أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل صالح - الآثار الاجتماعية لمحنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 2/2















المزيد.....


الآثار الاجتماعية لمحنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 2/2


نبيل صالح

الحوار المتمدن-العدد: 759 - 2004 / 2 / 29 - 11:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من هنا نحن نعتقد أن القضية الملحة الآن هي قضية تحرير الذات والبنية الثقافية والحضارية العربية الإسلامية (انطلاقاً من الفرد ووصولاً إلى الدولة ككل) من علاقات النفي والنفي المتبادل إلى علاقات التكامل، من عدم الاعتراف بحق الأفراد في الاختلاف إلى قيام أوسع دائرة من الاعتراف بحق الاختلاف في الاجتماع العربي والإسلامي.
لكن هذا التحرير المطلوب للذات العربية والإسلامية لن يحصل أبداً من فوق، بل لابد من إعادة تربية أجيال هذا الأمة على الهدوء النفسي والأمن من الخوف، باعتبار أن هذه القيم هي الشرط الأول لسعادة الإنسان، ولنجاحه الدنيوي..
    لأن المجتمع الذي لا يأمن أفراده على آرائهم واعتقاداتهم وتعابيرهم المختلفة والمتعددة، وتكون حياتهم مقترنة بالاضطراب والقلق والإحباط واليأس، فإنه لا مجال أبداً عند ذلك لتحقيق ونيل السعادة الحقيقية والكمال الواقعي الفردي والمجتمعي لهم.. فالعدالة الاجتماعية هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تبعث الاطمئنان والهدوء إلى النفوس، وتهب الأشخاص الأمن والسكينة والاستقرار.. وهذا الأمر لا يتوفر إلا في ظل الدولة التي يسوسها القانون والعدالة، الدولة التي رسمت حدود اختصاصات المسؤولين والشعب فيها بموجب القوانين العادلة، والتي يكون المسؤولون فيها مطيعين للقانون، ومنفذين له قبل غيرهم، ويسلكون سبيل العدالة في أحكامهم، ولا يسمحون لأنفسهم بأقل انحراف أو تجاوز على حقوق الآخرين.. وهذا ما يؤكده أحد كبار المشتغلين بهمهم وشؤون التربية (محمد تقي فلسفي) في كتابه حول "الطفل بين التربية والوراثة" من خلال أن هناك ما قد يشعر به جميع الأفراد في داخل أنفسهم من هدوء وأمان، فلا وحشة ولا قلق، ولا ظلم يصيب المواطنين من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم.. حيث أنه في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح واطمئنان، ويستفيد من نتائجها المهمة.. أما الدولة التي يسيطر عليها الاستبداد والتعنت والقهر، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً، ويفقد الحق والإنصاف معناهما فيها.. فلا حرية هناك، بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم، وفي كل لحظة يمكن أن يسيء الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل كالحيوان المفترس عليهم، ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط.. فينهي بذلك حياتهم.. وهكذا فإن الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشقاء والحرمان، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم كبشر، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة.. في مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم.. ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم.
    والجدير ذكره هنا هو أن التزام وإطاعة الناس للقوانين والأنظمة في ظل الحرية والعدالة، تكون ناشئة من الشعور بالواجب وتحمل المسؤولية الكاملة، والميل للحصول على السعادة، أما في ظل الحكومة الاستبدادية التي يساس فيه الناس بالقوة والعنف والقسوة والقهر، فإن منشأ التزام الناس الظاهري بالأنظمة هو غريزة البقاء و حفظ الذات، لأنهم يعلمون أنهم عند ارتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جداً.. يقول مونتسكيو في كتابه (روح القوانين ص32): " تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الاستبدادي نوعاً من الإطاعة اللامحدودة. ولا يوجد في هذه الحكومات ما يتعرض للأوامر الصادرة من تغيير، أو إمهال، أو موعد، أو مفاوضات، أو انتقادات، أو وساطة".
