أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر بدر حلوم - ولادة الصهيونية- الفصل السابع من كتاب الكسندر سولجينيتسن - مائتا عام معا















المزيد.....



ولادة الصهيونية- الفصل السابع من كتاب الكسندر سولجينيتسن - مائتا عام معا


منذر بدر حلوم

الحوار المتمدن-العدد: 735 - 2004 / 2 / 5 - 04:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(ولادة الصهيونية) الفصل السابع من كتاب الكسندر سولجينيتسن (مائتا عام معا)
ترجمة: منذر بدر حلوم
    في العقد الأول من القرن العشرين قام جابوتينسكي , على طريقته الانفعالية المعروفة , بوصف مسيرة إدراك اليهودية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ,  قائلا بأن الجمهور اليهودي وَضع للمرّة الأولى أمام التنوير " خرافة عن كينونته الخاصة " , بيد أن سيرورة الزمن استمرت , - " وبالقدر الذي كان فيه اليهود يخشون التنوير الإنساني , سابقا , صاروا اليوم يتعطشون إليه... وربما نكون نحن يهود روسيا أول شعب في العالم يبلغ هذه الدرجة من انتشار التوق إلى المعرفة ". ولكننا ما أن بلغنا هدفنا حتى تابعنا العدو أبعد من ذلك. فقد كان الهدف خلق يهودي يمكنه , مع بقائه يهوديا , أن يعيش حياة إنسانية عامة " , ولكن " ها نحن اليوم .. قد نسينا تماما أن علينا أن نبقى يهودا " , " فلم نعد نعتزّ بجوهرنا اليهودي , بل بدأنا نضيق ذرعا به "... ثم راح يدعو إلى " التخلص من روح احتقار الذات والعمل على بعث روح الوعي بالذات... نحن نشكو من أنهم يحتقروننا , بينما نكاد نحتقر أنفسنا بأنفسنا ".
    يشمل هذا الوصف المجرى الرئيس في حركة الاندماج , ولكن ليس جوانب لوحة الأحداث كلها. فكما سبق أن رأينا (في الفصل الرابع) فإن الكاتب بيريتس سمولينسكي عبّر من نهاية ستينيات القرن التاسع عشر عن موقف سلبي حاد حيال حركة اندماج الانتلجينسيا اليهودية التي لاحظها بداية في أوديسا ثم تبدّت له واضحة في ألمانيا. وسرعان ما أعلن آنذاك الحرب ليس فقط ضد " مدعي التقوى والمنافقين الذين قطعوا أية معرفة عن بيت يعقوب " , بل وضد " المنافقين المتنورين الذين حاولوا بخطبهم المعسولة فصل أبناء إسرائيل عن موروث آبائهم ". لا , إنما علينا ألا نخجل من أصلنا , علينا أن نعتزّ بلغتنا وبكرامتنا القومية. أما ثقافتنا القومية فمن شأن اللغة العبرية القومية وحدها أن تعيننا في الحفاظ عليها , وهذا الأمر يكتسب أهمية خاصة لأن " اليهودية الفاقدة لأرضها " تعد نوعا خاصّا من " أمّة روحية ". " إنّما اليهود أمّة , بالضبط , وليسوا مجرّد ملّة دينية. وقد طرح سمولينسكي مذهب " القومية اليهودية التقدمية ".
    بيد أن صوت سمولينسكي ظلّ طوال أعوام السبعينيات وحيدا إلى درجة بعيدة. وعلى الرغم من الأثر الذي تركه تحرر سلافيي البلقان , في نهاية السبعينيات , في يقظة اليهود الروس , إلا أن اعتداءات 1891-1892 أدت إلى انهيار مُثل التنوير اليهودي (الهسكالا) , و انهيار " الإيمان بأن الحضارة كفيلة بالقضاء على ملاحقة اليهود القروسطية , وإلى تزعزع فكرة أن يتمكن اليهود عبر طريق التنوير من التقرّب من شعوب أوروبا ". ( فقد تم تعميم تجربة اعتداءات غرب أوكرانيا بصورة واسعة على تجربة اليهود الأوروبيين كلها ؟) , وهكذا , كان أن " ولد بين اليهود الروس نمط من المثقفين (النادمين) الذين ينزعون إلى العودة إلى اليهودية التقليدية ".
    وهنا بالذات تجلى دور الطبيب والكاتب الستيني صاحب الحضور المؤثر ليف بينسكير. توجّه بينسكير بحماس إلى اليهود الروس والألمان داعيا إلى " التحرر الذاتي ". كتب بينسكير ما مفاده أن الإيمان بالتحرير انهار , ولم يعد هناك بد من أن نخمد في دواخلنا ومضات الإيمان الأخيرة بأخوّة الشعوب. فاليوم " لا يشكّل اليهود أمّة حية ؛ إنهم غرباء في كل مكان , وهذا ما يفسّر الاضطهاد والاحتقار الذي يلقاه اليهود من جهة الشعوب المحيطة بهم ". الشعب اليهودي مثله كمثل " شبح ميتٍ يتنقّل بين الأحياء ". " وعلى المرء أن يكون أعمى حتى لا يرى أن اليهود (شعب مختار) لكراهية الجميع .. لا يمكن لليهود أن يندمجوا في أية قومية , وبالنتيجة , لا يمكن لأية قومية أن تتحملهم ". " ففي محاولتهم الذوبان في الشعوب الأخرى ضحوا , بسهولة ملفتة للنظر , بانتمائهم القومي " , " غير أنهم لم ينالوا في أي مكان الاعتراف بمساواتهم مع مواطني البلد الأصليين ". وهكذا , فلا يجوز أن تتعلق أقدار اليهودية بلطف الشعوب الأخرى. ومن هنا يأتي استنتاج عملي : " خلق شعب على أرضه ". ومنه , فيجب إذن : امتلاك مساحة ما مناسبة واستيطانها من قبل اليهود , " ومن غير المهم أن تكون هذه البقعة في أي مكان من العالم ". وبالفعل شكّل إنشاء التحالف المسمى بـ ( الاتحاد اليهودي العالمي ) عام 1860 أوّل علامة على تحوّل اليهود عن رهانهم الوحيد – الاندماج.
