• الشعر هو وهمي الجميل الذي يمنح حياتي معنىً خاصاً ولذة نادرة.
إن أبرز ما يميز تجربة الشاعر قاسم حداد هو محاولته الجادة لكتابة ( النص المفتوح ) الذي ينطوي شكلاً ومضموناً على كل الفنون القولية وغير القولية. والنص المفتوح، كما هو معروف، يستهدف تقويض الأشكال والقوانين والأطر الجاهزة، بل أن دعاته وأساطينه يرفضون هيمنة النصوص الأولى، وسطوة سدنتها على الكتاب الأحياء، منطلقين من دعوتهم لكتابة نماذج غير مسبوقة تعوّل كثيراً على قوة الحلم، وتجليات المخيلة، وإستشعارات الحدوس، وشطحات الوجد، وإيماضات الإشراق الصوفي من أجل الغوص إلى أعماق الذات البشرية، وإستغوار المجهول، والكشف عن المستور والمخفي والموارب، والوصول إلى القضايا المستعصية، والأسرار المستغلقة التي لا يفك شفرتها إلا المستبطنون وأصحاب المخيلات المجنحة. ولو أعدنا قراءة بيان ( موت الكورس ) الذي أصدره الشاعر قاسم حداد بالاشتراك مع القاص أمين صالح في ديسمبر عام 1984 لاكتشفنا إصرارهما الجامح على تجاوز كل الأشكال الموروثة الثابتة، وتخطي كل الأساليب المكرّسة أو المحنطة التي تدور في فلك السائد والمكرور. فالنص الحداثوي أو التجريبي بوصفه مغامرة جديدة يقتضي عدم المهادنة مع سدنة الماضي، ويستدعي مساءلتهم، والتشكيك في منجزهم، ورفض أبوتهم اللامبررة. فمثلما ساءلَ الآباء واقعهم وفق التصورات التي كانت تمور في أذهانهم، فمن حق الأبناء أن يقترحوا شكل المساءلة لواقعهم الجديد الذي يختلف بالضرورة عن القرون الماضية التي ابتلعتها ذاكرة الزمن النهمة. إن أخطر ما طرحه هذا البيان هو أن : ( الكاتب ليس عبداً للأشكال، بل خالقاً وخائناً لها في آن واحد. ) فليس هناك شكل ثابت أو أسلوب محدد، لأن الثبات هو دليل الجمود والتحجر والموت البطيء، بينما تقتضي الحياة مختلف أشكال الحركة والتغيير والتجدد والتناسل اللامحدود. إن تجربة قاسم حداد الشعرية تؤكد بالدليل القاطع أن كل مجموعة شعرية تختلف عن التي تليها في الشكل والمضمون وطريقة التناول. فديوان ( البشارة ) ،على سبيل المثال لا الحصر، يحفل بالنفس الغنائي، بينما يتميز ديوان ( خروج رأس الحسين من المدن الخائنة ) بمعطيات الخطاب التراثي من جهة، والثوري الدرامي من جهة أخرى. في ( القيامة ) يظل شعر التفعيلة مهيمناً، بينما تبرز قصيدة النثر في ( قلب الحب ) كشكل مغاير تماماً لقصيدة التفعيلة. في ( النهروان ) و ( أخبار مجنون ليلى ) و ( المستحيل الأزرق ) تمتزج القصائد بالتشكيل والكاليغراف والصور الفوتوغرافية، وتتجسد الرؤية الفنية لمبدعين من طراز ضياء العزاوي وجمال هاشم وصالح العزاز، فتصادفنا اللوحة التجريدية تارة، والتشخيصية تارة أخرى، وتفاجئنا عين الطائر وهي تقتنص عزلة الصحراء الشبقة التي تتمطى وتتمعج أمام أشداق البيوت الموحشة وهي تتطلع بشوق شديد إلى ماء السماء. في ( الجواشن ) و ( عزلة الملكات ) لا أدري هل أغوى الشعرُ القصة، أم أن القصة هي التي استدرجت الشعرَ إلى مخدعها الوثير. وبمناسبة صدور مجموعته الشعرية الجديدة ( المستحيل الأزرق ) بالاشتراك مع الفنان الفوتوغرافي صالح العزاز إلتقته الزمان ) في أمستردام وكان لنا معه هذا الحوار:
• هل أن مفهوم الحداثة بالنسبة إليك هي كتابة بلا مرجعية تستند إليها، ولا قوانين تؤطرها؟ وهل أن كتاباتك النقدية اللاحقة هي امتداد لفحوى بيان ( موت الكورس ) وتوسيع لأفكاره، وتعزيز لها؟
