يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 2472 - 2008 / 11 / 21 - 07:26
المحور:
الادب والفن
في مناسبة مرور مائة عام على عمر الفنون الجميلة في مصر، تقام الآن احتفالية ضخمة جُهز لها طويلا. أخذت حيزها الكبير في معرض ضخم توزع على قاعات قصر الفنون بساحة الأوبرا يضم أكثر من مائتي فنان ممن تخرجوا في الكلية ذات الاسم الجميل، إلى جانب كتالوج ضخم وفخم يعتبر مرجعا لتاريخ الفن في مصر, وسجلا لأسماء كثيرين من أبناء الكلية الراحلين والممارسين الأحياء ما يزالون.
معروف أن فن التصوير دخل إلى مصر مع الحملة الفرنسية عليها، حيث اصطحب نابليون معه, إلى جانب العلماء من كل نوع، مصورين ورسامين حفارين قاموا بتسجيل كل مظاهر الحياة، من طبيعة وعمارة وآثار وعادات ومناظر خلوية وأزقة ونبات وحيوان وحشرات... الخ، من شمال مصر إلى صعيدها. قبل ذلك، وخلال قرون الحقبة التركية وعصر المماليك، لم يتعد مفهوم الفن الحرفَ اليدوية وأشياء الزينة الوظيفية كالأواني والمشربيات... الخ. وكانت هذه الآثار والتقاليد الفنية الفرنسية هي ما شكلت أساس التذوق الفني لدى الأعيان والنخبة المثقفة في مصر فترة حكم الأسرة الملكية، إلى جانب النتاج الفني الأوروبي الذي كان يجلبه إلى مصر, كمقتنيات خاصة, أثرياء كمحمد محمود خليل وحرمه مثلا. وكان الأمير يوسف كمال أحد هؤلاء الشغوفين بجمع اللوحات والقطع الفنية واقتنائها، إلى جانب نواياه الشريفة ودعمه المادي لتطوير التعليم في مصر. فكان أن لاقت فكرة النحات الفرنسي لابلان إنشاء مدرسة للفنون حماسا في نفس الأمير, وأصبحت المدرسة واقعا في عام 1908 وترأس لابلان إدارة المدرسة. خلفه المصور الفرنسي جابرييل بيسيما في إدارتها. وأصبحت، بعد عامين من إنشائها، مؤسسة تشرف عليها وزارة المعارف العمومية. ثم تحولت فى عام 1928 إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة، حيث بدأ تمصير مديريها بتولي المصور المصري محمد ناجي منصب الرئيس مع أنه لم يكن من خريجي المدرسة، بل كان دارسا للقانون في فرنسا وفنانا عصاميا. خلفه المصور محمد حسن وكان أول مدير للمدرسة من خريجيها. ثم أصبح اسمها "الكلية الملكية للفنون الجميلة" حتى جاءت الثورة ومسحت كلمة "الملكية". ثم ضُمت في 1961 إلى وزارة التعليم العالي لتصبح أخيراً, منذ عام 1975 وحتى اليوم, واحدة من كليات جامعة حلوان.
أفرزت هذه المؤسسة منذ نشأتها وجوها مشرقة وكيانات ذات ثقل فني. لسنا بصدد الحصر هنا, ولكن نذكر أسماء كالمثال محمود مختار الذي كان من أوائل من تخرجوا فيها سنة 1911 وأحد أبرز من يُسمون بالجيل أو الرعيل الأول، وأيضا العظيمين حامد ندا المصور، وصبحي جرجس النحات، من الجيل الثاني. ولا أنسى، إن نسيت، اسما كرمسيس يونان مفكرا وشاعرا ورساما وثوريا منفيا قبل كل هذا. كما لا أنسى، على المستوى الإنساني، أسماءً احتككت بها شخصيا أثناء دراستي في فترة الثمانينات كزكريا الزيني وصبري منصور وحسن عبد الفتاح الذي لنا معه ذكريات حميمة في أحياء القاهرة الفاطمية نرسم مناظرها ونرتاد مقاهيها على شرفه وكرمه الغامر.
كأحد أبناء هذه الكلية، غير الجاحدين، رغم المنظومة الفكرية المتحجرة التي حكمت المدرسين وحكمتنا نحن كدارسين، والتي لا ينكر أحد المد الرجعي الذي طالها منذ قيام دولة العساكر في مصر الحديثة، والذي تسارعت خطواته في العقدين الأخيرين إلى الحضيض الحالي، أقول كأحد أبناء هذه الكلية وأحد المشاركين بعملي في هذا المعرض، أسمح لنفسي بالتأمل بصوت مرتفع قليلا, يرصد ويتساءل في اتجاه معاكس لغنائيات الاحتفال والكلام الرسمي والأكاديمي الذي تهرأ من التكرار والسخف لدرجة يحسب المرء أن الآذان التي لديها الصبر لسماعه لا تنتمي حقا للعصر ولا تدرك روحه، ناهيك عن الألسن التي تردده: هل هناك حقا "فنون جميلة" في مصر؟ وإن وجدت، فأين هي انعكاساتها في الواقع على شكل الشارع وشكل السلوك العام وشكل تصميمات الكتب وشكل مقدمات البرامج التليفزيونية وشكل اللبس وشكل الإعلانات التي يعمل في مجالها غالبا خريجو هذه المؤسسة الجميلة وشكل المنتوجات والمفردات التي تدخل كل البيوت ويتعامل معها الجميع وتؤثر في ذوقهم بلا شك، إلى شكل كلية الفنون نفسها التي تبرقشت بفساد الذوق في كل زواياها المتربة ولم تعد أبدا جميلة؟
لقد أذهلني المنظر، حين زرت الكلية لسبب ما في السنة الماضية. أذهلتني الكتابات الدينية على جدران المراسم والسلالم والردهات: أحاديث نبوية, من تحريم رسم كل ما روح فيه إلى عذاب القبر والثعبان الأقرع الذي سينهش في تارك الصلاة. أذهلتني اللحي المقرفة، والأحجبة التي غطت رؤوس كل الطالبات تقريبا، حتى خلتها إحدى كليات الأزهر! لمَ لا ينسبونها عمليا إلى جامعة الأزهر إذأ طالما بلغت هذا الحد، وطالما لا تعدم مدرسا هنا وعميدا هناك يفتون بتحريم النحت؟!
