أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نمر سعدي - كلمات في وداع أجمل الفرسان محمود درويش















المزيد.....

كلمات في وداع أجمل الفرسان محمود درويش


نمر سعدي

الحوار المتمدن-العدد: 2458 - 2008 / 11 / 7 - 08:12
المحور: الادب والفن
    



رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش حالة عصيَّةٌ في غاية إلتباس العاطفة والشعور ومكاشفة النفس .. ومشهدٌ هوميريٌّ صعبُ الوصف والتصديق .
حتى أنَّ قلوبنا نحن العرب قد تحوَّلت في مساءِ التاسع من آب في ظلال السبتِ المشئوم إلى فراشاتٍ مائيةٍ عطاش يطاردها سيف شهريار في فضاءٍ سحيق .
أو إلى أيدٍ بلورِّيةٍ تبحثُ في الظلامِ عن خيطٍ من النورِ ليرفعها من جحيمِ المأساة .
لم نرِد نحن العرب العاطفيون تصديق ذاكَ النبأ الجلل .
كنَّا نتشبَّثُ بالسرابِ والوهمِ ونهربُ من مجرَّدِ فكرةِ تصديقِ رحيل أجملِ الفرسان العرب وأنبلهم عشقاً .
موت درويش لا يُصدَّق هكذا وبكلِّ بساطةٍ... ذلك أنهُ كان ممَّن صبغوا حياتنا على مدى نصف قرن بألوان الطيف وبقزحِ البهجة والأملِ والجمال ومقاومة الألم والتمردِّ على الظلمِ وعلى تسلِّطِ الغير .
شخصياً عندما صدمني خبر رحيلهِ طفقتُ على وجهي في الظلامِ واستسلمتُ لبحرٍ من الدمع الحبيس وأطلقتُ لهُ العنان . في تلكَ الليلةِ القاسيةِ القلبِ .
قلتُ لعلُّ آخرَ محمود ماتَ وليسَ أناهُ .قلتُ كلاماً خفيَّاً كثيراً ..كبيراً كحقلِ الضباب. كنتُ أستلُّ روحي التي ناوشتها الذئاب .
وأصبغُ ليلي بحنَّاءِ امرأةٍ فينيقيةٍ . أو كنعانيةٍ تليق بأجملِ أبناءِ جلعادَ الذي عادَ إلى أحضانِ أمهِ فلسطين .

لا شيءَ في درويش ينازعني إليهِ اليومَ أكثرَ من ضوءِ وحنينِ صوتهِ .
لصوتهِ بعدٌ جمالي رمزيٌّ رهيب . لا أستطيعُ الصمود أمام تموُّجاتهِ وإغراءاتهِ اللامحدودة الأنغامِ . أحياناً يخيَّلُ لي أنني أصغي إلى روعةِ المزامير . الغرابة أن كل جلال وجمال شعر محمود درويش لا يشدُّني بنفسِ القدرِ كما يفعلُ صوتهُ وحركات يديهِ الملوكيَّتين الباذختي الفضةِ .
بعد هذا الرحيلِ الباذخِ الحزن لن أنحاز إلى محمود السياسي البارع أو الوطنيِّ العنيد الذي كسرَ جبروت الحكم العسري وقسوة سياستهِ وهو بعدُ في عمرِ الوردِ وليونةِ الياسمين ونصاعةِ القمر .

لن أنحاز إلى محمود درويش الرمز الثقافي الفلسطيني والعربي بقدر ما سأنحاز لمحمود العاشق والشاعر المرهف الذي فهمَ سرَّ المعادلة الذكيَّة بين الشاعر والمتلَّقي... الشاعر الذي رفعَ سقفَ الشعر العربي إلى أعلى من زرقِ النجوم في الليالي المخمليةِ . والوحيدِ منذ جدِّهِ الأكبر - أحمد بن الحسين المتنبي – الذي أعاد للشعر هيبته المنهوبة وخلعَ عليهِ رداءَ الأسطورة المسلوب.
فالأساطير بعيدةٌ عنَّ نحن العرب وهيَ لا تخلقُ في التاريخِ الإنساني كلَّ يومٍ أو كلَّ شهرٍ .. فمنذُ المتنبي ونحنُ في حالة انتظارٍ طالَ أمدها لأسطورةٍ أبطأت سيرها حتى منَّ التاريخُ علينا بها أخيراً وكانت أسطورةً عصيَّةً جامحةً وعنيدةً ولا تسلِّمُّ نفسها بسهولةٍ للزمانِ الغشومِ . ولكنَّها حينَ ترحلُ . ترحلُ بفداحةٍ عاليةٍ وخسرانٍ مبين .

تُرى هل تركَ لنا الشاعر بعضَ كلامٍ وتعابير ومفرداتٍ وصياغات ومجازات لم تستعملَ على يديه .. وما زالت عذراوات بكر تستحٌّ بأن نودِّعهُ بها .. لا أظنُّ ذلك .. رثاء درويش هو رثاء للغةِ العالية .. للجمالِ المحضِ.. للبهاءِ الخالص.
ماذا يفيدُ صراخنا وعويلنا النائمَ الجميلَ في حضرةِ الغياب ؟!
هل يستَّلهُ تفجُّعنا من بينِ الحوريَّات اللواتي يهدهدنَ روحه الشفيفة الآن على ضفة الفراديس البيضاءْ ؟!

