|
رجل الفئران
تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 2416 - 2008 / 9 / 26 - 09:38
المحور:
الادب والفن
إلى..//عدنان حسين أحمد// [وأنتم أيضاً يمكنكم أن/تكونوا عبيداً للجرذان/وموظفين أكفاء للقمّل/لكن..عليكم أن تكونوا../فئراناً أولاً..]..(ألن سيلليتو) *** ليس ثمت غبار عليه أو غموض،كان رجلاً يتحلى بهدوءٍ محير وغرابة نادرة جذبتني،مذ جاء وسكن في فندق مدينتنا(جلبلاء)،وجدت نفسي تلهث،ربما من باب الفضول،لأكتشف مقصده ومعرفة سر ذلك الحزن الكثيف الذي كان يخيم على سحنته..!! *** كلما يدخل المقهى أخالسه النظر،أراه في بحر مصيبة يبحر بخياله المتماهي،ونظراته العميقة لا تحط على شيء،أحيانا لا يحتسي شايه،يدعه يبرد،يدفع ويذهب،لم ألحظه يحاور أحداً،لم أرصده يجالس أحداً،يختار ركناً واحداً،قرب نافذة تطل على الجانب الجبلي من بلدتنا،أراه يرسل نظرات هادئة وعميقة إلى الجبال،فكل شيء في مدينتنا يخضع للحركة،زبائن يتحركون مع عجلة الظروف وتقلبات المناخ،عمّال وكسبة وأصحاب مهن متنقلة،فلاّحون قادمون من القرى القصية لبيع محاصيلهم،يلتقطون الراحة قبل أوبتهم،رهط واحد بلا عمل،اعرفهم،متقاعدون،أسسوا زاوية لقتل الوقت والتنافس فيما بينهم بأحجار الدومينو والنرد..!! *** تنمل القرار بداخلي،قررت أن أفاجئه مستبعداً من رأسي عواقب ما عزمت عليه،قلت : لابد أنه عرفني وقد درس جيداً طباعي إن كان ملوثاً مثلي بمرض الفضول،قابلني ببشاشة خلتها مختلقة مع تصاعد خفقان قلبي وهو يسحبني إلى داخل غرفته ويجلسني على سريره،في تلك الجلسة وجدته معتداً بنفسه،يحرر لسانه صوب كل محفل وعرفت بأنني إزاء رجل جرّب الحياة كلها وقرر الانزواء خلف الكواليس فجأة،كانت غرفته يعبث فيها إهمال واضح،كتب ملقاة بعشوائية،سرير مهمل،وخيوط هلاّمية لعناكب تشكل مصافحات مع الزوايا تتدلى من السقف،لم أتجرأ الغور في عوالمه لأستشرف مخاضات حياته،شيء ما أنبأني بأنني إزاء رجل عاطل عن العمل،ظل يرتاد المقهى بانتظام،لم تتغير طباعه،كما لو كان مثل آلة مبرمجة،يدخل ليجلس في زاويته المفضلة قرب النافذة ليحرر بصره في الفضاء المتلون،كان ينوء دائماً بحفنة كتب،حتى التمسته ذات(جمعة)،وجدته يفرش مجموعة نادرة ونفيسة من الكتب،فدغدغني الإحساس بان الجوع بدأ يعصف به.. *** ذهبت أليه ثانية،وجدته بذات الطباع النبيلة والرزانة المحسوبة والرغبة الصادقة في دلق خزين معرفته،كان الوقت مساء،تحاورنا وأزحنا همومنا وزادت دهشتي به وتنامت بكتريا فضولي للغور صوب ينابيعه والتماس الزلال الخارس لهذا المرض في،بدا لي بأنه لم يتورط بالحياة الأسرية رغم تنامي الشائعات حوله،أبعدت من ذهني أنه رجل مطارد من جهة قرر الالتجاء إلى بلدتنا،فالشعراء مطاردون لأنهم يقولون ما يخالف الوضع العام،وأنهم يرفضون تمجيد السلطان،ولا يمكن أن يكون ممن ترك وراءه زوجة متذمرة جراء الظروف القاسية،وجدته يدفع أجوره وان كان يرتزق من وراء كتبه،رغم تفاعل الفضول رفضت أن أذعن لرغبة عارمة استفزتني كي اطرق أبواب ماضية،احترمت ثقافته وصراحته وذلك الحلم النبيل الخافق في انسراحاته.. *** ذات مرة دخل المقهى على غير عادته،إذ لم يحصل أن دخلها في رابعة النهار،إلاّ في تلك المرّة،احتسى اكثر من فنجان شاي،قمت ودنوت منه..قلت : ـ إن كنت في ضيق فأنا موجود.. لمحته يكافح لخنق الاضطراب في ملامحه ويحاول اختلاق الهدوء أو يستعيد ما فقد..أجاب : ـ الضيق ليس في جيبي يا عزيزي،إنني اشعر من ضيق مزمن،ضيق أجبرني الاعتزال،كما تراني بدأت آثاره تستقطب الآخرين،وهذا ما لم أكن أتمناه في يومٍ ما.. ـ على كلٍّ أنا رهن طلباتك.. ـ الضيق في رأسي لا كما ذهبت أليه.. ـ وماذا يعني،لا فرق ما بين الرأس والجيب،كلاهما يفرغان في يومنا هذا.. ضحك وربت على رأسي ودلك فروتها ..صاح : ـ رأسك تلوث بالفلسفة..