|
إبن الشاطئ
عبلة الفاري
الحوار المتمدن-العدد: 2432 - 2008 / 10 / 12 - 06:40
المحور:
الادب والفن
أخطبوط عملاق يجثم ثقيلا على صدري يطوقني لحد الإختناق ، فأ حس بحشرجات الموت تداهمني كلما غفوت قليلا، لأستيقظ مرعوبا مصفر الوجه مزعزع الكيان من هذا الكابوس المزعج الذي يطبق على ضلوعي فيرعبني بالموت مرارا لأدرك أنه تحصيلٌ حاصلٌ لآلاف السجائر وكؤوس الكونياك التي أبتلعتها. سأ ضع نهاية لكل هذه الكوابيس، سأرحل ،لن يلحظ رحيلي أحد...أهل القرية ، سيقولون كلب (فطس) ...فلديهم الكثيرين من أبناء الشاطئ أمثالي ، وكذلك أمي ، لن تلحظ رحيلي ، فهي منهمكة في معركة غسل الصوف على الشاطئ ، لتأمين رغيف خبز ممزوج بالذل والعرق والشقاء ومرارة العيش في هذا الزمن الدنس التعس الموبوء بداء لقمة العيش ، فهي تعود ليلا خائرة القوى مثقلة بالهموم ومتعبة ، تعد لنا بعض الطعام للغد، تم تنام لتستيقظ باكرا لمعركة الشقاء.. أمّا أبي ، ذلك المنشغل دائما بسعاله الديكي ، هو أيضا لن يلحظ أبدا رحيلي وغيابي عن المنزل ...آه كم تمنيت أن يسألني أين كنت لأحس بحق أبوته نحوي ولو لمرّةٍ واحدةٍ في حياتي....هو أيضا يعود متأخرا ليوقظنا بسعاله وصراخه لأن أمّي نامت ولم تنتظره إٍلى جانب الطعام ...في اٍحدى الليالي كنت عائدا من بيت أم منصور ومثقل الرأس بالكونياك ولم أتملك نفسي حين رأيته يضايق أمي ، ضربته بعمودٍ خشبي فشققت رأسه وخرج الدم الفاسد والشياطين ، ونزفت دماؤه غزيرة..... كنت أريد قتله لتصبح أمي أرملة وأم أيتام يشفق الناس لحالها وتحل لها الصدقات ، وبعد ذلك هربت لأستقر في مزبلة القرية ، ويأ تني روّا د المزابل بالأخبار ، أنه يشـد على وسـطه خنجرا يريد ذبح إبنه الفاسق... أدرك أنّ الوحيد الذي سيذرف دموع غزيرة لفقداني، هو ذاك الفتى النحيل ، صديقي منصور، عبثا حاول مرارا وتكرارا أنّ يعلمني القراءة والكتابة على رمل الشاطئ ، لكن رأسي المنغلق يأبى التعلم ، فهو أقرب إلى رأس بغل على كتفي اٍنسان.... كنت دائما الأخ والصديق اٍلى منصور أدافع عنه في غياب أبيه....لكن عذرا يا صديقى !! فحزني أعظم من أن تداويه الكلمات ، وألمي أشد وأعمق من أن يلتئم بالنسيان، وهمّي أكبر من السهول والجبال والبحار... كلما ذهبت لزيارة صديقي منصور أحاول يائسا أن أتجنبها ، تلك المتمدنة المكتنزة البيضاء ، التي جلبها أبو منصور إلى قريتنا ، وتركها ، وغاب خلف المسافات بحثا عن أسباب العيش ، ليعود من الحول للحول، كل مرّة أحاول أن لا أنظر اليها، لكن خشخشة أساورها الذهبية تناديني ، وطقطقة قبقابها ترن في أعماقي فينتتشر صداها في عروقي، ورائحة قهوتها تتسلل الى ما وراء مسامات شراييني ، وشذى عطرها يخترق أنفاسي ، فتسكرني وأنا العبد المسكين ، أحاول باٍرادة سليبة أن أتجنبها ، لكن ضعفي يطغى على قوتي و سرعان ما أستسلم لتيارها الجارف تتقاذفني أمواجها ما بين السطح والقرار..... كل شئ فيها يشـدني بقوة صوبها ، دفء صوتها ، دلال الاٍيقاع في كلماتها ، نظراتها ، حركاتها ، رنين ضحكاتها كل شئ فيها ، سرعان ما تنهار مقاومتي وأنا العبد المسكين لا النبي المعصوم .... تنتابني نوبة ضحك جنونية همجية تخرسها يد أم منصور المكتنزة المطوقة بأثنتي عشر اٍسوارة أعدت عدها مرارا ، ثم تسألني بدلال فضولي جنوني ما يضحكك يا لعين ؟ أضحك من غلبي ، من همي، من شدة قهري ، مخلوق قذرإ نحدر الى قرار المستنقع فنفرت من قذارته الديدان ، أهل القرية إعتادوا أن ينادونني بالبغل، فكيف تحبين بغلا يا أم منصور ؟.... سرعان ما تنساب من فمها ضحكة هادئة متميعة تلزمني الإستسلام للهدوء . أعذريني يا أم منصور ! ! كم تمنيت أن يكون حبك لي شمسا تسطع فتبدد عتم الظلام القابع فوق أحزاني... كم تمنيت أن يكون حبك لي شجرة صفصاف تظلل بقايا صحراء عمري القاحلة.... كم تمنيت أن يكون حبك لي ينبوعا مسترسلا رقراقا يروي جفاف التشقق في ضفافي المقفرة فتنبض عروقي بالحياة ، ويورق العشب ويجن ألأقحوان.... كم تمنيت أن يكون حبك لي طيرا يرفرف فوق الفيافي فيشخص بصري ملتحقا به ، وتنعم روحي بخلود النقاء والطهر والصفاء....