|
الشاعر والملك العجيب
عمر الكبيسي
الحوار المتمدن-العدد: 2451 - 2008 / 10 / 31 - 04:29
المحور:
الادب والفن
من هو الجواهري في مواجهة الحاكم؟ أهو الذي كتب اكثر من 48 قصيدة في مديح ملوك وحاكمين بينها تسع قصائد في مديح الملك فيصل الأول؟ أم هو الذي وقف وسط جمهور الوثبة ليحرضهم على تقحم رصاص الحاكمين والذي وقف أمام الحاكمين لـ«يغري الوليد بشتمهم والحاجبا» والذي عاش نصف عمره الإبداعي في المنفى بسبب موقفه من الحاكم ملكيا كان أم جمهورياً؟ إن الأمر أكثر تعقيداً من وضع الجواهري في واحدة من الخانتين: مداح الحاكمين، أم المحرض عليهم؟ ثقافتان متعارضتان من الصعب تحديد الموقف، في ضوء القطيعة الحالية بين المثقف والحاكم، لأن الجواهري الذي عاش قرننا الحالي من بدايته حتى نهايته، ينتمي أيضاً لعصور أقدم، وتكونت مثله الثقافية السياسية من ثقافتين متعارضتين، فمن جهة نشأ الجواهري مع بدايات تكون الحركة القومية العربية في مرحلة الدستور العثماني والتحرك الذي شارك فيه سادة النجف لتأسيس كيان عراقي مستقل عن الإمبراطورية العثمانية. وعاش الجواهري ثورة العشرين، واصعب مراحلها حصار النجف، وتفتح على مثال أحد أبطالها محمد سعيد الحبوبي الذي جمع الحس الديني المتفتح وحس الجمال وحس الحرية، فإضافة لكونه من الفقهاء المجددين في علوم الدين كان شاعراً رقيقاً ومجدداً عرف بغزلياته الرقيقة: كاد سري فيك أن ينهتكا يا غزال الكرخ وا وجدي عليك وغرامي في هواك احتنكا هذه الصهباءُ والكأسُ لديك فلذيذ العيش أن نشتركا فاعطني كأسا وخذ كأسا إليك وفوق كل ذلك كان الحبوبي بطلا شعبيا قاد نضالا مسلحا ضد احتلالين (العثماني والإنكليزي) واستشهد على محراب صلاته في (معركة الشعيبة). كان هذا الرجل للجواهري ما كانه غيفارا لجيل الستينات. وبعد وفاة والده تفتح الجواهري، وهو في رعاية أخيه عبد العزيز، على مفاهيم الإصلاح الديني والحركة الدستورية (المشروطة) تحت تأثيرات الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده. أي أنه عاش الثورات الثلاث التي طبعت بداية القرن: القومية العربية، وثورة العشرين التحررية والثورة الدستورية وتكونت منها مثل شبابه. ومقابل كل هذه الثورات ورث الجواهري كل تقاليد شعر المديح الكلاسيكي العربي (من زهير بن أبي سلمى والحطيئة وبشار مرورا بأبي تمام و المتنبي والبحتري) حيث كان مديح الملوك والحكام مصدر الرزق الوحيد للشاعر، ووسيلته للوصول الى الناس وكسب الشهرة والجاه. والجواهري بجانب ذلك ابن التقاليد الأدبية النجفية حيث تكون القصيدة أو المقطوعة هدية الشاعر للصديق عند زواجه، أو ولادة طفل، أو بناء بيت، ووسيلته لتوديع مسافر أو الترحيب به عائدا، وهي وسيلة العزاء إذا أصاب الآخر مكروه. والشعر هو القيمة التبادلية التي يقدمها الشاعر لرد الجميل للآخر إذا أحسن إليه. ولذلك يستغرب الجواهري حين يلام لأنه مدح ملكا (ماذا يريدوني أن افعل حين يكرمني البلد بشخص أعلى رجل فيه، بماذا يمكنني رد الجميل بغير القصيدة). ثقافتان متعارضتان تصارعتا داخل الجواهري في مجتمع لم يشهد فترة استقرار تتكامل فيها شخصيته وقيمه. وكان الجواهري نتاجا لهذا التناقض ومتناقضا بحكم تكوينه الشخصي. وقد كان أمام الجواهري في امتداده للماضي مثلان: المعري والمتنبي. ينظر إلى المعري كمثال للشاعر الذي رفع نفسه عن الدنيا وشهواتها ومنافعها العاجلة وأنكر الملوك والأمراء وزهد في التقرب إليهم والدنو منهم: وذهنه ورفوف تحمل الكتبا على الحصير وكوز الماء يرفده ورغم امتداح الجواهري وتعظيمه للمعري كمثال أخلاقي، إلا ان مثاله الحقيقي هو المتنبي: بين المتنبي والجواهري ثلاثة عشر قرنا، والجواهري يكبر المتنبي بحوالي الأربعين عاما، ولكن عناصر التقارب بينهما مدهشة: كلاهما عراقي ومن مدينة واحدة (الجواهري من النجف والمتنبي من الكوفة التي تبعد خمسة أميال فقط عنها وتقع المدينتان على ذات الحدبة من الأرض التي توصل الصحراء الممتدة الى نجد بالرقعة الزراعية الخصبة التي تجاور الفرات). وربما كان الموقع بين طبيعتين متعارضتين (صحراء نجد وبساتين الفرات) وراء المزاج الحاد المتقلب والمتطرف الذي يجمع الإثنين. الفقر باعتباره رذيلة وليس فضيلة طارد الاثنين فوالد المتنبي كان سقاء في الكوفة لم يرد له أي ذكر في قصائد المتنبي رغم آن أعداء المتنبي هجوه به: عاش حينا يبيع في الكوفة الماء وحينا يبيع ماء المحيا مثل المتنبي نشأ الجواهري في بيت يزداد فقرا (حيث وصل الأمر بنا ان نبيع أثاث بيتنا تباعا: السجاد، الثريا، السرجة... وبقينا على الحصيرة كما كنا قبل ذلك)، وعاش والد الجواهري ومات معتمدا على معونات يقدمها أحد أصدقائه. وتزداد وطأة الفقر كذل في المجتمع الملائي النجفي الذي تلعب فيه المظاهر والوجاهة دورا في رسم الشخصية على المستوى الاجتماعي.. من هنا جاءت كراهية الأغنياء والحاكمين ومن هنا أيضا تأتي الرغبة في التقرب منهم للحصول على الثروة والجاه. كلاهما تغرب عن بيئته بسبب اعتقاده، فقد تغرب المتنبي بسبب اعتقاداته القرمطية، وبقي قرمطيا في داخله رغم تقربه من الحكام والملوك وبقي الجواهري قريبا من اليسار رغم تقربه من الملوك والحكام والإقطاعيين. ومع ذلك عاش أكثر من نصف حياته الإبداعية منفيا عن وطنه بسبب موقفه من طبقة الحاكمين. والأهم من ذ لك هو أن السلطة كانت شاغل الاثنين.. وهنا بالتحديد يستذكر الجواهري المتنبي في موقفين، كلاهما يتعلق بعلاقته مع الملك فيصل: (ويا للعجب فكم من مرة يعيد التاريخ نفسه، فلقد خلقت مثل المتنبي العظيم أمامي