|
المثقف بصفته صاروخاً موجهاً
صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 2421 - 2008 / 10 / 1 - 08:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الصاروخ الموجه يراجع اتجاهه باستمرار. يتلقى المعلومات ويحللها ويصل إلى نتائجه التي يعدل على ضوئها خط سيره إلى هدفه. بالمقابل الصاروخ البالستيكي، قذيفة حددت وجهتها قبل انطلاقها، لتسير إليها حتى النهاية، ولا تراجع اتجاهها أو تعدله أو تتفكر فيه إلا اللهم ربما بما اعطيت من ذاكرة ميكانيكية تسجل ذلك الإتجاه عند انطلاقها بواسطة جهاز يدور بسرعة على ثلاثة محاور، ويصلح لتصحيح انحرافات المسار الناتجة عن الرياح مثلاً.
الصاروخ الموجه يعرف هدفه جيداً، فينطلق اليه ويبحث عنه ويتعرف عليه ليضربه. بينما الصاروخ البالستيكي لا يعرف سوى "إتجاهه" التقديري. لذلك فإن الصاروخ الموجه، الأذكى والأكثر قدرة على "الرؤية" والتعديل، هو أيضاً الأكثر دقة في إصابة الهدف...
لكن قوة الصاروخ الموجه هي نقطة ضعفه أيضاً! فهو باعتماده المستمر على استلام المعلومات وتحليلها وتعديل اتجاهه على أساس نتائجها، يكون معرضاً "للخداع"! الصاروخ يطير في الجو المفتوح لجميع الرسائل، من اصدقاء وأعداء. فلو أمكن التشويش على معلومات الصاروخ لتاه ولم يعد يعرف طريقه، ولو تم ايصال معلومات خاطئة إليه لسهل حرفه بعيداً عن هدفه. لذلك لاتطمح دولة متأخرة تكنولوجياً بضرب أخرى متقدمة بصاروخ موجه، بل تعمتد أكثر على الصواريخ البالستية، فهي في النهاية وإن أخطأت، فستخطئ بشكل محدود يمكن حسابه. أما الصاروخ الموجه فلا يعلم إلا الله أين يمكن أن يقوده التشويش.
المثقف يشبه الصاروخ الموجه: إنه لا يأخذ فكرة ثابتة وينطلق نحو هدفه، بل يبقي حواسه مفتوحة للمعلومات طوال الطريق، ولذلك فهو الذي يمكن الإعتماد عليه للوصول الى النتيجة الدقيقة المرجوة، على عكس الشخص الدوغمائي الذي يكتفي بفكرة أيديولوجية بسيطة ينطلق منها، ويقفل نفسه عن كل ما يمر به من معلومات مستجدة. إنه يفقد المعلومات الصحيحة، مقابل تخلصه من المعلومات المشوشة.
المثقف يستلم معلوماته المتجددة من متابعته للأحداث في الحياة حوله ليحللها ويحور طريقه على أساسها. لكن عالم المثقف اليوم أكبر كثيراً من أن يراه بعينيه، وبعض المعلومات التي يحتاجها، أبعد من ان تصله مباشرة، لذلك فلا بد للمثقف من الإعتماد على وسائل الإعلام لتحصيل الأخبار. كما أن الإعلام ضروري أيضاً لتحليل الكم المرهق من الأخبار والمعلومات واختيار الهام منها ووضعه بشكل يسهل فهمه. لكن الإعلام جو مفتوح لتأثير الجميع، من أصدقاء وأعداء. ولو أمكن التشويش على معلومات الصاروخ – عفواً المثقف- لتاه ولم يعد يعرف طريقه. ولو تم إيصال معلومات خاطئة إليه لسهل حرفه بعيداً عن هدفه.
كانت الصواريخ الموجهة في زمان عزها تنطلق نحو هدفها في السماء النقية بانسجام جميل متفقة مع بعضها كأنها حزمة مترابطة متفاهمة ومتفقة على الإتجاه وما هو صحيح وما هو خطأ، إلا في التفاصيل الصغيرة. فالخطأ في المسار يتم تصحيحه فوراً والحساب له قواعده الدقيقة، ولا يبقى للنقاش سوى الرتوش في القمم الأخيرة.
لكن من يتطلع إلى سماء السياسة اليوم يرى الصورايخ الموجهة وقد تناثرت بجنون في كل اتجاه، وعسرت عليها حتى الحسابات الأولية، وعادت تتجادل أين الشرق وأين الغرب! المثقفون اليوم يتجادلون حتى في المبادئ التي انتهوا منها يوماًعندما كانوا أطفالاً، رغم أنهم يطلقون عليها اليوم أسماءً جديدة غريبة. إنهم يتساءلون: من هو عدونا؟ ومن هو صديقنا؟ أين الشمال وأين الجنوب؟
ولم يتم التأثير على المعلومات التي تصل إلى تلك الصواريخ الموجهة بل وعلى عقلها الإلكتروني أيضاً، فكثرت التناقضات في حساباتها وعجزت عن اكتشاف الخطأ في اتجاهها وخطورته، ووجدت "تفسيرات" عجيبة لتوهانها لتطفئ جرس الإنذار الذي تطلقه التناقضات. فالعجز التام عن معرفة الإتجاه الصحيح تمت معالجته لدى البعض هكذا:
الصحيح؟ سؤال لا معنى له!...ما أراه "صحيحاً" قد تراه "خطأ" .. إذن ليس هناك "صحيح" و "خطأ"، فـ "كل شيء نسبي"..ألم تسمع بعد بآينشتاين؟ يمكنك أن تختار ما شئت وأن تعتبره صحيحاً!
