أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد شرينة - لماذا يتشبث الناس بالأيديولوجية؟















المزيد.....

لماذا يتشبث الناس بالأيديولوجية؟


محمد شرينة

الحوار المتمدن-العدد: 2421 - 2008 / 10 / 1 - 01:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هل الأيديولوجية مفيدة ، حتى وان لم تكن صحيحة ؟

السالب مضروبا بالسالب يصبح موجبا
هذه قاعدة رياضياتية بسيطة حيث (- 2) * (- 3) = (+6) و لما كانت الحياة تبدو لكثير من الناس أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة لأسباب كثيرة معروفة ، سأذكرها لاحقا ؛ و بما أن جميع الأيديولوجيات خاطئة و ليست حقيقية ( بنظر كثير من الناس ) ، فان الحياة المأدلجة هي حقيقية بمعنى أن اعتناق فكر أيديولوجي في هذه الحياة هو أمر ايجابي بشكل عام ، طبعا ليس بشكل مطلق .
كثير من الناس ماديون بطبعهم ( و منهم الكثير من المتدينين ، فالروحانية شيء و التدين الطقسي شيء آخر تماما) و مثل هؤلاء الناس لا تهمهم قضايا الأيديولوجية ، فهم أشخاص عمليون يركزون تفكيرهم على العمل والتقدم في الحياة وفي الغالب لا يملكون وقتا للتفكير بغير ذلك ، و حتى هم لو فكروا فإنما يفكرون بطريقة عملية و بسيطة و ما يهمهم من أي أيديولوجية هو ما تقدمه لهم من منافع مادية و معنوية ، و قد تصادف أنهم يتهمون أحيانا من الفريق الآخر - الفريق المثالي - بأنهم يفكرون بشكل سطحي و أنا لا أعتقد أن هذا القول دقيق ، و لكن أظن أن المثاليين يفكرون بشكل أعمق ، و هذه ليست ميزة بالضرورة فهناك قاعدة تكاد تكون صحيحة دائما ؛إن لم تكن كذلك ؛ و هي تقول أن خير الأمور أوسطها و يمكن التعبير عنها بأن كل التوابع في هذا العالم تتبع منحى دائري بحيث أن التقدم على المسار بعد نقطة معينة يصبح مكافئا للتراجع و بالنهاية تنطبق نقطة النهاية على نقطة البداية ، كما هو حال الدرجتين 0 و 360 في الدائرة .
المثاليون سواء كانوا يعتنقون أيديولوجية مادية أو ما ورائية يفكرون بطريقة مختلفة ، ومن المهم أن نلاحظ أن الماديين قد يكونون متدينين( مؤمنين) و قد يكونون ملحدين و نفس الشيء ينطبق على المثاليون، فالمسألة لا علاقة لها بالتدين ، إنما هي طريقة تفكير بل هي ليست بالمعنى الدقيق طريقة تفكير بقدر ما هي تركيب نفسي سيكولوجي عميق يتحكم بتفكير الإنسان و عاطفته معا .
