|
فيلم الجذور لأحسان الجيزاني: إنحياز للإنسان العراقي المسحوق زمن الاحتلال وفوضى ما بعده
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 2411 - 2008 / 9 / 21 - 00:56
المحور:
الادب والفن
ضمن فعاليات المهرجان الثاني للثقافة العراقية الذي أقيم في دار الثقافات العالمية في كوبنهاجن للفترة من 18 ـ 22 / 8/ 2008 عرض فيلم الجذور وهو من فكرة وأخراج ومونتاج الفنان الفوتوغرافي العراقي الشاب أحسان الجيزاني وقبل الخوض في شريط الفيلم التسجيلي، لابد من الإشارة إلى أن الفنان ـ إحسان الجيزاني ـ من المبدعين العراقيين الشباب الذين تبلوت موهبتهم في المنفى وظهرت ناصعة في السنوات الخمس الأخيرة، حيث أقام العديد من المعارض في ألمانيا، والعراق والبحرين كتب عنها العديد من المقالات في الصحافة الألمانية كما سيظهر من مشهد من الفلم، والصحف العربية والعراقية. أما المواضيع الأساسية التي أشتغل عليها فهي تتعلق بمحنة العراقيين المهمشين والمسحوقين زمن الحصار والحروب والاحتلال، من خلال تركيز عدسته الذكية على أنفعالات الوجوه المنسية وهي ترسخ في قاع عذابها الذي تشي به العيون الحزينة والبشرات المتعبة والوجوه المخذولة في أسواق بغداد القديمة ومدن الجنوب العراقي، وهذه التيمة التي دلته عليها حاسته الفنية قادته إلى مادته التي تمحورت على القطاعات الأكثر سحقا، إذ صّور أطفال الشوارع، العوائل التي تنبش في مراكز تجميع النفايات خارج المدن، الأطفال في القرى المنسية والأهوار والمدن وهم حفاة جياع، أصحاب المهن القديمة في أسواق المدن، بائعي الطيور، الأسكافيين، العجائز الباحثات في نفايات الأسواق، الرجال المشردين بلا مأوى ولا أهل ولا سكن، وأقام معرضاً كاملا عن مجانين العراق ممن فقد عقله في جبهات الحروب الطويلة، وفي الحصار، وتحت ظروف الأحتلال وفوضى القتل المجاني التي أعقبته، صّورَ كل ما لا تعكسه وسائل الأعلام العراقية الرسمية ولا يستطيع الأعلام العربي أو الغربي الوصول إليه، بعين مصورٍ موهوب فطرة، مضاف إليها أيديولوجية عدسته المنحازة إلى العراقي المسحوق بغض النظر عن دينه وقوميته وطائفته وأنتمائه السياسي، وهذا في رأيي من أسباب عمق وإنسانية اللحظات التي يلقطها في وجوه شخوصه. فكرة الفلم تولدت لديه عقب الأحتلال الأمريكي وزاول الدكتاتور، والفلم ببساطة يصور رحلة المصور ـ إحسان الجيزاني ـ وهو يعود من منفاه الألماني في مدينة ـ شتوتغارت ـ إلى مقام أجداده في أهوار جنوب العراق. هذه الفكرة بقدر ما هي بسيطة وقام بمثلها غالبية من كان منفياً إلا أنه صنع منها شريطا سينمائياً وثائقياً عفوياً لا يدعي ولا يفلسف ولا يلف ويدور بل عرض لنا كل ما يسقط الأسس الجديدة التي يحاول الأحتلال رسم عراق جديد على مقاسه. وكل ذلك من خلال حركة وعين مصور هو ـ أحسان ـ نفسه. كيف حقق كل ذلك بكاميرة بسيطة ترصد رحلته نحو جذوره تلك؟!. المشهد الافتتاحي يصور ـ المصور ـ وهو يتنزه في غابة مجاورة لشقته في ـ شتوتغارت ـ الألمانية ثم في لقطات مكثفة يعرض علينا مقطعاً عريضا لحياة ـ المنفي ـ عودته إلى البيت، فتحه لصندوق البريد، ولا ينسى أن يذكرنا بكونه فنان تكتب عنه الصحف من خلال سقوط الكاميرا على مقالة عن معرض فني أقامه هناك، ثم حزم الحقائب ووداع المطار، والترانسيت التركي والكويتي، وعدسة الكاميرا الذكية ترسخ أنطباعا يشي بالتنظيم الدقيق للحياة في تلك الأمكنة الأنيقة الذي ينقلب رأسا على عقب حال عبور حدود العراق، ومابين خط الحدود وجذور المصور ـ مدينة العمارة ـ تسيح بنا الكاميرا في رثاثة الأمكنة الخربة والمهملة، مركزة على الوجوه الشاردة والأمكنة الشائخة والشوارع المحفرة الغارقة بوحل المجاري المسدودة، مما يشعر المشاهد على الفور بمدى الخراب العمودي الذي خلفته حروب النظام السابق وظروف الأحتلال الجديدة المتظافرة كي تذّل سكان مابين النهرين.