    هذا وقد رفض الدين الإسلامي –كنص- الاستبداد بالمطلق –برغم كثرة الأمثلة والنماذج العملية المقدمة لنا من قبل الحركات الإسلامية الراهنة، والتي تدل على أن القمع ومصادرة الرأي الآخر وممارسة الوصاية والعقلية النخبوية هي المكونات الأيديولوجية النصية الأساسية الناظمة لعمل معظم ،إن لم نقل كل، تلك الحركات- باعتبار أنه جاء أساساً لإخراج الناس –كما تعبر نصوصه- من ظلمات الجور والاستبداد والكبت إلى نور الحرية والعدل في ظل الحكم الصالح، والمجتمع الصالح العادل.. كما ونظر الإسلام نظرة سلبية للظلم والظالمين.. وعرفهم للناس جميعاً على أساس أنهم أحقر الناس وشرهم في مقام الحكم الإلهي.. جاء عن النبي الكريم محمد(ص) أنه قال: "ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره، ويل لمن أطيع مخافة جوره، ويل لمن أكرم مخافة شره"[1].. وفي حديث آخر يقول: "ألا أن شرار أمتي: الذين يكرمون مخافة شرهم، ألا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني"[2].
    أمام كل ذلك نتساءل كيف يواجه المثقف العربي حالة العجز المطبق التي تعاني منها هذه الأمة المشتتة والمتفرقة الأهواء؟! ما هو موقفه من كل هذه الانتكاسات والهزائم المتلاحقة التي مرت (وتمر) الأمة بها.. وكيف يقرأ الأحداث التي تتسارع في محيط أوسع من العجز الأشمل والأقدم.. وأعني به العجز السياسي، والعجز الاقتصادي، والعجز في القدرة على إدارة الثروات، وإدارة المشروعات، وصنع وإدارة الحضارات[3]؟!..
    في الواقع تتجلى أهمية المثقف ودوره في كونه ضمير الأمة وعقلها الواعي وصاحب البصيرة النافذة والفعالة التي يفكر بها مع الأمة، ويشير من خلالها إلى مواطن الخلل والضعف القائمة في جسم الأمة.
    ولذلك فإن الدور المنوط بالمثقف حالياً هو الاستمرار في التركيز على "الجانب النقدي العملي"[4]، ومن ثم المساهمة الفاعلة في تكوين وصياغة أسس ومقومات بناء الكتلة النوعية العربية المؤثرة التي أشرنا إليها سابقاً، إذ أن إصلاح الأمة بالوسائل والأدوات الموجودة معنا، والرهان على الأفراد القائمين عليها حالياً لم يعد يجدي نفعاً على الإطلاق..
    فهذه النظم وتلك الحكومات أصبحت شبه معدومة التأثير، وقد كان من الممكن لنا أن نعذرها، أو أن يكون المرء متسامحاً معها –بالرغم من عجزها السياسي والعسكري عن مجابهة القوى الكبرى التي تمتلك آلة عسكرية نوعية قوية ومدمرة- لو كانت تلك الحكومات قد نجحت في تحديث الأمة وتطويرها، وإنهاضها من غفوتها، تماماً كما فعلت حكومات مجتمعات كثيرة أخرى كانت أكثر تخلفاً من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولا تمتلك ما نملكه نحن من الطاقات والموارد والثروات الطبيعية الهائلة.. ولكنها استطاعت –بالرغم من كل ذلك- قطع أشواط طويلة وبعيدة على طريق الاقتدار والتمكن الاقتصادي والاستقلال السياسي، أو على الأقل المنافسة أو الشراكة السياسية على قدم من المساواة في الكرامة والاحترام المتبادل، والندية السياسية والاقتصادية، وان لم يكن في الحجم أو الثقل أو الغنى أو القوة.
    وأما في حالتنا العربية الإسلامية فإننا نرى العجب العجاب إذ أننا من أغنى دول وحضارات العالم في الثروات الطبيعية والإمكانات البشرية التي سببت لنا كثرتها في سبعينيات القرن الماضي أزمة حقيقية حيث أننا كنا نبحث عن أفضل الطرق وأحسن وأيسر السبل لتوظيف واستثمار تلك الطاقات بشكل يلاحق سرعة تكدسها وتراكمها، وإذا هي تتلاشى وتتبخر في أقل من عشرين عاماً كما تتبخر ماء البحيرات، وتترك مكانها عجزاً كبيراً في ميزانيات دول النفط نفسها التي أصبحت عاجزة مالياً، وموازينها التجارية خاسرة إجمالاً!!.ولعل هذا –كما قال أحد الكتّاب- هو أكبر عملية إهدار للثروة القومية الشاملة لمجتمع على وجه الأرض وعبر التاريخ كله.. ولا حياة لمن ينادي، ولا أحد يراقب، أو يحاسب.