- لا أظن أن أي نوع من أنواع التعبير الحديث أو السابق لا يمتلك مرجعية. فمن المؤكد أنه غير مقطوع عن النتاج الذي قبله. هذا الخلل أرده إلى الثقافة العربية، أو إلى النقد الأدبي تحديداً لأنه غالباً ما يتداول مصطلحات مثل القطيعة مع النتاج السابق أو قتل الأب وما شابه ذلك. أنا أعتقد أن هذه مصطلحات غير دقيقة وغير منطقية، لأن التراث الإنساني كله هو عبارة عن حلقات متصلة، وثمار ممتزجة يجب أن نقدّر أهميتها في خلق الجديد. هذه هي قناعتي في هذا المجال. أما فيما يتعلق بموت الكورس فهو لم يكتب في البداية كبيان، وإنما كان محاولة لصياغة أفكار معينة تصلح أن تكون مقدمة لنص ( الجواشن ) ولكننا تعجلنا في نشره، بينما هو في حقيقته حوار عميق، مثلما أسميناه في النص، مع تجربتنا الذاتية أنا والقاص أمين صالح لكي نراجع أنفسنا بشك مشروع فيما أُنجز سابقاً لاكتشاف الخلل، وكسر قداسته من أجل اقتناص فرص جديدة لتبني الآفاق التي يذهب إليها النص.
• أنت سعيت منذ الديوانين الأولين ( البشارة ) و ( خروج رأس الحسين من المدن الثائرة ) لكتابة النص المفتوح، وتأكد هذا السعي في البيان الذي أصدرته عام 1984 مع القاص أمين صالح، بل أنك مازلت تردد حتى هذه اللحظة بأنك لست عبداً للأشكال الفنية، تخلق شكلاً في هذا اليوم لتحطمه في اليوم الثاني. والدليل أنك انفتحت على التشكيل مع الفنان ضياء العزاوي في ( أخبار مجنون ليلى ) وانفتحت على التجربة السردية مع أمين صالح في ( الجواشن ) والتجربة الفوتوغرافية مع صالح العزاز في ( المستحيل الأزرق ) وكذلك في المسرح والكاليغراف وبقية الفنون القولية وغير القولية من أجل كتابة النص المفتوح. هل اتكأت نصوصك الشعرية على لوحات العزاوي وصور العزاز من جهة، وأما زلت تصنع شكلاً هذا اليوم لتحطه في اليوم الذي يليه؟
- تجربة ( الأزرق المستحيل ) مع الفنان الفوتوغرافي صالح العزاز هي جزء من تصور عام أقترحه دائماً. إن الحاسة البصرية في الثقافة العربية ضامرة وغير مستخدمة، ولم تدخل في نسيج العمل الثقافي الشعري كما ينبغي لها الدخول وفق أهميتها الكبيرة في صناعة النص الشعري. وهذا أعتبره تفريطاً في ثروات متاحة أمام المبدع العربي. ربما دفعني حبي للتشكيل والصورة الفوتوغرافية أن أميل إلى أعمال مشتركة يتقاطع فيها التعبير الكتابي مع التعبير الصوري. الصورة هي الذخيرة الأساسية لكل الفنون، غير أن هناك ما يشير إلى أن الصورة مهملة في الثقافة العربية. بل أن الجانب البصري أو مفهوم الصورة في العمل الشعري أو الأدبي هو مفهوم مرتبك، وغير واضح، وغير جريء. بمعنى أن المخيلة حتى الآن ليس لديها جرأة في اقتراح الصورة في الشعر مثلاً. كل هذه المحاولات هي إفادة من الثروات العظيمة التي تتيح لنا أشكال التعبير بالصورة الفوتوغرافية أو الرسم أو الكاليغراف. لابد من التنبيه في هذه اللحظة الحضارية أن الناس كانوا يعتبرون القرن العشرين هو قرن الصورة، فما بالك ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين. للأسف أن الثقافة العربية لم تُدخل في نسيجها ثقافة الصورة. وهذا سبب من أسباب حماسي ونزوعي لخوض تجارب مشتركة مع مصورين وتشكيليين ومسرحيين وسينمائيين وقصاصين. إنها محاولة جدية للاغتناء بالثروات المتاحة في الفنون الأخرى.