هكذا تخلى "الصاروخ الموجه" عن عقله ورضي بالتوهان فلسفة ومصيراً، لذا كثرما ترى من يضحك منها من الناس والأطفال، ولا تعدم أن ترى صورايخَ تضحك من نفسها بين الحين والآخر!
هكذا تكلمت "الصواريخ الموجهة نحو التوهان": من يقول إنه صديقنا لابد أن يكون عدونا يتظاهر بالصداقة... ومن يقول إنه عدونا ويتصرف كعدونا، لاشك أنه صديق يتظاهر بالعداوة! التاريخ؟ كل شيء يتغير لذا فإن أردنا الإستفادة من دروس التأريخ وجب أن نقلبها رأساً على عقب... وتجارب الآخرين لاتنطبق علينا ايضاً، فلكل خصوصيته. لكن إن قلبناها فقد تنطبق علينا... الدول الوحيدة التي لم يضربنا غيرها منذ قرون هي التي يجب أن تحمينا من الدولة التي ضربناها قبل قليل! ليس هناك أخلاق في السياسة، لذا يجب أن ننتخب أكثرنا انحطاطاً لقيادتنا! من لايؤيدنا من الشعب، عميل لدولة أجنبية، حتى لو كان معظم الشعب! "الشعب العميل" انتخب طبعاً برلماناً عميلاً...عدا واحداً شريفاً تم تجريده من حصانته. نحن بحاجة إلى جيش دولة أجنبية ليحمي لنا الديمقراطية من البرلمان العميل والشعب العميل! المعاهدة تفيدنا لأنها تهدف إلى استعادة السيادة من الأمريكان ولجم حريتهم في التصرف بعيداً عن القانون العراقي. والأمريكان يضغطون على الحكومة لتوقيعها لأنهم يريدون أن يلجمهم أحد. المعاهدة تفيدنا لأنها ستجبر الأمريكان على الخروج في النهاية، والأمريكان يستعجلون الإتفاقية لأنهم يريدون من يجبرهم على الخروج من البلاد! ومن يعرقل توقيع المعاهدة واستعادتنا للسيادة هي إيران التي تريد تصفية حساباتها مع أميركا بأن تجبرها على الإحتفاظ بالسيادة العراقية والبقاء الى الأبد فيه! الشعب العميل لإيران يعرقل الإتفاقية لأنه يريد بقاء القوات الأمريكية مطلقة الحرية والى الأبد! لا نعرف كيف نصرف أموالنا لكن لا بأس أن نقترض من البنك الدولي ليفرض شروطه علينا اولاً، ثم نعيد اليه القرض فوراً. علينا أن نعطيهم أموال نفطنا لنشجعهم على استثمار بعضها لدينا! العنصرية سيئة ويجب علينا أن نحاربها ونقاطعها، إلا تلك التي توجه احتقارها الينا، فيجب الإسراع لمصادقتها وإلا كنا عنصريين! المعاملة السيئة في دار للأيتام تتطلب تدخلاً عسكرياً اجنبياً! الكتل السياسية عميلة لجهات أجنبية..... ولكن اعضاءها الذين اختارتهم للبرلمان... وطنيون!!... إنهم وطنيون لكنهم جبناء!... لذا يجب حمايتهم بالتصويت السري، وإلا صوتوا بشكل عميل خوفاً من كتلهم! أتفق معك أنه لايمكن للأرنب إجبار الأسد على تنفيذ أي نص، لكنه قادر أن يعقد معاهدة لصالحه مع الأسد إن هو كتب نصوصها بدقة! على الشعب أن ينتخب الرجل الذي "يفعل ما يريد"، و "في أي وقت يريد" ولا يهمه رأي احد، ليدير له مصالحه بشكل ديمقراطي! من لا يرسل من الشعب العراقي تحية لرجل المفاجآت...مثلما فعلت أنا...ليس شريفاً..ولا وطني.. يجب أن نقتدي بالأنظمة الإسلامية المتخلفة والقومية المتطرفة الشوفينية في علاقاتنا الدولية! لسنا خرافاً لنقبل أن يقتلنا مرتزقة الأمريكان بلا محاكمة!.... لكن لا بأس إن قتلنا الجنود الأمريكان!
لاحظوا أنها إصابات "مثقفة" حصرية، فلا يمكن تخيل إنسان بسيط يرتّل بمثل هذا المنطق! كأن فيروس جنون البقر أصاب الصواريخ الموجهة، فصارت لا تكتفي بالإنحراف البسيط الذي تعاني منه الصواريخ البالستيكية، إنما تنطلق في كل الإتجاهات، وقد تسير بعكس إتجاهها فتعود لتهاجم مطلقيها!