المثاليون الذين يعتنقون أيديولوجية مادية كالماركسيين هم أشخاص مثاليون في الواقع و يصح تجوزا أن نصفهم بأنهم متدينون ، حيث لا يستطيع المثالي التخلي عن أسس تحكم نظرته إلى هذا العالم ، إن المثاليون أشخاص مقتنعون : بأن هذا العالم مضطرب و لكن يمكن ، بل يجب أن يصبح رائعا و مثاليا في يوم من الأيام ، إن الفيلسوف الألماني العظيم فريدريك نيتشه هو مثال للملحد المثالي الذي عجز عن التوفيق بين الحادة ونظرته المثالية للعالم فانتهى به الأمر إلى الجنون ، و في نفس الوقت فالماديون المؤمنون لا يهمهم من الدين إلا تحقيق مصالحهم ، و هذا لا يعني أبدا أنهم منافقون ، فإيمانهم إنما يعني أنهم هكذا يفهمون الدين ، خذ مثلا المسلم الملتزم الثري ، ذو النفوذ، المتزوج من عدة نساء بعضهن يصغرنه بأكثر من ربع قرن : يؤكد أن الشرع أحل له أن يتزوج بأكثر من واحدة و إن فارق السن الكبير بين الرجل و المرأة أمر مقبول ، بنفس الحين يحمد الله على أنه يؤدي فرض ماله من الزكاة البالغة 2.5% من المال النقدي الذي يحتفظ به نقدا لمدة عام كامل أو أكثر ، و ليس عليه في مركوبه (أو مركباته ) و داره (أو قصوره) و صنعته (أو شركاته ) من زكاة ، كما أفتى له فقهاء العصور الغابرة و الحاضرة . ينتهز فرصة شهر الصيام ليخفف العبء الذي ترزح تحته معدته طوال العام ، و هو قادر على تغيير برنامج حياته في هذا الشهر كما يحلو له بحيث لا يشعر بأي مشقة للصيام بل هو يمر خلال مهرجان من التغيير و الولائم . أداء الصلاة في أوقاتها فرصة للتأمل ، فليس لديه رب عمل ربما يتضايق من ذلك و لا عمل ملح إذا تأخر انجازه ربما يتسبب له بمشاكل. و حتى صلاة الفجر ليست أمرا مزعجا له فهو ينام متى شاء و يستيقظ متى شاء ، بعكس العامل الكادح المرهق كدا و تعبا طوال النهار و آناء الليل . هذا الرجل ليس منافقا ألبته و هو بنفس الوقت لا يملك أي حس ديني فعلي ، بمعنى ذلك الشعور العميق المزلزل بالمقدس ، و لا يهمه ذلك . هو يعلم أن هذا العالم ليس جيدا و لا يمكن أن يصبح كذلك و لكنه لا يهتم لذلك مادام هو بخير ، أو هو يظن أن العالم بأتم حال مستشعرا العالم من خلال نفسه ، فهو يظن أن الدنيا بخير لأنه هو بخير .
لا بد من الإشارة إلى أن الشخص نفسه قد يتقلب من كونه مادي إلى كونه مثالي مرات عديدة في حياته ، و كذلك يمكن له أن يكون خليطا غير صافي ، بل هذا هو الغالب ، و لكن هذا لا ينفي أن معظم الناس يكونون معظم حياتهم في جانب من الجانبين بدرجة كبيرة (بمعنى أننا نصف شخص بأنه مادي عندما يشعر بقوة شعورا ماديا معظم حياته و بالتالي فالمادي النموذجي هو شخص يسيطر عليه معظم حياته شعورا ماديا قويا ، الكثير من الناس يبدون صفات مختلطة لدرجة تجعل من الصعب تصنيفهم ) و نفس القول هنا ينطبق على التفاؤل و التشاؤم اللذين سيذكران لاحقا .
و هنا أجد انه من الهام التطرق لمسألة التصنيف في المجتمعات ، حيث يُنظر إليها في كثير من الأحيان على أنها عملية حاسمة ، بينما هي ليست كلك في واقع الأمر ، و أسوق المثال الآتي لشرح هذه النقطة : عندما نقول أن المعادن (المواد بشكل عام ) تتقلص بالبرودة ، فإننا نقصد جميع المواد 100% منها ، و يصادف أن نجد استثناء و حيد هو حالة الماء الذي يتمدد بالبرودة تحت درجة +4 مئوية . و لكن عندما نصف عقار ما على أنه فعال لعلاج مرض ما فنحن عادة نتوقع أن هناك نسبة لا بأس بها (قد تصل إلى 10% أو تزيد ) لا تستجيب لهذا الدواء، بل هناك نسبة من الناس لا تتحمل الدواء مما يعني أنه يلحق بها ضرر و ليس فائدة. و هكذا يتضح أن الحتمية تنخفض كلما كانت الجملة أكثر تعقيدا و ليست حتمية القوانين التي تبدو لنا كذلك (حتمية ) ، إلا نتيجة لدراسة حالات خاصة و معزولة و بالتالي تتصف الحتمية بصفتين(أقصد الحتمية العلمية) : الأولى أنها تقدم منفعة مادية حتمية ، الثانية أنها لا تملك حقيقة حتمية ، و هكذا يتضح أن قيمة الحتمية آتية من المنفعة الحتمية التي تولدها و ليس عن حتميتها الحقيقية أو الفلسفية ، و لذلك تتربع الفيزياء على عرش العلوم لأنها الفرع من العلوم الذي تعطي قوانينه حتمية (نفعية ) بنسبة تكاد تصل إلى 100% ، بل هي في كثير من مجالاتها تصل إلى ال 100% ،و هذا بحث آخر .