• من أين يستمد الشاعر قاسم حداد قوة تمرده؟ هل تستمدها من تجلياتك الشعرية، أم من توهج ذاتك الداخلية بوصفك إنساناً متسامياً يشعر بقيمته ووجوده الكبير في هذا الكون؟
- هل أنا متمرد حقاً؟ أنا أظن أن هذه الصفة هي طموح أكيد لكل المبدعين. بل يجب أن نتأكد أن هذه الصفة لا تتحقق دائماً، لأن كل ما يُنجز يشكل بالنسبة لي قيداً ثقيلاً. وإن كل من يثق في صواب خطابه أكثر تتحول هذه الثقة إلى غل وقيد ووهم أكثر منها حلماً يظل يداعب مخيلة الأديب. إن مشروع التمرد أو موقف التمرد هو ليس حلماً فردياً، وإنما هو حلم تفرضه ظروف تاريخية أكثر اتساعاً من الشخص وأكثر ضرورة من أشياء أخرى كثيرة يحتاجها المبدع العربي. وكلما تضاعفت قيودنا، وصودرت حرياتنا كلما بدا حلم التمرد أكثر أهمية. ولو أن إحساسي في السنوات الأخيرة يؤكد لي بأن هذا الحلم قد صودر أيضاً.
• ماذا تمثل الكتابة بالنسبة إليك. هل هي هذيان الحلم، أم رعشة الجسد؟ هل هي ضرب من الدفاع عن النفس أم هي ضرب من المعاناة النفسية الشديدة، وبخاصة حينما تكون الكتابة مغامرة سديمية يتناوشها المجهول والغامض والحلم والرمز من أجل الخروج على نمطية الكتابة التقليدية؟
- ليس لديّ فكرة واضحة عن مفهوم الكتابة كفعل إبداعي، لأنني كلما أكتب أكتشف تعريفاً جديداً ومختلفاً للكتابة. ربما تمثل الكتابة بالنسبة لي شكلاً من أشكال المعادل الموضوعي في داخلي بحيث أشعر أنني قوي جداً، لأنني من دون الكتابة أشعر حقيقة أنني من أضعف الكائنات البشرية. وكلما تمر عليّ مدة من الزمن وأنا بعيد عن الكتابة أشعر بهشاشتي وضعفي وإمكانية اقتحامي. الكتابة باختصار شديد هي قلعتي الحصينة التي أدافع بها عن نفسي ومواقفي وكينونتي الأدبية.
• سمّيت الكتابة ذات مرة بأنها خطيئة القول وهو توصيف متطابق لما قاله إفلاطون عن الكتابة بأنها ( الابن اللقيط ). ما رأي الشاعر قاسم حداد في هذا التناص التوصيفي؟
- مع الأسف الشديد لم أسمع من قبل بتوصيف إفلاطون للكتابة بأنها الابن اللقيط، ولكنني أظن أن هذه التسمية هي محاولة تعريف شعرية الكتابة. ثم أن توصيف الشاعر أو الكاتب و المبدع لفعله الإبداعي هو مشاعر وأحاسيس داخلية أكثر من كونها توصيفات منطقية. بالتأكيد أن إفلاطون لديه فلسفته المتكاملة، بينما أنا لا أزعم ذلك. أنا أزعم أنني أصف مشاعري وأجمّل ما اكتشفت من خلال كتاباتي الشعرية والنثرية، وهذا هو دوري في الحياة.
• ما هي درجة حضور الوعي في أثناء انغماسك في فيض كتابة النص الشعري. وهل أنت مدفوع بقوة لا إرادية لدينامية الإبداع لحظة التهيؤ لاستقبال الفيض الإبداعي؟
- غالباً ما أشعر و أعتقد أن على الكاتب في لحظة الكتابة أن يصد ويكبح اقتحام الذهن، فكلما كان الحضور انفعالياً وعاطفياً وعفوياً وبعيداً عن التحكم العقلاني كان ذلك أجدى للنص. الانفعال الذاتي القوي هو بالنسبة لي شرط أساسي من شروط صدق التعبير الفني. فعندما تتحكم عقلانية الكاتب وتهمين ذهنيته في أثناء كتابة النص يكون خارج إطار هذا الصدق الذي أراه يتجسد في المشاعر الداخلية. أما المراجعة أو التعديل فيمكن أن يحدث لاحقاً. إن الانفعال والعاطفة وجيشان الهم الذاتي هو ما أعوّل عليه في أثناء الكتابة. العقل شيء موضوعي، والموضوعية في تقديري هي شيء متناقض مع الإبداع أو الفن والأدب.