    أمّا بين اليهود الروس فقد كان ثمة وجود قبل ذلك , وإن يكن بدرجة غير كبيرة , لحركة (محبي فلسطين) التي ينشد أعضاؤها العودة إلى فلسطين. ( ومن شأن ذلك أن يكون تجسيدا لابتهال: " في السنة القادمة في فلسطين "). وكان قد اشتد عود هذه الحركة بدرجة ملحوظة بعد أحداث 1891-1892. " النزوع إلى استيطان فلسطين ... من أجل أن يتمكن اليهود في غضون قرن واحد من مغادرة أوروبا غير المضيافة بصورة نهائية ". وأمّا شعارات التنويريين السابقة عن مقاومة " الأرثوذكسية اليهودية والحسيديين والخرافات الدينية , فاستبدلت بها الدعوة إلى تحقيق المثل المنشود فلسطين , (والعودة إلى اليهودية القديمة) . وظهر في الكثير من مدن روسيا حلقات (أصدقاء صهيون)".
    وهكذا توضعت فكرة فوق أخرى وراحت تديرها. الانتقال , أجل , ولكن ليس إلى أي مكان , إنما إلى فلسطين بالذات.
    إنما , ما الذي جرى في فلسطين ذاتها ؟ " كان الغزو الصليبي الأول قد أدى إلى ما يشبه القضاء التام على سكان فلسطين من اليهود " , ومع ذلك فقد " تمكنت الجماعة اليهودية الصغيرة من الحفاظ على نفسها خلال انهيار دولة الصليبيين , ودخول المماليك إلى فلسطين , ثم اجتياح البلاد من قبل جحافل المغول " . " أمّا في المائة عام التالية فقد رُفد سكان فلسطين اليهود بعدد غير كبير من (المؤمنين القادمين من بلدان مختلفة) ". وفي نهاية القرن السابع عشر هاجر عدد من الحسيديين من روسيا إلى هناك " وقد كان عدد اليهود في فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر إثنا عشر ألف شخص " , بينما وصل عددهم مع نهاية القرن نفسه إلى خمسة وعشرين ألفا " , وقد سمّيت هذه التجمعات اليهودية مأخوذة معا " إيشوف ". ولم يكن يمارس هؤلاء الناس (الرجال) عملا خلا تعلُّم اليهودية , أمّا عيشهم فكان بفضل ما كانت الجماعات الأوروبية تقدّمه من تبرعات. وكان الحاخاميون يتحكمون بتوزيع هذه التبرعات , ومن هنا جاءت سلطتهم المطلقة. وأما زعماء الـ (إيشوف ) " فرفضوا أية محاولة من شأنها إنشاء حتى جنين عمل يهودي منتج " . وكانوا إلى جانب ذلك يقرؤون التلمود دون جميع الكتب , وكانوا يقومون بذلك بمستوى رديء. وقد " رأى المؤرخ اليهودي غ. غريتس الذي زار فلسطين عام 1872 أن " عدد الذين يتعلمون في الواقع قليل , وأن الأغلبية تفضّل التسكع في الشوارع والعطالة وممارسة النميمة وبث السموم " , ورأى أن " هذه المنظومة تهيئ لرجعية متطرفة , وعوز , وتحلل اليهودية الفلسطينية " , وكان أن " فرضت عليه عقوبة الحرمان حالا "جرّاء ما قال.
    في عام 1882 ظهرت في مدينة خاركوف حلقة طلابية من  " محبي فلسطين " اسمها (بيلويتسي ) , وضعت نصب أعينها هدف إنشاء " مستعمرة زراعية نموذجية " في فلسطين , وإرساء " النبض العام للاستيطان اليهودي في فلسطين " , وراح أعضاء هذه الحلقة يؤسسون حلقات أخرى مثيلة في مختلف مدن روسيا. " وقام هؤلاء , لاحقا , بطريقة ما , بإنشاء أوّل مستعمرة في فلسطين , لكنّهم جوبهوا بلعنة الإيشوف القديم ومقاومته: طالبهم الحاخامات بالالتزام بالطقس القديم والتوقف عن زراعة الأرض كل سابع سنة ".