عند دراسة القوانين في المجتمعات البشرية فإننا نصادف و ضعا أشد تعقيدا بكثير من حالة تمدد المعادن أو تأثير الأدوية ، فمثلا عندما نصف شخص ما بأنه عملي معتمدين على تصنيف يصنف شخصيات الناس إلى ستة أقسام : (ا ،ب،ج،د،ه، و ) اعتمادا على ستة صفات تتوفر في الأشخاص ، فان الأمر لا يكون بهذه الدقة فشخص ما يحوي الصفة(ج) بنسبة 27% و الصفة (د) بنسبة 20% و الصفتين (ا و ب) بنسبة 15% لكل منهما و الصفة( و) بنسبة 14 % و الصفة (ه) بنسبة 9%يصنف على أنه شخص من الطراز ج (عملي مثلا)، مع أنها تعكس فقط 27% من صفاته في المجال المدروس من شخصيته.
وحتى هذا المثال ، مثال مبسط ،إذ تحدد الصفات الشخصية و الاجتماعية للبشر عوامل كثيرة بدرجات شديدة التفاوت و بالتالي فان أي تصنيف هنا هو تقريبي للغاية مما يفسر قلة دقة دراسات علم الاجتماع مقارنة بغيرها من الدراسات العلمية . والمشكلة أنه يستحيل إجراء أي دراسة دون اللجوء إلى التصنيف الذي يتطلب الاختزال ، بمعنى التركيز على العوامل التي تبدو أكثر أهمية و إهمال التي تبدو أقل أهمية ، كإهمال مقاومة الهواء أو الاحتكاك في بعض الدراسات الفيزيائية . نحن نعرف الآن من نسبية أينشتاين أن الكتلة ليست مقدارا ثابتا و إنما تتعلق بالسرعة ، و لكن جميع دراسات الميكانيك العادي (النيوتني ) تعتبر الكتلة ثابتة و هذا صحيح لأنه في السرعات البعيدة عن سرعة الضوء يكون تغير الكتلة تافها للغاية بحيث ليس فقط لا يؤثر على حساباتنا بل هو يستحيل قياسه . من هنا فان الفيزياء تتعامل مع مواضيع سهلة الاختزال و بالتالي تعطينا نتائج دقيقة للغاية، و أنا أعتقد أن المشاكل التي تواجهها الفيزياء على صعيد دراسة الكون و الأجسام الدقيقة (الماكرو و الميكرو) تأتي من هذه النقطة تماما حيث تصبح الجمل شديدة التعقيد و بالتالي فان دراستها التي تحتاج تصنيفها و الذي لا يمكن القيام به (تصنيفها ) دون اختزالها ، تؤدي إلى ضياع الكثير من الصفات الهامة و المؤثرة في الدراسة و بالتالي نحصل على نتائج غير شافية ، و الوضع نفسه ينطبق على علم الاجتماع و بشكل أقل على الطب .
و بالعودة إلى موضوعنا ، فان تركيزي هنا هو على المثاليين و بالأخص الذين يعتنقون أيديولوجيات ما ورائية .
في البداية هل الحياة في هذا العالم مجرد وهم ؟ أو هل هي على الأقل أقرب للوهم منها للحقيقة ؟
الجواب بالنسبة للكثيرين : نعم ، فلماذا ؟
و جودنا في هذه الحياة سريع التغير فمن عمر افتراضي يبلغ سبعين سنة نتحكم بثواني معدودة فكل الزمن الذي انقضى حتى لحظة وجودنا الحاضر أصبح تماما خارج عن سيطرتنا و العالم بأسره عاجز عن تغيير إي تفصيل فيه مهما صغر ، دعنا نفكر في المسألة الآتية : ما أن تفعل شيء ما بطريقة خاطئة لمرة واحدة حتى تلزمك نتائجه طوال حياتك و تصبح عاجز تماما عن فعل أي شيء حيال ذلك ، حتى لو لم تقصد الخطأ ، تخيل جنديا يفاجأ بزول ( شخص غير واضح المعالم ) في الليل يتقدم نحوه ، و لا يخطر بباله سوى خاطر وحيد هو أن هذا عدو ، و في اللحظة التي يضغط إصبعه الزناد يتعرف على شخص صديقه أو رئيسه . من غير الممكن لهذا الجندي و لو استعان بقوى العالم جميعها إعادة الزمن للحظات و بالتالي هو يتحمل النتائج المادية و المعنوية و النفسية لتصرفه هذا طوال حياته .
