حمودي الكناني
الحوار المتمدن-العدد: 2396 - 2008 / 9 / 6 - 07:38
المحور:
الادب والفن
الى الشاعر جميل الروح والفكر : سامي العامري
أصبح كل شيء لديه واضحاً تماماً . كل شيء يراه يشعره بعبثية ما يدور . لا يريد أن تتلطخ يداه بالخطيئة فأعلن غضبَه وقرَّرَ العيشَ بعيداً تاركاً وراءه ركام الذكريات وأنين المأساة ووجع الجروح العميقة رافضاً كلَّ التباشير الرعناء بقرارٍ اتخذهُ على جلَد واستوطن الصبرَ ينتظرُ السماء تبشره بجنته المفقودة .........................................
(*) عندما كان صبياً كان يحلو له الجلوس على ضفاف دجلة الخالد ويبقى طويلاً يتفرس في جريان الماء المحمل بالطمى والغرين حينما يتشاجر النهر مع ضفافهِ في كل نيسان يمر ...
لم يكن يعتمر طاقية ولم تكن السنون قد مشت على وجهه المبتسم للحياة بأحمالها الثقيلة .
لا يمتلك أحلاماً عريضة ولا يمني النفس أن يكون أميراً يجلس ويمشي كما يفعل الأمراء ....
كل ما كان يفعلهُ خطوطٌ يرسمها في الهواء كلما رأى أسراب الحمام ترفل في سماء بغداد او تمتدُّ محلقة فوق دجلة وكأنها أنهارٌ أخرى !
عندما يحمل كتبه في الصباح ويذهب الى المدرسة لم يكن يمشي كما يفعل الصبية , بل كان بهدوء يتفحص كل شيءٍ تقع عليه عيناه. وكأنَّ علاقةً ما قد ربطته الى كل ما يحيط به من أشياء . فمهما كان الشيء صغيراً كان ينظر اليه بنفس المقدار من الإهتمام والتأمل , إذنْ كلُّ يوم من أيامه كان نيساناً , أيامهُ كانت كلها نياسين ! .... يمرح , يسرح , يطير , يحلق لا تحده حدود الزمن المنظور ولا غير المنظور . الأوقات عنده متساوية في فرحها أما غير ذلك فهذا ما كان لا يخطر له على بال . كان أخا مرحٍ وفرح يمازج لون الأيام الزاهي مع الوانه الهادئة التي تبعث الدفء والغبطة .
وفي يوم لم يكن قد فكر به أو حتى تخيله او ارتسم له بالخيال رأي نفسه مجلبباً بملابس الخاكي الملابس التي كثيراً ما كان يمقتها لأنها ستسرق منه اللحظات الجميلة التي ينتهي بها الى عالمه ودائرته الوردية ... ولما انتظم أخيراً بهذه الحياة كان مثلاً للإنضباط وحسن الخلق .
لم يكن ينتظر إصدار الأوامر او التعليمات بل كان يقرأ تعليمات وأوامر نفسه التي تمردت على روتين حياة الجندية وعجرفتها وخشونتها .
في فترة قصيرة كسب ودَّ أصحابه
ورفاقه في هذه الحياة الجديدة ,
وفي صباح يوم شتائيٍّ بارد تحلق مع رفاقه حول الموقد الذي كان يعتبرُ منتداهم الوحيد حيث يتبادلون النكات وأحاديثهم الغضة حوله وكأنه يسلِّفهم من دفئه حينما يبعث فيهم روح المطاولة والصبر والجلد وفي حركة غير مقصودة انتفض ...... تنحى جانباً وراح يلتفتُ يميناً وشمالاً يبحث عن مكان يقف عليه يستطلع منه دربه الذي سيسلكه ساعة رحيلٍ الى المجهول .
لم يتمكن من الوقوف طويلاً لأن مجرد التفكير بالمجهول أجهده وراح يرتسمُ له على هيئة مخلوقاتٍ غريبة تبعث في نفسه الذعر . جلس ليستريح , تناول قطعة من الحجر وبدأ يخطُّ بها على الأرض : ( اذا مرَّت أغلبُ الفصول هنا دون أن أحتفي بها فذلك لأنَّ مفكرتي تحمل تواريخ الكواكب البعيدة ) (**)
سامي , ما بك أراك على غير عادتك . ما الذي يدور في خلدك ؟ تجلس بعيداً عنا ؟ هل هناك ما يضايقك منا ؟ نحن نحبك كثيراً ويفرحنا وجودك معنا فهو ينسينا بعضاً من تلهفنا وشوقنا الى رؤية أهلنا وجيراننا وأماكننا الجميلة التي هجرناها بعدما اُجبرنا على العيش بهذه الحفر لا تؤانسنا فيها الاّ جماعات الجرذ والفئران حينما تدخل في غفلة منا لتشاركنا أحزاننا وأقواتنا.
نظر اليه سامي نظرة تأمل وارتسمت ابتسامة على شفتيه حتى تبدى كل خاطره وبدى وجههه أكثر طراوة وأكثر أشراقا ....... لقد وجد في أسئلة صاحبه التعليمات التي كان يبحث عنها .
