في الحقيقة إن الديموقراطيات الليبرالية في الغرب لم تترسخ إلا في القرن العشرين، وبعد أن مرت عليها نكبات عنيفة وتعرضت لهزات قوية، سواء في أمريكا حيث الحرب الأهلية الدموية أو في أوروبا حيث النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا والدكتاتورية العسكرية في اسبانيا واليونان وكذلك الدكتاتورية الشيوعية في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرهما...
وفي رأي العالم الأمريكي للشؤون السياسية (ليبست) فإن الديموقراطيات الليبرالية في العالم الغربي قد احتاجت إلى فترة زمنية طويلة جدا لتأخذ شكلها الحالي، وقد أضطرت لأن تتجاوز أربع أزمات اجتماعية(1) قوية قبل التوصل إلى طريق لحل مشاكلها المستعصية بأسلوب سلمي كما نراه الآن. والأزمات الأربع التي اعترضت طريق الديموقراطيات الليبرالية
هي:
- النزاعات الدينية
- الكفاح من أجل الوحدة الوطنية
- الامتيازات الخاصة بالطبقات السائدة والمكرسة قانونيا
- اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع
وعليه فإن عدد الدول التي يمكن اعتبارها بحق دولا ديموقراطية من مجموع الدول المسجلة لدى الأمم المتحدة قليل، إذ أن الديموقراطية الليبرالية تتحقق أولا بالمساواة أمام القانون لكل الأفراد، وبتسخير النظام السياسي لخدمة الفرد والمجتمع، حيث أن هذا هو جوهر النظام الديموقراطي حسب رأي البروفيسور دكتور كورت شيل الألماني، وأن من أولى مهام النظام الديموقراطي حماية الفرد من استبداد الأكثرية بشكل قانوني...
عرف العالم الانجليزي هوبيس الاستبداد في القرن السابع عشر بأنه سوء استخدام السلطة. ولذا فإن الديموقراطيات الليبرالية ، إلى جانب سماحها للمعارضة بمراقبة السلطة الحاكمة قد أقامت حدودا لتجاوزات السلطة من خلال إنشاء محكمة دستورية عليا تراقب الفعاليات السلطوية وتحمي المجتمع والفرد من تجاوزات الأكثرية التي تمارس الحكم أو الأقلية التي تراقبها وتنافسها، وخروقات الطرفين المتنازعين للدستور، ولذا يمكن القول بأن هذه الديموقراطيات معقدة بسبب كثرة القوانين المانعة لاستغلال السلطة من قبل الحاكم.
وفي حين استعصت مشكلة التفاوت الطبقي وامتيازات الفئات السائدة ولا تزال غير محلولة حتى الآن، فإن الديموقراطيات الغربية قد حلت مشكلة النزاعات الدينية الطويلة الأمد إلى حد كبير بأن جعلت الدولة لا دينية (علمانية!) ، أو كما هو الحال في أمريكا حيث تعتبر كل الأديان في نظر المشرع تعبيرا متشابها بصور مختلفة عن عبادة الخالق المشترك للجميع، فيقبلها كلها دون استثناء، في حين أن للدين دور كبير خارج الديموقراطيات الغربية في مجمل الحراك السياسي للمجتمع أو للنظام السائد ويتم تسخيره بشكل مؤسف في كثير من الأحيان لتلميع صورة النظام أو تقديسه أو تفسير تصرفاته الخارقة تفسيرا مقبولا لأذهان وقلوب المواطنين، فلد تم استغلال الدين بشكل صارخ مثلا من قبل النظامين العراقي والايراني أثناء حربهما المدمرة التي كلفت أكثر من مليون قتيل ومئات الألوف من المشوهين والمقعدين من رعاياهما المسلمين على طرفي خط النارومليارات من أموال الشعبين المتجاورين. وهذا ما نراه اليوم أيضا في كل من اسرائيل وإيران، ففي اسرائيل تتمكن مجموعات دينية متطرفة من التأثير بقوة في النظام الديموقراطي ومن تأجيج الأزمات فيه وإجباره على اتخاذ مواقف راديكالية حادة تجاه ما تعتبره هذه المجموعات أخطارا على وجودها، وفي إيران تعرقل المرجعية الدينية المحافظة كل المحاولات الإصلاحية