هذا بالنسبة للماضي أما بالنسبة للمستقبل فان الإنسان عاجز تماما عن أن يضمن فيه أي شيء ، هو غير قادر على أن يكون متأكدا من أي تفصيل ، نام الناس إحدى ليالي صيف عام 1939 و أفاقوا على عالم فقد عقله و لم تنتهي حفلة الجنون المسماة بالحرب العالمية الثانية إلا وقد تغير كل شيء ، و بالنسبة لشاب من إحدى الدول المشاركة في هذه الحرب - و لتكن مثلا الولايات المتحدة الأميركية كونها بدت بعيدة و آمنة في بداية الحرب – هذا الشاب الذي كان لديه كما هائلا من الأحلام في ربيع عام 1939 ، من الممكن أن تكون قد ذهبت أحلامه أدراج الرياح كما حدث للكثير من الشباب ، هذا إن لم تكن حياته نفسها قد ضاعت ، و إذا فكرت بشاب مماثل و لكن من الاتحاد السوفييتي و الذي هو الآخر كان يبدو منيعا و بعيدا عن الحرب في البداية لكان احتمال ضياع أحلام شاب ما أو حياته أكبر بكثير ، إذا ما تذكرنا أن خمسة و عشرون مليون سوفيتيا ماتوا في هذه الحرب ( أكثر من عُشر السكان) ، و الأدهى من ذلك أنه لا الأميركي العادي و لا السوفييتي العادي له أدنى ذنب في ما حدث.
أما العامل الحاسم في كون العالم وهماً : فهو الموت ، فإذا كان العاملين السابقين ظرفيين بمعنى أنك إذا كنت محظوظا يمكنك أن لا تتعرض لحوادث مماثلة ، فان هذا العامل قطعي و لا يشك فيه أحد . و الشخص المادي قادر إلى حد بعيد على تجاهل الموت ، فهو لا يجد وقتا ليفكر في أي شيء ، و إذا وجده فلديه كم مخيف من المشاغل و المشاريع و المشاكل العملية التي تحتاج للحل و بالتالي للتفكير في حل لها . و لكن المثالي بطبعه غير قادر على نزع الأفكار الكلية من ذهنه ، لأن همه الرئيسي موجه دائما نحو كيفية جعل العالم الذي يبدو مكانا غير جيد ، كيفية جعله أو تحويله إلى مكان جيد مما يعني رغبة عارمة في التغيير و شعورا مستمرا بالزمن و بالتالي فالحياة و الموت هما ركيزة أساسية لتفكيره .
ما هي قيمة الحياة إذا كانت ستنتهي يوما و كأنها لم تكن ، إذا كان كل حي سيصبح نسيا منسيا حتى من نسله الذي كان سبب وجودهم في هذا العالم ؟ قد لا يراود هذا الشعور الأحداث في صباهم ، و لكن الكهول الذين ينظرون إلى نصف قرن من الزمن أو أكثر يمتد وراءهم و قد انقضى كأنه لحظة مرت و انتهت ، يعرفون هذا الشعور جيداً ، بالطبع من يجد منهم متسعا ليفكر .
