أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - مات آشي !*















المزيد.....

مات آشي !*


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 2461 - 2008 / 11 / 10 - 07:39
المحور: الادب والفن
    



خرج سلام من داره في صباح مكفهر الوجه ، تغطي سماءه سحب رمادية اللون ، تجر بأذيالها على الأرض مع الذاهبين الى أعمالهم في الساعات الأول من ذلك الصباح المعتم ، وعلى عادته توجه الى مرأب سيارته المشاد من الخشب ، والواقف مع مرائب أخرى في صف مستقيم أمام العمارة التي يسكن فيها ، ولكنه بدلا من أن يدس مفتاح ذاك المرأب في المكان المعد له من الباب صاح بصوت مسموع :
- تهانينا !
كان جاره السويدي ، سفين ، يقف أمام باب مرأب سيارته الذي يقع في أول الصف ذاك ، ولكن من بدايته الأخرى ، وكان سلام يهدف من إطلاق كلمة : تهانينا تلك الى استفزاز جاره ، سفين ، الأبيض ، وذلك بمناسبة انتخاب الرئيس الأمريكي الأسود ، أوباما ، ولهذا كان ينتظر منه ردا ، أو استفسارا عن مغزى الكلمة تلك ، ولكن جاره لم ينبس ببنت شفة أبدا ، وبدلا من ذلك تقدم نحو سلام بخطى مثقلة ، وبرأس مطأطأ نحو الأرض ، وبوجه يسيل منه حزن قاتل .
- مات آشي !
- متى ؟
- أمس ِ في المستشفى في مدينة هالمستاد .
- لماذا لم تدخله في مستشفى مدينتا ، فهو قريب عليك ، وأنت تعلم أن مدينة هالمستاد تبعد عنا مسافة ليست بالقصيرة ؟
- المستشفى هناك مستشفى تخصصي ، وهذا هو السبب الذي جعلني أن أحمله الى تلك المدينة البعيدة بعد أن أكل الطريق ثلاث ساعات من وقتي .
- كم عمره ؟
- ثماني سنوات .
كان سلام قد سمع كلمة الثماني على أنها ثمانون سنة ، فلا فرق كثيرا في تلفظ كلمة ثماني باللغة السويدية وكلمة الثمانين ، خاصة وأن سفين قد نطقها بصوت تخنقه العبرات ، ويعتصره ألم ممض ، ومع ذلك فقد وجد أن آشي قد مات بعد عمر مديد طويل ، ولا بد أن السرطان كان سبب موته ذاك .
- مات بالسرطان ؟
- نعم . بالسرطان ! قال سفين ذلك ، وهو يهز رأسه تعبيرا عن أسف يجتاح كيانه كله ، ولا يستطيع معه منع دموعه التي سالت على خديه ، وانحدر فيض منها على ملابسه ، وهذا ما حمله على إخراج منديله ليزيح بقاياها عن وجهه .
- لماذا أنت حزين الى هذا الحد ؟ تساءل سلام وأضاف : كلنا نموت ! كل شيء ظهر من هذه الأرض سيعود الى هذه الأرض . قال ذلك وهو يشير بيده الى مسافة الأرض التي تفصل بينهما ، وهما يتحادثان وقوفا.
- نعم . لقد أكل السرطان كبده ، ثم انتشر في أنحاء جسده الأخرى ، ولهذا قال لي الطيب المختص لا شفاء يرجى من وراء حالته المميتة تلك .
- لكنه كبير السن ، وبلغ من العمر ثمانين سنة ، فماذا ينتظر الطبيب منه بعد هذا العمر ؟
- لا . أنا لم أقل ثمانين عفوا ، قلت : ثماني سنوات فقط !
أخذ سلام العجب ، فهو لم يعرف ولدا صغيرا لجاره سفين بعمر ثماني سنوات ، كل ما يعرفه عنه أن له ولدين متزوجين ولديه أحفاد من كل واحد منهم ، وهما يسكنان في مدينتين أخريين من مدن السويد ، فهل كان آشي واحدا من هؤلاء الأحفاد ؟ تساءل سلام مع نفسه ، ثم عاد من جديد ليتساءل ثانية : هل مات آشي بالسرطان ، مثلما يدعي سفين ، مع أن مرض السرطان قليلا ما يصيب الصغار في السن ؟ لكنه بعد ذلك أراد أن يقف على ما ينوي سفين فعله بعد هذه الفجيعة التي حلت به ، وهو الرجل الذي ما كان ليحدثه هذا الحديث الطويل لولا تلك الفجيعة التي نزلت به ، فقد اعتاد هو أن يبادل سلام التحية من بعيد ، وهو ذاهب الى داره ، وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الى سلام حديثا استغرق وقتا طويلا بعد مرور أكثر من سبع عشرة سنة متواصلة من الجيرة .
