زار الرئيس الروسي بوتين أوكرانيا زيارة استمرت أقل من يومين، من 23 إلى 24 كانون الثاني الماضي. وكانت تنقلاته في أرجاء العاصمة الأوكرانية كييف تنقلها كل محطات التلفزة، فتظهره حيناً يسلم الرئيس الأوكراني كوتشما جوائز وأوسمة، وحيناً آخر يتحدث عن عام روسيا في أوكرانيا الآتي إلى نهايته، ويوقع اتفاقيات اقتصادية جديدة. وفي كل مكان كانت ترافق تجواله الابتسامات والزهور وغيرها من عناوين الاهتمام واللياقة والرعاية. ولكن في الوقت نفسه كانت كل محطات التلفزة هذه تغطي أحداثا أخرى مثل المؤتمر الصحافي للأميركي البولندي الأوكراني الأصل ب. تاراسيوك بمناسبة ابتداء عام بولندا في أوكرانيا، وزيارة السفير الأميركي في أوكرانيا هربست لرئيس الرادا العليا (مجلس النواب الأوكراني) ليتفين، ومباحثات الحكومة الأوكرانية في واشنطن حول قضية ترانزيت نفط قزوين. وهكذا جعِل المشاهد يدرك أن للميدالية وجهين اثنين: وجهاً يظهر "التشارك الاستراتيجي" لأوكرانيا مع روسيا، ووجهاً آخر يظهر مثل هذا "التشارك" مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وما يبقى غير مفهوم هو كيف يمكن السير في آن في اتجاهين متعارضين تمام التعارض.
غير أن اللعبة السحرية لا تلبث أن تنجلي خطوطها الخفية. فأوكرانيا لا تسير في أي اتجاه. ما يجري هو فقط أنها تضحي هدفاً للفاتحين من اتجاهين استراتيجيين في آن: من الغرب ومن الشرق. وتدل الدلائل على أن هذه المعركة بين الجبارين، وإن اختلفت قدرتاهما اختلافا كبيرا، تأتي إلى ميتائها، إلى نهايتها. وخير ما يثبِت هذا الفضائح المتكررة في أوكرانيا ذات الخلفية الدولية: تصدير القمح لى الخارج بكميات كبيرة، وتجميد المشاريع الأميركية في مجال استكمال بناء محطتي الطاقة الذرية في روفنو وخملنيتسكي وبناء مجمع إتلاف الوقود الصاروخي في بافلوغراد، وإرسال قوات أوكرانية إلى العراق، وتوقيف طائرة "أنطونوف-124" في كندا، والصراع على اتجاه العمل في الأنبوب النفطي أوديسا-برودي وعلى الاستفادة من مياه بحر أزوف في منطقة كرتشن، وتنشيط منظمة "غووام" الموالية للولايات المتحدة والجدالات الحامية حول الانضمام إلى منظمة المجال الاقتصادي الأوراسي الموالية لروسيا، وكذلك هستيريا الغرب حول الإصلاح الدستوري في أوكرانيا.
وتستخدم في الصراع من أجل السيطرة على أوكرانيا أساليب شتى. فلئن كان الطامعون بأوكرانيا من الغرب يتفننون في نصب الفخاخ السياسية والعسكرية، فالرأسمال الروسي يلجأ بصراحة وفظاظة إلى شراء فروع اقتصادية بأكملها على نطاق واسع بدولارات أميركية. وتبدي البرجوازية الأوكرانية جاهزية للاستسلام لأي من الطرفين. أما الشعب الذي حشروه حشراً بين شعارات الاستقلال المزيف والديموقراطية الخادعة فيرقب في معظمه بهدوء عن كثب كل هذه "السياسات" المليئة بالألاعيب. ثمة طبعا جزء من السكان قد حدد خياره لصالح "مالك فعال" جديد، غير أن أحداً لا يصغي إليه، إذ إن الخيار في ظل الديموقراطية هو للبرجوازية.
قد يسأل القارئ المهتم جدا بـ"السياسة": "وماذا عله سيكون خيار البرجوازية هذه؟".
من المعلوم أن كل سلوك البرجوازية الأوكرانية، الموالين منها للأميركيين أو للروس، تحدده الرغبة في الحصول على أكثر ما يمكن من الربح وبأي ثمن. هذا هو ما يوحد كلا الفريقين. غير أن بين طرفي البرجوازية الأوكرانية أيضا في ما عدا الجوهر الاستغلالي المشترك الكثير من الاختلافات التي يمكن استنادا إليها أن نقسم البرجوازية وفقاً لمعايير ثلاثة:
1) على أساس حجم رأس المال (أهو كبير أم متوسط أم صغير)؛
2) على أساس قطاع توظيف رأس المال (أهو إنتاجي أم مصرفي أم مضارِب).
3) على أساس وجود فريق البرجوازية هذا في الحكم أم لا (أهو فريق حاكم أم معارض).
