قام بتغير الحكومة، المسؤولين وحتى اعتقال وحبس رئيس الوزراء ورئيس اطلاعاته (مخابراته) (هويدا ونصيري) وزيادة اجور العمال واطلاق بعض الفعاليات السياسية. ان بعض هذه التراجعات قد فرضت على الشاه. بيد ان اي تراجع كان يجابه بتصعيد حملة الجماهير، الطلاب والعمال.
لم تتمكن "سياسة الابواب المفتوحة" من اسكات الحركة الثورية. مع اي خطوة تراجع للشاه، يتصاعد صوت "الموت للشاه" اعلى واعلى. تصاعدت الاحتجاجات يوما بعد يوم واتخذت ابعاد عامة اكثر. لقد كان مجمل المجتمع في حمى الاطاحة بحكومة الشاه. لم تكن الجماهير تقنع باقل من اسقاط الشاه. لقد اتخذت الاضرابا العمالية يومياً صبغة سياسية متزايدة. هدد عمال النفط باغلاق انابيب النفط. في البداية، قام عمال النفط بقطع تصدير النفط الى جنوب افريقياً دعما للحركة المناهضة للتمييز العنصري في جنوب افريقيا واحتجاجاً على الشاه الداعم لحكومة جنوب افريقيا العنصرية التي كانت لدية علاقات سياسية واقتصادية معها. من الممكن ان تكون هذه من اهم الحركات العمالية التي قل نظيرها في هذا القرن. لقد تحول شعار " عامل النفط هو قائدنا الصلد" الى شعار نضالات الجماهير.
لقد هبت في ايران قوة عظيمة، ملايين الناس، لحسم مصير السلطة السياسية والحكومة في بلدهم. لقد كان مارداً يصعب ترويضه. لم يبقى لامريكا والغرب سوى التفكير بصياغة بديل. لقد اقيم كونفرانس في غوادالوب حضره قادة الدول الغربية بزعامة امريكا واتخذوا فيه قراراً بالتدخل في تغيير الحكومة. لقد رضوا بالتخلي عن الشاه. لقد كان في اكمتهم بديل رجعي، تيار اسلامي وعلى رأسه خميني. لقد توصلوا الى اتفاق مع التيار الاسلامي يقتضي بموجبه، وعبر عملية، جلب الخميني لايران واخراج الشاه. ويسلموا السلطة السياسية والحكومة يد بيد من فوق الجماهير. وفقاً لهذا السيناريو، نقلوا الخميني من النجف الى باريس وسلطوا عليه الانوار الكاشفة (البروجكترات) بوصفه البديل اللاحق للحكومة، وعرفوا العالم به بهذه الصورة. اخرجوا الشاه من ايران، يحدوهم الامل اخماد الازمة عبر "حكومة المصالحة الوطنية". جلبت "حكومة المصالحة الوطنية" بختيار للسلطة، عبر الاتفاق مع الخميني ايضاً، للجم ثورة الجماهير وتشكيل الحكومة التي منحت فيها حصة الاسلاميين كذلك.
لقد كان ضعف اليسار في ايران، هيمنة اليسار التقليدي الذي لايفكر بنيل السلطة السياسية والذي كان تاريخياً ملحق للتيارات القومية-الدينية دوماً، حائلاً دون تشكيل قيادة يسارية وشيوعية على مجمل المجتمع وعلى الحركة العمالية. ان هذه الاوضاع غير الملائمة داخلياً لم تتمكن، في خضم اوضاع الاتفاق الدولي، ان تصل للسلطة في ايران حكومة يسارية مثل حكومة الساندنستيين في نيكاراغوا. لقد اندفع التيار الاسلامي وخميني بدون ان يكون ثمة منافس يدَّعي السلطة السياسية. لقد جاء خميني ليقوم بانجاز العمل الذي عجز الشاه عن القيام به، اي لجم الثورة والحيلولة دون وقوع السلطة بيد الجماهير. ان سيناريو الغرب، الائتلاف امريكا والتيار الاسلامي، اسكات الجماهير واجهاض استمرار الثورة وانتفاضتها من اول مراحلها. ذهب الشاه وحل خميني ولم يستطيعوا ارسال الناس لبيوتها. لقد هبت الجماهير من اجل اطلاق سراح السجناء السياسيين، حرية العقيدة والتعبير وحرية التنظيم والتظاهر وقلب النظام كله. ان اليسار لم يكن مدعياً بالسلطة السياسية، ولهذا كان ضعيفاً، ولكن في الثورة كان قوياً واحد العناصر التي صاغت الثورة. لقد جرت الاوضاع الى الثورة والانتفاضة رغم كل السناريوهات والتلاعبات التي جرت من فوق الجماهير. لقد حطم السجناء بقواهم ابواب السجون، شنوا الحملات على ثكناته، عطلوا الماكنة العسكرية للنظام واطاحوا بحكومة بهلوي.
ان تنفيذ سياسة " الحيلولة دون الثورة" التي عجز الشاه عنها احيلت الى اؤلئك الذين حملوا الارث بعده، التيار الاسلامي وخميني على راسه. لم يتمكن التيار الاسلامي من لجم موجة ثورة الجماهير. لقد غيرت الثورة كل شيء. لقد احيل قمع الثورة، قمع مطاليبها، وهو العمل الذي لم يتمكن الشاه من القيام به، الى خميني. . ان مجمل الايام، الاسابيع، الاشهر والسنين الاولى لظهور وسلطة الجمهورية الاسلامية الايرانية، هي قصة قمع الثورة واسترداد مكاسب الجماهير من هذه الثورة.
