لقد آن الأوان لوضع حد لمثل هذه الأمور. نحن بحاجة إلى ماركسية حية لا تخاف الواقع وتعرف كيف تسمي الأشياء باسمائها. طبيعة دعم بوتين يجب أن تحصل على تفسير مناسب لها على أفواه الشيوعيين، وليس على تشكٍّ أحمق من وسائل الإعلام الملعونة التي يقع الذنب كل الذنب عليها، والتي لو تكلمت أقل عن بوتين وتكلمت أكثر بالسيء عنه لما كان له مثل هذا التأييد الشعبي. غير أن هذا منطق بدائي للغاية، وهو ليس من الماركسية بشيء. لا سيما ان ثمة تجربة (بعد غرق الغواصة "كورسك") تعرض فيها بوتين لأشد الهجمات من جانب كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع، ولكنه رغم كل ذلك لم يفقد من شعبيته غراماً واحداً. بل إننا نرى ونلحظ الآن أيضا دعاية مناهضة لبوتين في الصحف وعلى الإنترنت وحتى عبر قنوات التلفزة، بيد أن الثقة بالرئيس تبقى كبيرة ولا تهزها أنواء.
أكرر القول إن سر دعم بوتين يكمن في العنصر الوطني العام الذي تتضمنه سياسته. في ظل هذا الوضع لا يصح بتاتاً أن ندعو إلى المقاطعة، لا سيما أن هذا سيكون برفقة جماعات ليمونوف والليبراليين التي سينضم إليها قريبا جدا، على الأرجح، شيوعيو حزب زوغانوف الشيوعي الروسي. فاليوم يتحدث زوغانوف مثلا عن النظام البوليسي. لماذا؟ ألأن بضعة من أساطين النفط أدخلوا السجن أو اضطروا إلى الهجرة، ألأن الشركات الغربية تُبعَد عن قالب الحلوى النفطي بأساليب شتى. بينما في العام 98، عندما كانت تتأجج في أرجاء البلاد "حروب السكك الحديدية" وكان العمال يستولون على المصانع فترسل السلطة رجال الشرطة والقوات الخاصة ليواجهوهم، كان زوغانوف يرسل ممثليه إلى الحكومة ولم يكن يرى أي نزوع نحو نظام بوليسي. وأين كان زوغانوف عندما أرسل عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي وحاكم محافظة تولا السيد ستارودوبتسيف رجال الشرطة ليواجهوا عمال مصنع الآلات هناك وليعتقلوا بأمر منه قادة العمال ويضربوهم. وها هم هؤلاء السادة يتحدثون الآن عن النظام البوليسي!!!
الرفيق شابينوف يكتب في مقالته إن بوتين "يمثل المصلحة الأكثر شمولا لكل الرأسماليين الروس". من البديهي أن يمثل أي رئيس برجوازي، بهذا الشكل أو ذاك، المصلحة العليا والعامة للرأسماليين، وليس بوتين هنا استثناء. غير أن شابينوف يحاول أن يقنعنا منذ زمن بأن ليس هناك انقسام جدي في صفوف الطبقة المسيطرة، وأنها بمجملها تؤيد بوتين. غير أن الأمر ليس كذلك طبعاً. وخير تأكيد لذلك يأتينا من الحملة المتصاعدة المناهضة لبوتين. فعلى جدول الأعمال الآن مسألة السيطرة على الموارد الطبيعية الروسية. فمالكو ثلث النفط الروسي تقريبا هم في السجن أو في المهجر، والحكومة حرمت في الأيام الأخيرة جبابرة مثل شركتي "شفرون" و"إكسون موبيل" من الحق في استغلال الحقول النفطية في قطاع ساخالين -3 في منطقة الشرق الأقصى، وشركة "غاز بروم" الحكومية أخذت تبعد شركة "بريتيش بتروليوم" عن حقل الغاز في كوفيكتينسك، أحد أضخم أمثاله في العالم إلخ. كل هذه الأمور لا يمكنها أن تحدث من دون وجود انقسام جدي في أوساط الطبقة المسيطرة. وهذا ما يبرز بين الحين والحين في تصريحات ممثلي كبار الراسماليين الروس العاملين في مجال الخامات من ذوي التوجه الغربي والمعبرين دون شك عن أجواء الأوساط الغربية. فأي وحدة للطبقة الرأسمالية هي قائمة حول بوتين؟!