هذه الاختلافات بالذات تولد "اختلاف التوجهات" السياسية الأوكرانية. فمن الأمور المميزة لهذه الاختلافات أن التباين حسب المعيار الأول لا يؤثر عمليا على اختيار الشريك الاستراتيجي. ولذا يمكن اعتبار أن الخصائص المميِّزة على أساس المعيارين الثاني والثالث هي المقرِّرة.
لا بد من القول إن ملكيات هائلة من مصانع ومعامل ومجمع طاقة ووقود ونقل واتصالات ووسائل دفاعية واحتياطيات مادية لمؤسسات تم تفليسها اصطناعياً ومدخرات للمواطنين العاملين وغير ذلك باتت بنتيجة تقاسم ملكية الشعب عامة لصالح أفراد في أيدي قلة من مواطني أوكرانيا المستقلة. وفي نهاية المطاف تشكل رأس المال الخاص كله في أوكرانيا مع حلول العام 1996 تقريبا في قالب حلوى من ثلاث طبقات: رأس مال إنتاجي، وآخر مُضارِب، وثالث مصرفي يخدم الاثنين معاً.
رأس المال الإنتاجي وجهته الغالبة أسواق روسيا بما ان أوروبا وأميركا لا تسمحان بدخول غير الخامات وأبسط المنتجات شبه الجاهزة. أما قطاع المضاربات فينظر في الاتجاه المقابل، أي ناحية الغرب. ويعمل راس مال هذا القطاع كمضخة تضخ الخامات من أوكرانيا إلى الغرب بأسعار إغراقية جداً، لتعود أموالها إلى أوكرانيا في شكل سلع استهلاكية تستدر الأرباح من المواطن الأوكراني. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الرأسمالين الإنتاجي والمضارِب في أوكرانيا متقاربا الأهمية والحجم، فيما يقدم الرأسمال البنكي بكل سرور خدماته إلى كل من هؤلاء وأولئك، أمكننا استنتاج أن محصَّلة القوى الرأسمالية المفرزة على أساس معيار الرساميل الثاني تساوي صفرا، أي أن هذه القوى في تعادل. ومن هنا لا بد للإجابة عن تساؤل القارئ من تحليل مصالح أطراف البرجوازية وقدراتها على قاعدة انقسامها حول جبنة الحكم.
تنقسم البرجوازية اليوم في أوكرانيا إلى فريقين. الأول فريق رئيس الدولة كوتشما الذي يمثل ويجسد السلطة الرسمية، والثاني فريق رئيس الوزراء سابقاً يوشنكو الذي يصور نفسه وكأنه المعارضة. من حيث المبدأ يمثل هذا "الانقسام" في صفوف البرجوازية إلى فريق في السلطة وفريق آخر معارض لهذه السلطة ظاهرة معتادة في كل الدول البرجوازية. زد على ذلك أن هذا "الانقسام" الذي يذاع له صيت وتقام له الدعاية على نطاق واسع و"الصراع العنيد" ضدها هما أفضل ما يعزز سلطة البرجوازية كطبقة ذات مهمة استراتيجية واحدة هي استغلال العمل. فبواسطة مثل هذه الألاعيب والمناورات السياسية تنجر الطبقة العاملة دون أن تدري إلى الصراع ضد سلطة مكروهة متحالفةً مع معارضة بورجوازية لا تختلف في شيء البتة عن السلطة الرسمية.
هذا السيناريو تم لعبه في أوكرانيا من قبل عندما حل كوتشما محل كرفتشوك في رئاسة أوكرانيا. وكان من نتيجة ذلك أن اقتنع الشعب مرة أخرى بأن ما حصل ليس سوى انتقال "من الدلفة إلى تحت المزراب". وثمة مثل أقرب زمنياً على مثل هذا الانتقال، ألا وهو مثل جورجيا حيث حلت دمية أميركية هي الرئيس الجديد ساكاشفيلي الخارج من صفوف "المعارضة" محل دمية أميركية أعتق هي الرئيس المخلوع إدوارد شيفاردنادزة.
مثل هذه المسرحية المنمقة تلعبها اليوم البرجوازية الأوكرانية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. بل يمكن القول إنها نصف مسرحية، إذ هي مسرحية في ما يتعلق بالتصريحات والتعليقات حول الذود عن حقوق ومصالح العاملين، وواقعٌ في ما يخص الصراع (أو بكلمة أخرى "القتالات") بين فريقي الطبقة البرجوازية على الحق في نهب العاملين، من يكون صاحب هذا الحق قبل غيره.