• في ( عزلة الملكات ) ثمة نفس قصصي أو بنية قصصية، وكذلك في نص ( الجواشن ) الذي كتبته بالاشتراك مع القاص أمين صالح. هل لك أن تتحدث لنا عن الهاجس القصصي الذي ينتابك بين الحين والآخر آخذين بنظر الاعتبار أن تكتب مراجعات لبعض المجاميع القصصية التي تثير انتباهك بين آونة وأخرى؟
- السرد هو أحد آليات التعبير التي أعتقد أن بإمكانها أن تغني الشعر. إن الحاجز ما بين الشعر والنثر هو من صنع الشاعر العربي نفسه. لابد من الاستفادة من طاقة السرد، إذا استثنينا الشعر القصصي بالمعنى التقليدي، لأن السرد يمتلك جماليات مثيرة لا حصر لها. أنا بالنسبة لي شخصياً اكتشفت أن بإمكان السرد أن يغني القصيدة العربية ويساعد في اكتشاف الأفق العام لها، لأنني بالمقابل أبحث عن أفق أكثر رحابة من خلال النصوص المفتوحة أو من خلال فنون التعبير الأخرى كالحوار والمشهد والتقطيع السينمائي والسيناريو التي استخدمناها في نص ( الجواشن ).
• يقول كمال أبو ديب إن السياقات اللغوية التي يكتب بها قاسم حداد هي سياقات ليست دالة أو متجانسة، بل أنها سياقات مفتتة متشظية تنعدم بين مكوناتها الرئيسية أبسط العلاقات الدالة الممكنة في اللغة مثال على ذلك ( فتوى النهب، نفير المداخل، زينة الغبار، حديد يديه، مختبرات العسف ) ألا تعتقد أنك تدمر ما تحمله البنية من طاقة على الدلالة؟ وهل تتعمد هذا التشظي وانعدام العلاقات الدالة في السياقات اللغوية؟
- عطفاً على إشارتي السابقة هي أننا نقع في تداول بعض المصطلحات غير الدقيقة على الصعيد الثقافي، لكي أشير إلى المفارقة في سؤالك السابق الذي يتحدث عن السرد في ( عزلة الملكات ) بينما في حقيقة الأمر أن السرد متوفر في نصوص أخرى أكثر من توفره في ( عزلة الملكات ). والطريف أيضاً أن كمال أبو ديب يتحدث عن التشظي في الصورة في ( عزلة الملكات ) وبالذات في الأمثلة التي أوردتها في متن سؤالك. على أية حال لقد ركز كمال أبو ديب على هذه التجربة التي كانت، كما بدت لي في وقتها، تستجيب لمرحلة من مراحل البحث النقدي التي كان أبو ديب منشغلاً بها وهي موضوعة التشظي وتفتيت الرؤية الشعرية كانعكاس لتفتيت ظواهر في الواقع. الحقيقة هناك مبدعون كثيرون من الممكن أن يساعدونني في اكتشاف هذا السؤال، وبقية الأسئلة المربكة التي تواجهني لأنني في العمق لا أمتلك أجوبة واضحة الملامح. أنا أظن أن المبدع سواء على صعيد التعبير المكتوب أو أشكال التعبير الأخرى من الصعوبة بمكان الزعم أنه في أثناء إنجازه لهذا العمل أنه كان يعي ماذا يفعل. بمعنى هل أنا كنت أقصد التشظي خلال كتابة النص؟ أنا أعتقد أن هذه المسائل يجري اكتشافها فيما بعد من قبل القارئ أو الناقد فمن المؤكد أنني لا أدرك بوضوح هذه الأمور التي أنجزتها في نصوصي إلا بمساعدة الآخرين الذين يتابعون تجربتي عن كثب.
• تحاول دائماً أن تستجير بقوة الحلم، هل لأن الحلم فضاء حر بلا متاريس أو معوقات أو مصدات، وبلا خرائط جغرافية أو تضاريس؟
- الحلم مثل الطفولة هو مصدر دائم من مصادر الإبداع الرئيسية، بل حتى الكوابيس هي مصدر مهم من مصادر الكتابة إذا ما فرقنا بين الحلم كدلالة رمزية وبين الحلم في الواقع بمعنى أمل التغيير، وربما يكون شكل هذا الأمل أكثر حرية في الحلم من الواقع وأكثر قدرة تغييرية في تصور المستقبل.
