|
ثلاثة أجيال يضيعها الحب ويقتلها الحنين!
هشام بن الشاوي
الحوار المتمدن-العدد: 2446 - 2008 / 10 / 26 - 08:18
المحور:
الادب والفن
“صباح الخير أيتها الوردة” لمحمد فاهـي ثلاثة أجــيال يضـيعـــها الحب ويقـتـلها الحنـين! قراءة: هشام بن الشاوي # عكس أدب الكلينكس الذي يقرأ مرة واحدة، تتميز رواية (صباح الخير أيتها الوردة) للقاص والروائي المغربي محمد فاهي بأنها من النصوص الماكرة التي تحتاج إلى أكثر من قراءة، إنها “كتابة عبر نوعية” بتعبير إدوارد الخراط، تتقاطع فيها عدة أجناس فنية:القصيدة، المسرح، أدب الرسائل، المذكرات، اللوحة التشكيلية.. كما استخدم المؤلف في معمارها الفني تقنيات شتى، كتفتيت السرد والبناء الدرامي، الكولاج، تكسير هرمية الزمن بالاسترجاع،الاستباق، تعدد الأصوات والضمائر، التبئير، شعرنة اللغة، توظيف اللهجة المحلية…
عبر زمن الحكي ترصد الرواية حيوات ثلاثة أجيال أرغمتها قسوة الحياة اليومية على الرحيل من القرية. تبدأ الرواية وتنتهي بالشرشارة، التي تتحول من مجرد قرية على هضبة ناتئة على خريطة المغرب غير النافع.. إلى بطل رئيس يؤسطره المتن الحكائي نفسيا ووجوديا، فهذا الاقتلاع من الجذور يعمّق ضياع وغربة الشخوص وتمزقها الجواني، وتحس أن هذا الخراب الداخلي تحول من البيت المهجور في الشرشارة إلى دواخل الشخوص.
تتبع الرواية مصائر شخوصها بلغة شعرية شفيفة تغوص في أرواحهم الهائمة على أرصفة الضياع في غابات الأسمنت. يعود الأب إلى القرية متسللا ليحصد فدان الشعير تحت جنح الظلام وهو يجتر ذكرياته (فلاش باك)، وهذه تقنية سينمائية يلجأ إليها الكتاب لتكسير رتابة السرد، فالمدينة التي كان مجرد سماع اسمها - من قبل- يسحره، اكتشف أنها “مدينة بلا قلب”.. لم يجد فيها غير العمل الشاق و حياة الضنك والتمزق الأسري، رغم أنه كان مجرد “خماس” (يرعى المواشي ويشتغل في الحقول مقابل الخمس)، كان متوحدا مع الأرض حد الحلول الصوفي: “أنت أكثر من يعمل ويخدم في مناسبات القبيلة، وكذلك آخر من يتغذى أو يتعشى، وبما تبقى من طعام”(ص13). كان يعيش شبه منبوذ في مجتمع القبيلة، ويحس أنه مثل عبد مخصي في سراديب الحريم ، بينما أمثاله يغوصون في العلاقات المحرمة، كنوع من الانتقام الاجتماعي والنفسي.
في المدينة يفاجأ بقيم جديدة وأساليب حياة أخرى، حتى الأبناء يسخرون من الثياب ذات الألوان الزاهية التي كانت تفرح بها الأم من قبل، حين يبتاعها من الأسواق الأسبوعية.. وينتقل من خدمة الأرض إلى خدمة الآخرين، ولا يجد سلواه سوى في تربية بعض البهائم في حي الصفيح، ويلوذ بالصمت والسفر إلى الداخل، بينما الجد والجدة يحسان بوحشة لا يبددها غير ود الأحفاد، ويتأملان الابن وهو يقوم بخدمة الثيران ويصلي،بعد عودته من العمل مساء، ومن خلال الرواية ندرك بأن أعمال الفلاح الشاقة تقترن بالطقوس الدينية، رغم كل أتعابها تخلف راحة النفس ورضاها. من الأحداث التي تترسخ في الذاكرة بصدقها الدرامي و عذوبتها الإنسانية وصف الكاتب لبحث الجدة عن صرتها التي بعثرها الصغار، حيث تخبئ أدوات زينتها التقليدية.. فتحبو على الأرض وهي تتلمس بيدها، يتسلق الصغار ظهرها، تضمهم إلى صدرها، ولأنها لم تعد تبصر، تمد يدها مثل العميان، فيشدها الصغار من أصابعها معتقدين أنها تلعب معهم، فتسقط أرضا، ويهرعون إلى الأم عند رؤية دموعها، ويفاجأون بموتها وهي تبتسم… إنه عالم المدينة القاسي الذي يفتك بالهشاشة، مثلما يفتك بشخوص الرواية ذلك الحنين القاتل إلى الأرض، الأصل…
