|
تجارة الرقيق في الألفية الثالثة
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2440 - 2008 / 10 / 20 - 01:18
المحور:
حقوق الانسان
ظلتْ كتبُ التاريخ تفخرُ بتحرير العبيد ، ومنع الاتجار بالرقيق ، وسنِّ قوانين وتشريعات الحرية ، وأصبح شعار العالم منذ قرنين الحرية والمساواة والعدل ، ورفعتْ الثورات العالمية الكبرى شعارات الحرية والمساواة ، وأنامت البشر على وقع شعارات الحرية، وجعلت الناس يحلمون بالحرية، وهم يعيشون أبشع أنواع العبودية . ولم يلتفت كثيرون إلى علاقة العبودية بتكنولوجيا الألفية الثالثة، وهرب كثيرٌ من الباحثين من الربط بينهما لسبب وجيه ، وهو أن التكنولوجيا جاءتْ كثمرة من ثمار الحريات ، فكيف تكون مُسبِّبة للعبودية ؟! وسعد كثيرون بالطفرة العلمية المتنامية فائقة السرعة ، لأنها حسب اعتقادهم ستكون خادمةً لحياتهم ، مُسخَّرة لراحتهم ، حتى ولو كانت حياتهم وحياة أبنائهم هي الثمن . هكذا إذن اعتاد عبيدُ الألفية الثالثة ، أن يتغنوا بحريتهم ، وهم يرزحون تحت أقسى أنواع العبودية . كلُّ ما في الأمر أن أكثر البشر فرحوا باندثار تجارة الرقيق والعبودية بمعناها التقليدي فقط.. والحقيقة أن العبودية لم تندثر ، بل ظهرتْ في صورٍ وأشكال جديدة شتّى ، وغيَّرتْ أثوابها وماكياج وجهها فقط . وصورها . تطورتْ تجارةُ الرقيق وانتقلتْ من يد عصابات النخَّاسين التقليدية التي كانت تقود العبيد مكبلين بالأغلال في قوافل لتنقلهم إلى الأسياد ، لتصيرَ تجارةً عالمية مُرخصة ومسكوتٌ عنها ، بحيث صار في الإمكان أن يُصبح سكانُ بلدٍ بأسره رقيقا ، لنخّاسٍ واحدٍ أو أكثر ، أو لدولة من دول النخاسين أو أكثر، وصار مواطنو كثير من الدول يعيشون عبوديتين ، عبوديتهم لحاكمهم المُستَبِد ، وعبوديتهم ، هم وحاكمهم إلى الأسياد ونخاسي الألفية الثالثة. وأصبحت خيارات العبودية تتراوح بين ، أن يبيع الفرد حريته لرب عمله ، في وطنه ، أم في وطنٍ آخر ، والفرقٌ بينهما ، هو الثمنُ ليس إلا . وصارتْ بعضُ الدول تُبيح لمواطنيها أن يبيعوا أعضاءهم وأجسادهم ، فهناك دول اعتبرت أجساد أبنائها قطع غيار قابلة للبيع ، فأصبح بيع الكُلى وقرنيات العيون وأعضاء بشرية أخرى فيها للموسرين الأغنياء، مصدرا للدخل الوطني ، وأسمتْ بعضُ الدول هذه النخاسة البشعة تجارة (السياحة الطبية) . وهناك دول أخرى جعلتْ البغاءَ مخزونها الاستراتيجي، وركيزة دخلها القومي، بحيث صارت الأسرً فيها تدفع أبناءها إلى ممارسة البغاء كتجارة مربحة ، وكعملٍ إضافي يُساعد الأسرة ويُنعش دخلها المالي ، وأطلقت على هذا النمط من العبودية (الترفيه الجنسي). ولجأت بعض الدول إلى إسعادِ مواطنيها باقتناء رقيق الخدم والحشم، فمنحتهم رخص الاستعباد ، وأعطتْهم الحقَّ ليشتروا بأموالهم عددا من العبيد من دول تصدير العبيد، التي