ان موضوع التخلف في واقعنا الاجتماعي، يتطلب دراسات مستوفية وشاملة من جميع جوانبه. لكي نتجاوزه وننتقل به الى مستوى أرقى وأكثر تطوراً واستقراراً مما هو عليه الآن من تردي وتشرذم… لأن هذا التخلف والتخبط لا يقتصر على الأميين فقط بل يمتاز به الكثير من المتعلمين وحتى بين أصحاب الشهادات العالية. فالتطور لا يعني فقط استعارة أساليب الحداثة التي تشمل أشكال التعليم والعمران والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والطبيعية والى الحد الذي نستعير حتى أساليب معيشتنا في المأكل والملبس. واستخدامنا لأشكال الحداثة والتطور لا يعني إننا متطورون لأن كل هذه ما هي إلا قشور نتغلف بها من غير أن نتشربها ونستوعبها. أساليب نستعير أشكالها بدون أن نتعامل بمضامينها الحقيقية ونمارسها، بخصوص ما يتعلق بالقضايا الفكرية سياسية كانت أم ثقافية… لأن الذهنية المتخلفة لا زالت طاغية ومتسلطة على عقول الكثير من الناس في واقعنا الاجتماعي. لذلك يتطلب مواجهتها بشكل جدي وتشخيص سلبياتها بكل جدية من قبل المختصين بعلم الاجتماع والنفس وكذلك المثقفين الحقيقيين، ومكافحة دورها التربوي السيئ والمعّوق لتطور المجتمع وارتقائه.
حيث يتصف الانسان المتخلف بعقلية سطحية بنظرته للواقع، ويكون عاجزاً عن الغوص فيه والسيطرة عليه، وكذلك يتسم بالجمود والقطيعة، وهذا بدوره يؤدي الى خلق عقبات معرفية جدية تعرقل خطط التنمية التي لابد أن تنبعث من التقدير الشمولي للواقع.
كما أن الانسان المتخلف يقف عاجزاً إزاء سلطة الأنظمة الاستبدادية وقهرها وفقدان لأبسط حقوقه الإنسانية في الحياة الكريمة وفي رؤيته لظواهر الحياة وعلاقاته بالآخرين، وهذا ما يبقيه راضخاً مستسلماً مازوخياً تجاه ما يظهر عليها من غموض وتداخل. لاعتقاده أن قهر السلطة ومواجهة الحياة والمجتمع أقوى وأكبر من طاقته على الاستيعاب. وما هذا إلا نتيجة لتراكم ظروف القهر والاستلاب الاجتماعي، من اضطهاد وقمع وفقر ومرض وخوف دائم من الغد، بالاضافة لما تجلبه الحروب وصراعاتها السياسية من ويلات وخراب. ونتيجة لذلك فهو يشعر بفقدان الأمان والاستقرار والطمأنينة، لأن غده مرهون بظروف خارجة عن يده وإرادته أو مرتبط بمزاج السلطة والمتسلطين. لقد ساهم هذا بشعوره بالدونية تجاه الآخر المستقر اقتصاديا واجتماعيا وسياسياً، لأنه يعيش في حالة تهديد دائم لكل ما يملك سواء كان هذا مادياً أو معنوياً.
أن افتقار الانسان المتخلف الى الاحساس بالثقة والقدرة على المواجهة، سوف يشل من قدرته وثقته على المجابهة. وذلك بسبب شعوره في انعدام التكافؤ بين قدرته وبين قوة المحيط الذي يتعامل معه، لأنه يفتقد في قرارة نفسه الطابع الاقتحامي، ونتيجةً لذلك فهو سرعان ما ينسحب أو يتجنب المواجهة، إذا حدثت، طلباً للسلامة وخوفاً مما سيحدث أو عدم ثقته في إمكانية الانتصار.
لأجل ذلك نحاول دراسة وقراءة بعض الجوانب والمعوقات المهمة، التي يتصف بها الانسان المتخلف ويتلبسها، وتساهم في ركود المجتمع، واستلاب أفراده لكرامتهم وحقوقهم وافتقادهم الإحساس بحريتهم وإنسانيتهم.