    ساند بينسكر (محبي فلسطين) , وأقام عام 1884 أوّل مؤتمر لهم في كاتوفيتسي , ثم مؤتمرا ثانيا عام 1887 في دروسكينيكي . وهكذا , بما يتفق وخاصية اليهود الحضرية , صار الدعاة يأتون إلى الكنس والتجمعات العامة حاملين خطبهم. (يشهد دييتش أن أسكيلرود نفسه انشغل فيما تلا عام 1881 بحركة (حب فلسطين) ...! ). وبالطبع , صار سمولينسكي داعية متحمّسا للحركة. وراح , بما ألمّ به من حماس , يتصل بأعضاء إنكليز بارزين , حتى إذا جوبه بمقاومة الاتحاد (اليهودي العالمي- م) , الذي لم يرغب باستيطان فلسطين وعمل على توجيه الهجرة اليهودية إلى أمريكا , راح يعلن بأن في تكتيك الاتحاد (خيانة لقضية الشعب) . وقد حال موت سمولينسكي المبكر دون متابعة ما بدأه.  وعلى الرغم من هذه الجهود كان صدى حركة محبي فلسطين في أوساط اليهودية الروسية ضعيفا , بل كانت هناك ردود فعل مضادة. فالفكرة عن " البعث السياسي للشعب اليهودي لم تجذب في ذلك الحين سوى مجموعة قليلة العدد من الانتلجينسيا , بل , سرعان ما لاقت خصوما راسخي القناعة ". فرجال الدين المحافظين – الحاخاميون والصدوقيون رأوا في حركة محبي فلسطين جريمة ضد الإرادة الإلهية و " تطاولا على الإيمان بالمخلّص الذي عليه أن يعيد اليهود إلى فلسطين. أمّا التقدميون ذوو التوجه الاندماجي فرأوا في الحركة نفسها نزوعا رجعيا إلى عزل اليهود عن البشرية المتحضرة كلّها ".
    بدورهم اليهود الأوروبيون لم يساندوا الحركة. بدت نجاحات حركة (محبي فلسطين) على الأرض , في تلك الأثناء , "هزيلة للغاية ". فقد " اكتشف الكثير من المستوطنين عدم صلاحيتهم للعمل الزراعي " , " وتضاءلت فكرة بعث الوطن القديم إلى مجرد عمل خيري صغير " " ولم تُنقذ المستعمرات إلا بفضل من المعونات السخية التي كان يقدمها البارون إدمون روتشيلد (الباريسي) . وكان ذلك بالذات ما " حوّل المستوطنين إلى أجراء زراعيين مطيعين خاضعين لقواعد صارمة ". أمّا في بداية التسعينيات " فعاش الاستيطان أزمة ثقيلة نجمت عن شراء الأراضي بفوضوية وعدم انتظام , كما نجمت  " عن أوامر تركيا , التي كانت فلسطين تخضع لها في تلك الفترة , بعدم السماح لليهود الروس بالنزول في موانئ فلسطين ". وفي تلك الأثناء بالذات برز بين (محبي فلسطين) كاتب ومفكّر ومنظِّم هو أوشير هينزبرغ . وقد عُرف باسم أحد كعام (أحد العوام , أو واحد من الشعب), بدءا من عام 1889 , مذ راح يخطب بالعبرية ملقبا نفسه بهذا اللقب الرنّان. نقد هينزبرغ بشدة الجوانب التطبيقية في (حب فلسطين) , طارحا الصيغة التالية : " لا بد قبل توجيه جهودنا إلى (بعث الأرض) من إرساء توق روحي حي إلى وحدة الأمة في قلب اليهودية , ونزوع إلى يقظتها وتطورها الحر , بروح قومية ولكن على أسس إنسانية عامة ". صارت هذه النظرة تدعى لاحقا بـ " الصهيونية الروحية " [ إنما ليس " دينية " وهذا مهم ].
    وفي عام 1889 أنشأ أحد كعام , بغية توحيد أولئك المخلصين لفكرة بعث المشاعر القومية اليهودية , رابطة سميّت بـ " بْنِي موشي " (أبناء موسى) , ووضع دستورا " توافق في الكثير من نقاطه مع نظام الخلوات الماسونية: كان على الشخص عند الدخول أن يؤدي قسما يلتزم فيه بتنفيذ دقيق لكل ما يتطلبه الدستور , وكان (الأخُ الأكبر) يزور الأخَ الجديد .. فيتحدث (الأخ) مبديا التزامه بعهد الخدمة المتفانية لفكرة الانبعاث القومي , على الرغم من ثقته بغياب أي أمل بتحقيق هذه الفكرة في الأفق المنظور ". وقد جاء في بيان هذه الرابطة أن " الوعي القومي له الأفضلية على الوعي الديني , كما أن المصالح الشخصية تخضع للمصالح القومية " , واقتضى أن يكون تعميق الإحساس بالحب المتفاني لليهودية هدفا يعلو جميع أهداف الحركة. وكان أن أعدّت هذه الرابطة الأرضيةَ لفهم الصهيونية السياسية " عند هرتزل , تلك التي لم يسع إليها أحد كعام على الإطلاق.
    في أعوام 1891 و1893 و 1900 قام أحد كعام برحلات إلى فلسطين كاشفا النقاب عن فوضى استعمار فلسطين آنذاك وبطلانه " , " وتعرّض بالنقد الشديد للسلوك الدكتاتوري لخدم البارون " روتشيلد.
    وهكذا , تكون الصهيونية قد ولدت في أوروبا متأخرة عشر سنوات عمّا هي في روسيا.
