قررت ان تكون عطلة عيد الأضحى المبارك اجازة ، بحق وحقيق ، اى بلا متابعة للصحف ونشرات الأخبار الإذاعية والتليفزيونية وكل ما يصيب الإنسان بالنكد وارتفاع ضغط الدم .
والتزمت بهذا القرار بالفعل مستكيناً الى الدعة والاسترخاء والاستماع الى الأغاني والموسيقى ومشاهدة الأفلام القديمة والفرجة على مباريات كرة القدم .
لكن الأخيرة انقلبت من مصدر للمتعة الى سبب إضافي للتوتر والقرف بعد ما فعله بنا الأستاذ محسن صالح وفريقه أمام الجزائر ثم الكاميرون . وللتخلص من هذا النكد الكروى – الذى يعكس مصائب كثيرة اكثر من الهم على القلب داخل الساحة الرياضية وخارجها – امتدت يدى بصورة لا إدارية الى تل الكتب الجديدة التى تنتظر الدور للقراءة .
لكنى كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار ، ذلك ان الكتاب الذى سحبته من فوق الرف على أمل السلوى والمتعة تكفل بإفساد ما تبقى من أيام عطلة العيد . ورغم انه مقسم على خمسة مجلدات فان الغيظ وحرق الدم جعلانى استمر فى قراءته حتى نقطة النهاية .
الكتاب هو " عصور فى فوضى " تأليف ايمانويل فليكوفسكى ، وعكف على ترجمته كل من محمد جلال عباس ، واحمد عمر شاهين ورفعت السيد على ، بالإضافة الى فاروق فريد المترجم الغامض صاحب المصير المجهول !
اما الناشر فهو دار العروبة للدراسات والأبحاث ( تحت التأسيس ) ، والتى تضم رضا الطويل وكمال رمزى ورفعت السيد على ومحمود الطويل وفكرى منير وعلى قلامى وخالد شاكر .
ويقول الناشرون فى مقدمة هذا العمل الكبير ان ترجمة سلسلة "عصور فى فوضى " – بكتبها الستة وإعدادها للنشر – استغرقت ما يتجاوز عشرين عاماً كاملة من العناء ، توفى أثناءها اثنان من المترجمين ، هما احمد عمر شاهين ومحمد جلال عباس ، والتهمت خلالها نيران حرب الخليج مخطوطة ترجمة أحد الكتب الستة والمتن الأصلي للكتاب – مما اضطر الدكتور رفعت السيد لبذل الجهد مرة أخرى لترجمة الكتاب من جديد .
فما هى قصة هذا الكتاب ذو المجلدات الخمسة ، ولماذا الإصرار على ترجمته ونشره رغم ما تسبب فيه ذلك من خراب بيوت الناشرين ووفاة اثنين من المترجمين ؟! .
الكتاب – باختصار شديد – محاولة وقحة لتهويد التاريخ ، عن طريق محاولة ضبط مسلسل أحداث التاريخ المصرى مع إيقاع التاريخ الإسرائيلي الذى يقف بلا شواهد تاريخية تؤكد مصداقيته حتى أواسط القرن التاسع قبل الميلاد ، وهى محاولة ترتد بعلم التاريخ لهيمنة المرويات التوراتية وخطابات العهد القديم ، والتى سبق له التحرر منها بداية من مطلع القرن التاسع عشر الميلادى حين تهيأت الظروف لنشأة علم التاريخ الحديث بعد تطور أساليب التنقيب الأثرى ، والبحث الاركيولوجى ، والتوصل لحل شفرة ورموز كتابات الحضارات الشرقية القديمة : الهيروغليفية والحيثية والسمارية السومرية والاكادية والاشورية، والأبجدية الكنعانية والارامية، وما ترتب على ذلك من الاتصال بالحضارات القديمة اتصالاً مباشراً والتوصل الى حقائق لا يمكن الشك بصحتها تستند على الوثائق التاريخية والنقوش التى دونتها وخلفتها لنا شعوب الشرق عن أحداث أزمنتها ومجريات حياتها ومعالم تاريخها وتاريخ العالم المجاور لها والمؤثر عليها .
صحيح ان محاولة تهويد رموز الحضارة المصرية – كما يقول رضا الطويل محرر هذا العمل الضخم – محاولات عديدة ومستمرة ،ومن أبرزها محاولات تهويد أهرامات الجيزة والزعم بان اليهود هم الذين بنوها .. إلا ان معظم هذه المحاولات كانت مجرد أقوال قد لا تستأهل الاهتمام ويمكن ان تعدها من قبيل الثرثرة التى لم يحاول أصحابها وضعها فى نسق فكرى وفى إطار تنظيري .
بيد ان الأمر مختلف مع ايمانويل فليكوفسكى ، فنحن معه إزاء نظرية متكاملة لتهويد التاريخ المصرى القديم ، ان لم يكن تاريخ الشرق الأدنى القديم .