   ولذلك لو كان عندنا "حياة سياسية صحيحة" ، ما كنا وصلنا إلى هذا الوضع الكارثي الذي نعاني فيه –كما أسلفنا- غياباً للقدرة على منع الاستبداد، ودوراناً مفرغاً للتاريخ السياسي العربي حول أزماته وتعقيداته.. والحياة السياسية الصحيحة والحقيقية التي أعنيها هي –بالعنوان الأولي- إعادة السياسة إلى حضن المجتمع (أي أن تصل الحكومات إلى السلطة والحكم بقوة الانتخاب الحر والنزيه والقانون العادل ومعايير الكفاءة وخدمة الناس والمجتمع، وليس بقوة القهر والقمع والمعتقلات) وإدخال الشعوب العربية والإسلامية في صلب العملية التنموية الشاملة، ونزع القيود عن مشاركتها الفاعلة في الحركة الوطنية العامة، والتعامل معها كأفراد يحتاجون إلى الاحترام والتقدير والكرامة والعزة، والشعور بالحرية والثقة بالنفس.. وفي تصوري طالما أن الآخر الغربي –وغير الغربي- يرى (ويتأكد عملياً في كل يوم) أن الحكومات العربية لا تحترم شعوبها -وتعاملهم بقسوة وشدة وكأنهم أعداء لها من خلال تدعيم العقلية الأحادية الاختزالية، وتركيز النظرة الأمنية دائماً- فإنها لن تتردد لحظة واحدة في زيادة الضغط على هذه الدول والحكومات، ورفع سقف التنازلات أمامها بهدف حصد المزيد من المكاسب والمصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.
    من هنا –وطالما أن المحن والمصائب لا تزال تتدافع وتتوارد علينا من هنا وهناك (توارد وتدافع الأكلة على القصعة)، وقد عجز الجميع عن مواجهتها بأضعف الإيمان- فإن الواجب يقتضي منا أن نجعل منها وسيلة فعالة لتعرية وفضح الإستراتيجيات الحقيقية والمصالح المتبادلة لكل من الاستبداد الداخلي[5]والاستعمار الخارجي.. حيث أن كل دعوة وطنية مفصولة عن الحرية خداع, وكل دعوة للتعددية السياسية الحقيقية مفصولة عن التضامن الإنساني بين الجماعات والبشر كذب قراح.. فلا وطنية –كما يؤكد برهان غليون- من دون مواطنين أحرار، ولا ديمقراطية (وتعددية حقيقية مضمونة) من دون علاقات دولية متكافئة.
    وبالنظر إلى ذلك يمكننا أن نقرر هنا بأن المستقبل الثقافي والسياسي والاجتماعي للعرب والمسلمين في هذا العصر سيتحدد من خلال طبيعة الشروط النفسية والعملية التي ستتمتع بها الكتلة الشعبية الحيوية المغيّرة في داخل عالمنا العربي والإسلامي لاحقاً، وبخاصة ما يتعلق منها بالإرادة المستقبلية الحركية لشعوب هذه المنطقة القادرة على مواجهة عوامل تخلفها الداخلية أولاً التي أنتجت مناخات الاستبداد المقيت حيث أنه من المعروف للجميع أن الاستبداد لا يسود في أي مجتمع إلا في حالة تخلف البنى السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية لهذا المجتمع (التي تعتبر أساس استعداد الناس لتقبل واقع الاستبداد، واتخاذ موقف سلبي من مقاومته) والتي تتمظهر من خلال سيادة العلاقات والأنماط السلوكية البدائية بين الناس – كالعلاقات القبلية والعشائرية والطائفية التي حاربتها بقوة الأديان السماوية ومنها ديننا الإسلامي الحنيف- وقابلية الناس للخضوع لإرادة النخب والقادة والزعماء، وغياب مفهوم الحق المرتبط بالواجب، والحرية المرتبطة بالاختيار والمسؤولية الواعية، وسيادة مفاهيم خطأ عن مفاهيم التوكل والانتظار والقناعة والرضى، وو.. الخ، يلجأ إليها الناس لرفع المظالم عنهم عندما تشتد مظالم المستبدين والطغاة، بدلاً من الفهم الصحيح للقول المأثور "اعقلها وتوكل" أو الفهم الصحيح لمدلول الآية ]إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[ أي الاعتماد الحركي –التوكلي –لا التواكلي- الفاعل على الله تعالى.. وبحيث يتجسد –هذا التوكل العملي- من خلال قيام الإنسان بالحركة والعمل الأساسي الأولي وهو فعل وحركة مقاومة فكر ونظام وثقافة الاستبداد نفسها.