من المفيد أـن أذكر هنا أن أحد أهم صفات الحياة الممتلئة بالعمل ، و حياة البداوة و التنقل و المغامرة ، أنها تصرف تفكير الناس بشكل اضطراري لشؤون بقائهم و حياتهم المادية و بالتاي لا تترك لهم مجالا للأفكار الأيديولوجية المعقدة ؛ التي ربما تكون ضارة ، حتى أيديولوجيات هؤلاء الناس إن وّجدت تكون بسيطة . فعندما يُرهق الناس تحت ضغط العمل و يحققون القليل يتجهون إلى تفكير نظري عنفي أو استسلامي ( و ما أقرب الضد من ضده) ، بينما عندما يحيا الناس حياة ترف و فراغ فإنهم يفكرون بشتى أصناف الأفكار ، التي كثير منها مجرد ترف فكري يؤخر و لا يقدم ، و عندما يعيش الناس حياة ممتلئة و منتجة في نفس الوقت يصبحون عملانيين ، و لا بد من الاعتراف أن التنظير الزائد عن الحد يؤدي إلى بلبلة و تشتيت تعيق تحقيق أي هدف ، مرة ثانية تبدو الوسطية كأنها تكاد تكون القيمة الوحيدة الجيدة دائما (أفردت لهذا الموضوع بحثا خاصا ).
و بالعودة إلى موضوعنا ،كم من أجدادنا نعرف ؟ بالنسبة لي فأنا أعرف اسم والد جدي و لا أعرف شيئا عن والدته و بعد ذلك لا أعرف أي شيء عن أسلافي أما بالنسبة لجدتي فأنا حتى لا أعرف اسم أبيها و لا أمها ، لقد ضاعوا في النسيان إلى الأبد كأن لم يأتوا إلى هذا العالم ، و هذا هو مصير بلايين البشر ، أ ليست إذاً هذه الحياة مجرد وهم ؟
إذا كانت الحياة و هم ، فان الأيديولوجية هي بالضبط ذلك الوهم المضاد الذي يحول الحياة (الوهم) إلى حقيقة.
بمعنى أننا إذا سلمنا أن الحياة وهم أو أقرب إلى الوهم (و هذا ما يُسلم به الكثيرون ) و إذا قلنا بأن الأيديولوجية هي أفكار وهمية بمعنى غير واقعية (و هذا ما يقوله أيضا كثير من الناس) ، يمكننا أن نصوغ المسألة بالشكل التالي : الأيديولوجية هي عملية تَوَهُم أن هذه الحياة الوهمية هي شيء حقيقي .
طبعا المسألة تأخذ صياغات أخرى فالمثاليون الماديين (غير الماورائيين) لا يعتقدون أن الحياة وهم و لكنهم يعتقدون أنها يمكن أن تصبح مثالية و هذا الوهم يحتاج إلى أيديولوجية وهمية لجعله حقيقة .
تنطبق قاعدة أن محصلة تفاعل قضيتين أو مسألتين سالبتين هو قضية أو مسألة ايجابية على قضايا كثيرة ، فالاضطهاد الذي هو عملية سلبية يجعل العنف الذي هو عملية سلبية أيضا ، يجعله يبدو عملية ايجابية ، و الحاجة ( العوز) التي هي شيء سلبي ، تحول الكد و التعب و الذي هو الآخر سلبي ، إلى قيمة تبدو ايجابية هي العمل أو الإنتاج ، فالجهد الذي لا يلبي حاجة للإنسان ، سواء كانت هذه الحاجة مادية أو معنوية ، ليس قيمة ايجابية .
من المهم التركيز على عبارة – يبدو – فعند هذه العبارة تتفرع السيكولوجية الإنسانية إلى فرعين ، فرع متفائل ( معظم الماديين) و آخر متشائم ( معظم المثاليين) : الأول إما هو لا يفكر بكل مقدمات هذه القضية و يتعامل فقط مع نتيجتها النهائية على أنها شيء ايجابي و من خلال ذلك ينظر إلى مجمل العالم على أنه ايجابي ، أو هو يعتبر أن محصلة تفاعل السالب مع السالب هو أمر موجب فعلا و ليس فقط يبدو كذلك ، بينما يعتبر المتشائم أن الأمور غير قابلة للتحول في جوهرها و هي تظل سالبة و كل ما في الأمر أنها تبدو ايجابية .