أحد ممثلي الرأسمال النفطي الروسي، ونائب رئيس اتحاد الصناعيين ورجال الأعمال الروسي، السيد يورغنس تحدث في مقابلة مع جريدة "غازيتا رو" الإلكترونية عن "الصيغة الفنزويلية لروسيا"، وعن الحاجة إلى دكتاتورية موالية للغرب ليبرالية، أي إلى بينوشيت روسي. هكذا يفهم هؤلاء الحرية والديموقراطية في روسيا: "إما تحديث أوتوريتاري (تسلطي)، وإما ركود توتاليتاري". وهو يقصد بالتحديث التسلطي تلك اليد القوية التي تؤمّن استعمار ورسيا، تؤمن الظروف المؤاتية لنهب ثرواتها ولإخضاع سكانها. وبوتين في هذا خذلهم على ما يبدو. وها هم الآن يحاربون دكتاتورية بوتين غير الصحيحة من أجل دكتاتورية صحيحة، وكل هذا طبعاً تحت ستار الديموقراطية والحرية، وبالتحالف مع شتى ضروب "اليساريين". هل هذا هو طريق الشيوعيين؟ برأيي لا! وإني لواثق من أن الشيوعيين إذا ما قدروا بوتين حق قدره فإنهم سيكونون الرابحين في أعين الناس. كما أن الانتصار على بوتين من جهة اليسار، الذهاب من بوتين في اتجاه الاشتراكية، غير ممكن من دون تقدير صادق كهذا. وحده تقييم سياسة بوتين التقييم الموضوعي والمنزه من الغرض يمكنه أن يُظهر للناس كل محدوديتها، وعدم إمكان حل المشاكل التي تولدها الرأسمالية حتى بواسطة سياسة دؤوبة في توجهها وطنياً. وما هو هام خاصة إظهار عدم إمكان الحفاظ على حرية روسيا واستقلالها في إطار الرأسمالية مهما أراد ذلك بوتين وجزء من رهطه ومؤيديه. فروسيا ستنزلق حتما من وضعها الحالي كشبه مستعمرة، من حالتها الانتقالية هذه التي لا يمكن ان تدوم إلى الأبد، إلى وضع المستعمرة الكاملة، وهي على الأرجح لن تبقى موجودة كدولة واحدة موحدة. فالروس هم اليوم الأمة الوحيدة بين الأمم العظيمة التي لا خيار لها غير إما ان تنهض إلى الثورة وتجهد لجذب باقي العالم إلى ثورتها هذه، وإما أن تكف عن الوجود كأمة واحدة ودولة موحدة. الاشتراكية أو الموت: روسيا هي اليوم أمام أحد هذين الخيارين اللذين لا ثالث لهما. وهذا ما على الشيوعيين أن يوجهوا ناحيته كل تحريضهم ودعايتهم، ولا سيما في ضوء الانتخابات القادمة.
حصيلة كل ما أوردنا حيال الانتخابات تمكن رؤيتها على الشكل الآتي: يمكن للشيوعيين أن يساندوا أيا من المرشحين بشرط تمتعهم بحرية النقد والحفاظ حفاظا كاملا على مواقفهم واستقلاليتهم. ويمكن لهم أن يحاولوا طرح برنامجهم الشيوعي الراديكالي بين يدي المرشح "ضد الجميع" أي أن يصوتوا ضد جميع المرشحين ويطرحوا برنامجهم هم. ولكن المهم هو إفهام من يهمه الأمر أن المعارضة الشيوعية معارضة مستقلة ولا يجمعها أي جامع بالمعارضة الليبرالية وغير الليبرالية المرتبطة بالإمبريالية، والتي تصطف الآن حول شعار المقاطعة. على الشيوعيين أن يحافظوا على صفهم المستقل الواضح المعالم والمميز بين باقي الصفوف في التظاهرة الانتخابية. وهو ما ينبغي أن نعمل لأجله في الانتخابات المقبلة.
وفي الختام محاولة تنبؤ. أخاطر بافتراض أن جماعة زوغانوف سوف يسحبون مرشحهم ويدعون إلى المقاطعة (مع أن خاريتونوف نفسه، بحسب بعض المعلومات، قد يدعو بعد انسحابه إلى تأييد مرشح كتلة "الوطن" البرلمانية سرغي غلازييف). ماذا علنا نقول في هذا؟ ذلك هو، على ما يبدو، مكان زوغانوف: بين المقاطعين بالذات. والسؤال هو هل سيمكن العثور على شيوعيين لن يكونوا هذه المرة أيضا "لواحيق عميان" لزوغانوف وجماعته في سياساتهم الخاطئة، بل يعربون عن موقف ونهج مستقلين. إذا تم هذا فعلا فستظهر فرصة سانحة لولادة قوة شيوعية جدية وذات شأن اجتماعياً.