ومن الهجرة الداخلية واغتراب الشخوص في المدينة، يكتب محمد فاهي في القسم الثاني من الرواية على لسان السارد/ البطل عن الغربة في الخارج، وتعرفه على الايطالية التي تتعاطف معه، ويؤلمه الفرق الشاسع بين ثقافتين وأسلوبي حياة متباينين.. الإيطالية تفرح بالورد المغربي المستورد من الجهة التي ولد فيها السارد :”بالورد يكتمل الطقس. الورد حياة جميلة ستذبل في لحظة قصيرة مثل الحياة. يشار إلى الموت بأصابع الورد، حتى حدادكم سيكون ورديا. وهناك الأشواك… شعر يتدفق”.(ص48) و كمهاجر سري يجد نفسه موضوع بحث اجتماعي لها، يعيش صدمة الهجرة، يحزن لأن الأب الذي باع البيت لأجله كما يبيع آخرون قطعا من أرضهم أو رؤوسا من الماشية، ليعبر الأبناء إلى الضفة الأخرى، انزوى قبل موته في ركن قصي عاجزا عن النطق والحركة… ولا يستطيع الحضور لعدم تسوية وضعيته الإدارية، ويوصيه الأهل بألا يهتم إلا بالبحث عن مستقبله، ويدرك السارد لم يكتسب المهاجر تلك “الصلابة الجارحة” لأنه “ينتحر من أجل العيش”. اللافت للنظر أن ثيمة الهجرة السرية تحضر بقوة أيضا حتى في الرواية الأولى لمحمد فاهي (حكاية صفراء لقمر النسيان).
يعود المهاجر إلى بلده بعد أربعة أعوام، يلتف حوله الأهل بفرح معلقين عليه آمالهم في حياة كريمة. يتألم لأن عمه باع الأرض التي لم يعد باستطاعته أن يخدمها بسبب السن، ويشد الرحال إلى الشرشارة، يثير في نفسه الحنين كركرة الحمام، ندى الصباح، قطف الصبار، و استحضار العطل المدرسية في الصيف، وبقية مفردات المشهد اليومي البدوي المهملة والمنسية… الحنين جارح جريح حين يتحول” الوطن إلى شجرات تين” تباع وتوزع دراهمها على العمات، ويحرث الأرض مالكها الجديد، وأغراض العم مكومة في الفناء مشدودة بحبال الرحيل، وفي المدينة يبحث الشباب عن أي وسيلة للهجرة/للهروب/ للمخاطرة بأرواحهم، حتى لو كان الثمن الغرق في المحيط… بحق، تعد الرواية قصيدة حب شجية للوطن، لكنها قصة حب فاشلة مثل باقي قصص الحب التي تجهض، وبلغة الكاتب الدرامي أسامة أنور عكاشة ” ليست الحياة متسقة ولا عادلة بالدرجة التي تجعل النوايا الطيبة تنجح وتنتصر في النهاية، الحب الناجح يحدث في الحواديت فحسب“.
————————————————- * نشرت هذه القراءة في صحيفتي “المساء” المغربية ، و”الرأي” الكويتية.
#هشام_بن_الشاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تصدقوا الكتاب
-
نساء يرفضن البكاء على أكتاف الرجال
-
المبدعون المغاربة وثقافة الصيف
-
تعب كلها الحياة
-
القاص المغربي هشام بن الشاوي في لقاء مفتوح مع منتدى أوراق
-
من حكايات قريتنا
-
النصف الآخر (10)
-
عصفور الشرق ينقر العيون الزرق
-
خطايا بيضاء
-
النصف الآخر (9)
-
رسالة أخيرة
-
النصف الأخر (8)
-
النصف الآخر (7)
-
النصف الآخر 6
-
النصف الآخر (4-5)
-
النصف الآخر (3)
-
النصف الآخر
-
مثقل بنشيج الروح ..
-
أعلنت عليكم الحب بطريقتي
-
سوتيان _ مشاهد من حياة مخبولة جدا
المزيد.....
-
-أرسيف- تعلن ترتيب الجامعات العربية حسب معامل التأثير والاست
...
-
“قناة ATV والفجر“ مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس الحلقة 168
...
-
مستوطنة إسرائيلية: قصف غزة موسيقى تطرب أذني
-
“وأخير بعد غياب أسبوعين” عودة عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
من هو الفنان المصري الراحل حسن يوسف؟
-
الليلادي .. المؤسس عثمان ح168 الموسم 3 على قناة atv وعلى الم
...
-
أوليفيا رودريغو تستعيد اللحظة -المرعبة- عندما سقطت في حفرة ع
...
-
الأديب الإيطالي باولو فاليزيو.. عن رواية -مملكة الألم- وأشعا
...
-
سوريا.. من الأحياء القديمة إلى فنون الطب الصيني
-
وفاة الفنان المصري حسن يوسف
المزيد.....
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|