مثل هذه "القتالات" ينظمها الدستور حسب قوانين الدولة البرجوازية. ففيه يشار إلى الآجال والمواعيد التي تجرى فيها انتخابات البرلمان والرئاسة، والقواعد التي على أساسها تجرى. وتدل تجربة السنوات الطوال على أن تأثير الشعب ضعيف جداً، إن لم نقل صِفرٌ. فالقسم الأعظم من الناس في المجتمع البرجوازي، ومن بينهم جزء كبير من البروليتاريين، يفكرون بطريقة برجوازية، أي بطريقة غير علمية. وتعيقهم ظروف العيش وأسلوب الإنتاج والقيم والتقاليد المعمول بها في المجتمع البرجوازي عن الارتفاع إلى مستوى فهم ضرورة التغيير الجذري في المجتمع. فهم لا يدركون أصلا ماذا يعني "التغيير الجذري في المجتمع". ولذا يصوّت معظم الناس لصالح شتى صيغ الإصلاح وأحسنها دون أن يلحظوا أنها جميعها لا تلامس السبب الرئيس للظلم اللاحق بهم، لا تلامس الحق في تملك وسائل الإنتاج تملكاً فردياً. وما دام الأمر كذلك فإن كل تصويتهم لا يعدو كونه دعماً لهذا الفريق أو ذاك من أطراف البرجوازية.
ولكن يهمنا أن نعرف إلام سينتهي الصراع الحالي بين فريقي "السلطة" و"المعارضة" في أوكرانيا. منطق كل الانتخابات البرجوازية يقول إن ورقة الهجوم تكون دائما في يدي "المعارضة". فهي دوما ذات أفضلية في هذا المجال إذ يمكنها أن تلصق كل جرائم الرأسمالية بسهولة وخفة بالفريق الحاكم "الذي ينخره الفساد ويخالف القوانين والدستور ويفتئت على حرية الكلمة" وهلم جراً. وهنا لا تفتأ "المعارضة" تعلن ان الشعب سيهون عيشه في الحال إذا ما وصلت هي إلى السلطة. ومعارضة يوشنكو وجماعته ليست مغايرة. والميزة الوحيدة في تكتيك هؤلاء المارقين هي اللعب على دعم عداء الأميركيين لروسيا. فيوشنكو يعد بوش بالانضمام إلى الحلف الأطلسي وبإقامة قواعد عسكرية أميركية في القرم وبتسعير الهستيريا المناهضة لروسيا وبمساندة الحرب الأميركية على "الإرهاب" في كل أنحاء المعمورة، وذلك بمقابل ملايين الدولارات والدعم السياسي.
غير أن فريق الرئيس كوتشما لا ينوي الاستسلام. ففي كفة الميزان ملكية بملايين المليارات تم الاستيلاء عليها خلال عهده، بل أيضا حريته الشخصية التي يمكن في حال انتصار الفريق المعارض ووصوله إلى السلطة أن تتأذى، لا سيما أن هذا الفريق حرِم طويلا من الاستفادة من السلطة لنهب الشعب فاضطر إلى استعمال أساليب ملتوية لنهبه. ولذا يوارب جماعة كوتشما ويناورون بحثا عن حلفاء جدد.
وروسيا بوتين واحد من هؤلاء الحلفاء. فقبل الآونة الأخيرة ما كان كوتشما ليبدي أية مشاعر ود حيال الجار الشمالي. وكانت كل "صداقته" له يعبر عنها فقط في شكل حب النفط والغاز الروسي الرخيصين اللذين تتركز عليهما كل أعمال جماعته والمحيطين به. هذا علماً أن كوتشما حين ترشح للرئاسة ليصبح رئيسا في الولاية الأولى له بنى كل حملته الانتخابية على الولاء لروسيا والصداقة معها. ولكنه كان في الواقع "يكوّع" دوماً في اتجاه "التكامل مع أوروبا والأطلسي"، وكان كل وزراء خارجيته معادين لروسيا لحماً ودماً. كان "يكوّع" على الرغم من أن هذا النهج قد حول أوكرانيا بسرعة هائلة إلى تابع للغرب يزوده بالخامات، إلى فرن صَهرٍ عالٍ ضخم وقذر. ولكن عدما بات الخطر يتهدد اليوم كوتشما ها هو يعد بوتين بوقف المشاريع الموالية للأميركيين، ويوافق على لعب دور "الشريك الصغير" للبرجوازية الروسية، إذ إن هذا في أية حال خير من وضع المستعمرة الأميركية.
ربما كان مثل هذا الدور أفضل. ولكن هذا ليس أبدا ما يلزم العاملين اليوم. ومن المؤسف ألا يكونوا اليوم مستعدين للانخراط بقوة في الصراع من أجل دولتهم السوفياتية الخاصة. فليس عند الطبقة العاملة لا الانتظام ولا الوعي السياسي. ومن دون طبقة عاملة ثورية لا مجال للانتصار على البرجوازية. أكثر ما يمكن فعله في ظل الوضع الحالي هو دعم سبيل التطور الشيوعي على الأقل بأصوات يدلى بها في الانتخابات لصالح المرشح الشيوعي (إذا ما شارك شيوعي طبعاً ذو برنامج شيوعي حقاً في الانتخابات الرئاسية). مثل هذا الخيار سوف يدل أقله على أن الكادحين قد "شبعوا" رأسمالية وبدأوا يفكرون.
عن جريدة "الطبقة العاملة"