تعتبر مواطنيها زائدين عن الحاجة، فظهرتْ تسمياتهم الجديدة مثل: السائقين والمربيات والممرضين والممرضات والطبّاخين والطبّاخات ، والمدرسين والمدرسات ، وأطلقتْ على هذا النوع من الرقيق (العمالة الوافدة لإنعاش الأسرة). ولعلّ أبشعَ أنواع العبودية ، حين يستعبدُ المُستعبَدُ عبدا ، فإنه يكون أكثر طغيانا وسطوة من نخاسي القرون الفائتة ، وينطبق ذلك على كثيرٍ من حكامِ الدول النامية والصغيرة والحقيرة ، فحكام تلك الدول المًستعبدون أصلا من رؤسائهم في الدول الكبرى ، يقومون بما هو أبشع من الاستعباد والاسترقاق القديم ، فهم يفرضون على شعوبهم المُسترقة الإتاوات ، ويُجبرونهم أن يلتزموا بمبادئهم وأفكارهم لا يحيدون عنها ، ويهددونهم بالموت إذا خالفوا مبادئهم ، فتصبحُ الدولة كلها صورة من صور الحاكم ، فيصير التعليم مرآة من مرايا السلطان ، وتصبح الفنون والثقافة ، أغنية من أغانيه ، وتصير الوزارات والدوائر والمؤسسات فرقا للمخابرات في بلاط الحاكم ، وبمرور الوقت يستمريء عبيد تلك الأوطان هذا الاستعباد ، ويتغنون به باعتباره حرية وعدلا ، وهذا هو الأقسى ! ولعلّ أبشع أنماط العبوديات ، تلك التي تغضُّ فيها بعض الدول النظر عن تجارة الأطفال سواء أكانت التجارة بدفعهم لسوق العمل ، بعد أن يتسربوا من المدارس ، أو بالادعاء بأن أسرهم لا تتمكن من تربيتهم ،حتى أن بعض الدول غضتْ الطرف عن التغرير بالأطفال وضمهم إلى الأحزاب، بعد أن نوَّمتهم تنويما مغناطيسيا ولقنتهم مبادئها منذ نعومة أظفارهم ، فجرَّعتْهم التطرفَ والعنف ، وهم أطفال لم يصلوا سن البلوغ حتى أن بعض الأحزاب في دول كثيرة درَّبتْ الأطفال على السلاح ، وعلمتهم القتل قبل أن يبلغوا سن الرشد ، ونظمتهم في ميليشياتها كجنودٍ يُنفذون الأوامر، كما يحدث في بعض الدول الإفريقية . وفي بعض الأوطان ما زالتْ الأنثى تخضع لعبودية الذكور ، فيزوجون البنات الصغار قبل أن يبلغن سن الزواج إلى عجوزٍ هرمٍٍ ميسور ليسددوا ديونهم . وإذا أضفنا إلى صورة عبودية الأطفال ، ما تقوم به الدولُ المحتلة كإسرائيل من استعباد بطرقٍ شتّى ، كأن تعمد إلى تجنيد الشباب الفلسطينيين ليخدموا الاحتلال باستخدام أقذر الوسائل ، وما تقوم به قوات الاحتلال أيضا من سجن الأطفال الصغار، وتعذيبهم وقتلهم ، فإننا نكون قد رسمنا صورة أخرى عن رقيق الأطفال في ألألفية الثالثة . ولا ينبغي أن نمرّ مرور الكرام على عبودية العصابات المنظمة التي ترعاها دولٌ كثيرة في السرّ ، وتعلن البراءة منها في العلن ، فهناك عصابات كبيرة اختصت بترويج كل أنواع الإدمان ، بدءا من إدمان المخدرات والمنشطات والعقاقير والأدوية غير المشروعة، وانتهاء بإدمان أنواع الطعام والشراب والكساء ، وفرضت كثيرٌ من الدول على عصابات الرقيق الحديثة أن تدفع مبالغ من المال لجيوب الحكام ، أو لخزينة