• لكنك ترثي لحال الناس الذين لا يحلمون. لماذا؟
- أعتقد أن المبدع يفرّط في ثروات كثيرة إذا لم يعتمد على أحلامه الشخصية. أعني الأحلام الليلية التي تحدث أثناء النوم وليس أحلام اليقظة. أنا أعرف مبدعين كثيرين لا يحسنون وصف أو سرد أحلامهم عندما يستفيقون من النوم، ولكن لديهم قدرة رائعة لتحقيق هذا الحلم في عمل فني. سلفادور دالي إذا لم مخطئاً كان يتعمد أكل وجبات ثقيلة قبل أن ينام لكي تجلب له الكوابيس التي يستثمرها عندما يستفيق في لوحاته التي نحبها. لذلك أركز على القول بأن التفريط بالحلم هو تفريط كبير بثروات متاحة. أنا أظن أن حلم النوم ممكن أن يتحول إلى حلم يقظة لكن ليس بطريقة آلية. هناك آليات كثيرة لا يدركها المبدعون أنا شخصياً لا أعرف كيف أشرحها. إذاً لا ينبغي التقليل من شأن الحلم، فكل الأعمال المبدعة عبر التأريخ مصدرها الحلم. لكن لو تسألني ما هي طبيعة الحلم، وكيف يحدث؟ لا أعرف. أنا أعتقد ن الأحلام هي أحد المصادر التي تجعل الإبداع جديداً وجميلاً في الوقت ذاته. وأظن أن هذين الشرطين لا يمكن التنازل عنهما وهما أن المبدع يجب أن يكون جديداً وجميلاً في آنٍ معاً.
• هل تعتقد أن حاجة القصيدة إلى الإيقاع أو الموسيقى الداخلية هي مثل حاجة الشاعر إلى القلق الذي لا يمكن للقصيدة أن تتدفق إلاّ من خلاله؟
- أعتقد إن الإيقاع بمعناه الرحب والشاسع هو المهم. والإيقاع طاغ في حياتنا اليومية. أنظر إلى التماثيل أو الأعمال النحتية أو المعمارية فسترى فيها إيقاعات متنوعة. كل عمل نحتي يقترح علينا إيقاعاً ما. بهذا المعنى أعتقد أن الإيقاع ضروري في العمل الفني. أما على صعيد القصيدة فينبغي أن نتجاوز مفهوم الأوزان والبحور، لأن النصوص الجديدة تحتاج إلى خبرات وحساسيات جديدة ندرك من خلالها أن هذا النص هو شعر من دون الحاجة إلى وزن أو قافية أو تفعيلة.
• تصديت في الكثير من حواراتك الصحفية لمفهوم ( خلجنة الثقافة )، وأنكرت فكرة وجود ملامح خاصة بالثقافة الخليجية، بل وأكثر من ذلك أنك اعتبرت التمسك بهذه الطروحات هو نوع من التأكيد على عنصرية الدم واللون والسلالة؟ من المسؤول من وجهة نظرك على زرع هذه الأوهام في ذاكرة الناس؟ هل هي الدولة ومؤسساتها الرسمية، أم بعض الأفراد من ذوي العقول المشلولة التي تتمترس خلف أبراج العنصرية؟
- أنا غير معني باتهام المسؤول عن خلجنة الثقافة، وإنما معني بتوضيح وجهة نظري على الأقل التي تقول بأننا مشاريع ضحايا سياسية فوق مستوى الشبهة. وان في منطقة الخليج محاولات سياسية مركبة لتكريس فكرة الخلجنة والإدعاء بأن هذه المنطقة تتميز في فنونها وآدابها وتراثها وما إلى ذلك من ادعاءات. بالمناسبة أنا لست ضد المحلية أو الخصوصية أو ضد أن تكون لكل منطقة و بيئة جغرافية ملامحها الخاصة. هذا شيء متاح، وليس ممنوعاً على الإطلاق لكنني ضد توظيف هذه الأشياء توظيفاً سياسياً وتكريسها لأسباب ومصالح سياسية خصوصاً بعد فكرة مجلس التعاون الخليجي ونهوض الأوهام السياسية والاقتصادية لمشاريع أنا أعتقد أنها تهمل الجانب الإنساني والحقوق الإنسانية المشروعة في المنطقة وتركز على صفات وخصائص تميّز منطقة الخليج عن غيرها من المناطق العربية. وأكثر من ذلك فإن البعض يبالغ ليس بوجود الأدب الخليجي وإنما بوجود الأدب الإماراتي والبحريني والكويتي. أنا في أعماقي لا أشعر بمصداقية هذه المصطلحات