لقد نالت الجماهير حرية العقيدة والتعبير، حرية التنظيم والاضراب، حرية النشاط الحزبي ومجمل الحريات في الايام الاولى للثورة وبعد الانتفاضة. ان سلب هذه المكاسب على ايدي التيار الاسلامي، نفسهم الحاكمين اليوم، قد جرى على حساب اراقة دماء مئات الالاف، اعتقال وتعذيب الملايين خلال مايقل عن عقد، وهزمت الثورة. لقد راحت اغلبية جيل الثورة ضحايا لها.. بيد ان الجيل اللاحق لثوريي 79 الذين ليس لديهم ذكريات عن هذه الثورة ولجوا الميدان لا من اجل احياء اهداف تلك الثورة، بل ابعد من هذا، وصول عالم افضل، الحرية والمساواة للسلطة.
ان الازمة السياسية والحكومية في ايران بعد 25 سنة من الثورة، تجنح في المطاف الاخير نحو تحديد مصيرها. من البين ان الاوضاع العالمية في سنوات الثورة كانت اكثر مناسبة، بيد ان وضعية اليسار وحضور قيادة شيوعية في الانقلاب الجاري، جعل الاوضاع اكثر مناسبة وملائمة من ثورة 79. ان الوضعية الداخلية المناسبة في ايران، اي وجود قطب شيوعي-عمالي حي ومستعد في الميدان، منظم ويدعي السلطة السياسية، ويعد نفسه لذلك بوسعه، على العكس، ان يغير هذه المرة الوضعية غير الملائمة عالمياً.
انقلاب كاركري:
مثلما وضحت ثريا شهابي، لم تحقق الثورة تلك المطاليب العادلة للعمال والجماهير الكادحة. ان الاوضاع، وعلى مجمل الاصعدة اسوأ مما هي عليه قبل الثورة. لماذا غدا الملالي الذي كانوا دوما مادة سخرية المجتمع قاطبة قائد سخط الجماهير وشكل الحكومة وغدا رئيس جمهورية ومسؤول سياسي؟ لماذا وافق مجتمع محتج وتحرري على هذه الجماعة المتخلفة والرجعية؟
كورش مدرسي:
لقد كان الملالي مادة للسخرية، بيد ان الاسلام السياسي كان موجوداً بوصفه تيار او تقليد احتجاجي رجعي في مجتمع ايران. كان محتوى هذا التقليد هو احتجاجه على عملية التحول الراسمالي، حضرية مجتمع ايران والنتائج المترتبة على ذلك. اود ان اقول ان هذا التقليد والميل موجودان في المجتمع. ضعيفان ولكنهما موجودان. لقد كان تنامي هذا التقليد وهيمنته النهائية على ثورة 79 حصيلة عوامل مختلفة.
اولها، وربما اهم العوامل، كان مكانة سائر التقاليد او الميول الاجتماعية، وبالاخص تقليد اليسار. لقد بلغت النزعة القومية المعتدلة او الاكثر ليبرالية في ايران (مثل الجبهة القومية) خاتمتها، بوصفها تيار او راية بوسعها جذب الجماهير نحوها. ان الاصلاحات الزراعية وسائر اصلاحات النزعة القومية الحاكمة الباحثة عن العظمة (نظام بهلوي) مضت ابعد، بدرجات، من تلك التي دعت اليها الجبهة القومية ومصدق ووعدت بها الجماهير. لقد سحب البساط ، من الناحية السياسية والاجتماعية، من تحت اقدامها. ان ما اطلق عليه يسار قد مثل في الواقع القسم الراديكالي من هذه النزعة القومية. تمثل انتقادهم للجبهة القومية بغياب النزعة القتالية والمناضلة. لم يكن اليسار، منظمة الفدائيين والمجاهدين وغيرهم، نفسه، في الحقيقة، سوى اقسام مقاتلة واصلاحية اكثر لنفس الجبهة القومية ونهضة الحرية. لقد كان يساراً "معادياً للامبريالية". ان "مناهضة الامبريالية"، اساساً هي راية احتجاج النزعة القومية المسماة بالليبرالية على النزعة القومية الايرانية الناشدة للعظمة لانها موالية للغرب وموالية للامبريالية.. ان مناهضة الامبريالية هذه في العالم الواقعي كانت تعني رفع راية الشرقية التي لايفصلها فاصل عن الاسلام والتقليد الاسلامي فحسب، بل على العكس، انها وفي مجابهة الثقافة الغربية تشترك في العديد من القيم الثقافية والاجتماعية الاسلامية. ومن الناحية السياسية، تعتبر نفسها احد عناصر التيارات الاسلامية. ان تتذكروا، ان ادراك حكم ان خميني رجعياً كانت عملية مرهقة لهذا اليسار و ادت الى انشقاقات كثيرة. وعليه، ان التيار الاسلامي ، ومن اجل تقدم الميدان والنمو السياسي، لم يجد اي منافس واقعي.
لم يكن مجتمع ايران دينياً. ولهذا، فان تحويل الاسلام الى تيار سائد سياسياً كان يستلزم عامل اخر، اي سياسة الدول الغربية. ان مجتمع يمر بتلاطمات ثورية كان يدفع دون شك بالطبقة العاملة للامام، وان هذه الوضعية الاجتماعية تجر اجلاً ام عاجلاً بيسار جديد للميدان. ان الدول الغربية وخوفا من نفوذ الاتحاد السوفيتي او انعطاف المجتمع نحو اليسار، امنت جلب الخميني، وبصورة لاينازعه احد، للجماهير وعرفته بوصفه قائد جماهير ايران.
واخيراً، ثمة عامل اخر الا وهو اعمال القتل والقمع التي بدات منذ 82. رغم كل هذا، لم يستطع النظام الاسلامي توحيد سلطته دون عمليات المجازر الرهيبة ودون استمرار الحرب العراقية الايرانية.
التتمة في العدد القادم....
ترجمة: ف. محمود