وفليكوفسكى هذا ولد فى روسيا فى 10 يونية 1895 وتخرج فى كلية الطب جامعة موسكو عام 1921 انتقل ليقيم فى فلسطين من سنة 1924 الى 1939 ليمارس الطب النفسى ونشر بعض كتاباته فى مجلة " اماجو" التى كان يحررها سيجموند فرويد . وأحدثت قراءة فليكوفسكى لدراسة فرويد " موسى والتوحيد " تحولا كاملا فى حياته فتخلى عن الطب النفسى ، وكرس وقته لكتابه " أوديب وإخناتون " محاولاً تشويه عقيدة التوحيد ، بهدم شخصية إخناتون والذراية بها .
والفكرة المحورية " لأوديب وإخناتون " – وفقا للدراسة النقدية الممتازة التى قدم بها رضا الطويل ترجمة هذه المجلدات – هى صدى لكتابات عديدة حاولت النيل من هذا الفرعون النبيل الذى سبق العالم بدعوته الدينية للتوحيد فهى نفس الفكرة التى طرحها من قبل كارل ابراهام ، وهو طبيب نفسى ايضا ، اكتشف فى إخناتون – من وجهة نظره – شعورا عدائيا تجاه أبيه يقابله ارتباط قوى بامه. وبالتالى فان إصلاحه الدينى لم يكن غير ترجمة لشعور مرضى مكبوت . ويزايد فليكوفسكى على كارل ابراهام الذى لم يدرك فقط – حسب زعمه- ان إخناتون لا يعانى من عقدة أوديب فحسب ، بل هو الأصل التاريخى لشخصية اوديب ، فهو لم يشته أمه فحسب كما يحدث لبعض المرضى ، بل زنى بها بالفعل ,. وهكذا حول فليكوفسكى التحليل السيريالى لابراهام إلى " واقع تاريخى " مزعوم ، وحول إخناتون من ثأئر دينى يدعو للتوحيد الى مجرم خسيس قتل أباه ليزنى بأمه، وعندما استنكر كهنة آمون سلوكه المشين أعلن الثورة عليهم وعلى ديانة آمون !
وانتهى فليكوفسكى من كتابه " أوديب وإخناتون " أوائل عام 1940 ، وهو بالولايات المتحدة ، حيث قرر الاقامة بها ،وعلى غير المتوقع اجل نشره عشرين عاما كاملة ليصدره عام 1960 ، بعد نشر ثلاثة من كتبه تمثل بداية مشروعه "عصور فى فوضى" هى :"من الخروج الى الملك إخناتون" و "عوالم فى تصادم" و " الأرض فى اضطراب" ، ثم ياتى من بعدها " شعوب البحر " و " رمسيس الثانى وعصره " . وتسجل هذه السلسلة نظريته فى إعادة ترتيب القوائم الزمنية لتاريخ مصر وتاريخ الشرق القديم .
وحتى نستطيع تفهم نظرية فليكوفسكى الخبيثة علينا أولا ان نتفهم النتائج التى يريد ان يتوصل إليها من خلال فكرته عن إعادة ترتيب القوائم الزمنية للتاريخ القديم .
بهذا الصدد نجد ان فليكوفسكى يزعم ان هناك دينا وتاريخياً يدين به الشرق القديم فى نيل حريته والتخلص من العبودية لبنى إسرائيل ، وتدين به مصر اكثر من غيرها للملك شاؤول أول ملوكهم . حيث كان محررها – حسب هذا الزعم الرخيص – هو احد أحفاد اليهود ، الذين كانوا عبيداً فى مصر ، ولكن أعمال هذا الملك " العظيمة " لم تقدر ، ولم يعترف بها المصريون . ويمضى فليكوفسكى فى أكاذيبه ليدعى ان الإسرائيليين لم يعتبروا أنفسهم شعباً حرا الا بعد ان وضعوا مهمة استكمال تحرير الشرق على عاتق داود ثانى ملوكهم الذين حكموا إمبراطوريتهم . وآل داود على نفسه ان يدمر الهكسوس فى أخر معاقلهم فحاصرت جيوشه مدينة شاروهين جنوب فلسطين ودام الحصار ثلاثة أعوام حتى استطاع يوآب قائد جيش داود ان يخترق الأسوار بمفرده ويمكن الإسرائيليين من اختراق المدينة وسحق الهكسوس وإبادتهم وتخليص الشرق من طغيانهم .
ولان فليكوفسكى لم يكن يستطيع إنكار حقيقة وجود الملك المصرى احمس فى هذه الفترة، وهى حقيقة تكفى لنسف المزاعم السابقة من أساسها ، فانه لجأ الى التدليس حيث قال ان احمس " ربما " كان موجوداً مع جيش يوآب كحليف ، وحصل على نصيبه من الغنائم " تكرماً" من الإسرائيليين على حليفهم الصغير !!