    كان زعيم الصهيونية الأول تيودور هرتزل , قبل أن يدرك السادسة والثلاثين (من عمر إجمالي بلغ أربعة وأربعين) , كاتبا هجّاء ومؤلفا مسرحيا , ولم يكن يهتم بالتاريخ اليهودي أو يعرف عنه أو عن اللغة العبرية شيئا , وكان , كليبرالي نمساوي محترم , يعدّ نزوع "الشعوب من الدرجة الثانية " النمساوية المجرية إلى الاستقلال القومي رجعيا , ويرى أن من الحق سحقها ". و , كما يكتب ستيفان سفيغ , وصل الأمر إلى أن هرتزل تبنى خطة للمجىء باليهود النمساويين إلى الكنيسة وإخضاعهم لتعميد جماعي , وبالتالي " حل المسألة اليهودية دفعة واحدة وإلى الأبد عن طريق دمج اليهودية بالمسيحية ". ولكن , ها هي الأمزجة المتعصّبة لألمانيا والمعادية لليهود في النمسا , هنغاريا وكذلك في باريس , حيث كان هرتزل يعيش في هذه الأثناء , تزداد. واندلعت مشكلة الفرِد دريفوس وكان على هرتزل أن يشهد " الإدانة العلنية لدريفوس " , علما بأن هرتزل آمن ببراءة الأخير , الأمر الذي أغضبه فقال في نفسه :" إذا كان لا بد من الانفصال , فليكن ذلك بصورة تامّة , وإذا كنا نعاني من التشرّد فلا بد من تأسيس وطن خاص بنا ". وهكذا , انبثقت كالبرق الخاطف لدى هرتزل فكرة خلق دولة يهودية. " " التمعت الفكرة الجديدة في ذهن هرتزل تماما كالومض : معاداة السامية ليست ظاهرة عرضية تصادف فقط في حالة محددة وظروف معينة , لا , إنما هي شر دائم , إنها رفيق أبدي لليهودي الأبدي , والحل الوحيد الممكن للمسألة اليهودية " – دولة يهودية مستقلة. ( كان عليه من أجل الانتقال إلى خطة كهذه , بعد آلاف السنين من تفرّق اليهود , أن يرخي لخياله العنان وأن يتمتع بإرادة استثنائية !). ولكن , وفقا لسفيغ , فإن كتيّب هرتزل (الدولة اليهودية) لاقى قلقا وانزعاجا في أوساط البرجوازية اليهودية النمساوية ... أي شيطان حل في رأس هذا الصحفي الحاد الذكاء , الموهوب , المثقّف ؟ ما هذه الحماقة التي يكتب عنها ؟ ما الذي يجعل من واجبنا التوجه إلى فلسطين ؟ فلغتنا الأم هي الألمانية وليست العبرية , و وطننا هو النمسا الرائعة ". وها هو هرتزل يقدّم " لأعدائنا مسوغات الوقوف ضدنا ويحاول عزلنا " . وهكذا كان أن " خانته فيينا , بل سخرت منه ". ثم ما لبثت أن جاءت الاستجابة الانفعالية الجماعية هادرة كالرعد , إلى درجة كاد معها دفق الحياة المتنامية الهائل الذي بعثه كتيّبه الصغير  يرعبه. والواقع أن هذه الحركة ولدت بين جموع يهود أوروبا الشرقية الضخمة. فلقد أشعل هرتزل بكتيّبه شرارة اليهودية الخامدة تحت رماد الغربة ". وها هو هرتزل ينذر نفسه بالكامل وما تبقى من عمره لفكرته الجديدة فـ " يقطع علاقته بأقرب الناس إليه ويحصر تواصله بالشعب اليهودي دون غيره .. وها هو الشخص نفسه , الذي كان إلى وقت قريب جدا يحتقر السياسة ويهزأ بها , يؤسس حركة سياسية ويزودها بالروح الحزبية والانضباط , ويبني الكوادر لجيش المستقبل الهائل , ويحوّل مؤتمرات الصهاينة إلى برلمان حقيقي للشعب اليهودي". في المؤتمر الأول في بازل في آب /أغسطس 1897 ترك هرتزل  انطباعا عظيما " لدى اليهود الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى في دور برلمانيين " و " ما أن أكمل خطبته الأولى حتى أُعلن بحماس وبصوت واحد عن تنصيبه زعيما للحركة الصهيونية وقائدا لها ".وراح هرتزل يظهر " فنا مذهلا في إيجاد الصيغ التوفيقية " في الوقت الذي يجعل فيه " كل من ينتقد أهدافه أو يشكك ببعض من خطواته عدوا ليس فقط للصهيونية , بل وللشعب اليهودي برمته ".
    وها هو الكاتب ماكس نورداو (زوديلفيلد) يطرح فكرته عن أن التحرر وهم كاذب لم يجلب إلى اليهودية سوى التفرقة , فإذا باليهودي الحر يعتقد بأنه اكتسب وطنا , في الوقت الذي تشكّل فيه " الصهيونية  كل ما هو حي في اليهودية وكل ما من شأنه أن يكون مثالا يهوديا إضافة إلى الرجولة والقدرة على التقدم ".