وأنا في موقفي هذا). وعنصر التشابه يكمن في سعي الاثنين للمشاركة في السلطة من خلال الحاكم (سيف الدولة وفيصل الأول). الشاعر والملك عناصر التشابه بين الموقفين هنا بالذات ليست وليدة الصدفة أو (الأقدار) كما يعتقد الجواهري، إنما ترتبط بسياق تاريخي في علاقة الشاعر بالحاكم. ولنتذكر أن نشأة الشعر، منذ بدايات الحياة الجاهلية ارتبطت بتقاليد الكهانة والسحر حيث ينشد الشاعر أو يستنشد الاله لنصرة القبيلة في حروبها ويمتدح سادتها وفرسانها ويتوعد الأعداء بالهزيمة والسبي ويرثي قتلى القبيلة متوعدا بالثار لهم. لذلك كان الشاعر هو اللسان الجمعي لقبيلته حيث يسود الاعتقاد بقدرة الكلمة على التحول إلى فعل وحقيقة ملموسة. ولطموح الشاعر في الحكم امتداد تأريخي، فلنتذكر أن حاكم القبيلة لم يكن بالضرورة أقوى رجل فيها، بل الأكثر حكمة وقدرة على حل الإشكاليات بالإقناع، أي بسلطة كلمته الروحية على أفراد القبيلة.. ومن هنا تبدأ علاقة الشاعر بالحاكم، فهو مثل ساحر القبيلة أو كاهنها إما نديم الملك أو خصمه، حيث تتكامل أو تتعارض السلطة الأدواتية للحاكم والسلطة الروحية لكلمة الشاعر. وطوال العصر الجاهلي كانت بلاطات الغساسنة والمناذرة تموج بالشعراء، الذين يتوافدون من كل القبائل لتقديم ولاء المديح للملوك، وحرص الملوك على إحاطة أنفسهم بخيرة الشعراء وتنافسوا في إغداق المنح والهدايا عليهم حتى أصبح مديح الملوك في أواخر العصر الجاهلي حرفة خالصة على يد الأعشى والنابغة الذبياني الذي تجول في طول الجزيرة وعرضها ولم يترك ملكا إلا ومدحه. وقد احتاج الشاعر إلى الحاكم كمصدر رزق يعتاش منه على شعره حيث كرس زهير قصائده لمديح الحارث بن عوف وهَرِم بن سنان والحطيئة لعلقمة بن زلالة والبزِّرقان بن بدر والوليد والأخطل ليزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان وجرير للحجاج والفرزدق لسليمان بن عبد الملك وأبو نواس للأمين والبحتري للمتوكل... ومقابل ذلك كان خروج الشاعر عن الملك مثيرا للغضب بسبب تأثيره على ولاء القبيلة لحاكمها. وكان هجاء الشعراء لسادة قبائلهم شائعا كما المديح، مثل هجاء حصن ابن حذيفه وزراره بن عدس وعبد الله بن حذيفه بسبب ظلم الحاكم أو مكافأته للشاعر. ورغم الحرص على الفصل بين سحر الشعر ودعوة النبي محمد إلى الإسلام (انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين)، رغم ذلك فقد اعترف الإسلام منذ بداياته بأهمية الشعر ومفعوله حتى إن النبي قال لحسان بن ثابت حين طلب منه هجاء القرشيين (لشعرك أشد عليهم من النبل). وستختلف وتتزايد أهمية الشاعر خلال العصر الإسلامي. ففي بدايته كان الصحابة في أول الأمر أمراء وعلماء يملكون سلطة الأدوات وسلطة المعرفة كونهم يشرعون الحكم ويحكمون بالشرع، ثم حصل خلاف حول الحكم فاستبد الأمراء بالأمر وبالسلطة وتمسك العلماء بالعقيدة. الفقهاء انتموا إلى الرعية وراحوا يستقطبون الجمهور والرعية بواسطة الكلمة ضد استبداد الحاكم، وظهر المثقف كمشرع ومعترض ومبشر بمشروع لكشف الحقيقة، شجاع ومثير فتن. وقد استمر الصراع بين المثقف والحاكم لكون كل واحد منهما يملك جزء ا من سلطة على المجموع، فالحاكم يملك وسائل الإرغام المادية لفرض سلطته على رعيته، مقابل ذلك يملك المثقف السلطة الروحية للكلمة التي قد تبرر مشروعية الحاكم أو تنقضها أمام المجموع. لذلك ازدادت أهمية الشاعر كمداح ومسوق للحاكم في مواجهة خصومه و بين رعيته لأن وسائل الإرغام المادية لا تكفي لفرض سلطته على المجموع ولابد من وجود داعية مؤثر يبرر هذه السلطة. والشعر، الذي هو ديوان العرب، مؤثر على العامة اكثر من فقه الفقيه والفيلسوف الذي يتجه بكلمته إلى النخبة. وقد عرف الشاعر مفعول هذه السلطة (سلطة الكلمة)، فاللقاء المباشر مع الجمهور يجعل الشاعر اكثر تحسسا لسلطة كلمته على المجموع بما تملكه القصيدة من وزن وتفعيلة ومجازات مؤثرة على الجمهور المستمع، واعترافا بالشعر تزايدت لقاءات الشعراء بالناس وببعضهم في المهرجانات الدورية التي تعقد في أسواق مثل عكاظ والمربد. ولكن الشاعر الذي لا يمتلك أدوات القهر التي تتيح له إزاحة الحاكم بالكلمة وحدها سيطمح إلى الشراكة. وترينا سيرة المتنبي الذي بدا قرمطياً معارضاً للحكم كيف انتقل في النهاية إلى محاولة التأثير من خلال مشاركة الحاكم وبمنحة منه لتوليه مقاطعة، وكيف بدا ساعيا لإصلاح المجتمع ثم انتهى ساعيا لصلاح حاله من خلال الحاكم. وبمقدار حاجة المتنبي لسيف الدولة احتاج سيف الدولة إلى المتنبي. كان يأخذ شاعره معه إلى معاركه ضد الروم كمحرض ووصاف لصولاته الجهادية: سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه سحاب من العقبان يزحف تحتها واحتاجه لهجاء خصومه في العراق ومصر وقد تكاثروا بتكاثر الصراعات الداخلية في الإمبراطورية الإسلامية في القرن الرابع، واحتاجه لامتداحه كحاكم حازم في مواجهة الرعية البدوية المتمردة على سلطانه، كما احتاجه نديما في جلسات اللهو والترف في أوقات السلم النادرة، واحتاجه معزيا بسلسلة الكوارث التي حلت به ومنها رحيل شقيقته: فكيف ليل فتى الفتيان في حلب أرى العراق طويل الليل مذ نعيت خلال السنوات التسع التي عاشها المتنبي في كنف سيف الدولة انقطع له كليا فلم يقل شعرا لسواه من الأمراء و ولم ينظم عن أي موضوع آخر خلافا لسابقيه ومجايليه من الشعراء المادحين. كان سيف الدولة، أميرا أو مجاهدا أو إنسانا، هو موضوعه الوحيد. كتب له اكثر من ثمانين قصيدة ومقطوعة من اجمل الشعر تشكل بمجموعها سجلا لعلاقة الأمير بالشاعر.