- أين ستدفنه ؟
- يعز علي دفنه ، فقد كان يملأ الشقة حركة ، وها أنا الآن عدت أراها فارغة تماما ، رغم أن كل مكان منها لا زالت يذكرني به ، فقد كان يخرج من غرفة فيها ليدخل غيرها من الغرف ، ثم يعود ليطوف حولي كثيرا ، ويجلس بالقرب مني أحيانا ، وطالما تناول قطع من الأكل معي ، وحين نفرغ منه يرمي عينيه الجميلتين على وجهي بنظرة طويلة ، وفي إشارة منه يدعوني بها الى الخروج من الشقة ، والقيام بطوافنا المعتاد حول البحيرة ، وبين أشجار الغابة القريبة من دارنا .
- وا حسرتي عليها ! لقد مرت كل تلك الساعات سريعا ، وها هي قد عادت ذكريات تعصر القلب مني ، وتجعلني أغرق في بحار عميقة من الحزن ، تتقاذفني فيها أمواج نيران الحسرات المتصلة ، وتيارات الألم المستمر ، ومن دون أدنى شعور مني صرت أردد مع نفسي : أين أصبحت - يا آشي - مني ! ؟ عدت بعدك غريبا ، لم أجد غيرك رفيق نزهة تأخذنا الى شفق أحمر من شمس يتراءى فوق خط الأفق البعيد ، ونحن نحث الخطى حول البحيرة حين يملأها الماء صيفا ، أو حين تعود ثلجا شتاءً ، وساعتها كنا نعبر على ظهرها دونما خوف ووجل ، مختصرين طريق العودة الى البيت .
- تماسك أيها الرجل ! لقد مات لك واحد بينما يموت لنا المئات كل يوم ، هناك في طرقات مدن العراق ، وفي عمليات قتل أعمى تحصد الأرواح في كل دقيقة تمر ، حتى صارت الناس في بلدي تسمي ساعات الزمن بأسماء من قتلوا فيها ظلما وعدوانا في حرب ليست لها نهاية على ما يبدو .
- نعم . لقد رأيت تلك المجاز الفظيعة ، شاهدت كيف ترمى جثث القتلى عندكم في الطرقات وبوحشية قل نظيرها في التاريخ ، والمحزن بعد ذلك هو أنني أرى صبية يرقصون حول تلك الجثث ببنادقهم ، إنه أمر مخيف في أن يتسافل الأنسان الى هذه الدرجة من الانحطاط في الأخلاق والتصرف.
- ليس هذا فقط - يا سفين - ! ربما رأيت كيف يقتل الجوع عندنا الناس ، ربما رأيتهم يطوفون على أماكن النفايات ، يفتشون فيها عن كسرة خبز ، هذا في وقت لا يخلو سوق عندكم من رفوف تحمل على متونها ما لذ وطاب من طعام خصص لكلابكم وقططكم !
- أمر يبعث على الأسف والحزن . قال سفين ذلك ثم خطرت في عقله صورة آشي من جديد !
- لكنك لم تقل لي ما أنت فاعل بآشي !
- ربما لا تعلم أنت بوجود مقبرة في كل مدينة في السويد مخصصة لدفن الحيوانات التي تعيش معنا في البيوت ، تحاط بالرعاية الدائم ، وتزهو بالشجر والورود ، ولكن دفن آشي في تلك المقبرة ، وبعيدا عني يحز في نفسي ، فأنا لا استطيع فراقه حتى بعد موته ، فقد كان كلبا ودودا ، محبا لي ، ومطيعا في الوقت نفسه !
- هل تريد حرقه على طريقة أجدادكم القراصنة ، أو على عادة البوذيين من الهنود ؟
- نعم . هذا ما سأقوم به ، وقد دفعت لعملية الحرق هذه ألفين من الكرونات ، مثلما دفعت ألفا ثالثة للعلبة التي ستواري بقاياه فيها ، وبعد ذلك ستحمل لي تلك العلبة الزجاجية لأضعها في مكان ما من شقتي ، مكان يسمح لي بمشاهدة بقايا آشي كل ساعة وكل يوم ، فثق أنني حزين عليه غاية الحزن ، رغم أنني اشتريت كلبا بعمر شهرين من شركة تبيع كلابا من ذات فصيلة آشي ، ومن مدينة لوند الجنوبية ، وقد دفعت ثمانية آلاف كرونة ثمنا له ، كما أنني وقعت عقدا مع صاحب الشركة قدم لي فيه ضمانا بسلامته وصحته لمدة سنتين كاملتين . هذا بالإضافة الى ما قدم لي من شهادات تطعيم صادرة من المراكز الصحية المختصة !
عند ذاك الحد من الحديث ودع سلام جاره السويدي ، سفين ، بحرارة ، داعيا له بالصبر والسلوان الجميلين ، ولكنه كان يردد مع نفسه : من للبشر هناك !؟ من للبشر هناك !؟
= = = = = = = = = = = =
* قصة قصيرة