اضطراب منهجية التفكير
يمتاز الانسان المتخلف بسوء التنظيم الذهني في التصدي للواقع، لأن الذهنية المتخلفة تتعامل مع الواقع دون وضع خطة مسبقة ذات مراحل منطقية واضحة بل تتميز بالفوضى والعشوائية والتخبط والمحاولة شبه العمياء. وبدلاً من تنظيمها للواقع والسيطرة علية تساهم في زيادة حدة الفوضى وانعدام التماسك. وبهذا يقع الانسان المتخلف في الغموض والحيرة مما يجعله يلجأ الى التمنيات بخروج سحري من المأزق. فحينما يناقش قضيةً ما مثلاً، نجد الحديث يتشعب ويذهب في عدة اتجاهات، في حالة من تداعي الأفكار التي تبتعد تدريجياً عن الموضوع الأصلي، ثم تعود اليه كي تطرح قضايا جديدة تكون بدورها منطلقاً للانجراف في أمور جانبية. وبهذا يخرج المجتمعون بعد نقاش طويل دون تكوين تصور واضح عن المسألة المبحوثة وعدم إيجادهم الحلول لها. أحياناً تطرح عدة قضايا لكن تظل جميعاً معلقة لا يذهب التفكير فيها أبعد من السطح، ويتحول عنها عند الاصطدام بما تتضمنه من عقبات وصعوبات تتطلب جهداً لاستجلائها وحلها.
أن الذهنية المتخلفة تغرق في التخبط بعلاقتها بالواقع. بحيث تقفز من مرحلة أولية الى مرحلة نهائية كي يتضح لها العجز عن متابعة السير، فتعود متقهقرة الى الوراء. وتظل هكذا بين أقدام وأحجام، لا تستطيع ان ترجح حلاً على آخر. وهي ان فعلت فأغلب الظن نتيجة لتدخل عوامل ذاتية وانفعالية أكثر منها مراعاة لاعتبارات منطقية. ومن هنا يتضح مدى الهدر في الوقت والجهد الذي تتعرض له العقلية المتخلفة، ومدى التذبذب وانعدام اليقين، نظراً لافتقار الحلول الى المتانة المنطقية. أن الذهن المتخلف عاجزاً عن إدخال التنظيم على الواقع، لأنه يفتقر هو ذاته الى التنظيم والمنهجية، ويغرق في العشوائية.
يظل الانسان المتخلف مقتصراً على الملاحظة الساذجة والانطباعات الأولية، مما يدفع به الى الاكتفاء بالمعرفة المباشرة والمحدودة بالظاهر، وهكذا يظل على السطح لا يمسك من الظواهر سوى جوانبها المختلفة. لذلك نجده ينخدع بسرعة ويمنح ثقته لمّدعي الثقافة أو التدّين أو من يطلق ويردد الشعارات الوطنية والبطولية والمثل الأخلاقية والإصلاحية، وهو أبعد الناس عن هذه الصفات التي يدعيها لنفسه. بدون أن يعرض سلوك هؤلاء للنقد والتحليل والمقارنة، ليميز منهم الحقيقي عن الزائف والمدعي.
لأن تحليل الظواهر عمقاً واتساعاً هو الشرط الأساسي للسيطرة على الواقع. وبمقدار عمق التحليل ترتقي الاستنتاجات. لكن يعجز الذهن المتخلف عن الذهاب بعيداً في تحليله للأمور، لأنه لا يدرك أن لكل ظاهرة مستويات متعددة من العمق والأتساع. وأنها تبدو مختلفة تبعاً لكل مستوى. والخطأ هو في الاكتفاء بالمستويات الظاهرة أو الخارجية التي تشكل عادة قناعاً يخفي الحقيقة بقدر ما يعبر عنها. وخطر هذا الموقف المتسرع يتضح من خلال إطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل وزائف. ومن المعروف عملياً أن الحقيقة نسبية وقيمتها رهن بالمستوى التحليلي الذي بنيت على أساسه. فكل حقيقة تخفي ورائها أخرى أكثر محورية منها. فتكون كل حقيقة بهذا المعنى قناع، لابد من تجاوزه عمقاً واتساعاً إذا أردنا الارتقاء بالمعرفة الإنسانية.
