|
ماركس!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2428 - 2008 / 10 / 8 - 09:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كلَّما عصفت بالرأسمالية أزمة اقتصادية حادة، كأزمتها الآن، والتي تشبه "حرباً عالمية ثالثة" سلاحها الاقتصاد، التمع في ظلمة النسيان، التي تشغل دائماً حيزاً من ذاكراتنا، اسم شخص واحد هو كارل ماركس، فلا مهرب لذاكرتنا من قانون "تداعي المعاني" لديفيد هيوم، والذي كثيراً ما نعبِّر عنه بالقول "الشيء بالشيء يُذْكَر"، وكأنَّ ذِكْر أحد الخصمين يستدعي ذِكْر الآخر.
وعلى سبيل التذكير، وإن نفعت الذكرى، نقول، أو يجب أن نقول حتى يصبح ممكناً تمييز خيوط الحقيقة من خيوط الوهم، إنَّ ماركس ليس الاتحاد السوفياتي، الذي حَكَمَ عليه التاريخ بالموت، وإنَّ الاتحاد السوفياتي ليس ماركس، الذي استمدَّ حياةً من موت ما سمِّي "النظام الاشتراكي (أو الشيوعي)"، ولو أبى "اليتامى الحُمْر" الاعتراف بهذه الحقيقة، التي تنمو ضياءً يوماً بعد يوم.
الرأسمالية هي التي ولدت ماركس، فاستولد من واقعها الاقتصادي ـ الاجتماعي فكراً، بسطه في مؤلَّفه الشهير "رأس المال"، فوعت وأدركت ذاتها على خير وجه.
إنَّها مصادفة صرف أن يظهر هذا الرجل في المكان الذي ظهر فيه (ألمانيا) وفي الزمان الذي ظهر فيه، وأن يكون يهودياً، وأن يكون اسمه كارل ماركس، وأن..، وأن..؛ ولكنها ضرورة تاريخية أن يظهر مثيلاً له في الفكر، فلو لم يظهر ماركس نفسه لأنتجت الضرورة التاريخية مثيلاً له، يقوم مقامه، فالمهمَّات التاريخية العظيمة هي التي تصنع الرجال العظام، وكأنَّها تحبل بهم.
في البدء، تجاهلوه، ثمَّ سخروا منه، ثمَّ حاربوه، ثمَّ ينتصر (أقول "ينتصر" ولا أقول "انتصر"). لقد نعوه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات، وطبعوا، في العداء له، ما يفوق ما طبعه "مجلس الاحتياط الفدرالي" من "الورقة الخضراء" أضعافاً مضاعفة؛ ومع ذلك ظلوا في حوار أبدي معه، وكأنَّ عصره وفكره لم ينتهيا بعد!
حتى أولئك "الحُمْر"، والذين "صنَّموا" ماركس وفكره حتى قال على الملأ "إنِّي لستُ ماركسياً"، تحوَّلوا جميعاً إلى بطرس، فأنكروه ثلاث مرَّات إذ تناهى إلى أسماعهم نبأ زوال الاتحاد السوفياتي، وكأنَّ انهيار بناية على رؤوس سكانها هو خير دليل على أنَّ علم الهندسة كان كومة من الأخطاء!
ولو كان ماركس على قيد الحياة عندما كان الاتحاد السوفياتي حيَّاً يُرْزق، ويُصوِّر نفسه للعالم على أنَّه الجنَّة على الأرض لقال، هذه المرة، وعلى الملأ، "إنِّي لستُ شيوعياً"، فلو كان "النظام الشيوعي" في الاتحاد السوفياتي وغيره هو ذاته "المجتمع الجديد" الذي بشَّر به ماركس، ودعا إليه، لدعا للرأسمالية بطول البقاء!
ماركس كتب مجلَّدات في النظام الرأسمالي؛ ولكنه لم يكتب سوى بضعة سطور في النظام الاشتراكي؛ لأنَّه كان عدوُّاً لدوداً لكل فكر طوباوي؛ ولأنَّه لم يفهم المجتمع الجديد الاشتراكي إلاَّ بوصفه أحد خيارين تاريخيين، فالرأسمالية، على ما قال وتوقَّع، إمَّا أن تتقدَّم نحو الاشتراكية وإمَّا أن تتقهقر، ومعها البشرية كافة، إلى عهود الوحشية، التي إنْ أردتم معرفة ماهيتها، وإدراك كنهها، فانظروا بالعين المجرَّدة من الأوهام إلى ما يسمُّونه "الرأسمالية الجديدة"، أو "الليبرالية الجديدة"، مع شريعتها، التي تسمى "نهاية التاريخ".
سقوط الاتحاد السوفياتي ظنُّوه سقوطاً لماركس، فقرَّروا إذلال هذا الرجل مع فكره بما يشبه الصفح عنه، فشرعوا يتساهلون في معاملة كل من يَذْكُر اسمه، أو يقرأ له، أو يكتب عنه، أو ينادي بأفكاره، وينحاز إليها، وكأنَّ الرعب الذي ألقاه في قلوبهم قد ولَّى وانتهى.
