|
دكتور القرية
شاكر خصباك
الحوار المتمدن-العدد: 2483 - 2008 / 12 / 2 - 07:36
المحور:
الادب والفن
كان المطر يهطل بغزارة ، والرعد يقصف مدوّيا ، والبرق ينير لي الأزقة المظلمة الموحلة التي خبت ذبالات فوانيسها فلم تعد تنير غير زجاجها المحطم القذر . وكانت قدماي تغوصان في الأوحال فيتعذر عليّ السير . وأخيرا بلغت مسكن الدكتور . وكانت دار الدكتور قائمة في طرف القرية بجوار المستوصف الحكومي يحيط بها فضاء واسع يترامي على مدّ البصر . فكانت منعزلة عن بيوت قرية المحاويل كأنها تترفع عن مجاورة بيوت مبنية من الطين وهي المشيدة بالحجارة الصلدة . طرقت الباب بالمطرقة الحديد فلم يجبني أحد . فكررت الطرق حتى تناهى إلى سمعي صوت يهتف مغيظا : من أنت ؟ فهتفت : افتح لي الباب يا دكتور . وسمعت سيلا من اللعنات ثم فتح الباب وظهر الدكتور وهو يحمل مصباحاً زيتيا ينير المدخل . وما أن لمحني على ضوء مصباحه الخافت حتى قال في امتعاض : أدخل . خطوت إلى داخل المنزل وأنا أمسح عن ثيابي ما تجمع عليها من قطرات المطر . نظر إليّ الدكتور باستياء وتساءل بجفاف : ماذا تريد ؟ فقلت : توجد فتاة على فراش الموت وهي في حاجة إلى مساعدتك يا دكتور . فهل ستصحبني لنجدتها ؟ _أصحبك لنجدتها ؟ سأكون حمارا لو خرجت معك في مثل هذا الجو . _عفوا يا دكتور . أنت مجنّد لخدمة الإنسانية ولا يصح أن تتخلى عن واجبك المقدس في إنقاذ نفس مشرفة على الهلاك 0 -قلت لك لن أذهب . _لكن ذلك غير ممكن يا دكتور . فالفتاة .. قاطعني الدكتور في عصبية : الفتاة حمار 0 قلت مغيظا : ما هذا يا دكتور ؟! أكل شيء حمار في نظرك ؟ -نعم ، عندما يستثيرني حمار مثلك . وصمت لحظات ثم قال : لماذا وقفت هنا ولم تدخل الغرفة ؟! حمار ! تقدمني إلى باب على الجانب الأيسر من الرواق ودفعه ودخل أمامي فتبعته . وانتبذت مقعدا في ركن من الغرفة وجلس هو قبالتي وأشعل سيجارة وراح يدخن صامتا وكأنه نسي وجودي ! - أرجوك يا دكتور .. الأمر خطير . حرام عليك أن تترك للموت شابة في عزّ شبابها . - أهي شابة ؟ إني أعطف على الشابات . كانت لي بنت شابة وماتت . - إذن لا شك أنك ترأف بحالها . فلنذهب الآن فربما ماتت إذا تأخرنا . - إذا ماتت فالله يرحمها .. ولكن من قال إن موتها سيغيرّ في الأمر شيئا ؟ فالأمر سواء بالنسبة لأهالي هذه القرية الحقيرة أعاشوا أم ماتوا ! - بربك عجّل يا دكتور .. إنني تركتها في حالة خطيرة . - لا داعي للعجلة أيها الشاب . إذا كان مقدّرا لها أن تموت فستموت صحبتك أم لم أصحبك . ويجب أن ننتظر انقطاع المطر فلا يمكن التنقل في أزقّة القرية في هذا المطر اللعين . - وهل سنضيع الوقت هكذا إذن ؟ - لا , لن نضيع الوقت . سأروي لك قصة حياتي لتكون عبرة لك .وسأحكي لك كيف أصبحت دكتورا تتوقف حياة أهل المحاويل على براعته . واعلم أيها الشاب أنني ابتدأت عملي في مهنة الطب كمتدرب في مستوصف الحلة . ونبغت في عملي حتى أصبحت شخصا يشار إليه بالبنان . لا تيأس أيها الشاب إن أصابك الخذلان وشمّر عن ساعد الجدّ وخض غمار الحياة معتمدا على ذكائك . إن ذكاء الإنسان سلاحه الثمين في معركة الحياة . خذ من حاضري قدوة لك . فإن صبري واعتمادي على ذكائي أوصلاني إلى هذه المكانة المرموقة . وقد نلت لقب دكتور بجدارة يشهد لها الجميع . فأنا لا أمتنع عن معاجلة مريض مهما يكن مرضه معتمدا على القول المأثور " الحياة تجارب " . قاطعت الدكتور في توسل : إذا كنت تدرك واجبك فلماذا تتباطأ في الذهاب معي ؟ دكتور .. قد يكون الموت اختطف الفتاة الآن .. حاول أن تنجدها قبل أن يضيع الأمل . - لماذا تتعجل الأمور أيها الشاب ؟ ما زال أمامنا وقت كاف . وكما قلت لك إذا كان مقدرا لها أن تموت فستموت صحبتك أم لم أصحبك . لا تقلق ، فسأصحبك حالما ينقطع المطر .. ولكن تمهل فلعل المطر انقطع الآن . نهض الدكتور إلى النافذة المطلة على الطريق وأزاح الستارة عن الزجاج وألصق به أذنه يتسمع في انتباه . ثم فتحها ومدّ يدا مبسوطة في الفضاء وهز رأسه قائلا : أعتقد أن المطر انقطع . ثم التفت إليّ وأضاف : سأرتدي ملابسي وأرجع إليك فما زال عندي كلام كثير ويسرني أن أعثر على شاب يحسن الإصغاء مثلك . ما كاد الباب يغّيب الدكتور حتى تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئا ثقيلا عن كاهلي . ونهضت أذرع الغرفة وصدري يكاد ينفجر ضيقا . وانقضت دقائق ثم ظهر الدكتور وهو يحمل حقيبته الطبية . وهتف بي متعجلا : هيا أيها الشاب . غادرنا المنزل بخطى سريعة ، لكن الأوحال خففت من سرعتنا ، وإذا بنا نسير ببطء وأحدنا يمسك بيد الثاني ويسنده إن زلقت قدمه . والتفت إليّ الدكتور بعد حين وقال : أنت شاب وقوي أيها الفتى ومع ذلك تعجز عن مغالبة هذه الأوحال . فكيف بي أنا الذي قد أكون في سن أبيك ؟ لكنني على أية حال تعودت مصارعة الحياة في هذه القرية البائسة . ولا تسلني عن المتاعب التي عانيتها فيها . لا.لا. لن أحدثك عنها . كفاك علماً أنني أدير مستوصف القرية وحدي ، إلا إذا حسبت مساعدي الخائب إنساناً يعتمد عليه . وفي كل يوم يزور المستوصف أعداد كبيرة من القرويين تزدحم بهم البناية ولا ينفع معهم الطرد . ومهما صرخت وهددت فلن يؤثر فيهم ذلك . ولا أدري كم كان سيكون عددهم لو لم يكونوا يخشونني0 فهيبتي عظيمة عندهم ، والبعض منهم يقف أمامي وهو يرتعد خوفاً . لكنني على أية حال اتبعت طريقة مختصرة في فحص المرضى وإلا ما كان بمقدوري علاجهم . فما أن يقف المريض أمامي حتى أساله : " ماذا بك ؟ " فإذا أجابني : " عندي حمىّ يا دكتور " ناولته حبوب الأسبرين . وإن أجابني : " أكح يا دكتور " ناولته شرابا خاصا بالسعال . وأصارحك أيها الشاب أن مهنة الطب ليست صعبة لولا ان الناس هنا حمير لا يفهمون 0 غير أن أرباحها شحيحة 0 فالقليلون ممن أشفيهم يحضرون إلى بيتي هداياهم من الدجاج والبيض والخضر والفاكهة ، ونادراً ما حضروا لي خروفاً .. قاطعت الدكتور برفق: لكنك تعلم يا دكتور أن الفلاحين أناس فقراء مسحوقون وبالكاد يدبرون لقمة العيش 0 وأنت لست محتاجا لهداياهم فلك راتبك من الحكومة . فلوح الدكتور بذراعيه في الهواء محنقاً وهو يهتف : وهل تتصور أن راتب الحكومة يشُبع. وقبل أن يتم عبارته ترنح بشدة، وحاولت أن أسنده لكنني انزلقت معه وهوينا معاً في الوحل. فانطلق يسبّ ويشتم . فساعدته على النهوض ومسحت عن بدلته ما تراكم عليها من وحل . وتفقد حقيبته فإذا بها تطفو في وحل متجمع على بعد أمتار . التقط الحقيبة حانقاً وبصق أمامه وهو يدمدم : لعنة الله على المرضى والممرضين والدكاترة أجمعين . واصلنا المسير والدكتور يعرج عرجاً خفيفاً ، واستمسك بصمته وهو عابس الوجه . وسرني صمته وحسبت أنني قد تخلصت من ثرثرته . لكنه رمقني بعد حين متفحصاً وتساءل:مظهرك لا يبدو قرويا أيها الشاب . أليس كذلك ؟ -فعلا يا دكتور . _حمار ! ما الذي أتى بك إلى هذه القرية البائسة إذن ؟ - لي أقرباء هنا هم أهل الفتاة المريضة . وقد جئت أمضي معهم بعض الأيام ترويحاً عن النفس فوجدت فتاتهم مريضة جداً . وأخبروني أن طبيبها هو سيد محيسن 00 قاطعني الدكتور مغيظاً : تصور أن سيد محيسن هو منافسي في المحاويل .. تصور ! شخص جاهل لا يعرف من الأدوية سوى التعاويذ وأكياس الحرمل ينافسني ! ألم أقل لك إن أهل المحاويل حمير لا يفهمون ؟ قلت برفق : أعذرهم يا دكتور فأنت تعاملهم بشدة وهم يتهيبون لقاءك . _وماذا افعل لهم إذا كانوا حميراً ؟ الشدة ضرورية معهم وإلاّ فلت الزمام مني. -على كل حال كان لابد لي من الحضور إليك يا دكتور فلعلك تنقذ حياتها قبل فوات الأوان . _أحسنت صنعاً أيها الشاب في الاستعانة بي ، وسيتم شفاؤها على يدي إن شاء الله. وكنا قد اقتربنا من الدار فترامى إلى مسامعنا ضجيج بكاء وعويل ، فارتجفت خشية أن يكون المحضور قد وقع . والتفت إلى الدكتور فقرأ في نظراتي مخاوفي فقال في ثقة : اطمئن .. اطمئن . وبلغنا الدار فملا أسماعنا الصوات والنحيب . فالتفتّ إلى الدكتور وقلت غاضباً : إن خوفك من المطر وثرثرتك عن تجاربك قد ضيعا على الفتاة حياتها . فرمقني في استعلاء وقال: من يدري ؟ لعل قيمة هذه التجارب أنفع لك من حياة المرحومة. وعدا ذلك فكلنا للموت ولا ينفع طب إذا حضر الأجل .. البقية في حياتك .
#شاكر_خصباك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بداية النهاية
-
حياة قاسية
-
صراع
المزيد.....
-
احتلال فلسطين بمنظور -الزمن الطويل-.. عدنان منصر: صمود المقا
...
-
ما سبب إدمان البعض مشاهدة أفلام الرعب والإثارة؟.. ومن هم الم
...
-
بعد 7 سنوات من عرض الجزء الأخير.. -فضائي- يعود بفيلم -رومولو
...
-
-الملحد- يثير الجدل في مصر ومنتج الفيلم يؤكد عرضه بنهاية الش
...
-
رسميًا إلغاء مواد بالثانوية العامة النظام الجديد 2024-2025 .
...
-
مسرح -ماريينسكي- في بطرسبورغ يستضيف -أصداء بلاد فارس-
-
“الجامعات العراقية” معدلات القبول 2024 في العراق العلمي والأ
...
-
175 مدرس لتدريس اللغة الصينية في المدارس السعودية
-
عبر استهداف 6 آلاف موقع أثري.. هكذا تخطط إسرائيل لسلب الفلسط
...
-
-المُلحد-.. إبراهيم عيسى: الفيلم هو الدولة المدنية التي نداف
...
المزيد.....
-
في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
(مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
كتاب نظرة للامام مذكرات ج1
/ كاظم حسن سعيد
-
البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
صليب باخوس العاشق
/ ياسر يونس
-
الكل يصفق للسلطان
/ ياسر يونس
-
ليالي شهرزاد
/ ياسر يونس
-
ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير
/ ياسر يونس
-
زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي
/ ياسر يونس
-
رسالةإ لى امرأة
/ ياسر يونس
المزيد.....
|