سيقول قائل إنها منظومة مجتمع ديس عليه بالحذاء. فأقول نعم هذا واضح حتى من عنوان دعوة الاحتفال: "تحت رعاية السيدة الفاضلة س... حرم سيادة رئيس الجمهورية ح..."، الناس تموت في طوابير الخبز تحت رعاية السيدة الفاضلة س، والمعدمون ساكنو العشوائيات يدكهم الجبل دكا تحت رعاية السيدة الفاضلة س، وأطفال الشوارع البلاأهل يموتون بالمخدرات جنب الكلاب وبالوعات المجاري الطافحة تحت رعاية السيدة الفاضلة س، ونخبة المليارديرات المقربون يتحكمون في المصائر ويذبحون بنات الناس تحت رعاية السيدة الفاضلة س، والشبان يغرقون في المراكب التي يهربون عليها من بلدهم بحثا عن لقمة العيش تحت رعاية السيدة الفاضلة س، وكل شيء، كل شيء فوق وتحت تراب مصر الحبيبة تحت رعاية السيدة الفاضلة س! لكن تبقى س السؤال معلقة تنتظر الجواب أو بالأحرى تنتظر الفعل. فإذا فقد الفن شرارته فما يبقى منه وما جدواه؟!
لا أستطيع ألا أتذكر هنا الحادثة أو الحدث الذي قام به الفنان الألماني العظيم يوزف بويز الذي كان أستاذا في أكاديمية الفن في دوسلدورف حين أخذ طلبته ودخلوا إلى أقسام الإدارة في الأكاديمية وطردوا الموظفين قائلين إن أكاديمية للفن يجب أن يديرها فنانون وليس بيروقراطيين. كما لا أنسى أستاذي في الأكاديمية نفسها، ميخائيل بوته، الذي علّمني من دون كلمة واحدة. هذه نماذج ومستويات لست أجهل أننا لن نصل إليها بين يوم وليلة، ولكني لا أطالب بأكثر من الخطوة الأولى من أجل انتشال هذه "الفنون الجميلة" من قبحها. وإذا كان ثمة احتفالية فلتكن البدء في إعادة النظر في نظام القبول في كليات الفنون ونظام التدريس أيضا. فالطالب يتم قبوله حسب مجموع الدرجات الحاصل عليها في الثانوية العامة، الأمر الذي لا علاقة له بالموهبة، والأدهى أنها فرصة ذهبية للكسالى لكي يحصلوا على شهادة جامعية من دون مجهود يذكر نظرا لانعدام أو قلة مواد الدراسة النظرية في هذه الكلية، في حين يحدث أن تستعصي الدراسة فيها على طالب موهوب حقا للسبب التنسيقي نفسه. وعودة إلى مثال الفنان الألماني المذكور - أي يوزف بويز، فقد فتح باب مرسمه في الأكاديمية المذكورة لأي راغب في الدراسة حتى لو كان زبالا فوق الخمسين. المعلومة ثابتة ويمكن التأكد منها.
يولد الفرد الموهوب، بحكم الطبيعة، بصوت داخلي يربطه بروح الوجود والأشياء. بمعنى ثان، فإن الفن يعتبر دينا شخصيا للفنان الحقيقي، يوجهه في رحلة الحياة ليصل إلى طريقه ويؤدي دوره. وبمعنى أخير فإن روح الفنان تنفر بطبيعتها من أية وصاية خارجية، أرضية كانت أم علوية. فكيف إذا استحكم الدين، وفي أكثر مظاهره الدخيلة عليه تخريفا وعبثية، على الحرم الفني؟ حين أنشئت مدرسة الفنون كانت الدراسة فيها على غرار البوزار الفرنسية، أي كان الطالب يقف أمام الموديل العاري ليتعلم من الجسد النسبَ والمقاييس التي أبدعها الخالق. في الخمسينات، بعد الثورة المصرية، انسحبت الملابس لتغطي النصف الأسفل من جسم الموديل ولم يُسمح بأكثر من رسم الصدر عاريا. ومع المد الديني الذي غمر المجتمع المصري في مطلع السبعينات، غاب الصدر تحت حشمة الملابس، حتى أصبحت الموديل اليوم محجبة، مجرد كتلة ورم أشبه بباذجانة تعيسة. وليس هذا فحسب، بل سمعت بأن بعض الطلبة، أي المفروض أنهم سيكونون فناني المستقبل، يفصلون رأس الموديل عن جسدها بخط لكي لا يتورطوا، دينيا، في رسم شيء فيه روح. لم أرد التأكد من كونها نكتة أم واقع لسخافتها، لكني أعرف أن النكتة مثل الدخان لا يخرج من غير نار. فكيف يمكن القول بعد هذا "الفنون الجميلة" بغير كراهة في الحلق؟
وتبقى سين السلطة وسين السؤال في حاجة إلى عين الفعل وجيم الجواب!
يوسف ليمود
النهار اللبنانية
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