عقدة السلطة 2/4
وكما هو الأمر مع المتنبي نشأ الجواهري منذ طفولته وسط عقدة السلطة وإحساس والده بالضيم الشديد لأنه لم يصبح زعيم الأسرة الجواهرية، ومنذ بدايات شبابه بدأ طموح الجواهري للمشاركة السياسية في الدولة الحديثة. ولم يكن هذا طموح الجواهري وحده، فقد كان الحصول على منصب كبير بالدولة حلما راود الكثير من مثقفي ذلك العهد. وفي مذكراته (ذاكرة عراقية الجزء الثاني ص31) يصف روفائيل بطي طموحات الجيل الذي نشأ بعد ثورة العشرين والذي تعلم في المدارس العلمانية: «الصفة البارزة على هذا الجيش وان أكثرهم من المتعلمين قد تلقفتهم دوائر الدولة حالما تخرجوا من مدارسهم، وذلك لكون الدولة في طور النشوء تحتاج إلى جماعات من الموظفين وانعدام الأعمال الحرة والمؤسسات الاقتصادية». وكان هذا المنصب هو الطعم الذي يقدمه السياسيون المحترفون لجذب المتعلمين الى الأحزاب كما كان طعم السلطة والاحتلال للتخفيف من غلواء المثقفين المعارضين. ورغم الفتاوى التي أصدرها علماء النجف بتحريم العمل في الحكومة، فإن جيلاً من المثقفين الشيعة،الذين تفتح وعيهم على حركة الإصلاح الدينية (المشروطية) والذين ضاقوا بالجو الديني المغلق في النجف، سعوا للحصول على فرصة للمشاركة السياسية في بغداد. ولكن طموح هذا الجيل يصطدم بالريبة الطائفية التي يقابلهم بها المركز. وكان المثقفون الشيعة يقارنون حصتهم في السلطة بحصة الأكراد الذين يشكلون 17 بالمائة من السكان ويشغلون 22 بالمائة من المناصب الحكومية العليا، في حين أن الشيعة الذين يمثلون أكثرية السكان يحتلون 15 بالمئة فقط من هذه المناصب: حنا بطاطو). وكان الملك فيصل الأول يواجه ازدواجية حادة في موقفه من الشيعة، وبالتحديد علماء الدين في النجف. فهو يحتاج لإسنادهم في الصراع بين الأسرة الهاشمية وآل سعود. ومن جهة أخرى يريد كسر سلطتهم على العشائر. وقد أراد حل هذه الازدواجية بحجز عدد من المناصب للشيعة. ولكن هذه المناصب شكلية، فمجلس الأعيان الذي حجزت رئاسته للشيعة كان شكليا لأن أعضاءه ورئاسته يعينون من قبل الحكومة ويحل المجلس بحل الوزارة، ومنصب وزير التعليم حجز للشيعة كمدخل لكسر هيبة المدارس الدينية في النجف ولجذب الجيل الجديد من الشيعة إلى مدارس الدولة العلمانية، ولكن هذا المنصب كان شكليا لأن منصب مدير التربية العام الذي يشغله القومي السني ساطع الحصري هو الذي يتحكم بالمناهج التربوية وتعيين المعلمين. وقد كان الجواهري ضحية الصدام الطائفي داخل هذه الوزارة حين رفض ساطع الحصري طلبه للتعيين كمدرس ثانوية بسبب كونه شيعي. وقد شكل هذا الرفض عقدة لازمت الجواهري الهارب من طائفته الشيعية والرافض للفتاوى التي تحرم العمل في الحكومة، وقد لازمت هذه العقدة الجواهري حتى آخر أيامه، إحساسا ملازما بالضيم كما هو الأمر مع المتنبي، يتقرب من الحكم ويكرهه في دخيلته. رغم ذلك لم ينطفئ أمل الجواهري بالمشاركة السياسية، بل زاد حدة وعنادا. وشفيعه في هذا الطموح العنيد القصائد التي نشرها وهو ما يزال في النجف (الملك والانتداب والمهداة للملك فيصل (حول في علماء النجف) وسجين قبرص عن والد لملك) تذكيراً بوجوده وبرغبته للتقرب من البلاط. وقد اعتقد الجواهري انه مؤهل لموقع كبير، لأن أناسا مثل عبد الوهاب مرجان (شيعي من الحله) شكل الوزارة مرتين. لكن المثال الأكثر تواضعا والأقرب للممكن هو وزير المعارف علي الشرقي، لأنه يجمع الخصال الثلاث التي توفرت للجواهري: شاعر يعرف كيف يستجيب لمتطلبات الحاضر، معمم ولكن لا يتبع المرجعية الشيعية وثالثا كونه ابن نفس مدينة النجف ويمت للعائلة بصلة نسب. وزاد طموحه عنادا بعد الضجة الطائفية التي أثيرت بسبب رفض تعيينه معلماً. داعية الملك وبمقدار حاجة الجواهري إلى الملك كمدخل للشراكة احتاج الملك للجواهري الإنسان والشاعر لتبرير مشروعية حكمه. فالملك القادم من الجزيرة ثم دمشق كان يفتقر إلى جذور ملكية في التربة العراقية الصعبة وقد واجه أولاً المشكلة الطائفية العريقة في بلد حكامه من السنة ومعظم مواطنيه من الشيعة. وقد حرص الملك على جذب بعض العناصر الشيعية إلى البلاط أو قريبا منه، مثل باقرالحسني (البلاطي) الذي كان من سدنة مرقد الإمام موسى الكاظم، ومحمد الصدر الذي ترأس مجلس الأعيان، ورستم حيدر العلوي السوري لإبعاد الصفة الطائفية عن الحكم. واحتاج الجواهري بالاسم لإطفاء الضجة الطائفية التي أعقبت رفض تعيينه معلماً واستقالة الوزير بسبب هذا التمييز. ولكن الجواهري لم يكن مجرد عمامة لتزيين البلاط، إنما سيكون للملك صلة وصل وأداة هجوم تبعا للموقف الرسمي المتناقض من الشيعة: فكون الجواهري ينتمي لواحدة من أكبر الأسر الدينية النجفية يرشحه لأن يكون وسيطا بين الملك وعلماء الشيعة، لذلك أرسله قبل زيارة النجف مبعوثا للعلماء وأخذه معه في