قد يفسر هذا تمسك شريحة كبيرة من الناس بالأيديولوجية رغم التطور العلمي الكبير الذي حققه العلم و الذي لا يدعم ، بل هو يناقض جميع الأيديولوجيات المعروفة ، زد على ذلك أن المجتمعات المأدلجة باعتدال و المحافظة باعتدال أكثر نجاحا من المجتمعات الأكثر تحررا و ليبرالية ، ففي أوربا الشمالية الغربية ( المنطقة التي انطلقت منها الثورة الصناعية و عملية التحديث ) الانكليز أكثر الشعوب محافظة و أنجحهم ، الأمريكيون أكثر الشعوب الغربية محافظة و بنفس الوقت أنجحهم و في أميركا نفسها يُشكل الجنوب الأميركي الأشد محافظة مركز الثقل ا في اقتصاد و سياسة البلاد ، بالطبع أنا هنا أتحدث عن النجاح المادي الذي يصنع قوة الأمة في النهاية ، و بالطبع فأنا لا أعني مطلقا محافظة من النوع العربي فهذه ليست محافظة بل تخلف ، و مرة أخرى يمكن القول أن قاعدة أن خير الأمور أوسطها تنطبق هنا.
أنا أعتقد أن الأيديولوجيات كلها بعيدة عن الصواب و بالتالي هي أقرب للوهم ، و كمثل ذلك تبدو الحياة ؛ تبدو أقرب إلى الوهم من الحقيقة ، و بالتالي فان مهمة الأيديولوجية هي صبغ وهم الحياة بلون الحقيقة . يبدو لي أنه لا يمكن إثبات شيء في هذا العالم بشكل قطعي و بالتالي لا يمكن نفيه ، ذلك أن النفي هو إثبات العكس (النقيض) ، و بالتالي فان ترك مطلق الحرية للبشر في أفكارهم و تصرفاتهم لأقصى حد ممكن هو الحل الوحيد المعقول . و حدود هذه الإمكانية تتوقف فقط على تناقض حريات البشر مع بعضهم البعض .
الإنسان العادي البسيط ليس غبيا بل هو في كثير من الأحيان أشد ذكاء منا نحن المثقفين ، و قد تكون هذه إحدى أهم نقاط ضعفنا نحن المثقفين العرب (الغالبية و ليس الكل ) ، لا أزال أذكر ما قالته لي والدة زوجتي السابقة يوما ، و هي امرأة متدينة و ذكية ، لقد قالت لي بعبارات بسيطة ما يمكنني صياغته بكل دقة كالتالي : ليس مهما ما هو صحيح و ما هو خاطئ فلسفيا ، بل المهم كيف تعيش بسعادة في هذا العالم ، في ذلك الوقت لم أهتم لهذا الكلام بل اعتبرته عديم الجدوى ، و بعد نحو خمسة عشر عاما من تلك الواقعة أدركت جدوى كون بلايين البشر يتشبثون بأيديولوجياتهم رغم أنف الفلسفة و العلم .



#محمد_شرينة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدينتي الغافية
- الحرية و المطر
- لماذا لم تحقق العلمانية العربية الحديثة أهدافها حتى الآن
- الأديان الشمولية و تأليه الإنسان – النبي
- أيديولوجيا و حتمية


المزيد.....




- الكويت: القبض على مقيم بحوزته سلاح ناري دهس رجل أمن عمدا وفر ...
- آلاف المؤمنين في ملقة يشاركون في موكب عيد الفصح السنوي
- تقرير يحصي تكلفة وعدد المسيرات الأمريكية التي أسقطها الحوثيو ...
- إعلام أمريكي: كييف وافقت بنسبة 90% على مقترح ترامب للسلام
- السلطات الأمريكية تلغي أكثر من 400 منحة لبرامج التنوع والمسا ...
- البيت الأبيض يشعل أزمة مع جامعة هارفارد بـ-رسالة خطأ-
- ارتفاع حصيلة الضربات الأميركية على رأس عيسى إلى 74 قتيلا
- الكرملين: انتهاء صلاحية عدم استهداف منشآت الطاقة الأوكرانية ...
- في ظلال المجرات… الكشف عن نصف الكون الذي لم نره من قبل
- القوات الروسية تتقدم وتسيطر على ثالث بلدة في دونيتسك


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد شرينة - لماذا يتشبث الناس بالأيديولوجية؟