العراقي كبعد حضاري:
في مركز المدينة ـ العمارة ـ ستجوب بنا الكاميرا ملاحقة حركة ـ المصور ـ وهو يتفحص بعينيه وكامرته سوق المدينة مصوراً كل ما هو مهمش، صباغي الأحذية، بائعي الطيور بأقفاصهم الرثة ووجوههم الكالحة، رواد المقاهي بوجوههم المتعبة المغضنة وعيونهم الشاردة وهم يؤكدون سوء الأحوال رغم زوال الدكتاتور وعدم إختلافها عن زمنه لا بل أن الوضع الإنساني أسوء زمن الأحتلال. المصور يستمع بصمت إلى تلك التعليقات مشغولا بخزن تلك الإنفعالات في بئر عين كامرته. يصحب عين الكاميرا الجائبة في الأمكنة والوجوه لحظة صمتها موسيقى حزينة مصاحبة لموسيقي عراقي ـ نجار الموصلي ـ متناغمة إلى حد كبير مع تيمة النص البصري وموضوعه الشجن. تمكث العدسة متصفحة في زقاق وسط السوق بناية قديمة يظهر انها كنيسة حينما تتسلق العدسة برج أجراسها القائمة ، لتهبط على لاح حجري حفر فوق المدخل يقول ـ كنيسة أم الأحزان ـ وسط مدينة العمارة العراقية. تتنقل الكاميرة في تفاصيل بناء الكنيسة، فتسيح في معمارها الشبيه بمعمار البيوت البغدادية قديمة. باحة وسطية مفتوحة. طابقان وغرف تشرف على فسحة الباحة ثم العمود الشبيه بالمأذنة وجرس الكنيسة النحاسي، والمحراب حيث منحوتة صغيرة للمسيح مصلوباً. من الكنيسة تنتقل الكاميرا مباشرة إلى مرقد نبي ـ اليهود ـ العزير في مدينة العزير، مقلباً تفاصيله، الضريح مغطى بقماش أزرق حاله حال الأضرحة الشيعية المنتشرة في الجنوب العراقي، كما يصور بلقطة كلوز لوح مكتوب باللغة العبرية، وإلى جانيه كتابة بالعربية عبارة عن دعاء يقرأه الزائر، والمرقد مقدس لدى سكان المنطقة من الشيعة. فإذا أضفنا أن العمارة وضفاف دجلة سكنها منذ أقدم الأزمنة ـ الصابئة المندائيون ـ يكون هذا الشريط قد أعطى للعراق ومن خلال جنوبه ـ العمارة ـ بعده التاريخي كونه موطنا لجميع الأديان السماوية الموحدة وأختلطت على ترابه جميع الأقوام وتزاوجت لتصب شخصية العراقي كإنسان.
العراقي تحت ظل الإحتلال:
تدخل بنا الكاميرا في صلب الواقع الجديد من خلال الدخول إلى أهم مؤسسة معنية بإعداد الأجيال القادمة إلا وهي المدرسة، فتجوب في تفاصيل مدرسة ـ العزير ـ الابتدائية للبنين، التي تأسست عام 1932، فتطالعنا الأبواب الخشبية المثقبة، والمهشمة، تكدس الطلبة على مقاعد رثة مكسرة، وجوه التلاميذ المتسخة بثيابهم البالية وهم حفاة، لا مرافق صحية، وسياج المدرسة محطم، لتعود ثانية إلى الصفوف وجدرانها المفطرة وسقوفها التي علتها الرطوبة، ثم يبدأ المدير بالحديث مؤكدا ما ذهبت إليه الكاميرا فاضحا الأحباط النفسي الذي يعيشه المعلم نتاج هذه الظروف مكثفا التيمة: ـ إذا كان المعلم محطما نفسيا فكيف يقود أجيال المستقبل إلى بر الأمان!. ناعتاً السلطة الجديدة كونها فاسدة أستحوذت على المناصب والثروات ونست الناس. ومن باحة المدرسة الخربة إلى فساحة أراضي الأهوار المجففة وحواف المجاري المائية المفتوحة حديثاً، حيث تركز الكاميرا على مفردات الحياة هنالك وطوال الوقت تلاحق ـ أحسان ـ وهو يصور أشياء المكان من بشر وبيوت قصب وأدوات معيشة، التنور وأدوات الطبخ، المشاحيف، والأطفال الحفاة يتجمعون حوله، ثم حركة المردي وهي تنغرز بالقاع لتدفع المشحوف الجائب تلك الممرات الضحلة المستعادة حديثا بعد أن جففها النظام السابق، تحّل في هذه المشاهد أغنية ريفية جنوبية حزينة محل الموسيقى التصورية الشجنة، تفضي بما آل إليه وضع العراقيين زمن الحروب والأحتلال: ـ يكلي أبتشر لا تحتار هم شايف جرح يضحك ضعنة وطشت اللّمة وكل واحد حدر نجمة ـ
التنور السومري في الأهوار ـ تصوير إحسان الجيزاني