زيارته الحساسة للنجف في أعقاب نفي عدد من العلماء الشيعة. ومن الجانب المعاكس كان الجواهري مطلوباً كمثقف شيعي متنور لمواجهة الحرب الطائفية التي يشنها علماء الشيعة على الملك والدولة. وقد كان الجواهري في البلاط حين نشر قصيدته (الرجعيون) مهاجما رجال الدين الشيعة الذين أثاروا ضجة بسبب فتح مدرسة للبنات في النجف: إذا لم تقصر عمرها الصدمات ستبقى طويلا هذه الأزمات ومرتكب حفت به الشبهات تحكم باسم الدين كل مذمم إلى غرض يقضونه وأداة وما الدين إلا آلة يشهرونها [ديوان الجواهري، المجلد الأول ص254 دار العودة - بيروت] واحتاج الملك الجواهري كمثقف كواحد من أبرز المثقفين المدينيين لمواجهة ضغوط شيوخ القبائل الذين اصطفوا مع سلطات الإنتداب ضد ه وضد مشروعه لإقامة دولة ذات جيش مركزي يتفوق على جيوش القبائل. وقد احتاج الملك للجواهري كداعية لمواجهة الطبقة المتوسطة المدينية التي خذلت بوعود الملك في بناء دوله مستقلة واعتبرته مجرد واجهة لحكم الإحتلال. ويدرك الملك سطوة الشعر على الشارع ولديه أمثلة مضادة في قصائد الهجاء القاسية التي يتداولها الشارع للرصافي مثل: لها غير سيف التيمسيين عاصبا لنا ملك تأبى عصابة رأسه يعدد أياما ويقبض راتبا وليس له من أمره غير أنه أو قصيدة الزهاوي بعد إفلاسه من عضوية مجلس الأعيان: هو شعب يظل غير عزيز إن شعبا يرجو بفيصل عزا إنكليزية من الإنكليز عربي أضحى اشد علينا كانت هذه القصائد وغيرها تتردد بين المتعلمين ومنهم إلى رجل الشارع الذي خيب بموقف الملك من الانتداب. ولذلك احتاج الجواهري كشاعر صاعد تنشر قصائده في الصفحات الأولى ليعيد له اعتباره كملك مهيب. الأب والمثال الجواهري الذي دخل البلاط وهو في أواسط عشريناته كان مسحوراً، كما المتنبي، بالملك. فلم تكن سيرة الملك فيصل الأول رتيبة مثل حفيده فيصل الثاني (من طفل مدلل في حضانة نساء البلاط إلى مدرسة الأرستقراطيين المدللين في هارو بلندن ثم موائد القمار وهو شاب وصولا وانتهاء بالعرش وهو ما يزال غراً). حياة الجد فيصل الأول كانت حافلة بالمثيرات: من بيئة أشراف في مكة طفلا، إلى الصراع مع جمال باشا والأتراك مع مثل القومية العربية في الأستانة، ثم قائد جيش عربي مقاتل مع لورنس العرب وهو مراهق، ثم داخلاً إلى دمشق مع جنوده منتصراً على الجيش التركي، إلى عضو من أعضاء مؤتمر فرساي دبلوماسيا مخذولا شابا، إلى ملك منتخب على سوريا ثم مهزوما على يد الفرنسيين في معركة ميسلون، ثم منفيا على يد الاحتلال الفرنسي، إلى ملك للعراق ثم ساعياً لبناء دولة حديثة من بلد متحارب الطوائف والقبائل، ساعيا إلى الاستقلال ولكن بالتوافق مع وجود الانتداب.. سيرة مثيرة لمخيلة شاعر شاب كما هي سيرة سيف الدولة للمتنبي. لذلك لم يبد الجواهري لاحقا أي ندم على قصائده في مديح فيصل الأول، في حين اضطر إلى نشر قصيدة (كفارة وندم) و(خلفت غاشية الخنوع ورائي) تكفيراً عن قصيدته في حفل تتويج الحفيد فيصل الثاني التي سماها في مذكراته (الهاوية): «لقد اغتصبت تلك الزلة ضميري وما أصعب آن يجد المرء ذو الحساسية ضميره مغتصبا وممن. من ذاته» [ذكرياتي ج2 ص121]. تراوحت صورة الملك في مخيلة الجواهري الشاب بين الأب والقديس والقائد المحارب والمصلح. فبالنسبة للشاب اليتيم المغترب في مدينة لا يعرف فيها أحداً وبين دهاة السياسة الكبار تمتع الجواهري تماماً باللقب الذي أسبغه عليه الملك (ابني محمد). وهناك تشابه في زاوية الرؤية في يوميات الجواهري بين الطفل الجالس في طرف ديوان الوالد يحمل الشاي للضيوف وينير طريق نزولهم حاملا الفانوس والذي يسير صامتا خلف والده في أزقة النجف، وبين الشاب الجالس في تشريفات البلاط بانتظار أن يناديه الملك لنقل رسالة أو يدخل على الملك مبلغا باسماء ضيوفه أو السائر خلف والده الملك في ممرات البلاط مطرقا بانتظار إشارة منه. وفي مخيلة الجواهري الآتي من بيئة دينية لها تقاليدها في إظهار تقديسها لسلالة الرسول لن ينس الجواهري أن فيصل الأول في الجيل الخامس والثلاثين المتحدر من صلب الحسن حفيد الرسول، ولذلك ينطبق عليه قبل الجميع الوصف الذي قاله لا حقا في الوصي عبد الإله: سور الكتاب ورتلت ترتيلا يا ابن الذين تنزلت ببيوتهم وفي مخيلته التي تمت لشعر المديح الكلاسيكي بدا الملك الآتي من الصحراء مثالا لهيبة الأمراء العرب الكلاسيكيين «في زيارته الثانية للنجف كان بيني وبين الملك فيصل الأول يفصل بين بيتنا وبيت مضيفه السيد هادي الرفيعي. بأنفاس مبهورة راقبت الوجه النحيل البدوي القسمات لأول أمير عربي على أرض العراق. انتابني إحساس غريب بأن هذا الأمير وحده يمت إلي» [الجواهري: العيون من أشعاري، الحياة]. ولذلك تأخذ قامة الأمير ومهابته الشكلية مدخلا لقصائد المديح التي كتبها عنه: يحار بطلعته المادح سلام الإله على طالع وإن