أمَّا قبل ذلك، أي عندما كان هذا الرعب يستبدُّ بهم، فكانت عبارة "اكرهوا ماركس!" هي جوهر وقوام خطابهم السياسي والإعلامي والفكري، فهو، في الصورة التي أظهروه فيها، الملحد الكافر، وهو اليهودي، والعدو اللدود للقومية، وهو الشرير الذي تبذر أفكاره بذور الاقتتال والحروب الأهلية، وتقوِّض السلم الأهلي، وتُفْسِد الفطرة التي خُلِق عليها الناس، وتناصب كل ملكية خاصة العداء ولو كانت ملكية صحن وملعقة. ولكن، ما أن تأكَّد لهم صلبه، فموته، فدفنه، حتى شغفوا حُبَّاً باليهودي الصهيوني، وبيهود "وول ستريت" والكونغرس.. وحتى زجوا العالم بأسره في حرب الكل ضد الكل، مستثيرين ومؤجِّجين في النفوس كل عصبية تهبط بالإنسان إلى الدرك الأسفل من الحيوانية، فعرف العالم من الفساد الشامل والعام في رُبْع قرن من الزمان ما لم يعرف له مثيلاً، في الكم والنوع، منذ التاريخ المكتوب.
في كتاب "رأس المال"، وفيه فحسب، يمكنك أن ترى الرأسمالية، والرأسمالية اليوم أيضاً، في حقيقتها العلمية، العارية من زخرف الثياب والقول، وأن تُدْرِك، من ثمَّ، أنَّ خير من حلَّل النظام الرأسمالي، وسبر غوره، واكتشف قوانينه الموضوعية، وفهمه فهما عميقاً واسعاً شاملاً، هو كارل ماركس، الذي تظل الرأسمالية في عصره ما ظلَّت على قيد الحياة.
لقد تحدَّى هذا الرجل، إذ جعل لفكره جذوراً عميقة في تربة العلم، كل زعماء الفكر الاقتصادي الرأسمالي أن يأتوا بتفسير علمي لـ "الربح الرأسمالي" غير التفسير الذي أتى به، والذي بفضله ظهرت "عدالة الأجر" على أنَّها الظُلم الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي وقد لبس لبوس "العدالة الرأسمالية".
قانون "العرض والطلب" نقَّاه ماركس من الخرافة، موضحاً أنَّ هذا القانون، وعلى أهميته، يفسِّر فحسب درجة انحراف السعر عن قيمة البضاعة؛ ولكنه لا يستطيع أبداً أن يفسِّر تلك القيمة ذاتها؛ والدليل على صدق ذلك أنَّ توازن العرض والطلب هو لحظة بيع البضاعة بقيمتها؛ وبيع البضاعة بقيمتها إنَّما هو ذاته بيعها بربحٍ، فإذا كانت قيمة بضاعة ما هي حاصل جَمْع قيم كل البضائع المستهلَكة من أجل إنتاج تلك البضاعة فكيف يمكن، عندئذٍ، بيعها بربح عندما يتوازن العرض والطلب؟!
وحتى كتابة هذه السطور لم نسمع إجابة رأسمالية علمية ومُقْنِعة عن هذا السؤال ـ التحدي، الذي انطلق منه ماركس ليؤكِّد أن جوهر الرأسمالية سيظل هو ذاته، وهو السعي لأمرين في آن: "الربح الأقصى" و"التراكم"، أي زيادة تركيز رأس المال.
لقد سألوا رب العمل، أي كل رب عمل، "من أين لك هذا؟"، فأجاب وكأنه لسان الحقيقة: "من عصاميتي، فكل ما أملك إنما هو ثمرة جهدي وكدِّي وعملي وعرقي.. وذكائي".
ومع ذلك، ظل الواقع يجيب قائلاً: "إنَّ من يعمل لا يملك، وإنَّ من يملك لا يعمل، وإنَّ أكثر الناس ذكاءً هم الفقراء"!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية -نهاية التاريخ-!
-
انفجار -السوبر نوفا- في -وول ستريت-!
-
قريع ينطق ب -آخر الكلام في اللعبة-!
-
-حقوق الإنسان-.. حديث إفْكٍ!
-
الفاتيكان يجنح للصلح مع داروين!
-
متى نجرؤ على اغتنام -فرص الأعاصير-؟!
-
إنَّها دولة وحكومة -وول ستريت- فحسب!
-
مِنْ آفات الكتابة السياسية اليومية!
-
-الوعيد- و-الصفقة- في خطبة مشعل!
-
-تجربة- تَحْبَل ب -ثورة فيزيائية كبرى-!
-
-القاعدة-.. لعبةٌ لمَّا تُسْتَنْفَد المصالح في لعبها!
-
عندما تتصحَّر -الليبرالية- ويزدهر -الليبراليون الجُدُد-!
-
تهاوي -ثقافة الحقوق- في مجتمعنا العربي!
-
-العرب الجُدُد- و-العرب القدامى-!
-
أُمَّةٌ تبحث عن فلك تسبح فيه!
-
ما ينقص -الفكرة- حتى تصبح -جذَّابة-!
-
-خيار أوكسفورد- لا يقلُّ سوءاً!
-
ثقافة -الموبايل- و-الفيديو كليب-!
-
لقد أفل نجمها!
-
أسبرين رايس والداء العضال!
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|