يصاحب هذه الأغنية ضحك أطفال الهور الحفاة المزحمين حول في المشحوف بعضهم رمى بنفسه إلى الماء، في مشاهد بليغة مزجت الضحك بالبكاء، الأمل بالحزن، مؤكدةً جريان نهر الحياة رغم محاولات قتل الحياة في تلك البقعة. يطالعنا بين هذه المشاهد وجوه الرجال المتعبين الذين يفضون لعدسة الكاميرا بمعانتهم، قائلين بوعي سياسي يتعجب المرء من عمقه مطالبين بحصتهم من الثروة الكامنة تحت أقدامهم كما قال ذلك العجوز مؤشرا إلى الأرض تحت قدميه، ليخلص: ـ ما لاحنه خير من ها لحكومة كالت هذي الحكومة سهمكم بالنفط يمشي وهاي الأرض كلها نفط بس طلع هذا ح ي ـ كما يقوم المصور بزيارة مقابر جماعية منسية في عمق الهور، لرجالٍ ونساء ساهموا بمقاومة النظام السابق، فتركز على رجل خمسيني ينهار باكيا وهو يقرفص جوار شاهدة قبر ويخبرنا الشريط بأنه فقد زوجته وأفراد عائلته السبعة في حملات النظام السابق، لكنهم وجدوا إجحافا ونسيانا زمن الأحتلال والسلطة المركزية البعيدة في بغداد. لم يجد المصور ـ أحسان ـ ضالته، أهله وأعمامه الذي ضاعوا في هجرات عدة إلى دول الجوار، وإلى المناحي البعيدة في العالم، أوربا وأستراليا وأمريكا، وهجرات داخل العراق بعد تجفيف الأهوار زمن الحروب والأنتفاضات، كما أخبره شيخ المنطقة العشائرية لكنه يرحب بالقادم ويقوم بمنحه ملابس سكان الهور الدشداشة والعقال واليشماغ ويرحب به. وفي اللقطة الختامية يظهر المصور يسير في شارع ترابي عريض وسط الهور يقوم صبي حافي باللحاق بالمصور، فيناوله كاميرا جديدة يخرجها من علبتها، فيقوم الصبي بتصوير ـ أحسان ـ المصور في مشهد ختامي متفائل بالطفولة والفن والعراق القادم رغم البؤس. ينتهي المشهد الختامي بلقطات فوتوغرافية متعاقبة بالأسود والأبيض منتقاة من رحلته، مصحوبةً بصوت زر الكاميرا، وبعد هذا المعرض المكثف يختار المخرج أصوت من الشخوص الذين تحدثوا في الفلم مركزة تصور بؤسهم ومعاناتهم الإنسانية في زمن الأحتلال مصحوبة بمن ساهم بالفلم. قامت بالترجمة إلى اللغة الأنكليزية ـ قرطبة الظاهر ـ قام بالتصوير في المانيا وتركيا كل من: هلكوت الجباري، وبامو الجباري وفي العراق: علي طالب والفيلم من أنتاج وأخراج ومونتاج الفنان ـ احسان الجيزاني ـ مع ملاحظة أخيرة تقول: أن الفيلم صُوِرَ تحت ظروف الاحتلال والارهاب حيث يسود القتل المجاني وصراع التيارات الدولية المتنافسة والمتربطة بمصالحها النفطية.
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية من النجف لحمودي عبد المحسن عالم النجف المكتظ بأساطير
...
-
-دنيا -علويَّة صُبح خلاصة حياة لا الحياة في تفاصيلها
-
منجز القصة العراقية
-
بيت النمل-* مجموعة هيفاء زنكنة القصصية المنفي كائن هش.. لا ع
...
-
حضن هو الدنيا#
-
دروب وغبار رواية جنان جاسم حلاوي عن العراقي التائه الباحث
...
-
أرباب الرعب
-
طوبى للعراق الموحد في صف أدرس فيه العربية في كوبهاجن كمتطوع
-
وجهك المأمول حجتي رسالة عاشق مخذول تحول إلى سكير حالم حتى قا
...
-
حوار بين الشاعر علي الشباني وسلام إبراهيم
-
قولبة شخصيات النص في أبعاد معدة سلفاً رواية أيناس لعلي جاس
...
-
أقواس المتاهة مجموعة عدنان حسين أحمد القصصية المغزى في النص
...
-
بنية روائية تؤسطر الوقائع وتدفعها إلى حافة الجنون قلعة محمد
...
-
المنفى هو منفى أبدي بعد مجيء الطير مجموعة إبراهيم أحمد القصص
...
-
بنية قصصية تبحث عن دلالتها بالرمز -ما يمكن فضحه عن علاقة أبي
...
-
كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا مصاطب الآلهة مجموعة محم
...
-
مجلس جالية أم مجلس أحزاب الجالية؟!
-
المولود في المنفى كائن مكونٌ من الحكايات -أمسية صيفية-* مجم
...
-
المنفي ميت حي -البيت الأخضر - مجموعة عبد جعفر القصصية
-
قاب قوسين مني- مجموعة -هدية حسين- القصصية تصدع بنيان المجتمع
...
المزيد.....
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|