وأغفو كطفل عابث أدركه النعاس وهو يلهو بالأشياء لا يأبه لضجيج الحياة.... أعذريني مّرة أخرى كان النهيق في أعماقنا أعلى من كل ألأصوات ، ما دمنا قد أرتدنا المستنقع لنوحل سويا ... لكن خطواتي هذه على الرمال المبللة ستتلاشى بعد قليل ، لأن البحر سيغسل رماله من آثار أقدامي القذرة بمائه الطهور، هناك ، خلف ذاك المدى البعيد أسمع صدى الرحيل يتردد من وراء تلك الجبال الشاهقة ، يناديني ، يحثني على ألإسراع..... حيث سأجد عالمي الذي طالما حلمت به ورسمته بطريقتي ، على ألأقل هناك سأجد ما هو خير من مزابل قريتنا التي لا تحوم حولها سوى الكلاب الهاملة والقطط السائبة ، وغيرها من المخلوقات التي إعتادت إرتداء لون الليل والتستر في جنحه.... سأجد ما يجعلني أحيا كإنسان ، ولأن إضطررت لغسل المراحيض وجمع النفايات فهو على ألأقل خير مليون مرة من تلك القروش القليلة التي تكافئني بها أم منصور. هكذا رحل مسعود الناقم على نفسه، وزمانه، وواقعه ،وكل ألأشياء من حوله....سافر بلا زاد، ولا علم ، ولا مال، ولا مهنة، ولا أيّ شئ ، فقط ، مشحونا بالغضب والقهر والتناقضات ، هاربا من واقع مجبول بالتعس والمراروالشقاء الى الغد المجهول يأمل بأن غده هو ألأفضل....وذابت خطواته من رمال الشاطئ وتلاشت ذكرياته أيضا من القرية.... إلا من قلب أمه الشقية تبكيه ليلا حتى تنام وتواسي نفسها بمناداته نهارا ، لأن ذئاب الشاطئ المسعورة ما عادت ترتجف لسماع كلمة مسعود . كالطير المذبوح من الوريد الى الوريد أتخبط في دمي وألمي ، وأرتطم بالأرض ، فيتطاير ريشي وأنيني ورذاذ دمي في كل ألاتجاهات ، أتألم ولا أحد يدرك وجعي ....... لو كنت كلبا نبح بألم لأحاطت به كل الكلاب...!!!! وأمشي ، أنظر الى اللافتات المكتوبة بلغة بدت لي أقرب إلى الطلاسم ، حاولت فاشلا أن أربط بينها وبين دروس منصور على رمل الشاطئ ، لكن ماذا أفعل برأس بغل على كتفي إنسان... أتعثر، ألملم ما تبقى ، وأدوس ألمي، وأمشي متثاقلا مترهلا ، أبحث عن ذاتي فلا أجدها وأدخل في دوامة أو كابوس بلا بداية ولا نهاية ، طوفان يغرقني فيتيهني في متاهات التيه ، أنظر للوراء فلا أرى إلا أشواك المرّار ما زالت تدمي حوافري وسياط القهر تلسع مؤخرتي ، وخيالات أبي يمسك خنجرا وإلى جانبة تلك اللعوب تغويني ، أنظر الى ألأشياء و الوجوه من حولي فلا أرى إلا ملامح غريبة ما رأت عيني شبيها لها أبدا ، فتزيد من نفوري نفورا ، أشتم رائحة الطعام ، أراها قريبة جدا وهي عني بعد السراب من جيب فارغ من حفنة نقود تطفأ تمزق أحشائي الخائرة، قد يجد الكلب عظمة في المزبله تسكن جوعه والقط قد يجد فأر أما أنا ...لا أجد سوى خيبتي التى أهلكني البحث بين غبار الطرفات وأكوام النفايات عن شئ يغير متاريس الخيبات في دربي يا رب !! أرزقني صعلوكا يكفر عن خطاياه بإطعامي..يا رب!! أرزقني لصّا يغسل خطيئة سرقاته بإعطائي حبة دواء....يا رب !! أرزقني قاطع طريق يقطع عنقي ويكون خلاصي من معبر الموت هذا.... يا رب !! أرزقني قرصانا يجلبني للبيع في سوق العبيد لأقفز في عرض البحر وأسبح عائدا الى قريتي وإن لم أصلها أنال حتفي وجبيني متجه الى وطني... يا رب!!... وظل مسعود المتعوس دائرا حائرا هائما معلقة روحة بطفولته على الشاطئ أين كان يسبح في عمق البحر لا ينهرة أحد ، اٍلى أن كتبت أحدى الصحف المحلية عن موت مهاجرلا شرعي مجهو ل الهوية في ظروف غامضة غريبة.
#عبلة_الفاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|