التي من شأنها إذا ما تحققت أن تفسح المجال لتمتع الشعوب الإيرانية بمزيد من اللامركزية والحريات السياسية أو أن تمهد الطريق لتنشيط الحياة الاقتصادية على مستوى البلاد، بل تعتبر هذه المحاولات تخريبا للمبادىء العليا التي تؤمن بها هذه المرجعية أو تتذرع بها للابقاء على مراكز قواها. فالسيد رفسنجاري الذي يعتبر من أثرياء المجتمع الإيراني هو أحد المستفيدين الكبار من استمرارية الوضع القائم في إيران، بل تمكن مع غيره من التلاعب بالدستور والقوانين لانتزاع مكان له ولسواه في قمة الهرم الحاكم بذريعة "صيانة مصالح النظام" على الرغم من انتهاء مدته الرئاسية منذ زمن بعيد.
أما في تركيا فإن الدور الهام للعسكر المتخمين في مجلس الأمن القومي هو الذي يعرقل الجهود من أجل تحقيق ديموقراطية ليبرالية في البلاد، حيث يعتبر العسكرأي خطوة باتجاه حل عادل للقضية الكردية خطرا يهدد أمن تركيا ويعرض البلاد إلى الانشطار والتمزق، وفي سوريا تمكنت الاقطاعية العسكرية التي تستغل النزعة الطائفية للأقلية الحاكمة والوشاح الحزبي القومي المتنعت للبعث العربي الاشتراكي من أجل إفشال أي محاولة تستهدف إخراج سوريا من العصرالجليدي للدكتاتورية المستبدة برقاب الشعب السوري.
إن النزاعات الدينية والمذهبية والاثنية والعشائرية والمناطقية لاتزال إلى جانب الدكتاتوريات العسكرية من أكبر العوائق على طريق إقامة أنظمة ديموقراطية حقيقية أو نظام فيدرالي على النمط السويسري، فالقوى السائدة لن تتخلى طوعا عن امتيازاتها التاريخية لصالح تكوين أو بناء نظام للأكثرية يعتمد على مؤسسات ديموقراطية وانتخابات وحريات سياسية وإعلامية.
بعد إسقاط نظام صدام حسين الدموي باستخدام القوة العسكرية المكثفة من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 ، وباتباع سياسة " توحيش العدو"(1) حسب رأي البروفيسور دتليف يونكر رئيس معهد كورت اينغل هورت للتاريخ الأمريكي ، فإن العراق يمر بمرحلة الشعور بهدر الكرامة الوطنية ويعاني من اختلال الأمن والفوضى الاقتصادية والعطالة التي طالت حياة الملايين والانهيار شبه التام للمؤسسات القائمة، إضافة إلى ضعف الوحدة الوطنية وقدرة الأجانب على خرق حدودها بسهولة، مما يعيد للأذهان وضع دول المحور وبخاصة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى... ولكن رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تهتم كثيرا ب " الأسباب الخلقية" للحرب التي بحث عنها قبل الميلاد الحكيم الاغريقي ثوكيديدس لتبريرالحروب البيلوبونية، وأنها اقتدت بالمقولة العسكرية المشهيرة أثناء الحرب الفيتنامية:
" علينا تدميرالمدينة حتى نتمكن من انقاذها من براثن الغول"، فإنها تجد نفسها ملزمة بتحقيق الديموقراطية والأمن للشعب العراقي، وخاصة بعد أن اكتشفت بأن " قواعد حرب ما لا تعطي الحق لأحد في القيام بكل ما يمكن اعتباره ضروريا للانتصار." على حد قول البروفيسور ميخائيل فالتسر من معهد الفلسفة السياسية (الدراسة المتقدمة) في برنيكتون الأمريكية، ذلك لأن العراق يشكل اليوم أهم ساحة شرق أوسطية للصراع بين أنصار الديموقراطية الليبرالية والدكتاتورية بمختلف وجوهها المعروفة، كما أن العراق يعتبر ساحة اختبار لمدى قدرة الديموقراطية على الصمود في وجه التحديات الكبيرة من نزاعات دينية ومذهبية واثنية وترد اقتصادي وارهاب و تخريب متعمد وبنى اجتماعية متخلفة تعرقل كل شكل من أشكال النموالاقتصادي والتحديث على مستوى النظام السياسي...