    من هنا نقول بأنه إذا ما استطاعت تلك الكتلة أن تخوض معركة التحرير في الداخل على مستوى إنتاج سلطة شرعية قادرة على امتلاك زمام ذاتها، والتصرف بحرية واختيار دون وجود موانع قمع واستبداد، بالاستناد على آلية العمل التعددي السياسي، والاعتراف بالآخر، ومن ثم العمل على بناء علاقات عربية وإسلامية تكاملية في كل المجالات، فإن الأمة عند ذلك ستكون قد وضعت نفسها على بداية الطريق الصحيح المؤدي إلى أن تتحرك بإرادتها هي على طريق النهوض الحضاري من خلال ما تمتلكه من قوى وإمكانيات منظورة وغير منظورة..
    ونعود هنا مجدداً للتأكيد على أن امتلاك الأمة لقوى وقدرات كامنة في داخلها تؤهلها للعب أدوار حضارية وإنسانية قوية متعددة في عالم اليوم والغد هو أمر غير كاف على الإطلاق، حيث أن كل الأمم تمتلك قوى كامنة غير منظورة في داخلها جسمها الحضاري، بل إنه يحتاج إلى إعادة بناء الكتلة البشرية النوعية والحيوية الجديدة التي ذكرناها آنفاً.. كتلة تستطيع تحويل القوى الكامنة الهائلة التي تمتلكها الأمة    –والتي بدأت تخبو قليلاً قليلاً نتيجة لسوء استخدامها وإدارتها من قبل النخب السياسية الحاكمة- إلى قوة حقيقية على أرض الواقع.. وهذا هو برأيي سر وجود وقوة وامتداد أية حضارة على وجه الأرض منذ فجر الخليقة وحتى نهاية الوجود.. وأنا أريد أن أضرب لكم مثلاً  بسيطاً هنا على المستوى السياسي النظري(1)، وهو أن الأمة التي تريد أن تكون فاعلة ومؤثرة في العالم المعاصر لا بد أن تكون بحوزتها أوراق رابحة تلعب بها عند الأزمات والتحولات الخطيرة التي قد تمر بها (وهي كثيرة ولاشك على صعيدنا العربي والإسلامي).. هذه الأوراق هي التمثلات الواقعية والأدوات العملية لتلك القوى الكامنة التي يجب تحريكها هنا وهناك لدرء المخاطر، ومواجهة التحديات بعقل هادئ، ورؤية واضحة، وشفافية كاملة (بين قوى الكتلة ذاتها). 
   والوقت –كما نعلم جميعاً- يمضي مسرعاًَ، وهو ليس في مصلحة المتخاذلين والقاعدين والمتقاعسين.. وحتى الآن ليس معلوماً متى سينطلق العرب والمسلمون بجدية شاملة نحو الإصلاح الكلي الشامل المرتكز على الهوية المتجددة لا الجامدة والمقولبة، والوعي التاريخي بعالم اليوم والغد (يعني الانتماء للحاضر والمستقبل وليس البقاء في كهوف ومجاهل الماضي)، وتعميق الحس النقدي المستمر كثابت في الفكر والواقع، وذلك  قبل فوات الأوان، وقبل أن يواجهوا أوضاعاً أكثر سوءاً من الأوضاع السيئة والمزرية التي يعيشونها حالياً قد يتعرضوا من خلالها لخطر تصفية ما تبقي مما يمكن أن نسميه تجاوزاً "أمة عربية" أو "نظاماً عربياًً".
    ونختم قائلين ومؤكدين على أن الإنسان هو القاعدة الأساس في عملية الإصلاح والتغيير والتطور نحو مواقع أرقى في الفكر والعمل، ومنطلق ذلك هو بناء النفس الإنسانية التي ستتغير –في ضوء طبيعة هذا التغيير الداخلي- كل الأدوار والأوضاع والعلائق والروابط الاجتماعية التي هي بمثابة البناء والتأسيس الخارجي للذات الداخلية الكامنة.. فالإنسان هو أساس الوجود، وهو صانع التاريخ، ولذلك فإن تمتعه بقوى العقل والإرادة والاختيار يترتب عليه بناء الخارج.. وهذا ما يمكن أن نراه من تجارب إنسانية متعددة في مختلف المواقع والتي تمثل الروح الجماعية (حيث أن الأفراد يتفاعلون فيما بينهم –عند انخراطهم واندماجهم في الهيئة الاجتماعية العامة التي يمثلها المجتمع في مؤسساته وهيئاته ومختلف مواقعه- كوجودات حقيقية من جهة الأفكار والمشاعر والأحاسيس والحاجات والمصالح المتبادلة) التي تُنتج إرادة عامة مشتركة تقع عليها –تبعاً لذلك- مسؤولية النهوض المجتمعي الحضاري.
 