    في هذا المؤتمر الأول شكّل ممثلو الصهيونية الروسية " ثلث عدد المشاركين الكلي: 66 من أصل 197 مندوبا " ناهيك عن أن مشاركتهم كان يمكن أن تعدّ خطوة باتجاه معارضة الحكومة الروسية. انضم إلى الصهيونية جميع أعضاء (محبي صهيون) الروس " مهيئين بذلك  لقيام الحركة الصهيونية العالمية ". وبهذا الشكل , تكون " الصهيونية قد نهلت قوتها من اليهودية الشرقية المقهورة , في وقت كان فيه دعم يهود أوروبا الغربية محدودا ". ومن هنا , أيضا , كان أن شكّل الصهاينة الروس المعارضة " الأكثر جديّة لهرتزل , فقد قاد أحد كعام نضالا عنيدا ضد صهيونية هرتزل السياسية ( ووقف إلى جانبه في ذلك معظم محبي فلسطين القدماء) , منتقدا بحدة برغماتية هرتزل ونورداو , منتقدا أيضا ما كان يسميه (اغترابهم عن القيم الروحية في الثقافة والتقاليد اليهودية) " . و" رأى (أحد كعام-م) أن أمل الصهيونية السياسية بتأسيس دولة يهودية مستقلة في المستقبل القريب لا يتعدى أن يكون أملا كيميرا , بل إنه أعد هذه الحركة بمجملها فائقة الضرر لقضية نهضة الأمة روحيا , فهي حركة لا تعنى بإنقاذ اليهودية الآيلة إلى الموت , أي لا تهتم بالمكتسبات القومية الروحية والتاريخية الثقافية , وتسعى ليس إلى نهضة الشعب القديم إنما إلى خلق شعب جديد من جزيئات المادة القديمة المشتتة ". وها هو يستخدم , بل يفرد بصورة خاصة كلمة يهودية , استخداما يكاد يكون واضحا للعيان أنه يتجاوز الإطار الديني إلى منظومة روحية متوارثة. تخبرنا الموسوعة عن أحد كعام بأنه " منذ أعوام السبعينيات " ابتعد عن الدين وتعمّق أكثر بالعقلانية " . فأهمية فلسطين , وفقا لقناعة أحد كعام , تنحصر بكونها " مركزا روحيا من شأنه أن يوحّد الشعب المشتت بروابط روحية قومية " , ومركزا " من شأنه أن يفيض بنوره على اليهودية العالمية كلّها " , وبالتالي من شأنه خلق " رابطة روحية جديدة بين أجزاء الشعب المبعثرة " , وبالتالي فلن تكون فلسطين (دولة يهودية) بمقدار ما ستكون مجمعا روحيا نخبويا ".
    هزّت الجدالات الصهاينة. فأحد كعام تعرّض لهرتزل بنقد شديد , أمّا نورداو في تأييده لهرتزل فاتهم أحد كعام بـ ( صهيونية سرية). كانت المؤتمرات الصهيونية تعقد سنويا. في عام 1902 عقد في مينسك مؤتمر الصهاينة الروس فانتقل الجدال إلى هنا. وهنا قرأ أحد كعام تقريره عن (النهضة الروحية). وازداد الوضع تعقيدا بالنسبة للصهاينة نتيجة النفور منها خارجيا أيضا. كانت حسابات هرتزل تقول بأنه ما أن تبدأ خطة الصهاينة الواقعية بالتحقق , وتبدأ الهجرة الحقيقية إلى فلسطين حتى تتوقف معاداة السامية في كل مكان. ولكن قبل إدراك هذا النجاح راح " يعلو صاخبا أكثر من أي شيء آخر صوت أولئك الذين خافوا أن يعطي خروج اليهودي المندمج إلى الملأ بصفته القومية اليهودية , أن يعطي أعداء السامية مسوّغا لتأكيد أن يهوديا حقيقيا لم يستطع الاندماج مع السكان الأصليين يعيش متخفيا تحت قناع كل يهودي مندمج ". أي من لحظة تأسيس دولة يهودية مستقلة سيرمى اليهود في كل مكان بشبهة عدم الإخلاص وعدم الموالاة والانعزال المبدئي , أي بتلك الأشياء التي لام بها اليهودَ أعداؤُهم ويلومونهم بها إلى اليوم.
    في رده على المؤتمر الصهيوني الثاني(1898) أعلن نورداو التالي: " نحن نرفض بسخرية وازدراء تسمية حزب , فالصهيونية ليست حزبا , إنما هي اليهودية ذاتها .. وكل أولئك الذين ينعمون بالعبودية والذل .. كلهم إما يقفون على الهامش تماما أو يقاتلون ضدنا بحماس ".وكما يلاحظ المؤرخ الإنكليزي فقد " قدّمت الصهيونية لليهود خدمة حين أعادت إليهم الشعور باحترام الذات " , بيد أنها أبقت علاقتهم " بالبلدان التي يعيشون فيها " " في حالة معلقة ".
    في النمسا تجادل مع هرتزل مواطنه أوتّو فينينغر :" الصهيونية واليهودية لا تلتقيان , ذلك أن الصهيونية تنزع إلى إرغام اليهود على أن يأخذوا على كواهلهم المسؤولية عن دولتهم الخاصة , الأمر الذي يتناقض مع جوهر اليهودي". وأنبأ هرتزل بأن الصهيونية آيلة إلى الانهيار ".  في روسيا عام 1899 أعلن ي.م.بيكرمان بوضوح عن موقف مضاد للصهيونية كفكرة " خيالية وليدة العداء للسامية , فكرة رجعية بروحها وضارة بجوهرها " , ولا بد من " دحض وهم الصهاينة , دون التخلي عن الشخصية الروحية والنضال , يدا بيد مع عناصر روسيا التقدمية والثقافية في سبيل نهضة الوطن المشترك ". وفي بداية القرن (العشرين) عبّر الشاعر مينسكي عن اعتراضه التالي: تمُل الصهيونية فقدان السمات الإنسانية العامة , وتضيّق مجال اليهودية الكوسموبوليتي الإنساني العام إلى مستوى قومي عادي فـ " الصهاينة بتأكيدهم على القومية يديرون , عمليا , ظهورهم عن وجه اليهودية القومي الحقيقي , ويهتمون فقط بأن يصيروا كالجميع , وليس أسوأ من أحد ". ومن المهم مقارنة ذلك مع الملاحظات التي طرحها المفكر السلافي الأرثوذكسي س. بولفاكوف قبل الثورة أيضا: " تتمثل عثرة الصهيونية الأهم اليوم بعجزها عن إعادة إيمان الآباء المفقود , فهي مضطرة إلى التأسيس على مبدأ قومي أو ثقافي إثنوغرافي , مبدأ لا يصلح لأن يؤكد ذاته اعتمادا عليه أي شعب عظيم بالفعل ". ولكن الصهاينة الروس الأوائل – " ومن روسيا بالذات خرج معظم مؤسسي دولة إسرائيل وبانييها الطليعيين " , بل إن " أفضل نماذج النصوص الصهيونية كتبت " باللغة الروسية – إذن الصهاينة الروس الأوائل كانوا ممتلئين بحماس عارم يصعب إيقافه يدفعهم إلى أن: يعيدوا لشعبهم وطنه التاريخي القديم المفقود – وأن يخلقوا من هذا الوطن دولة غير عادية بنوعيتها وتنشئة ناس غير عاديين فيها.