لكن الأمر لا يقف عند حدود العجز عن التحليل الشامل، بل يتخذ مظهراً آخر هو صعوبة الانتقال من هذا التحليل الى مرحلة التوليف. وليس للتحليل من قيمة عملية إلا بالقدر الذي يسمح معه بالخروج بتصورات متماسكة عن الواقع، تؤدي الى قرارات ومواقف فعالة. وكما أن هناك عجزاً في استعراض مختلف جوانب الظاهرة، هناك أيضاً عجز في الربط بينها في وحدات كلية، وعجز في إعادة ترتيبها في علاقات جديدة توضح خصائصها التي كانت غامضة، مما يجعل الواقع يبدو أكثر شفافية وتماسكاً. لأن الذهن المتخلف يظل حائراً أمام شتات الظواهر، لا هو بقادر على النفاذ الى جوهرها، ولا هو يستطيع إعادة ربطها فيما بينها في صيغ جديدة، ولذلك فهو يصطدم بصعوبات الحل. كما أنه يعاني من صعوبات الانتقال من مرحلة التفصيلات، الى مرحلة التنسيق الكلي. ويرتبط هذا بخاصية الجمود والقطيعة التي يبدو أنه يتصف بها.
وكما يتسم الذهن المتخلف بانعدام المثابرة، والتركيز بتفكيره في أمور تكون محدود زمنياً، سرعان ما يشعر بالتعب والتشتت. حيث تجده ينطلق بحماس شديد في البداية، لكنه يفقد حماسة بنفس السرعة التي بدأ بها.لأن حماسة والتزامه بلا غد، كما أن أي تخطيط بعيد المدى يضعه، يكاد يكون عنده مستحيلاً. فهو بحاجة الى نتائج آنية وشبه جاهزة، لأنه لا يمتلك القدرة على بذل جهداً مركزاً وطويل الأمد حول نفس القضية. فهو آني يعيش لحظته الحاضرة، أما آفاق المستقبل لدية فمقفلة. وهذا نتيجة لتعرضه لإعتباط سلطة المجتمع المتخلف، واستبداد الأنظمة المتسلطة الى جانب أصحاب العقول الجامدة، في ممارسة كبتها وقمعها لأي فكر تحرري أو تنويري وبالنتيجة تنعدم الضمانات الآمنة في الحياة.
فالإنسان الذي فقد السيطرة على مصيره يستحيل عليه التخطيط لهذا المصير، ويظل أسير الظروف التي تحيط به. يعيش ليومه غير عارف ما يمكن أن يحمله الغد. أن التخطيط للمستقبل يشكل تحدياً فعلياً للإنسان المتخلف لأنه لا يملك أسبابه. ولذلك فان عجز هذا الإنسان يسير عموماً في اتجاه التفاقم، نظراً لأن التخبط والعيش ليومه يرسخان وضعه. ولهذا ينقلب الإنسان المتخلف ما بين التفاؤل والتشاؤم تبعاً لتأثير الحالة في اللحظة التي يمر فيها. كما يظل الإنسان المتخلف تجزيئياً، يعجز عن النظر أبعد من حدود محيطه المباشر.
قصور التفكير الجدلي
أن هذا القصور هو لب الذهنية المتخلفة. فهي جامدة قطعّية وحيدة الجانب، تتبع مبدأ السببية الميكانيكية، عاجزة عن العمل تبعاً لمبدأ التناقض. ويلاحظ هذا القصور في مختلف النشاطات وعلى مختلف الأصعدة ومختلف مستويات المسؤولية.
وهذا نتيجة للذهنية المتخلفة التي تنطلق في نظرتها الى الأمور من مبدأ العزل والفصل. أي الشيء قائم في ذاته، ومنفصل عن بقية الأشياء والظواهر. لذلك فهي تطلق حكماً تقويمياً ونهائياً بشأنه. ومن خلال إطلاق صفة الثبات عليه، فالأشياء تبقى كما كانت هي عليه.