ويستمر فليكوفسكى فى بناء تاريخه الوهمى، فالتزامن الذى يدعمه للتاريخ المصرى والتاريخ العبرى الذى يقول به يؤدى الى زعم أخر بان الملكة حتشبسوت كانت معاصرة للملك سليمان ، وانها هى نفسها ملكة سبأ التوراتية التى أتت من أورشليم بعد ان بهرها الصيت الذائع لامجاد سليمان وعظمة أورشليم فترأست بعثتها الى بلاد " بونت " التى هى فى رأى فليكوفسكى أورشليم وليس جنوب شبه الجزيرة العربية ولا السواحل الصومالية كما هو ثابت عند المؤرخين . وفى أورشليم استرعى نظرها الفن المعمارى لليهود وبهرتها الروعة الهندسية لهيكل سليمان وبعد عودتها أقامت على غراره الدير البحرى أروع واجمل المعابد المصرية .
اى ان هذا المعبد المصرى الرائع طبقا لنظرية فليكوفسكى ليس سوى تقليد لهيكل سليمان!!
وأذن .. فان الفكرة الأساسية لهذا الكتاب الملغوم تؤكد على تزامن ملوك الأسرة الثامنة عشرة المصرية مع ملوك المملكة الإسرائيلية المتحدة فعصر احمس الأول يتزامن مع عصر شاؤول وداود ، وعصر حتشبسوت هو عصر سليمان ، وعصر تحتمس الثالث يتزامن مع عصر رحبعام بن سليمان . وكان لابد من ان يؤجل فليكوفسكى دخول الهكسوس لمصر قرنين من الزمان حتى يمكن الادعاء بان شاؤول هزمهم وحرر مصر منهم وحتى يتمكن يوآب بالتالى من القضاء عليهم القضاء النهائى .
والتدليس فى هذا التزامن الوهمى واضح لان ملوك بنى إسرائيل عاشوا فى القرن العاشر قبل الميلاد كما هو ثابت فى التاريخ الإسرائيلي . أما طرد الهكسوس على أيدي احمس الأول وبداية الدولة الحديثة فقد وضعه التاريخ الحديث عام 1580
قبل الميلاد اى فى القرن السادس عشر قبل الميلاد مما يترك فجوة مقدارها ستة قرون غير مفسرة بحسابات فليكوفسكى المتهافتة . فاما ان ستمائة عام قد اختفت من تاريخ الشعب اليهودي وأما ان الستمائة عام قد أضيفت الى تاريخ مصر . فمن المستحيل ان يكون التاريخ فى أورشليم هو القرن العاشر قبل الميلاد ويكون فى الوقت نفسه هو القرن السادس عشر قبل الميلاد فى مصر .
وللخروج من هذا المأزق القاتل لجأ فليكوفسكى الى كذبة أخرى هى ان بعض حلقات التاريخ المصرى قد وصفت مرتين ، وان الستمائة عام "الزائدة" قد نتجت عن هذا التكرار، وان الخطأ غير موجود فى "التاريخ" ذاته بل فى "التأريخ" . ويخلص من ذلك إلى ضرورة اختصار ستمائة عام من زمن المملكة الحديثة ، وأخذ على عاتقه إعادة ترتيب أحداث التاريخ القديم ولى عنق الحقيقة حتى تنسجم الوقائع مع ادعاءاته .
نحن أذن أمام عملية تزييف بالغة الوقاحة للتاريخ ، وعملية التزييف هذه لا تتعلق بتاريخنا القديم فقط ، بل هى تريد العبث بماضينا العريق من أجل زعزعة الأرض من تحت أقدامنا فى الحاضر ، والمصادرة على أى بصيص من الأمل لنا فى المستقبل.
وحسناً فعل هؤلاء الناشرون الشجعان الذين قدموا لقراء العربية هذه الترجمة الجيدة مشفوعة بالمقدمة النقدية الضافية للمحرر الأستاذ رضا الطويل . فالترجمة والمقدمة النقدية تدقان أجراس الإنذار للمحاولات المستميتة التى يبذلها أعداؤنا ليس فقط لزحزحتنا من الجغرافيا بالاستيطان وتهويد الأرض والاحتلال وإنما أيضاً من التاريخ بالتزييف وتهويد الماضى والاحتيال.
صحيح ام فليكوفسكى قد مات ، لكن التيار الذى يمثله – والذى يحاول باستماتة توظيف التاريخ المصرى لاختلاق تاريخ موثق موغل فى القدم لإسرائيل – لم يتوقف بعد وفاته ، بل استمر على أيدي تلامذته ومعاونيه وأتباعه . وأصبح لهذا التيار مجلته التى تحمل اسمه (الفليكوفسكية) والتى تصدر بصفة منتظمة ، ربع سنوية ، اعتباراً من عام 1993.
ألا يجعلنا هذا نشاطر الناشرين – الذين قدموا هذا الجهد – فى دعوتهم إلى أن نهتم وننتبه .. متابعة وتحقيقاً ونقداً ؟!
كل عام وأنتم بخير