إن العراق سيشهد نهضة عمرانية ووثبة اقتصادية وتحديثا لنظامها السياسي – الاجتماعي القديم مثلما نهضت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة فإن احتمالات عودة النظام البعثي السادي إلى العراق باتت ضعيفة جدا، وإن الصراع الاثني بين أهل الجبل وأهل الرمل الذي أججه النظام البائد يكاد يخمد في ظل التطورات السريعة والايجابية التي يشهدها العالم والتواصل (التعارف) الجيد والمستمر بين قيادات الشعبين العربي والكردي وسائر الأقليات القومية والدينية الأخرى وسعيها الحثيث من أجل اقامة نظام ديموقراطي فيدرالي حديث.
وعلى الرغم من أن الطريق لبناء شرق أوسط ديموقراطي ليبرالي طويلة وشاقة، إلا أن نجاح العراق وأهله من عرب وعجم في التغلب على مشاكله الأمنية والاقتصادية والمذهبية والقومية – وهذا مرهون بدعم سائر القوى المحبة للسلام والديموقراطية في العالم، وبخاصة في العالم العربي ودول الجوار – سيؤهل العراق لأن يلعب دور القاطرة في النضال الكبير من أجل شرق أوسط ديموقراطي ليبرالي.
وعلى كل حال فإن الحديث عن دمقرطة الشرق الأوسط شيء وتحقيق ذلك شيء آخر، فهذا العمل الكبير يتطلب تضحيات عظيمة تقدمها سائرالأطراف والمجموعات المتشابكة المصالح، إلى جانب تسليح الأفراد والمنظمات الديموقراطية تسليحا شاملا بكافة وسائل الوعي الديموقراطي وتأهيلها وتغذيتها بالخبرات المكتسبة تاريخيا من مختلف التجارب الماضية والمتراكمة، وذلك في جو من التآلف السلمي الذي لابد وأن يتعرض لأزمات حادة بين الحين والحين، فالقضية أعقد من أن تحل بمجرد إصدار دساتير أو قوانين ديموقراطية أو بوصول حفنة من دعاة الديموقراطية إلى سدة الحكم في هذا البلد أو ذاك أو بحقن المنظمات العاملة من أجل الديموقراطية بالمال وسواه من الوسائل الأخرى. وعلى هذا الأساس يجب التفكير جديا ببناء نظام تربوي ديموقراطي في المنطقة يراعي الثوابت الحضارية لشعوب المنطقة وتحقيق نظام اقتصادي مؤهل لتحويل حياة الناس نحو الأفضل ومراقبة منظمة ودقيقة لكل خروقات الأنظمة السائدة لحقوق الإنسان بهدف صونها وحل المشاكل القومية والحدودية العالقة وكذلك المتعلقة بتوزيع الثروات في المنطقة حلا عادلا، لتثق هذه الشعوب في أن الداعين للديموقراطية الليبرالية في المنطقة وخارجها جادون في عملهم وملتزمون بمبادئهم قبل أن يطالبوا غيرهم بالجدية والالتزام.
----------------------------------------------
(1) zooming of the enemy