  أمّا الاندفاع إلى توجيه الجميع قاطبة إلى العمل العضلي , العمل في الزراعة فلم يكن بعيدا عن التأثر بدعوة تولستوي إلى توجيه مجرى جميع الجداول إلى هناك. وبعد , فما هو بالفعل موقف الصهيوني من بلد إقامته الحالي ؟
    فيما يخص الصهاينة الروس فإن تكريس جميع الطاقات لخدمة الحلم بفلسطين تطلّب من الصهيوني أن يفصل نفسه عن الغليان الاجتماعي في روسيا نفسها. فقد ورد في نظام الصهيونية الداخلي : " عدم المشاركة بالسياسة العامة الداخلية أو الخارجية". وهكذا , من الآن فصاعدا , لم يعد بإمكان الصهاينة المشاركة في النضال من أجل المساواة في روسيا إلا بصورة ضعيفة يشوبها الارتياب . أما المساهمة بحركة التحرر الروسية فما أشبهها بعتل الكستناء من أجل الآخرين.
    استدعى هذا التكتيك احتجاج جابوتينسكي فقال مستهجنا :" حتى النزلاء العابرين لهم مصلحة في أن يسود نزلهم النظام والنظافة". وبعد: فبأية لغة كان على الصهاينة أن يقوموا بدعايتهم ؟ هم لا يتقنون العبرية , وحتى لو أنهم أتقنوها فأنهم لن يجدوا من يفهمهم. إذن , فبالروسية أو بالإيديش. بيد أن ذلك من شأنه أن يقرّبهم ثانية من الراديكالية السياسية في روسيا , ومن التيارات الثورية اليهودية.
    من الواضح أن الشباب الثوري اليهودي جادل الصهاينة بعناد: لا , حل المسألة اليهودية ليس بالخروج من روسيا والعيش في مكان ما بعيد ما وراء البحار , إنما بالنضال السياسي من أجل المساواة هنا , فثمة إمكانية هنا , في هذا البلد لتأكيد الذات . أمّا حججهم فليس لها إلا أن تزعزع قناعات الكثيرين من حيث هي واضحة للعيان.
    أمّا من وجهة نظر بلشفية فوصمت الصهيونية بأنها " رجعية بعمق " , وتم النظر إلى الصهاينة كـ " حزب سوداوية يائسة فاقدة للأمل ". وبالنتيجة لم يكن هناك بد من ظهور تيارات بينية. فهنا تجد , مثلا , الحزب الصهيوني اليساري (بواليه صهيون ) (شغيلة صهيون). تأسس هذا الحزب في روسيا عام 1899 مزاوجا بين " الصهيونية السياسية و الأيديولوجيا الاشتراكية ". وكان بمثابة محاولة لرسم خط وسط بين أولئك الذين ينحصر اهتمامهم بالمسائل الطبقية والآخرين الذين تشغلهم المسألة القومية دون غيرها. " كان ثمة اختلافات حادة في الرأي بين شغيلة صهيون حول مسألة المشاركة بالنشاط الثوري في روسيا". إضافة إلى الاختلافات بين الثوريين أنفسهم , من منهم أقرب إلى الديمقراطيين الاشتراكيين ومن منهم أقرب إلى الاشتراكيين الثوريين.
    " بدءا من عام 1903 بدأت تظهر في روسيا مجموعات من (زيري صهيون) أقرب إيديولوجيا إلى الصهيونية الاشتراكية اللاماركسية" . أمّا في عام 1904 فانشقّ عن شغيلة صهيون حزب (الصهاينة الاشتراكيين) , الذي قطع الصلة تقريبا بفكرة فلسطين :" يكفينا تطوير الإيديش كلغة تواصل عالمية حيّة بين اليهود " ولتغرب فكرة الحكم الذاتي القومي. رأى الحزب أن الصهيونية راحت تأخذ شكلا برجوازيا رجعيا ولا بد من خلق حركة اشتراكية من الصهيونية , وإيقاظ الغرائز السياسية الثورية عند جموع اليهود . قدّر الحزب عاليا " المضمون الاجتماعي الاقتصادي " للصهيونية , بيد أنه دحض فكرة ضرورة " بعث الأرض اليهودية والثقافة اليهودية والتقاليد اليهودية". أجل , يجب توجيه الهجرة اليهودية العشوائية إلى مكان واحد , ولكن " لا وجود لرابطة عضوية بين الصهيونية وفلسطين ". المهم هو أن قيام الدولة اليهودية يجب أن يكون على أسس اشتراكية وليس رأسمالية. ناهيك عن أن مثل هذه الهجرة عملية تاريخية طويلة الأمد , وبالتالي سيبقى معظم اليهود لفترة مستقبلية طويلة في أماكن عيشهم الحالية. كما أن " الحزب ينظر بعين الرضا إلى مشاركة اليهود بالنضال الثوري في روسيا ", أي النضال من أجل الحقوق هنا. وقد نال هؤلاء احتقار دعاة اليهودية الدينية.