أجهد النظر الطامح مهيب يرد سناء العيون [ديوان الجواهري، المجلد الأول ص125] وقد خلق الجواهري توافقاً بين مثله وبين هذه السيرة. فبالنسبة للوطني المعادي للاستعمار الإنكليزي كان الملك عند الجواهري هو الوطني المعادي للاستعمار.. أول ملك عربي عن حق بعد قرون من حكم الأجنبي، أملاً بالاستقلال: وامدد لسوريا يد الإسعاد ! فُكَّ العراق من الحماية تُحْيِهِ وللجواهري العلماني كان الملك باني الدولة الحديثة المترفعة على الطائفية والقبلية بوجه رجال الدين المنغلقين وشيوخ العشائر المتمسكين بعشائرهم وتخلفهم. وعلى مستوى طموحه الشخصي، فقد أنقذ الملك الجواهري من لحظة اليأس الصعبة حين رفض تعيينه كمعلم مدرسة وأعطاه ما هو أرفع بكثير حين جعله وسط البلاط كمدخل للوصول إلى مواقع المسؤولية في الدولة. التناقض 3/4
ثلاث سنوات قضاها الجواهري في البلاط استغرقت 180 صفحة من مذكراته وكتب فيها اكثر من عشر قصائد مديح لفيصل الأول، ولكن الحصيلة كانت مثل حصيلة المتنبي من سيف الدولة، فلم يكن الجواهري في البلاط أكثر من حاجب في التشريفات وناقل رسائل من الملك وإليه، ولم يكن يوما قريبا من موضع القرار الذي يتيح له تجسير الفجوة بين الأمير والشاعر. وحسب المذكرات نفسها كان له أثر بسيط في مصالحتين: بين الملك وعلماء النجف و بين الملك والرصافي. ولذلك تراجعت آمال الجواهري بالإصلاح من خلال المشاركة في الحكم ولم يبق أمامه إلا إصلاح حاله بالوجاهة والمال. ومن جانب آخر فإن المثال الذي أعجب به الجواهري صار يتراجع كثيرا كلما توغل الجواهري في التفاصيل اليومية الواقعية للملك وبلاطه. فعلى عكس الاستقبال الحاشد الذي قوبل به الملك فيصل الأول عند قدومه من دمشق، تراجعت شعبيته بسرعة بين العراقيين، لأن سلطته المركزية وسلطة الجيش الحديث بدأت تتوطد على حساب نفوذ العشائر، وقد اكتسب الصراع في الغالب طابع القطيعة الدموية، ومع الشيعة ازدادت القطيعة بسبب إجراءات نفي واعتقال العلماء. وخيب الملك أمل الطبقة الوسطى، لأن تنصيبه تم على يد الإنكليز، ولأنه كان مترددا ولم يبد همة كافية في مواجهة الانتداب، ولأنه أحاط البلاط والمناصب الحساسة بضباط شريفيين من أصول غير عراقية، مثل رئيس الديوان رستم حيدر، ورئيس التشريفات وناضر الخزينة صفوت العوا، وكلاهما سوريان، في حين يطمح الكثير من المتعلمين العراقيين إلى الحصول على مناصب أدنى بكثير. لذلك عاش الجواهري تناقضات حادة بين وعيه ووجوده. ففي مدينة النجف، التي جاء الجواهري منها، ويحمل في داخله ثقافتها الروحية، مازالت الفتوى بتحريم العمل في الحكومة سارية بسبب طائفية الحكومة السنية وبسبب تبعيتها للإنكليز. والدولة، التي جاءها الجواهري باحثا عن موقع خارج الجو المحافظ في النجف، تعاملت بريبة مع شاعر نزق مارق على أصوله الدينية ولا يليق سلوكه الليلي ولا قصائده الداعرة بهيبة البلاط الذي يعمل فيه، وفوق كل ذلك فهو يمت بصلة إلى طائفة تضمر العداء للدولة. وفي حياته الراهنة في بغداد عاش تناقضا بين شلتين: الطبقة السياسية المحيطة بالبلاط وهم ينفثون الوشايات في آذان الملك وقادة الإنتداب الإنكليز ضد بعضهم، أو يحركون حروب العشائر من اجل الحصول على مواقع اقوى في السلطة، ويستخدمون نفوذهم السياسي لنهب اراضي ومحاصيل فقراء الفلاحين.. تقابلها شلة المقهى (عبد الفتاح إبراهيم، محمود المدرس، زكي خيري،مصطفى علي،عاصم فليح وحسين الرحال)، وهي الشلة التي كونت نواة حزبي المعارضة الرئيسيين الشيوعي والديمقراطي وأثرت في تكوين الميول اليسارية عند الجواهري.. وهكذا عاش الجواهري، وهو في البلاط، التناقض بين طائفية بيئته النجفية وطائفية الدولة التي لجأ إليها، وبين مثل التحرر والتفتح التي آمن بها وبين رجعية وتبعية السلطة التي سعى إليها، وبين شلة السياسيين الفاسدة المحيطة بالبلاط وشلة المقهى اليسارية، بين نهار البلاط البروتوكولي وبين ليل الملاهي المتسيب، وبين حماس الشاعر الحالم وواقعية السياسي البارد الدم: «كنت من العاجزين عن أن يعوا أنفسهم وأن يدركوا ما يمكن أن يكون وما لا يمكن، أي أن أكون مع الناس وفي الصميم، وكما أريد لنفسي، ثم أن أكون مع الحاكمين وكما يريدون» [ذكرياتي ج1ص266]. الجواهري والرصافي والزهاوي وكان أمام الجواهري من مجايليه مثالان متعارضان يقابلان المعري والمتنبي في التاريخ القديم: الزهاوي والرصافي. فقد حاول الزهاوي، الذي يكبر الجواهري آنذاك بخمسين عاما، أن يبني مجدا خارج الشعر فمدح رمز الاحتلال السير برسي كوكس، وحفل ديوانه بمديح الملك فيصل الأول مما أتاح له أن يكون عضوا في مجلس الأعيان.. مقابل ذلك شن الرصافي حربا شعواء على البلاط وشمت به وبمن فيه حين أغرقه فيضان دجلة عام 1927: أم مليك بالمخانيث محاط ليت شعري أبلاط أم ملاط فتداعى ساقطا ذاك