ودقتها، بل بالعكس أشعر أنها تشكل خطراً لأنها غير واقعية. نحن لا نكاد نفرق بين آداب منطقة بكاملها مثل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. أنا ضد توظيف الأدب والفن لأي مشروع سياسي. وربما بسبب الدفق الإعلامي الهائل، والفقر المدقع ثقافياً في بعض المناطق الإعلامية صار هناك نوع من المبالغة في توصيف بعض الظواهر. نحن ليس لدينا حركات ثقافية بالمعنى العميق، وإنما لدينا ظواهر ثقافية. أنا منذ وعيت شعرت أن هذه الظواهر هي جزء من ثقافة عربية وحتى قبل أن نكتب شعراً كنا نتعامل مع كل ما يردنا من البلدان العربية كثقافة عربية غير مجزأة. أنا تحفظي وقلقي ناجم من التكريس المناطقي لأغراض ومشاريع سياسية. وأقول أن هذا شيئاً مقلقاً، ومن حقي أن أطرح وجهة نظري.
• في قصيدة ( شك الشمس ) ثمة إحساس بفجيعة الزمن الذي يتسرب من بين أصابعك المرهفة بحيث أنك تردد لازمة موجعة وهي: ( عندما تكون على مشارف الخمسين، ماذا تسمي كتابك القادم إن كان ثمة وقت له. . ) هل تشعر بوطأة الزمن إلى هذا الحد المؤسي؟
- صحيح أنني كنت أشعر بوطأة هذا الإحساس في الخمسين، لكنني اكتشفت أن عمر الخمسين هو عنفوان الحياة. وهذا الكلام مضى عليه خمس سنوات.
• هل نستطيع أن نعتبر الانتهاء من كتابة نص جميل بمثابة طوق النجاة الذي ينقذك من سورة القلق المستمرة؟ وهل يمكننا القول بأن إنغمارك بالحالة الإبداعية هو تأكيد لفورة الشك أم تجاوز لها؟
- إن الكتابة تشبه الإنسان الذي يكتشف أنه لا يحسن صناعة أي شيء في الحياة، وليس له خبرات سوى أنه يستطيع أن يعبّر عن نفسه بشكل من أشكال الأدب أو الفن. أنا على الصعيد الشخصي لا أستطيع أن أتخيل نفسي بعيداً عن الكتابة، بل لا يمكن لي أن أتخلى عن الكتابة لأنها سلاحي الوحيد، وحصني الوحيد، وقوتي الوحيدة كما أسلفت في سؤال سابق. الشعر هو شريك حياتي، وهو الشيء الذي أعيشه يومياً، وأنهمك به كل لحظة، وهو وهمي الجميل الذي يمنح حياتي معنى خاصاً ولذة نادرة. أنا لم أطلب في حياتي شيئاً آخر سوى الشعر. الشعر هو همي الوحيد وهاجسي الذي لا ينازعه هاجس آخر على الإطلاق. لقد عشت تجربة السجن المريرة وكان الشعر هو الذي يحميني ويمنحني قوة الصمود والتحدي لذلك لم أهزم داخلياً. صحيح أننا هزمنا كتنظيم حزبي، لكن بالنسبة لي الشعر هو الذي حماني من الانهيار أو الهزيمة.
• أنت لا تفضل الوصول إلى نهاية وقد ركزت في أكثر من مرة بأنك تفضل البحث بشكل مستمر، وكأن البحث هو المشروع الذي لا يصل إلى ذروة أو نهاية؟
- هو في الحقيقة ليس أنا الذي لا أصل، وإنما طبيعة الأشياء هي أنها في بحث مستمر. أنت تريد أن تجعل هذا العالم جميلاً لذلك تلجأ إلى وسائل مختلفة، وتناضل بأشكال مختلفة من أجل أن تجعل هذا العالم جميلاً ومحتملاً وجديراً بالحياة. والشعر هو سلاحك الوحيد الذي ترتجي منه أن يحقق لك كل ذلك. الشعر غذاء روحي للإنسان، ولكن حتى هذا الغذاء يجب أن يكون جديداً وجميلاً. عدم الوصول إلى النهاية ليس قراراً مسبقاً، إنما هي طبيعة الحياة. لأن النهاية تعني موت الأشياء. والشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجميع هو الجثة، ولكن عندما يكون هذا الإنسان حياً لا يتفق عليه الجميع. بهذا المعني أنك تبحث، وتجدد نفسك، وتحلم أن هناك نصاً لم تكتبه حتى الآن وأنت قادر على أن تكتبه بالفعل لكي تواصل بحثك.