لكننا نجد أن المنهج الجدلي يرى عكس ذلك، فأنه يقول بالدينامية والصيرورة من ناحية، وبتحديد العلاقة من ناحية ثانية. لأن الشيء لذاته هو تجريد فارغ لا حياة فيه. فلذلك لا يكون كل شيء هو لذاته فقط بل وللآخرين أيضاً، لأن كل شيء دائما هو في علاقة، أو مجموعة علاقات مع أشياء أخرى. وعلى هذا الأساس فأن الانسان ليس وحدة منعزلة، بل هو جملة العلاقات الأساسية التي يقيمها مع الآخرين والتي هو منغرس فيها تاريخياً. وبهذا تكون هي جملة الدلالات التي يأخذها انطلاقا من هذه العلاقات. بينما تظل النظرة المتخلفة للواقع تفتيتية تكديسية، من خلال عزلها الظواهر بعضها عن البعض. لتعود مرة أخرى فتكدسها بدون إدراك لعلاقات الترابط، القائمة فيما بينها بالضرورة.
يعتبر عجز الإنسان المتخلف عن رؤية قانون التناقض، من أخطر عوامل القصور في الذهنية المتخلفة. ويعود سبب ذلك لأن الانسان والأشياء هما في علاقة دائماً. وهذه العلاقة تضم طرفين أو أكثر في حالة تفاعل دائم وتأثير متبادل، فكل طرف يتطلب وجود الطرف الأخر المتناقض معه كشرط لوجوده، وحدة العلاقة تقوم على دينامية التناقض. الحقد مثلا ليس ظاهرة تذهب في اتجاه واحد، بل يتم على أساس العلاقة مع آخر ينصب الحقد عليه، ويقف منه موقفاً محدداً يعطي لذلك الحقد طابعه الخاص، وبدونه لا يكون ممكناً. لأن الحاقد وموضوع الحقد تجمعهما وحدة العلاقة رغم تعارضهما. لذلك تعجز الذهنية المتخلفة عن تقدير دور كل من طرفي التناقض، بمقدار عجزها عن التفريق بين الأساسي والثانوي، بين المحوري والحدودي، بين القاعدي والعابر، تساوي كل هذه الأمور في الأهمية، وتساوي بين وزن هذه الظواهر جميعاً.
أن المنهج الجدلي يعلمنا أن هناك دائماً طرفاً أساسياً وطرفاً ثانوياً في التفاعل. وأن العلاقة لا تظل ثابتة على الدوام في صيغة واحدة، بل هي متحولة فالأساسي قد يصبح ثانوياً في مرحلة تالية، بينما الثانوي يصبح أساسياً. ويحدث هذا التناقض داخلياً أيضاً، لأن الظاهرة ليست كتلة واحدة متماسكة بل هي نتاج تفاعل قوى داخلية متعددة في اتجاهها ومتكاملة في تعارضها.
كما تعجز هذه الذهنية عن إدراك العلاقة الجدلية بين الزمان والمكان، بين التاريخ والبنية، لأن الأمور تبدو أما متطورة تاريخياً، أو محدودة بنيوياً خارج إطار الزمن. لأن الظواهر ليست منعزلة بهذا الشكل، فالزمان والمكان، التاريخ والبنية أمران متلازمان يتبادلان التحديد والتأثير، وهكذا لا توجد علاقة أو بنية خارج التاريخ، ولا تاريخ خارج شبكة العلاقات التي تحكم ظاهرة ما.
أن هذا القصور، يخلق حالة من التصلب الذهني، مما يجعل الانسان المتخلف يفتقر الى المرونة، والى القدرة على بحث الأمور من جوانب متعددة ومنظورات ومستويات شمولية. وهذا التصلب يحجب الرؤية النسبية في الأشياء والظواهر، ويميل الى المواقف القطيعّة ( أما أو )، بينما هذه الظواهر هي دائماً مزيج متفاوت من الأوجه السالبة والموجبة.
وانعدام المرونة الذهنية مرتبطة بحالة عامة من انعدام المرونة في الرؤية في التصدي للعالم، وهذا بدوره يشكل عقبات جدية في وجه التطور والتنمية. وهذا القصور بمنهجية التفكير يتناسب مع شدة القهر والاستبداد المفروض، وركود العقلية الاجتماعية.