آهِ كم عرفنا عند رحيلهِ كم كنَّ بحاجةٍ إلى البكاء .. كما لو أنَّ الدمع جاءَ ليطهِّرنا أو ربمَّا ليعمِّدنا من خطايانا ... كم عرفنا ما لا يمكن أن نعرف من سرِّ الأبديةِ الغافي في جذوعِ سنديانِ الجليلْ .
نحنُ بعد انهيارِ هذا الصرحِ الشعريِّ العظيمِ علينا أصبحنا كائناتٍ أكثر احتفاءاً بالنور والماءِ .. وأقوى على تحمِّل لسعاتِ الجمال والحبْ والندى الفجريِّ .
أصبحنا أخفَّ من فراشات الجليل وأرقَّ من عبقِ هوائهِ بعدما انهارت علنا آخرُ ناطحةِ سحابٍ عملاقةٍ من أقحوانٍ وقرنفلٍ وسفرجلٍ ورياحينَ وأغصانِ مرجانَ ونوارس ضائعةٍ ملوَّنةٍ ومهاجرةٍ إلى بحرٍ خفيٍّ وزرقةٍ غامضةٍ .
رحلَ نشيدنا الحافي وأجملُ مزاميرنا العذريَّةُ .. رحل سادن وجعنا الجليليُّ وأحلى شباب أمنَّا فلسطين . رحلَ مستعجلاً وقبلَ أن يودَّعنا بقبلةٍ وأن ينتصرَ بقصيدتهِ . رحلَ مدجَّجاً بعذابهِ الخاصِّ وبشوقهِ لخبزِ أمّهِ وقهوتها الصباحيَّةِ. وبشعرِ الألم ولسعةِ الندمْ .

في خضمِّ حزني المشتعل عليهِ لا أستطيع الكلام .. أنا فقط أستلُّ الحروف استلالاً ممَّا لم ينغلق بعد من فجوةِ البابِ الذي انغلقَ على مرحلةٍ لن تتكررَّ في نظري أبداً . ولن يجود حتى ألفُ زمانٍ أندلسيِّ بمثلها .

وسيشهدُ تاريخُ الغدِ أنَّ محمود درويش كانَ مشروعاً شعرياً استثنائياً قلَّ نظيرهُ أو إنعدمَ . لا في العصرِ الحديثِ فحسب . ولا في اللغةِ العربيةِ وحدها . بل في كلِّ العصورِ الإنسانيةِ وآدابها الأخرى .
وهو يُعدُّ في نظري – من غيرِ مغالاةٍ – أحد أعظمِ عشرة شعراءٍ كونيين على مرِّ التاريخِ البشريِّ . منذ هوميروس وفرجيل حتى بودلير وبابلو نيرودا ولوركا مروراً بدانتي وشكسبير والمتنبي والمعريِّ . أو ثاني أعظم شاعرٍ في العربيةِ بعد المتنبي ولا أريد أن أضمَّ له سوى دواوينه التي بدأها بورد أقلَّ وهي مرحلته الشعرية الأخيرة
التي إمتدَّت إلى أكثر من عشرينَ عاماً رغم إعجابي بأغلبِ شعرهِ ونثرهِ .
يليق بكلِّ شعراءِ العربية والعالمِ أن ينحنوا إجلالاً لشاعرٍ أعطى حلمه كلَّ شيءٍ يملكهُ . وبذلَ أقصى طاقتهِ ليرتفع بالشعر العربي إلى أعلى قمةٍ تعبيريةٍ مجازيةٍ تصويريةٍ . ومكاشفةٍ للذاتِ الإنسانية بلغها منذ إمرئ القيس حتى الآن .
سيمرُّ دهرٌ حتى نكتشفَ الخلل بصورة عمليةٍ ملموسةٍ . عندها سنعرفُ كم من المعايير الجمالية ومقاييس الذائقة الأصيلة قد انهار وأصبحَ هباءً برحيلهِ .
وسنعرفُ أيضاً كم اُستنزفَ من الجمال والروعةِ والسحرِ البكر في الكلام المائل إلى جرح الشمس الزرقاءْ .. الذي كانَ ينثرهُ درويش على آمالنا وآلامنا فننتفضُّ بكلِّ نبضِ الأرضِ في دمنا .

تسألنا أحلامنا في الليلِ والنهارِ .. أينَ هو الآن ؟؟ أين طفلُ الندى والأقحوان ؟
أينَ ملاكنا الشريد الطريد ؟؟! كيفَ ترجلَّ عن حصانِ النشيدْ ؟! أينَ هو الآنَ ؟
ألم يخجلْ من دمعِ أمِّهِ ؟؟؟!
كأنمَّا طار محمودُ كالعنقاءِ إلى غيرِ رجعةْ .


2008-08-21



#نمر_سعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلُّ هذا البهاءِ المراوغِ حريَّتي ليسَ لي
- عذابات وضَّاح آخر
- خطىً لظباءِ القوافي على القلبِ
- قصائد مختارة من ديوان أوتوبيا أنثى الملاك
- كأني سوايْ
- إنفلاتُ هوميروس العرب إلى الأزرقِ الورديّْ
- محمود درويش.... أقربُ من زهرِ اللوز
- ماركيز ويوسا : رحمةً بنا
- مهزلة - أمير الشعراء - المُبكية
- كأنَّ الوردَ يهذي
- رؤى يوحنَّا الجَليلي
- حسين مهنَّا : علاقةٌ متجددَّة مع مسمَّيات الجمال
- قصائد من الجليل/ مختارات
- ونجمي في السماءِ تشي جيفارا
- حالات اندهاش
- لن أقُلْ ..آهِ كلاَّ
- في الشارعِ الخامسِ
- كلامٌ أخيرٌ إلى ويليام والاس
- محاولةٌ أخرى لفهمكِ
- إفعلْ ما الذي يُغويكْ


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نمر سعدي - كلمات في وداع أجمل الفرسان محمود درويش