البلاط غضب الله على ساكنه وقد عاش الرصافي ومات متمردا على الحاكم والمجتمع حين رفض المناصب وفضل أن يبيع السكاير، وعاش في حي البغايا على صدقاتهن بدلا من ان يعيش في كنف الحاكم ويرتزق منه. رأى الجواهري في حياة الرصافي هذه ذروة التمرد التي تقابل حياة المعري. أعجب الجواهري به وتعاطف معه، ولكنه لا يريد ان يعيش حياته ولا مصيره حيث مات وحيدا على سرير حديدي مما يباع في المزاد وفي غرفة لا تغطي نافذتها ستارة تقيه حر الشمس. وقد كانت محاولة الجواهري للمصالحة بين الرصافي والملك فيصل هي محاولة للمصالحة مع نفسه وبين المتعارضات في داخله. التمرد عاش الجواهري في البلاط وعمل المحال لكي يفصل منه. في النهار كان يداوم في البلاط بعمامته كأي موظف تشريفات مؤدب ومرضي عنه، وفي المساء يفارق البلاط الى إلى ملاهي السهر والسكر لكي يغادرها على وجه الصباح لنشر قصائده المتمردة على قيم المجتمع مثل (عريانه، ليلة شباب، هزي لهم ردفا) أو قصائده السياسية في فضيحة الوفد المسافر إلى لندن «وطار للندن شر اللصوص» وبينهم شقيق الملك ورئيس وزرائه. وحتى بعد خروجه من البلاط بقي الجواهري يعيش هذه الازدواجية، فكل الطبقة الحاكمة التي بدأت تنشئ أحزابا، أو أرادت أن تبتعد ولو شكليا عن الحلقة الضيقة التي تمثلها، سواء أكانت تمثيلا طائفيا او تكتلا عشائريا أو نخبة من الضباط الشريفيين. ولما كان عمل هذه الأحزاب يعتمد على الصالونات السياسية، فإن وجود الجواهري سيعطي هذه الصالونات طابعا مختلفا، لكونه من الطائفة الأكثر عددا والمعزولة عن الحكم، ولكونه من الطبقة الوسطى المثقفة المعادية للإنكليز والمعزولة عن هذه الصالونات، وسيضفي على هذه الصالونات لونا أدبيا خلافا لأحاديث السياسة المكررة. وبدوره أراد الجواهري أن يمسك بالمتناقضات، فيمثل التيار الوطني والشعبي ويكون في نفس الوقت قريبا من الحكم. ولم يكن هذا الموقف المتعارض حكرا على الجواهري وحده، فالتعارض بين المثقفين والدولة لم يكن حادا مثل أيامنا هذه. وفي غياب الشارع والأحزاب السرية كانت الممارسة السياسية مرتبطة بالدولة وجهازها. وكانت المسافة بين المعارضة وكراسي الحكم ضيقة ومجسرة قياسا إلى أيامنا هذه، فالدولة الناشئة بحاجة إلى المتعلمين لبناء جهازها الإداري في أعقاب انسحاب طبقة الدواوينية العثمانية. وكانت هذه الحاجة وراء حماسة الملك فيصل الأول لإنشاء جامعة آل البيت في بغداد عام 1927. المتعلمون، بغض النظر عن اتجاهاتهم، كانوا بحاجة إلى العمل في جهاز الدولة كمصدر رزق وحيد في غياب المؤسسات الاقتصادية المستقلة. وكان قيام الدولة على أنقاض العشائر طموحا عاما لمثقفي ذلك الوقت. لذلك لم يجدوا تعارضا حادا بين عقائدهم والوطنية المعارضة، وبين العمل في المناصب الحكومية العليا. فالجادرجي كان وزيراً للمواصلات والاقتصاد، والرصافي كان مفتش اللغة العربية في وزارة المعارف، وموسى الشابندر في وزارة الخارجية، وفهمي المدرس رئيساً لجامعة آل البيت. وعمل الرحال جهاز الدولة، في حين عمل رفيقه محمود أحمد السيد سكرتيراً لمجلس النواب. وإذا صعدنا إلى الأعلى سنجد أن سياسيا معارضا كان في قيادة حزب الإخاء الوطني، وعرف بمواقفه المتشددة من الإنكليز يتنقل بسهولة من المعارضة إلى رئاسة الوزارة ومن معاداة الإنكليز إلى توقيع معاهدة معهم وهو في رئاسة الوزارة. ولم يبد هذا التعارض في المواقف نشازا لأنصاره المتعلمين المعارضين في الحزب، لأن السياسة آنذاك لم تكن تستمد نفذوها من الفكرة، إنما من شخصيات القادة الذين يمثلونها، ولذلك ساند المتعلمون المعارضون موقف الهاشمي الجديد وتسلموا خلال رئاسته مناصب حكومية وبرلمانية دون أن يشعروا بالتعارض بين مشاعرهم الوطنية المعادية للإنكليز وموقعهم في الدولة الخاضعة للانتداب، وبنفس السهولة سيعود الزعيم وأنصاره إلى معارضة الحكومة والانتداب حين تسقط حكومة الهاشمي والبرلمان الذي يساندها. كانت السياسة في غياب الحياة الحزبية المنهجية ابنة لحظتها وعلاقاتها الشخصية. وكان البرلمان في بدايات تشكيله توفيقا ممكنا بين المعارضة والمشاركة. وشارك الجواهري في هذا الاعتقاد عدد من المثقفين المعارضين مثل الرصافي والزهاوي وروفائيل بطي، لأنه مصدر دخل جيد يوم كان راتب النائب أعلى من راتب أي مدير عام، وهو مصدر للوجاهة وبوابة للصعود السياسي، كما أنه في غياب حياة حزبية مقنعة سيكون منبراً للخطابات الوطنية والمعارضة للاحتلال. ولكن الأمر لن يستمر بهذه السهولة خلال العقدين التاليين من العهد الملكي. ففي حين إن بغداد لم تخضع للأحكام العرفية ليوم واحد خلال العقدين الأولين، أي من عام 1921 إلى 1941، فإن هذه الأحكام، حسب حنا بطاطو (الكتاب الأول ص 381) طبقت أربع مرات ٍعلى مدى مجموعه 2843 يوماً، أي ثمانية أعوام من السبعة عشر عاما الأخيرة من العهد الملكي. وحسب الجواهري نفسه «كانت هذه الفترة من أسوأ الفترات في تاريخ العراق الملكي. فإضافة لسلسلة الأحكام العرفية والمشانق في الشوارع كانت سلسلة المعاهدات المذلة التي تكبل مستقبل العراق» [مقابلة للكاتب مع الجواهري نشرت في جريدة الحياة 14 مايو/ أيار 1991].. هذه الفجوة الهائلة بين الحاكمين والمحكومين ستشكل تناقضا حادا في وعي مثقفي تلك الفترة. لذلك بقي الجواهري مثل مجايليه مخيرا بين الحكم والشارع. الجمهور والشاعر 4/4