ستقول الشعر يا صاحبي.. ـ مالي وما للشعر حين أرى البخار يتراقص فوق إبريق الشاي ويزكم رائحتها انفي وارى الوجوه تضحك لعذوبة الشاي تغمرني اللحظة بسعادة لا توصف.. ـ ذلك هو الشعر الحقيقي،الشعر النابع من الصميم،الشعر أن تشعر بقيمتك وتسمو،أن تتجرد من نفسك الرتيبة وتندمج في نورٍ خفي ساحر،أن ترى عملك يطرب الآخرين من غير تملق أو لف ودوران.. *** في تلك اللحظة قرأت الهدوء في سحنته لحظة افرغ همومه،قام ودفع حسابه وانتبهت لعلبة كرتونية احتضنها وذهب،خلته قدم لنقل بعض كتبه،كما يفعل بعض الأدباء كل يوم(جمعة)،تراهم يحملون ما هو نفيس من مجلدات لبيعه تحدياً للحصار والجوع ومتطلبات الحياة الصاعدة،ومع توالي الأيام بدأ اكثر نشاطاً واكثر هدوءً،كل صباح يهبط ليتناول فطوره ويذهب وعند المساء يؤوب من رحلة عمله وعلامات البحبوحة تهلل سحنته،انتبهت بعد أيام بأن العلبة الكرتونية تحولت إلى صندوقٍ خشبي ظل يرافقه،فتنامت بكتريا الفضول نمواً مدهشاً ومضت تنسف جبال تحفظاتي حتى أعادتني لسنوات بعيدة،يوم كنت طفلاً غراً لا يقر بي قرار فما زال البعض ممن بقي على قيد الحياة يحتفظ بذكريات قديمة لكنها مسليّة عن إحدى نزواتي،يقولون بأنني ذات مساء قدت جوقة صبيان وتسلقنا فندق البلدة الوحيد،لأن غريباً حلّ به،ذلك الغريب جاء من الشرق وهو يقود قطيعاً من الحمير محمّلة بصناديق خشبية،ربط حميره في الخان وراح يحمل صناديقه إلى غرفته،تقاطر الصبيان وكنت قائدهم،لكم نهرنا وحاول إبعادنا كما يقولون،لكننا تشبثنا بعنادنا،أصررنا على اكتشاف الكنز المدفون في جوف صناديقه،حتى امتثل الرجل لكلام والدي الذي أقنعه بعد أن رفض أخذ حساب شايه،نزل عند رغبة والدي وكشف الغطاء عن أحد الصناديق،كانت فيه فئران بييض،أغرتني أن افعل فعلتي،كان الليل في أوله لحظة وصلت إلى غرفته وتمكنت من فتح ثغرات صغيرة في الصناديق،تعذر حملها لأنه ربطها بالبعض بسلسلة طويلة،يقال بأنه قام ورأى ما رأى فانطلقت الفئران إلى مسارب الليل،وفي الصباح استفاقت البلدة على ضربات عصاه وهو يطارد الصبيان لأن فئرانه تسللت من الأقفاص،ذلك الرجل صار رجل هزأة بقية حياته وظل في مدينتنا يجوب الأزقة وينام على الأرصفة،تلك الفئران أتت على سوق الأقمشة وراحت تتكاثر لتكتسح البيوتات والمحال التجارية قبل أن تبادر إدارة بلدية(جلبلاء)في حملة إبادة جماعية للقضاء عليها،أطيح بذلك الفندق وشيّد محله آخر،اكثر حداثة وأمانا،رغم قدم الحكاية،لا اعرف مدى صحتها،كون والدي قد رحل واستلمت زمام إدارة المقهى مكانه،وصاحب الفندق ألتحق هو الآخر بآخرته وحل أبنه محله،خلت بان الفئران والكتب حالة واحدة، فالكتب تنهش العقول وتسلب الجيوب،والفئران أيضاً تقرض وتدمر الأشياء الجميلة،قررت أن اقتحم الجوانب الغامضة في حياته لأوقف زحف عواصف فضولي،لم يكلفن الجواب وقتاً،لقد جاء بلا جهد وبوجه السرعة،كان صباحاً مشؤوما،لقد دخل كعادته وتناول فطوره بكل رتاباته السابقة وحين نهض ودفع حسابه أصطدم بالنادل فسقط الصندوق الخشبي من يده،ظل جامداً يبحلق وسط الفوضى والصرخات التي حررتها الألسن،قد تكون مصادفة،وقد تكون نهايات دراماتيكية للألعاب الغامضة والأسرار الدفينة،على ما يبدو أنه نسى أن يحكم رتاج الغطاء فهوى الصندوق،تدفقت عشرات الفئران البييض إلى كل الاتجاهات،ظل جامداً لا يريم،لا يلوي على شيء،محترساً دنوت منه،أيقظته من ذهوله،أطرق برأسه،ذرف دمعتين وأندفع خارجاً ليختفي نهائيا عن مدينتنا.. ***
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اندحار قلاع الصبر في(جولة في مملكة السيدة..هاء..)لعدنان حسين
...
-
قراءة في قصة(أحماض الخوف)ل(جليل القيسي)
-
لا كلب ينبح بوجه مولانا
-
ما رواه عبيدال//قصة قصيرة
-
من أجل سلّة رغيف
-
أحزان صائغ الحكايات..حين يفضح النقد أسرار السرد
-
خوذة العريف غضبان//مونودراما//
-
مواسم الهجرة إلى الأمان
-
تلك من أنباء القرى التي أنفلت
-
الرابح يأتي من الخلف
-
ربّاط الكلام
-
أين موقع أنكيدو
-
شاعر البلاط الرئاسي
-
من كتاب اللعنات
-
تحقيق الرغبة في رواية(غسق الكراكي) لسعد محمد رحيم
-
إلى ذلك نسترعي الإنتباه
-
الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات
-
رب نافعة ضارة أيضاً
-
امرأة الكاتب العراقي
-
الصديق الأخير
المزيد.....
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|