• ذات مرة قلت بأنك مثل المحارب الذي يقاتل ولا يريد أن ينتصر، أي بمعنى أنك تريد أن تظل مستمراً بفعل القتال الذي لا ينتهي. هل لك أن تتعمق في هذه الفكرة قليلاً؟
- لا أتذكر بالضبط هذه المقولة، ولكن بالمعني الجمالي نحن خاطرنا من أجل انتصار صغير، ومن حقنا أن ننتصر. وأعتقد أننا سعينا جميعاً من أجل أن تنتصر الفكرة، وينتصر الحلم، نحن نهزم يومياً مع الأسف، ولكنني أعتقد أن هذه الهزائم هي طريق لمستقبل جميل وإن ما نفعله ليس عبثاً على الإطلاق. بل أن مجرد بقاءنا في هذه الحياة على الرغم من الصعوبات اليومية المروعة هو جزء من انتصار.
• ماذا تعني لك الطاقة السحرية الكامنة في الطفولة الحقيقية، والطاقة الكامنة في الطفولة المجازية، طفولة اللغة، طفولة الكتابة، وطفولة المخيلة إن جاز التعبير؟
- قبل أن أصبح جداً كنت أستخدم تعبير الطفولة للمجاز وللشعر، ولكن بعد أن جاءت الحفيدة قبل سنتين شعرت بالفعل، وأنا الآن متقاعد، بمعنى الطفولة ودورها في حياتي. أنا عندي أطفال سابقين، ولكنني لم أعش طفولة معظمهم بسبب ظروف السجن. مع مجيء حفيدتي اكتشفت جمالاً وطاقات واقعية لا حدود لها بحيث أصبحت هذه الطفولة مصدراً روحياً وحقيقياً لحياتي، ولقدرتي على تحقيق الأشياء الجميلة من خلال الأطفال الواقعيين. أما طفولة اللغة وطفولة الكتابة وطفولة المخيلة هي في الحقيقة تعبيرات أدبية لتوضيح التجارب الفنية والأدبية التي نعيشها. أنا عندما أذكر الطفولة الحقيقية إنما أحاول أن أوضح المعادلة التي تستعصي على الوصف ما بين علاقتنا بالواقع من جهة وبين ما يجري تداوله بتجريد تام وغير واقعي. إن الأدب والفن والإبداع بعامة لا يمكن له أن يصدر إلا من لحظة واقعية. وكل الأحلام التي نتحدث عنها هي شيء واقعي، ومصدر أساسي وكثيف من مصادرنا الحياتية. أحد الشعراء قال: ( تظل الطفولة هي المصدر الدائم للإبداع طوال حياة الإنسان ) وهي كذلك فعلاً.
• الشاعر في سطور
• من مواليد البحرين عام 1948.
• شارك في تأسيس أسرة الأدباء والكتاب في البحرين عام 1969.
• تولى رئاسة تحرير مجلة ( كلمات ) التي صدرت عام 1987.
• حصل على إجازة التفرغ للعمل الأدبي من قبل وزارة الإعلام عام1997.
• شارك في عدد كبير من المؤتمرات والمهرجانات والندوات الشعرية والثقافية العربية والعالمية.
• أنشأ منذ العام 1994 موقعاً في شبكة الإنترنيت عن الشعر العربي باسم جهة الشعر. ( www.jehat.com ).
• نال جائزة سلطان عويس في الشعر عام 2001.
• في الشعر صدر له:
• البشارة، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، الدم الثاني، قلب الحب، القيامة، شظايا، انتماءات، النهروان، الجواشن، يمشي مخفوراً بالوعول، عزلة الملكات، أخبار مجنون ليلى، قبر قاسم، المستحيل الأزرق، له حصة في الولع. الأعمال الشعرية.
• في النقد: نقد الأمل، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، علاج المسافة.