المهندس: نبيل علي صالح
باحث وكاتب
e-mail: [email protected]
 
 


[1]  الكافي للكليني، ج 2|327.
 
[2] سفينة البحار للمجلسي، ص: 695.
 
[3] وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة وتحديداً في توصيف المأزق الفعلي الراهن الذي نعانيه، فإنه يمكننا محورته في الأمور التالية:
غياب أو تغييب الثقافة النقدية الحقيقية (المضادة للاستبداد بكل أشكاله وصوره) التي يمكن بمقدورها خلق مجال سياسي وفضاء اجتماعي عام مضاد للاستبداد.
ضمور الوعي الاجتماعي العام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصور ومفاهيم وحقائق الاستبداد.
انعدام (أو تلاشي) القدرة على تمييز الاستبداد، والتنبه لمختلف أشكال حضوره المخفية على الساحة الاجتماعية.
فقدان الإرادة السياسية والكتلة الجماعية (البشرية النوعية) المؤثرة التي لا تهدف بالدرجة الأولى إلى قلب نظام الحكم أو استلام السلطة، بل إلى تغيير أرضية وقواعد العمل السياسي نفسه، وإلى تكوين تاريخ سياسي جديد تتفتح فيه كل ألوان الحياة، وتجف فيه كل منابع الاستبداد.
كل ذلك أدى –كتشخيص نهائي لأزمتنا المقيمة– إلى مسخ هوية الإنسان، ووجوده، وتدمير الأخلاق والفضيلة، وقتل العلم، وخنق الإبداع.
 