ويبدو القول المنسوب لمؤسس الحزب الشيوعي العراقي (فهد): «أعطوا الجواهري ثورات سيعطيكم قصائد ثورية!» قريباً إلى حد بعيد من سيرة الجواهري. فحتى بداية الثلاثينات كان الجمهور، بالنسبة للجواهري الذي عاش في البلاط ووسط صالونات النخبة الحاكمة، مبهما مجردا. ولا يتعلق الأمر بالجواهري الشاعر وحده، فقادة المعارضة الوطنية، وحتى الماركسية،كانوا من أبناء شرائح الطبقة التجارية (الجلبيين) التي تضررت تجارتها وسيطرتها على وسائط النقل بسبب دخول الإنكليز ورأس المال الأوربي، مثل جعفر أبو التمن وحسين الرحال ومحمد مهدي كبه وصلاح الدين الصبّاغ ومحمد حديد وكامل الجادرجي وصديق شنشل. لم يجد أبناء هذه الطبقة امتد ادهم الواقعي في الطبقات الشعبية الدنيا رغم تعاطفهم معها. ورغم الانتقال النسبي لمركز التوجيه الشعبي من الجامع إلى المقهى حيث يوجد الأفندية قراء الصحف ومتابعي الإذاعات، إلا أن اثر الأفندية في التوجيه السياسي كان ضعيفا بسبب انتشار الجهل والأمية، ففي واحدة من رسائله الى أمين حسونه يشكو محمود احمد السيد من جهل الناس وقلة القراء «فالأديب في بغداد مسكين لا احترام له، والمؤلف فقير لا رواج لكتبه ولا قراء لمقالاته... فمائة كتاب أو مائتان أو خمسمائة تباع في السوق لا تغني الأديب المؤلف» [مجموعة السيد الكاملة طبع وزارة الثقافة والفنون _ الجمهورية العراقية ص568] يضاف إلى ذلك فقدان الأحزاب السياسية المستنيرة. وكان هذا التباعد بين المثقفين والجمهور هو السبب وراء تفكك مجموعة (الرحّال) الماركسية التي أرادت إنقاذ الشعب من تخلفه، ووراء شعور المرارة الذي يسم رواية (جلال خالد) التي كتبها أحد أفراد هذه المجموعة (محمود أحمد السيد). كما تكشف قصائد الجواهري خلال العشرينات وبداية الثلاثينات غموض صورة الجمهور.. يخاطبه الجواهري، ويستنهضه ضد الجهل والحاكمين، دون أن يراه، ويسميه أحياناً الشعب أو الرعية أو الوطن، لكنه لا يصفه. ويغلب اللوم والأسى على ما فات في قصائده التي تلت ثورة العشرين، لأن الأمور سارت بالناس باتجاه السكينة والخضوع، ولذلك يتجاوز الجواهري ناسه الحاضرين ليخاطب الشهداء شاكيا من ذل الحاضر، وأحيانا يخاطب الشباب والأطفال يائسا من رجال يومه: وتعرف فحواهن إذ أنت يافع ستأتيك يا طفل العراق قصائدي [الثورة العراقية: ديوان الجواهري المجلد الأول ص55] الوصف الوحيد للجمهور يرد أول مرة في قصيدة رثاء عبد المحسن السعدون في 15 تشرين ثاني 1929: ماذا يقول الشاعر المتفجع الشعب محتشد هنا يتسمع .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ساحاته اكتظت ونصف بلقع نصفان بغداد فنصف محشر إلا حشا دام ووجه أسفع متماوج الأشباح حزنا ما به وحتى هنا تغلب على الحشد السكينة والغضب الصامت. حقا إن العراق شهد 42 انتفاضة وثورة وانقلاباً خلال العهد الملكي بدأت بانتفاضة الشيخ محمود الحفيد الكردية مروراً بثورة العشرين وانقلاب بكر صدقي ثم الوثبتين وانتهاء بثورة تموز 1958. لكن كل حالات التمرد في العقود الأولى من العهد الملكي، التي كان الجواهري في أثنائها إما حاجباً في البلاط أو نائباً في البرلمان، كانت ريفية الطابع وصفها حنا بطاطو بأنها: «لهاث عالم قبلي يقترب من نهايته» [ص123 الجزء الأول من الطبقات الاجتماعية والحركة الثورية في العراق]. وكثيراً ما كانت هذه التمردات سياسية الطابع، يقودها شيوخ العشائر ضد سياسيين بالتحديد ولصالح سياسيين آخرين من نفس الطبقة، لذلك كان الجواهري يشعر بالسخط لأن سياسيي بغداد يحولون دماء الفلاحين إلى مكاسب في السلطة، لكن منذ بداية الثلاثينات انتقلت الحركة السياسية، ومعها التحركات الجماهيرية، إلى المدن من خلال إضراب الصنائع في 1931 الذي استمر 14 يوماً. غير أن هذا الإضراب لم يستهدف الحكم ولا النظام الاجتماعي، بل قانوناً ضريبياً سنّته حكومة كريهة. أما في أواخر الأربعينات فقد حملت التفجيرات طابعا لم يعرفه العراق سابقا، فالاستياء الذي بقي سياسيا ضد حكومة معينة، والاستنتاج هنا لحنا بطاطو، أصبح الآن ضد النظام الاجتماعي بمجمله وأصبح مركز التحرك هو العاصمة بغداد، على بُعد أمتار فقط من أماكن تواجد الجواهري، في البرلمان أو الجريدة أو المقهى. و بدأ الصراع يأخذ طابعا دمويا بين رصاص الشرطة وصدور