هل من غرابة بعد هذا إن استلمت الصواريخ البالستيكية الأمور في البلاد ونظمت نفسها بشكل أفضل وأكثر فاعلية؟ من يأمن أن يسلم اموره لقذائف الألعاب النارية هذه التي تنفجر في كل الإتجاهات وشعارها أن "تفعل ما تشاء" و "في أي وقت تشاء"؟ هل لمن ينتمي إلى جهة يتكلم أعضاؤها بهذا الشكل أن يحتج على "تهميشه"؟ هل لمثل هذا أن يقود الآخرين، أم يفترض حبسه في غرفة لئلا يؤذي نفسه؟ أية مرارة وأية خيبة أمل تسبب بها هؤلاء لمواطنيهم الذين عقدوا عليهم الآمال ككل الشعوب الآخرى، وأي خوف من المستقبل لشعب وهو يرى طلائعه تتحدث كمن أصابها مس، في هذه الليلة الظلماء حيث يفتقد البدر؟
ما العمل؟ هل على الصواريخ الموجهة الفخورة بنفسها هذه أن تقفل حواسها متراجعة إلى البدائية؟ ليس للمثقف ذلك الخيار، فالحياة لاتعود إلى الخلف ولا تقف في مكانها، كما قال جبران وغيره، ولذا فلا يبق من خيار سوى الحركة إلى الأمام: المزيد من الذكاء والمزيد من المعلومات والتحليل، مع الوعي بالتشويش ومواجهته.
لا مفر من أن يستعيد الصاروخ الموجه دوره، لكن عليه أن يستعيد توازنه أولاً ليدرك الحالة التي وصل اليها. عليه أن يجد السبيل لمقاومة الدوار والتوقف عن ترديد الغرائب كمن يسير في منامه. يجب أولاً الوقوف بوجه التميع "النسبي" واستعادة الثقة يوجود الصحيح والعمل على تحديده بدقة. على المثقف إن أراد أن يكون في المقدمة، أن يقدم خطاباً سليماً يكسب به ثقة الآخرين، فليس لرجل يهذي أن يطمح إلى القيادة.. اليس كذلك؟
هامش: سعيد الجعفر : هل اختلطت الأوراق حقاً على المثقف العراقي http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&userID=0&aid=148639
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجوع والطعام الفاسد والأنف المتحيز
-
نعم...مثال كان شجاعاً...والآن؟
-
خطر المعاهدة القصيرة وفرصة الإفلات من فم الأسد
-
تحليل المجتمع من أجل تمزيق مقاومته– تجارب يفصلها نصف قرن
-
زيباري قال بوضوح -لن تروها- فماذا ينتظر المترددون من المعاهد
...
-
مثال الآلوسي مقابل جنديين إسرائيليين: مقارنة إنسانية
-
الشفافية كما يفهمها وزيرنا زيباري
-
عندما لايتسع الوطن للقواعد والناس معاً
-
أيهما الأقوى يا سعدون، النمر أم الإنسان؟ وهل ثمة أمل لأمثال
...
-
كامل شياع لايريدكم أن تلعنوا -قوى الظلام-، هناك شيء آخر
-
سيشيل – قصة صراع دولة صغيرة مع القواعد الأمريكية
-
المعاهدة وليد سري غير شرعي يحمل الألغام لبلاده والعار لوالدي
...
-
الأستاذ شاكر النابلسي ونظرية الحسد في تفسير التأريخ
-
ايها الكرد نشكو لكم قادتكم
-
أسبابي الأربعون لرفض المعاهدة
-
مراجعة خفيفة لما جرى من أحداث ثقيلة حول كركوك
-
لنتعلم الحكمة من الذين وقعوا معاهدات قبلنا
-
بضعة أسئلة إلى الداعين الى عقد -معاهدة جيدة- مع أميركا
-
الفريسة القاتلة
-
مدرسة الأمريكتين – قصة معمل لتفريخ الدكتاتوريات والسفاحين
المزيد.....
-
إليك ما نعرفه عن اصطدام طائرة الركاب ومروحية بلاك هوك وسقوطه
...
-
معلومات سريعة عن نهر بوتوماك لفهم مدى تعقيد البحث عن حطام ال
...
-
أول تعليق من ترامب على حادثة اصطدام طائرة ركاب ومروحية عسكري
...
-
حوافه حادة..مغامر إماراتي يوثق تجربة مساره بوادي خطير في قير
...
-
كيف نجا قائد الطائرة إف-35 -الأكثر فتكا في العالم- بعد تحطمه
...
-
إيطاليا تعيد كنوزا عراقية منهوبة.. قطع خلدت ذكرى من شيدوا ال
...
-
FBI يستبعد العمل الإرهابي في حادث اصطدام طائرة الركاب بمروحي
...
-
بعد كارثة مطار ريغان.. الإعلام الأمريكي يستحضر آخر حادث كبي
...
-
جورجيا تنسحب من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا بعد مطالباته
...
-
الائتلاف الوطني السوري يهنئ الشرع بتنصيبه رئيسا للجمهورية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|