الدولة لجعل نشاطها شرعيا ، وجعلتْ المالَ المدفوع بمثابة صك براءة من أفعالها ، وأصبح تعبير (تبييض الأموال) أو غسلها من عار الرِّق أمرا مستساغا ومشروعا ، ومعترفا به في كثيرٍ من دول العالم . ونشطتْ أيضا عصاباتُ الرقيق في الألفية الثالثة في ممارسة أنشطتها في تفريغ الدول الفقيرة والصغيرة من أبنائها المبدعين ، واختطافهم كرقيقٍ ونقلهم بطرقٍ أبشع بكثير من طرق قوافل العبيد البائدة ، فأصبحوا يحشرونهم في سفنٍ صغيرة وحقيرة ، ويكومونهم فوق بعضهم كبضائع ، ثم ينقلونهم إلى بلاد الأسياد الموسرين ، وهناك من يستعملون سيارات نقل البضائع لتهريب قطيعٍ من العبيد ، بعد أن يحشروهم في أكوام البضائع ، فإذا قُدّر لهم أن يصلوا ، وما أندر وصولهم سالمين ! تبدأ مسيرتهم كعبيدٍ جُدد في بلاد الأغنياء ، يعيشون مُطاردين ، ويسيرون خائفين ، وينامون فى رعب وخوف ، وقد يقضون سنواتٍ طويلة في السجون ، أو تُجبرهم بعض الدول على العودة مرة أخرى إلى أوطانهم عبيدا وطنيين ! والحقيقة التي لا يعترف بها كثيرون حتى الآن تقول : نحنُ أحرارٌ فقط في اختيار السيد الذي يستعبدنا !
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرتبات القطط السمينة والأزمة المالية العالمية
-
تسفي ليفني في الدين اليهودي
-
أسمهان ونابليون الحكيم
-
مزايا وأفضال الهاتف الجوّال
-
هل يُسجن أولمرت كما سُجن أرييه درعي ؟
-
أنواع أقلام الكُتَّاب
-
الرقابة الذاتية عند الصحفيين الفلسطينيين
-
ماذا بقي من اليسار الفلسطيني؟
-
موسم القحط الثقافي
-
بذرة خضراء.. آخر أُمنيات محمود درويش
-
الفضائيات والتلوُّث العقلي
-
هل تبخَّر اليسارُ الإسرائيلي ؟
-
نصائح للراغبين في ركوب قطار العولمة !
-
هل المثقفون هم فقط الأدباء؟
-
أوقفوا (جموح) الصحافة الإلكترونية !
-
الآثارالعربية ... ومحاولة هدم الأهرامات !
-
كتب مدرسية ( مُقرَّرة) في الجامعات !
-
عوالق شبكة الإنترنت !
-
من يوميات صحفي في غزة !
-
الإعلام وصناعة الأزمات !
المزيد.....
-
في يوم الأسير.. 63 شهيداً وأكثر من 16400 حالة اعتقال منذ 7
...
-
مجزرة المسعفين برفح.. أراد الاحتلال طمسها وكشفتها الأمم المت
...
-
الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات و تفجير المنازل في الضفة
-
تسوية القضية الكردية والخروج من المأزق
-
المخيمات الفلسطينية والحرب الإسرائيلية الأمريكية على الأونرو
...
-
الأمم المتحدة: إسرائيل قتلت نحو 71 مدنيا في لبنان منذ وقف إط
...
-
مداهمات واعتقالات في الضفة الغربية
-
العدوان على طولكرم.. مداهمات واعتقالات ونزوح قسري
-
قائد قوات الدعم السريع يعلن تشكيل حكومة موازية في السودان، و
...
-
ترامب يقترح برنامجا للترحيل الطوعي مع إغراءات للمهاجرين -الط
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|