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السود سيسودون في العالم !
- ورطة يا صولاغ !
- جنون شاعرة*
- الدولة في خدمة الطبقة الرأسمالية
- بعد حرب الطوائف حرب العشائر !
- مقهى البوهة وحلزونية أزمات الرأسمالية !
- وحي الكلمات*
- يحرمون الغزو الثقافي ولا يحرمون الغزو العسكري !
- حين باع ملا صباح بقرته !
- متى يفهم العربي ما يقوله الأعجمي ! ؟
- النخيب ما بين عرب العراق وموالي أمريكا !
- ما يجمع أوسيتيا الجنوبية بكركوك الشمالية
- الأحزاب الكردية ترفع شعار البعث: من ليس معنا فهو ضدنا !
- الوزير ملا خضير يطلق النار على الطلاب
- مشاريع ذي قار
- احتجاج الموتى* !
- علموا أولادكم الخط والنط والشط !
- سطور عن أصوات نساء العراق العالية
- واقع التعليم في العراق والوزير ملا خضير
- ريكس الكلب الذي شمّ الحكومة*


المزيد.....




- تصوير 4 أفلام عن أعضاء فرقة The Beatles البريطانية الشهيرة ...
- ياسمين صبري توقف مقاضاة محمد رمضان وتقبل اعتذاره
- ثبت تردد قناة MBC دراما مصر الان.. أحلى أفلام ومسلسلات عيد ا ...
- لمحبي الأفلام المصرية..ثبت تردد قناة روتانا سينما على النايل ...
- ظهور بيت أبيض جديد في الولايات المتحدة (صور)
- رحيل الممثل الأمريكي فال كيلمر المعروف بأدواره في -توب غن- و ...
- فيديو سقوط نوال الزغبي على المسرح وفستانها وإطلالتها يثير تف ...
- رحيل أسطورة هوليوود فال كيلمر
- فيديو سقوط نوال الزغبي على المسرح وفستانها وإطلالتها يثير تف ...
- - كذبة أبريل-.. تركي آل الشيخ يثير تفاعلا واسعا بمنشور وفيدي ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - مات آشي !*