الخصائص الذهنية والانفعالية
نجد أن الوجود المتخلف معاش وجدانياً اكثر مما هو مصاغ ومنظم عقلياً. لأن المتخلف يرزح تحت عبأ انفعالاته التي تفيض على الآخرين، مطليةً بصبغة ذاتية طاغية، وانحسار الموضوعية وخصوصاً في أوقات الشدة. حيث نجد المتخلف يغرق في تلك اللحظة بتيار جارف من الانفعالات، يجعله يفقد السيطرة على الواقع، مما يدفع به الى الارتماء في التفكير الخرافي والغيبي أو الاستسلام والانطواء أو الإدمان أو المشاكسة والعدوانية تجاه الآخرين، كوسيلة وحيدة متبقية للخلاص من مأزقه النفسي. أن طغيان الانفعالات على هذا النسق يضع الانسان المتخلف أمام الحاجة الملحة للتخلص من ضغطها وما تخلقه من توتر داخلي صعب الاحتمال.
ومن المعروف أن أكثر الوسائل فعالية وبدائية للتخلص من هذا التوتر، هو الإسقاط الذي يسمح له بتصريف انفعالاته وعيوبه وكل ما يثير لديه مشاعر الخجل والذنب أو العار في نفسه من خلال صبها على الواقع والظروف والآخرين، من باب تبرئة ذاته. وهذا يحدث خاصةً مع العدائيين في علاقاتهم مع الآخرين وبالإضافة للنشأة الأخلاقية والتربوية التي تلقاها من عائلته.
تساهم هذه الحالة في تدهور الحوار العقلاني والتفكير المنطقي والديمقراطي على أساس احترام الرأي والرأي الآخر الذي يكون بعيداً عن المهاترات والإسفاف. لأن العكس سوف يبرز التعصب والتحيز وسرعة إطلاق الأحكام المسبقة، مصحوبة باتهامات وشتائم، وهي لا تدل إلا على عمق المأزق والاضطراب النفسي والعقلي، وإغراق المتخلف في تخلفه بعيداً عن إيجاد الحلول والبدائل الأفضل.
أن عجز العقل عن السيطرة على الواقع يفجر الانفعالات لدى الانسان المتخلف الذي يعاني من القهر المزمن الذي يتفجر في داخله عند كل مواجهة مع الآخر. فيصدر الأحكام المتسرعة والقطعية، ويصنّف الآخرين في فئات جامدة أو في رفوف على أساس معي أو ضدي، طيب أو شرير، مثقف أو جاهل، بالاضافة لسوء الظن بالآخرين. هذه الأحكام هي نتيجة للرؤية ذات البعد الواحد أو التعصب والأحكام القطعّية، البعيدة عن الرؤية النسبية، وقانون التناقض في علاقة الانسان ومفاهيمه في الحياة.
أن تطور الذهنية يسير مع ارتقاء المستوى التعليمي في المجتمع، وقدرته في السيطرة على الواقع والتاريخ. لكن المشكلة في مجتمعنا تكمن في نوعية التعليم ومدى قدرتها على تنمية وتنوير الذهنية. لأن التعليم لدينا لا يساهم في بناء الشخصية من خلال تدريبها وتعليمها على الفهم والدقة في تناول الموضوع والمناقشة والنقد بموضوعية واستخدام المنهج العلمي في البحث. فبقيّ التعليم والتربية المعرفية لدينا في الكثير من جوانبها قشرة خارجية سرعان ما تنهار عند الأزمات، ليعود الفرد الى نظرته البدائية والخرافية والعصبية وعلى ما أكتسبه من بيئته المتخلفة من مفاهيم بالية وكسيحة وسلطوية وانفعالية، إلا من سعى بجهده الشخصي في بناء رؤية فكرية ومعرفية أكثر تطوراً وشمولية، وأن كانت هذه الرؤية تتفاوت من حيث العمق والسعة بين فرد وآخر.
كما لا تزال السلطة الأبوية ووصايتها على تفكير وسلوك الآخرين، تسيطر على أساليب التعليم لدينا، وتساهم في قمع الرأي الآخر المختلف معها بشكل جزئي أو كلي، وتلغي الحوار معه. وتسعى لتأكد الجانب العبودي والتبعي الراضخ على من هو أصغر، سواء كان في السن أو العمل أو التعليم أو المستوى الاقتصادي… الخ.