الدروب النيسمية التي يسلكها الرعاةُ ,آثار الضواري التي تنتشر في الليل تسابق ساعته بحثاً عما تملأُ به أجوافها الغرثى . الأودية السحيقة التي سيعبرها , أشجار البلوط التي سيأوي اليها حينما يشم رائحة خوف , الهمة التي يجب أن تساعده على اتخاذ القرار , ساعة الصفر وكيف يحددها , السلاح الذي سيحمي نفسه به عندما يستشعر الخطر . رفاقه الذي تآلف معهم , شواطيه التي كثيراً ما منحته الإطمئنان والثقة , أسراب الحمام حينما تطير في سماء بغداد وقت الضحى... سورات الماء حينما يراطن دجلة ضفتيه . كل هذه كانت تحفزه على المضي في القرار .
ولما وجد أن صاحبه ما زال بانتظار الجواب رد عليه :
اسمع يا هذا , هل نظرت الى السماء في منتصف الليل حينما يكون الجو صحواً ؟
كيف رأيت النجوم والكواكب الأخرى ؟ هل حدث وتكوكبتْ روحُك مع ما ترى , هل راقَ لك المشهد ؟ ماذا استبطنتْ روحك وهي تتواثب من سديم الى سديم ؟
ولما كان صاحبه لا يفهم ما قاله سامي أجاب على بساطته :
ولكني ارى النجوم تتلألأ كلما نظرتُ اليها في الليل كما لو أنها تغمز لي كلها وعندها أتخيل أني أسير مثلها في الفضاء لكنني حينها أشعر كم انا ضئيل أمام جبروت ما أرى.
إبتسمَ سامي بودٍّ مِن وصف صاحبه لأنه وجد فيه نوعاً ما من الشاعرية رغم العفوية التي تكلم بها فقال لرفيقه:
إعلم اخي العزيز أني حينما أنظر الى ما حولي من الأشياء أشعر بأني أحتويها كلها لذا فانا افترض أنها تمكنني من حفظ خواصها ومعالمها ولكنني حينما أنظر الى الحالة التي نحن فيها الآن لا أستطيع حتى تصورها فكيف لي باحتوائها !؟ لذلك تراني أتلفتُ يميناً وشمالاً علَّني أعثرُ ولو على بصيص يوضح لي سر وجودنا هنا !
ولما سكت تناول كسرةً من الحجر وراح يرسم بها دوائرَ , الواحدة داخل الأخرى بدون أن يتوقف حتى اكتمل الرسم عن متاهة تكاد لا تعرف لها بداية ولا نهاية . وبعفويته رمى الحجر من يده وهمس بأذن صاحبه :
قل لي إلى أين يفضي ذلك الطريق ؟ وأشار الى الطريق الممتد بين حقول الألغامِ ومشاعلِ العثرة والسواتر الحجرية المتعاقبة . فردَّ صاحبه :
إن سلكته بدون أن يحصل لك مكروهٌ فسيقودُك إلى الحدودِ ولكنك ستواجه خطوطَ العدو ومتاريسه ولربما تقع في قبضة دورياتِه التي تجوب المنطقة في الليل. لكن قل لي بالله عليك بماذا تفكر ؟
تجاهل سامي الرد عليه وظل ينظر الى الطريق بدقة مستحضراً كل قواه و سأمه من أجل فعل خلاصٍ ولو بالموت لكن يا ترى هل كانت تحضره وتعينه على الشروع بقرار تملَّكهُ كالمسَِّ الضروري ؟ هذا ما أرجأه إلى الليل.
كان ذلك اليوم ثقيلاً جداً على الشمس حيثُ أنهكها السير وبدت علامات الإنهاك عليها مما أفرح سامي وراح يعد الثواني بشوق للحظة التي تأفل فيها وتخلد الى نومها , الى ناموسيتها ! وسرعان ما تلاشت عن الأنظار وبدأ الليل ينشر ظلمته الأثيرة على المكان ,
دخل سامي الى الموضع حيث يستريح هو وأصحابه بعد روتين الواجب . جلس على فراشه . نظر الى رفيقة سفره التي كانت مستودع أسراره وخزنة أمواله وهداياه . تناولها برفق وفتحها.... فتح جيباً صغيراً في داخلها وأخرج منه صرة كانت والدته قد تركتها في هذا المكان وطلبت منه ألاّ يفتحها إلاّ عندما يعزم على أمر عظيم . حينما فلها ملأت أنفه راحة أدنى الى المسك , رائحة أمه التي كانت تشيعه بنظراتها المشوقة الى ارتشافه بزلال حنينها وحنوها , دبَّ فيه توترٌ غريب , مسح بالصرة على وجهه حتى هدأت أساريره . نظر الى المحتويات في داخلها فكانت هناك صورة اُمهِ وآية الكرسي قد ربطتا بخيط دقيق , مررهما على قلبه فسكن وأنبسط .