    خلافا لهذه التوجهات لم تلبث أن ظهرت جماعة (البعث) , " الجماعة الاشتراكية اليهودية التي أعدت أن العنصر القومي تقدمي بطبيعته " , وفي عام1906 انشق البعثيون عن الصهيونيين الاشتراكيين وشكّلوا حزب العمّال الاشتراكي اليهودي (سيرب). وجماعة الـ(سيرب) هؤلاء هم أيضا جماعة الـ (سيم) , الداعين إلى انتخاب سيم أو مجلس يهودي يكون بمثابة " قيادة عليا للإدارة الذاتية اليهودية القومية ". وقد وضع هؤلاء  على حد سواء اللغتين العبرية والروسية من حيث إمكانية الاستخدام. ومع التأكيد على إيديولوجيا (الحكم الذاتي) داخل الدولة الروسية فإن الـ (سيرب) الاشتراكي لم يتحد مع حزب الـ (بوند) الاشتراكي.
    وبصرف النظر عن عدم توافق الآراء في أوساط الصهاينة فثمة قفزة إلى الأمام حققتها الصهيونية في روسيا باتجاه الاشتراكية , الأمر الذي لم يبق بعيدا عن عيون الحكومة الروسية. وحتى تاريخه لم تكن الأخيرة قد أعاقت بأية صورة كانت الدعاية الصهيونية , إنما في عام 1903 قام وزير الداخلية بليفي بتوجيه تعليمات إلى المحافظين وحكام المدن مفادها أن الصهاينة وضعوا فكرة الهجرة إلى فلسطين في المرتبة الثانية  وراحوا يركّزون اهتمامهم على تنظيم اليهود في الأماكن التي يعيشون فيها اليوم , ومنه , فلا يمكننا السكوت عن مثل هذه التوجهات , وعليه تمنع الدعاية الصهيونية العلنية , كما تمنع اجتماعات الصهاينة وإقامتهم للمحاضرات..الخ. ". حين علم هرتزل بذلك توجّه حالا , - بصرف النظر عن اعتداءات كيشينيوف التي حدثت في الربيع الفائت و وجهت الاتهامات بالمسؤولية عنها إلى بليفي الذي صبت عليه لعنات الكثيرين من الصهاينة الروس وغضبهم  - , إلى بطرسبورغ وتمكّن هناك من مقابلة بليفي ( وكان قبل ذلك , في عام 1899 قد حصل على استقبال نيقولاي الثاني الرسمي له. أمر ليس قليل الأهمية). وقد أوضح بليفي لهرتزل , وفقا لمذكرات الأخير , أن المسألة اليهودية بالنسبة لروسيا ليست مسألة حياة أو موت إنما هي هامة , و: " نحن نسعى إلى حلّها بأسلوب صحيح .. لا بد أن تتمنى الدولة الروسية أن يكون سكانها متجانسين " , ولذلك فالموقف الوطني مطلوب من الجميع." نحن نتمنى لليهود أن يندمجوا في المجتمع بيد أن الاندماج يتم ببطء شديد... وأنا لست عدوا لليهود. أنا أعرفهم جيدا جدا  , ولقد أمضيت معهم أعوام فتوتي في وارسو , وطالما كنت ألعب مع الأطفال اليهود في طفولتي... ولذلك فلأشد ما أرغب بتقديم خدمة ما لليهود. أنا لا أريد أن أنفي أن وضع اليهود الروس ليس سعيدا , فلو أنني كنت يهوديا لكنت , على الأرجح , عدوا للحكومة "." سيكون تأسيس دولة يهودية [تحتوي] عدة ملايين من اليهود مرغوبا جدا من قبلنا. ولكن هذا لا يعني أننا نريد فقدان جميع يهودنا. فنحن نتمنى لو يبقى لدينا العناصر المثقفة والغنية القادرة على الاندماج , أمّا الفقراء والأقل ثقافة فسيسرنا التخلّي عنهم ". نحن رحّبنا بالصهيونية كحركة انتقال , بيد أننا اليوم " نلاحظ تغيرات كبيرة في أهدافها ". الحكومة الروسية تنظر بعين الرضا إلى هجرة اليهود إلى فلسطين , وإذا ما عادت الصهيونية إلى برنامجها السابق فسنكون على استعداد لمناصرتها أمام الإمبراطورية العثمانية , ولكننا لا نستطيع تحمّل – ما تنحو الصهيونية نحوه اليوم – الدعوة إلى اغتراب اليهود القومي داخل روسيا : فمن شأن ذلك أن يقود إلى ظهور مجموعة مواطنين غرباء عن الوطنية التي تعدّ أساس الدولة. ( وإذا ما وثقنا بـ ن. د. لوبيموف الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس ديوان بليفي , فإن الأخير قال له : إن هرتزل أثناء حديثه معه أخبره بأن المصرفيين الغربيين اليهود يساعدون أحزاب روسيا الثورية. لكن سليوزبيرغ ينفي هذا الاحتمال).