ومن خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي اليها العرف الاجتماعي من قيم واعتبارات. وأن هذه المفاهيم العقيمة والمتسلطة، لا زالت مرسخة في عقلية وسلوك الكثير منا، وأن كان البعض يدعّي عكس ذلك، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فالانفعال ورد الفعل يعكس ويكشف طبيعة الشخصية، المكمونة والحقيقية لدى الانسان ومن خلال سلوكه ونوع الرد يبيّن طبيعته الأخلاقية والتربوية والثقافية، حسب قول المثل - الإناء ينضح بما فيه.-
أن استمرار الانسان على هذا المنوال يعمق الأزمة، وتتسع الفوضى والتشتت، ويزيد من الصراعات الشخصية وليس الجوهرية المصيرية، ويعزلنا في تكتلات غير متعاونة. وتضيع جهود الكل مادام كل طرف يعمل ضد الطرف الآخر، على أساس أنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة ويعمل من أجلها خلافاً للأطراف الأخرى. والمشكلة أن الجميع ينادي بضرورة تعميم الأسلوب الديمقراطي في المنهج العملي لديه. كما لو كانت الديمقراطية قميص أو بدلة نرتديها في الأماكن العامة أو أغنية ننشدها على موائد السمر أو موضوع ثقافي نردده في جلساتنا الخاصة…. الخ.
نحن جميعاً بحاجة لتعلمها وتشربها وهضمها. لأن الديمقراطية تعني عند البعض فرصة للنيل من الآخرين وإيكال التهم والشتائم عليهم والاعتراض على الخطأ والصواب في نفس الوقت. أن الديمقراطية تعني احترام الاختلاف وممارسته لأنه جوهر التطور وديمومته، وكما تعنى بحرية التعبير عن الرأي الموضوعي وليس المهاترات، وحرية اختيار المعتقد.
لأنه لا توجد رؤية أو نظرية أيٌّ كان نوعها تستطيع أن تحتوي الانسان والعالم في طروحاتها بشكل منصف وشامل زمناً طويلاً، بدون أن تغير وتجدد نفسها وتتواكب مع متغيرات الزمن وإنجازاته. يقول تيري أجلتون - ليس هناك من عقيدة لا يمكن هزها وزعزعتها، ولا إيمان عقائدي لا يمكن مساءلته والشك فيه، ولا تقليد معترف به لا يهدده التذويب. - وإلا سيطرة وعمت الوثوقية الراكدة والعقيمة، التي لا تقبل أي تجديد وإيجاد حلول بديلة تتناسب مع متغيرات الزمن على الانسان والعالم، وتتجاوز سلفية الرؤية في المعتقد والتفكير والعمل بصيغها. لأن السلفي هو كل من يتوقف عند حدث ما أو زمن ما أو شخص ما أو نص ما، لكي يتخذ منه المرجع والنموذج أو المعيار، فيما يفكر فيه أو يقوله أو يفعله.
أن كل ما نعيشه الآن ما هو إلا نتيجة، وثمرة الانحدار والتردي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، عبر سنين التراكم لعوامل الانحطاط والاستبداد، وازدهار التخلف وسطوة الخرافة، وضياع الحقوق الشرعية للفرد في الحياة الكريمة، وطغيان الظلم واستلاب الحريات والكرامة، والتنكيل وسحق للمشاعر الإنسانية. مما ادى هذا الى نحجيم العقل وتعطيله بشل قدرته الفكرية، وحصرها في زويا ضيقة ومباشرة، لا ترى العالم وما يحدث فيه إلا من خلالها. ونتيجة لذلك أخذت تزداد مساحة الافكار السطحية الضيقة والتي أدت الى نمو سلوك الاستبداد بالرأي والتعصب له، كمقياس لقوة الايمان والتمسك بالاصول اي كانت دينية او سياسية اة فكرية او قومية. ونتيجة له اخذت سياسة سلطة الرأي الواحد تنمو من خلال تشربنا لها تربويا، عن طريق ممارسة السلطة لتعميم طروحاتها وافكارها التي تؤمن هي فقط بصحتها وحقيقتها. مما ادى ذلك الىانتقالها كموروث تربوي وثقافي، امتصه المجتمع عبر الزمن، ليملئ حيزا كبيرا في العادات والتقاليد الاجتماعية، كما هو السحر والخرافة. لان الذين يشعرون بالاستلاب ازاء هويتهم ومعانيهم، لم يستطيعوا استعادتها بل يرتدون عن الهدف حين يسعون الى تحريرها، وينتجون بدلا عنه الاستبداد والغرق في الظلام، لان المستلب ازاء شئ لا يسترد ما يشعر بفقده، بل يرتد على معناه وينقلب على مواقفه. كما هو شان من يشعر بالاستلاب ازاء حريته. فهو يمارس الاستبداد بقدر ما يسعى لتحرير نفسه منها. لذلك فهو يفشل في تحقيق هدفه، بل يندفع بالاتجاه المعاكس، لانه لم يتحرر من شعور الاستلاب والدونية، لعدم امتلاكه القدرة على الموازنة، ويكون مليئا بالكراهية تجاه الاخرين.