تمدد على فراشه وظل مشغولاً بالثواني ومعنى الزمن وكيف يسير ولا يسير حتى راح الليلُ يجترُّ أشلاءَ كلِّ شيء . الكلُّ قد أخلد الى النوم ... حمل رفيقة سفره , خرج من الموضع وانسل في جوف الليل متخذاً منه ستاراً وانيساً. لم ترعد فرائصه ولم يتخاذل بل دفعه قرفه غير المصدَّق من حقارات وتفاصيل عابثة , دفعهُ إصراهُ على ركوب المجهول الذي تلمس خطواته بثبات على ذلك الطريق النسيمي وكأن هناك ألفة بين أقدامه وبين الأرض التي يمشي عليها .
كلما قطع مسافة نظر الى السماء التي كانت ترقبه عن كثب , ترشده كيف يدقق في سيره حتى لا تصطدم أقدامُه بلغمٍ او بمشعل عثرة . حينما يشكُّ بشيء ما في الطريق يحيد جانباً ويختبيءُ وراء صخرة كبيرة او صغيرةٍٍٍ ! الى أن يتيقنَ أن لا شيء هناك..
أمضى تلك الليلة ساعةً بمواصلة السير وساعةً بالإختباء ولما طلعت عليه الشمس كان على مقربة من مواضع العدو وبدأ يرى الجنود يتوزعون على الربايا ونقاط الحراسة ومرابض الأسلحة الرشاشة . كان يتوجس من أنْ يصوب عليه أحدهم بندقيته ويصرعه وينتهي صراعه مع الوجع او مع واقع لا مبرر لعيشه بهذا الحرص رغم كل شيء ... وتخمد جذوة روحه المنتفضة الى الأبد ولما أصبح على بعد أمتارٍ من الساتر الذي يتمترس خلفه جنود , مشى بكل هدوء حتى عبره وكم كانت دهشته كبيرة عندما لاحظ أن الجنود غير منتبهين له تماماً ولربما حسبوه أحدهم !
فتقدم نحوهم وسلم عليهم بلسانٍ عربيٍّ فصيح . فرد عليه الجنود السلام وتمعنوا فيه جيداً فاندهشوا للمباغتة وسالوه بلسان أعجمي لم يفهمه لكنه راطنهم بالإنكليزية وأخبرهم أنه جاء طالباً اللجوء وكان من بينهم مَن يعرف بعضاً من الكلمات , رحب به لكنه أعجب بسترة سامي العسكرية فأصرَّ أن يبتاعها لتفسه فأعطاه إياها دون إبطاء وكان ذلك أول مالٍ بسيط يدخل جيب سامي وبهذه النقوش والكتابات والأختام غير المألوفة . ومن خلال سياق الحديث فهم أن الجنود قرروا أخذه الى الآمر الذي سيبتُّ بالموضوع ... لقد تبدد خوف سامي حينما طلب منه الضابط آمر العسكر بعد الترحيب والإبتسام أن يشاركه طعام الفطور لكنه لم يفكر في تناول أي غذاء كل الذي كان يفكر فيه أن يخلد الى نوم عميق . كان الضابط لطيفاً للغاية وقد مازح سامي كثيراً ولكنه حينما أدرك أنه فعلا بحاجة الى النوم أشار عليه بأنْ يستلقي على سريره . لم يصدق سامي باديء الأمر لكن الضابط الحَّ عليه فألقى بجسمه المتعب هناك وما هي الإ لحظات وراح يغطُّ في نومٍ عميق .
بعد مضي أكثر من أربع عشرة ساعةٍ أستيقظ من نومه ... ضرب على صدره , تلفت حواليه ....... المكان خالٍ . الضابط وجنوده قد أخلوا له المكان تماماً , نهض من الفراش وخرج فرأى الشمس تمشي الهوينا خلف سلاسل الجبال تبشر بولادة صبح جديد وإن كان غامضاً ولكنه صبحٌ على أية حال !
بعد أن فرغ من تلمس حواسه والربت على خاطره استدار الى الخلف فرى الضابط ينتظره على مائدة الإفطار. ألقى عليه السلام بعربية فصحى , أومأ له بالجلوس تنادى له بفطور الصباح . لم تصدق روح سامي أن الذي يجري هو الحقيقةُ بعينها فبدأ يأكل بنهمٍ لم يعده من قبل خاصةً والطعام معمول بعناية ورائحته تغري , كان الضابط يختلسُ النظر اليه فترتسم على وجهه ملامح الطيبة والحنو . لما هرب الجوع من جوفه ودبت في عروقه الحياة انتابته نوبة توتر شديدة . أخرج دفتر مذكراته وبدأ يكتب :
اُمي ... رائحةَ المسك ونبضَ دوّار الشمس , هِبةَ السماء .... مستودع الطيبة والحنان ومصدر النماء لا تيأَسي . هل أقول غداً ستحلقُ أسراب الحمام في الفضاء فتراقص أرواح الخالدين كلما ناغى صباحٌ سمواتِ بلادي ؟ يومها ستصلّين بالجموع صلاة الشكر .
-----------
(*)من روايةٍ قيد التأليف بعنوان : النوم على سرير العدو .
(**) مقطع نثري للشاعر .
----------------------------------------------
كربلاء --- 2008
#حمودي_الكناني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