المتظاهرين العارية. وتحكم علاقة الجواهري بالحاكم علاقة الأخير بالرعية. تتذبذب هذه العلاقة في فترات الهدنة والسكون، أو حين لا تكون المواجهة مكشوفة ومرئية من قبل الجواهري، وتتوتر العلاقة كلما أخذت المواجهة طابعا عنيفا ومكشوفا فتتحول الأزمة الوطنية عند الجواهري إلى أزمة شخصية حين يوشك أن يقلب موقفه رأسا على عقب. والجواهري بطبيعة تكوينه كعراقي وبطبيعة تكوينه العائلي المتوتر مهيأ للاستفزاز بانتظار أن يمس القمع الجواهري نفسه باعتقاله أو فصله أو مهاجمته في واحدة من الصحف، وفي الغالب يأتي الاستفزاز من خلال أحد أفراد العائلة حيث استشهد شقيقه جعفر برصاص الشرطة خلال مواجهات الوثبة، أو باعتقال أحد أبنائه وكلهم ينتمون لليسار فتنالهم أول حملات القمع. تتحول الأزمة الاجتماعية عند الجواهري إلى أزمة شخصية هي المقدمة الضرورية للموقف الشعري. وقد تجمعت هذه العناصر مع اندلاع شرارة الوثبة، فالجمهور غادر سكونه والحاكم فتح سلاحه ومن بين القتلى شقيق الجواهري وبين المعتقلين ولداه وابنة هاربة من الشرطة، ولذلك تحتم على الجواهري ان يغادر موقعه بين الحكم والرعية، ويصف هذا الموقف في الجزء الثاني من مذكراته. بمشهد حقيقي ورمزي في نفس الوقت «وحين اشتد صوت الرصاص في الشوارع وكنا ما نزال في المجلس النيابي، وجدت نفسي مندفعا خارج المجلس لأصل إلى الشارع برغم منع الحراس لي وبرغم التماسهم لي بعدم الخروج وبرغم تحذيرهم من الرصاص المتساقط على الجدران» [ذكرياتي ج2 ص22]. المنبر والجمهور يعرف الجواهري منذ طفولته فعل الكلمة على الجمهور من خلال حضور المنابر الحسينية حيث يتحكم الخطيب من على منبره بعواطف الجمهور بديباجته القوية التي يتناوب فيها الشعر والنثر المسجوع وقدراته الخطابية التي تتلون بين القراءة المصوتة والغناء الشجي الذي يحرك عواطف جمهوره المهيأ أصلا للانفعال، من الحماسة حد الصراخ عند وصف معارك الطف، ثم البكاء حد الإغماء عند وصف فاجعة الحسين، ويزداد انفعال الخطيب بانفعال جمهوره في تناوب عجيب. من هذه الطقوس الشيعية عرف الجواهري فعل الكلمة على الجمهور المستلب. وحتى عندما استصعبت عليه المعاني أخذ الجواهري الصبي وهو يتسلل إلى مجالس الشعر مسحوراً بإيقاع الشعر «المتين الساحر الصاعد النازل الموشوش هامساً أو الصارخ منذراً» [ص66، ذكرياتي ج1] ورأى بطله محمد سعيد الحبوبي يقود بالشعر مستمعيه من (الجامع الهندي) إلى ساحات القتال إبان ثورة العشرين. ورث الجواهري تقاليد الشعر الخطابي وطرق الإلقاء النجفية وطبقها على المظاهرات تحريضا على الحاكم. وتقوم استراتيجيته على مخاطبة جمهور حاضر أمامه (أنتم) وتهديد حاكمين تركهم خلفه (هم)، ويقوم الجواهري بتقريب المستقبل (الغد) بجعله منظوراً للجمهور. ويأتي هذا التفاؤل من زخم الوثبة المتصاعد وتراجع الحاكمين أنفسهم أمام هذا الزخم. ووسيلة الجواهري في اختصار زمن العذاب باتجاه الخلاص هو الدم «خلي الدم الغالي يسيل، خلي الدم ينزف دما، تقحم لعنت أزيز الرصاص» فأخذ الشاعر موقع القائد العسكري في معركة منظورة وراهنة وتأخذ الجمل صيغ الأمر الذي ينتج أفعالا مباشرة (تقحم! جرب! عليهم!). في هذه المعركة المنظورة يتحول الدم الى كائن حي مفكر وناطق، يسأل ويجيب ويتهدد نيابة عن الجمهور الحاشد: بأن جراح الضحايا فم أتعلم أم أنت لا تعلم وليس كآخر يسترحم فم ليس كالمدعي قولة يصيح على المدقعين الجياع أريقوا دماءكمو تطعموا! ولا يكتفي الدم بالكلام، إنما يتحرك نحو هدف محدد: هذا الدم الرقراق ركاض لغايته عجول ويستوحي الجواهري من تقاليد عاشوراء السنوية مفهوم الدم كضمير جمعي يثقل الأحياء برسالة الشهداء فيجددون العهد سنويا، ويثقل في نفس الوقت نومة القتلة الحاكمين بالخوف من الثأر: ومفاخرا ومساعيا ومكاسبا انبيك عن شر الطغام مفاجرا لو نال من دمهم لكان الشاربا عن شاربين دم الشباب لأنه أكثر من عشرين قصيدة تقع بين الوثبتين ونهاية العهد الملكي تجمع فيها كل حقد الجواهري على الطبقة الحاكمة، ولكن لم تكن هذه قطيعة الجواهري النهائية مع الحاكم. حقا إن الموقف يتقرر على ضوء القطيعة بين طبقة الحاكمين وطبقة الجواهري، والقطيعة بين الحاكم والرعية عموماً، ولكن نظرة الجواهري لهذه العلاقة ليست عقائدية، فالأمر يتوقف أيضا على موقف الحاكم من الشاعر وعلى مزاج الشاعر وحسابات الربح والخسارة في اللحظة المعينة. و الحرب بين الجواهري والحاكم هي علاقة جدلية تقوم على الاحتواء والنقض: يحارب الحاكم، ولكن الحاكم موجود فيه.. يمتدح ذاته وهو يمتدح الحاكم، ويحارب ذاته وهو يحارب الحاكم فيه.
#عمر_الكبيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اغيثو نادي الرمادي
-
رجال الصحوة ولا رجال الحزب الاسلامي
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|