ليزال هذا الموروث السلطوي يمارس في واقعنا الاجتماعي،في علاقات الناس بعضهم مع بعض سيلسة الانظمة المتسلطة على رقابنا، التي تسعى بكل جبروتها لاعاقة وسحق اي حركة تنويرية ونهضة علمية وثقافية، وتصفية كل من يحمل فكرا حرا. وان هذه الأنظمة لا زالت رابظة على رقاب الناس تجهد بكل قوتها الى تدمير الحياة الإنسانية والثقافية وتسطيح كل القيم الإنسانية والفنية، وتحطيمها لكل أدوات الإبداع وسيطرتها على كل وسائل الاتصال، وشكها المريب والمتواصل في كل المثقفين، واعتبارها الثقافة من لزوم ما لا يلزم. لقد أوحت هذه الأنظمة في أعمالها لا في أقوالها بأن كلمة الثقافة كلمة قذرة يجب وقف تعميمها والحد من انتشارها، وتشجيع التصحر في بنيتها، وهكذا صار المشهد الثقافي في وطننا صحراء لا تنمو فيه إلا الطحالب ولا تعيش في كثبانها إلا الزواحف السامة، فأين المثقف الحقيقي الجاد والملتزم وما هو دوره وموقفه مما يجري واقع مجتمعنا المتردي والمتخلف.
لكي نتخطى تخلفنا وننهض بمجتمعنا نحو آفاق المستقبل، برؤية حضارية متطورة ترتقي بنا وتنتشلنا من وحل التخلف، والوثوقية والتعصب لآرائنا ومعتقداتنا وانتمائنا العشائري والجغرافي، واستلاب وقهر وتكميم وإبادة، للكرامة الإنسانية وكبريائها، ولمشاعر الحب والتعاون، ولحرية التعبير والاختيار.
لذلك يتطلب من جميع المختصين بعلوم النفس والاجتماع وكل المثقفين الحقيقيين الذين يمتلكون عمقاً وقيماً أخلاقية، ملتزمين بمبادئهم الإنسانية. أن يساهموا بدراسة واقعنا الاجتماعي وتاريخه الطويل، وتشريح وتشذيبه كل ما فيه، فكراً وعقائد وأحداث… بإعادة موازنتها ونقد كل تفاصيلها بجرأة حتى المقدس فيها بروح موضوعية بعيدة عن التعصب والتحيز والخوف تجاه أو من أي سلطة كانت. مستثمرين كل ما توصل اليه العالم، من مناهج وأصول البحث العلمي.
لكي نبي إنساناً جديداً يعتز بكرامته وكبريائه، يمتلك إرادته في تقرير مصيره وتحقيق حريته واختياره، ويدرك حدود حقوقه الإنسانية وشرعية امتلاكها، والعيش ضمن حدودها، محترماً جوانب الاختلاف، ومتفهم أن للحياة أكثر من نافذة، ينظر منها الانسان اليها ويتعامل معها على أساسه، فعليه أن يقاوم أي استلاب لحقوقه ويقاوم أي استبداد وتكميم لأفكاره وحريته واختياره. فنحن بحاجة لثورة ثقافية، وحركة تحرر فكري تنويري ينتشلنا من الظلام الذي يخيم على سماء عقولنا وأنفسنا، لننهض بها نحو استبداد أنظمتنا الحاكمة بأيديولوجياتها المختلفة.