[4]  لقد مارس النص المقدس (القرآن الكريم) عملية النقد بأجلى معانيها وصورها عندما دعى المسلمين إلى ضرورة أن يكونوا منصفين وموضوعيين في حوارهم مع الآخرين، وفي نقل أحاديث الآخرين عن القرآن والمسلمين.. يقول تعالى: "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً".. والقرآن هنا ينقل الكلمة نفسها التي يستخدمها أعداء الدين في وصفهم لكلام الله بأنه من الأساطير، ولا يخاف على أتباعه من الانحراف، حيث أن خطورة أن تقدم فكر الآخر لجمهورك –الذي تتنوع أفكاره ومشاربه وطاقاته الفكرية- هي خطورة تصل إلى حد أنك قد تصنع الشك لدى جمهورك في ما هم عليه من مفاهيم وقيم وأفكار.. لأنك فقط تريد أن تنقل إليهم –بكل أمانة– فكر الآخر بالعنصر الحاد فيه لكي تثقف جمهورك (الذي تريد له أن يؤمن بطروحاتك) بالفكر الآخر حتى الفكر الذي يتحدى مفاهيم وطروحات القرآن، وذلك من أجل أن يشارك هذا الجمهور في نقد هذا الفكر، ومن خلال ذلك تكون مسألة النقد واقعية ومؤثرة لأنها لم تطلق من الأعلى، بل من القواعد والجماهير التي تتابع مع النخب النقد وترعاه وتوفر له أجواء النجاح لأنها تشارك في تحقيقه وصنعه.   
[5]  لا يمكن فضح وتعرية أسس الاستبداد من دون معرفة عوامل ومظاهر استمراريته التي يلجأ المستبدون إلى الحفاظ عليها وإعادة إنتاجها في مجتمعاتنا.. وهي:
1-  العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسريّة، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها الأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في مختلف أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي.
2-  التضييق على مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يفترض أن تكون مستقلة عن منظمات السلطات القائمة. والعمل على استبدالها بعلاقات مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة.
3-  تمييع وتغييب (أو إلغاء) القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الطوارئ الذي يفسد من لم يفسد بعد، وبخاصة إفساد الجهاز القضائي العادي.
 
(1) يقابل هذا المثل النظري الإيجابي مثل آخر سلبي لا نزال نعايشه حتى الآن وهو أزمات العراق المتلاحقة.. حيث لم يستطع العرب والمسلمون –على مدى أكثر من اثنتي عشرة سنة انقضت منذ انتهاء حرب الخليج الثانية في العام 1991م– فعل شيء يذكر لحل أزمتهم واستيعاب العراق، أو تغيير مساره في الداخل والخارج معاً.. لقد منعهم من ذلك انشقاقاتهم وخصوماتهم التي لا تنتهي، وضبابية أهدافهم، وانعدام قدرتهم على تكوين إرادة جماعية مستقلة ومؤثرة.. وهم يريدون اليوم أن يفعلوا –لحل أزمة العراق الحالية التي هي أزمة لعوم النظام العربي– كل شيء في زمن لم يعد ممكناً فيه فعل أي شيء.. بل هاهي الكارثة تحل عليهم، وتنذر بعواقب وخيمة ستشارك الأجيال القادمة في دفع أثمانها من دون أن يكون لها أي دور في صناعة أحداثها سلباً أو إيجاباً.
 



#نبيل_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بالفيديو.. منصات عبرية تنشر لقطات لاشتباكات طاحنة بين الجيش ...
- Rolls-Royce تخطط لتطوير مفاعلات نووية فضائية صغيرة الحجم
- -القاتل الصامت-.. عوامل الخطر وكيفية الوقاية
- -المغذيات الهوائية-.. مصادر غذائية من نوع آخر!
- إعلام ألماني يكشف عن خرق أمني خطير استهدف حاملة طائرات بريطا ...
- ترامب يدرس تعيين ريتشارد غرينيل مبعوثا أمريكيا خاصا لأوكراني ...
- مقتل مدير مستشفى و6 عاملين في غارة إسرائيلية على بعلبك
- أوستن يتوقع انخراط قوات كورية شمالية في حرب أوكرانيا قريبا
- بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
- بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل صالح - الآثار الاجتماعية لمحنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 2/2