    قدّم بليفي تقريره إلى القيصر , ونال موافقة الأخير على ما جاء به من اقتراحات , ثم بعث إلى هرتزل برسالة تتضمن تأكيد ذلك. وقد أعدّ هرتزل زيارته إلى بليفي ناجحة. بيد أنهما , هو وبليفي , كانا يجهلان أن ما تبقّى من حياة  لكل منهما لا يتجاوز أحد عشر شهرا...
    لم تقدم تركيا أية تسهيلات للصهاينة , أمّا الحكومة البريطانية فعرضت في عام 1903عليهم أوغندا بدلا من فلسطين. وفي آب من العام نفسه عرض هرتزل على المؤتمر الصهيوني السادس في بازل هذا الاقتراح " الذي ليس صهيون طبعا " ولكن يمكن قبوله كمحطة انتقالية لتسريع قيام الدولة اليهودية.
    استدعى هذا المشروع جدالا عنيفا , وهناك دلائل على قبول مشروع أوغندا حتى وسط الإيشوف الفلسطيني نفسه , من قِبَلِ "محبي فلسطين " الجدد الذين عانوا مشقة العمل في فلسطين. ولكن كان موقف الصهاينة الروس - الذين , يخيّل للمرء , أنهم الأكثر حاجة بين يهود العالم إلى ملجأ سريع – كان أكثر حدة من مواقف الجميع ضد مشروع أوغندا. فهم برئاسة م.م.أوسيميشكين (مؤسس مجموعة "البيلويتسي" ومن ثم اليد اليمنى لأحد كعام في رابطة "أبناء موسى") أعلنوا موقفهم المعارض بحزم: الصهيونية مرتبطة بصهيون بالذات وليس لشيء أن يكون بديلا عنه بالنسبة لليهود!.
    وبالنتيجة قام هذا المؤتمر(السادس) بتأليف لجنة مهمتها السفر إلى أوغندا لدراستها. ثم قام المؤتمر السابع عام 1905 بالاستماع إلى تقرير اللجنة , وتخلى بعد ذلك عن أوغندا. أمّا هرتزل الذي تعرّض لعراقيل شتى فلم يعش حتى لحظة اتخاذ هذا القرار: مات هرتزل بنتيجة أزمة قلبية عام 1904.
    بيد أن هذه المشكلة المستعرة تسببت بانشقاق آخر في صفوف الصهيونية: انشق عن الصهيونية هنا جماعة الإقليميين , برئاسة إسرائيل زانغفيل مع مندوبين من إنكلترا انضموا إليه. وقد أسس هؤلاء مجلس عالمي وتلقّوا معونات من يعقوب شيف ومن روتشيلد الباريسي , وقطعوا الصلات مع حتمية فلسطين : أجل , تجميع اليهود في مكان واحد , ولكن , ليكن هذا المكان حيث يكون. وهؤلاء في بحثهم عن مكان مناسب عاما بعد آخر قلّبوا دزينة كاملة من البلدان , من بينها أنغولا , ولكن " البرتغال بلد ضعيف جدا ولن يكون بمقدوره حماية اليهود " , وبالتالي " يمكن لليهود , بسهولة , أن يقعوا ضحية القبائل المجاورة " هناك. على أن هؤلاء كانوا على استعداد للموافقة على إقامة مشروعهم على بقعة أرض حتى داخل روسيا لو أنهم يحصلون فيها على حكم ذاتي.
    بيد أن تلك الحجة , أي حاجة اليهود إلى بلد قوي يحميهم في مكانهم الجديد , واءمت , بصورة خاصة , المؤيدين لتأسيس عاجل لدولة مستقلة , يترافق مع هجرة جماعية , الأمر الذي كان اقترحه قبل ذلك ماكس نورداو , " بصرف النظر عن عدم جاهزية البلد (أي فلسطين) اقتصاديا لاستقبالهم". ولكن لتحقيق ذلك كان لا مناص من التغلب على عقبة تركيا , وكذلك حل المشكلة العربية. فَهِمَ مؤيدوا هذا البرنامج أن الحركة الصهيونية لا تستطيع الدفاع عن نفسها دون مساعدة حلفاء أقوياء. ولم يكن قد عرض عليهم أي من البلدان قوة عسكرية كهذه بعد.
    وقبل قيام دولة إسرائيل كان لا بد من اجتياز حربين عالميتين. 



#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الليلة جرح روح ضعيفة
- أنشوطة اللاسامية و وجع الكتّاب الروس
- من (إيفان دينيسوفيتش) حتى (مائتا عام معا) سولجينيتسن واليهود
- سولجينيتسن في شَرَك المعايير المزدوجة ؟
- أولغا بيرغوليتس - حصار الروح
- أنّا أخماتوفا - نصف قرن في قفص الاتهام
- التكامل والإبداع
- الطفور بين البيولوجيا والثقافة
- البيولوجيا والثقافة دموية القسر و عبثية الفصل
- صناعة الحاضر- أو حاضرنا هو مستقبلنا
- - مشكلة الشخصية -1- بين الحرية البيولوجية و القيد الأيديولوج ...
- البطالة وثقافة اللامبالاة


المزيد.....




- رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق ...
- محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا ...
- ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة، ...
- الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا ...
- قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك ...
- روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
- بيع لحوم الحمير في ليبيا
- توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب ...
- بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
- هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر بدر حلوم - ولادة الصهيونية- الفصل السابع من كتاب الكسندر سولجينيتسن - مائتا عام معا