لطالما لعب الحزب الشيوعي الروسي دور عنصر هام جدا من عناصر إشاعة الاستقرار في نظام الرأسمالية الروسية الجديدة السياسي. غير أن الزمن يتغير، والرأسمالية الآن ما عادت بحاجة كثيرا إلى هذا الدور وهذا الحزب. وإننا لنرى كيف أن لون المنظمات الحزبية أخذ يبهت بسرعة وكيف أن قيادة الحزب ممزقة بين مناصر لزوغانوف ومؤازر لسيميغين. أما هذا الصراع إياه فليس مطلقا شبيها بالصراع في حزب سياسي ما، وإن هو إلا صراع حول ما إذا كان بوسع أغنى نائب في الدوما، عضو الحزب الشيوعي السيد سيميغين، شراء أكبر عدد من الموظفين الحزبيين لأجل إزاحة زوغانوف أم لا. ولقد تدنت الثقة بالحزب تدنيا شديدا منذ أن راح يغازل شتى مجموعات الأوليغارشيا (الطغمة المالية) وصولا إلى دعم الأوليغارشي خودوركوفسكي. ولم يعد الإنسان البسيط يفهم البتة ما الذي يختلف فيه من يسمون أنفسهم بالشيوعيين عن أولئك الذين لا يسمون أنفسهم كذلك، ما دام هؤلاء وأولئك يدافعون عن مصالح الأوليغارشيين.
في هذه الحالة من الغياب عن الوعي يقارب الحزب الشيوعي الروسي الانتخابات الرئاسية المقبلة. وقد كاد مؤتمر الحزب يرشح للرئاسة الروسية البرجوازي سيميغين الذي قل من يعرفه. إلا أن كفة أنصار زوغانوف رجحت أخيرا بفضل بضعة أصوات أعطيت لصالح ترشيح اللاحزبي نيقولاي خاريتونوف الذي كان بالأمس زعيما لكتلة الزراعيين في الدوما.
حزب العمال الشيوعي الروسي- حزب الشيوعيين الروسي (الذي يرأسه تولكين وكروتشكوف والذي يختلف عن الحزب الشيوعي الروسي بعدم مهادنته الرأسمالية ويعتبر الأخير أميل إلى الاشتراكية الديموقراطية) أعلن أنه قد يؤيد المرشح خاريتونوف، ولكن لأجل هذا سيكون على الحزب الشيوعي الروسي أن يعيد النظر في موقفه المهادن المساوم، وعلى المرشح إياه أن يضم في برنامجه نقاطا من مثل التخلي عن مقولة أن روسيا "استنفدت طاقتها على الثورة" وطرحِ مهمة بعث دكتاتورية البروليتاريا في شكل سلطة سوفياتية (شوروية) وضرورة إلغاء نتائج الخصخصة وحظر بيع الأرض وشرائها وتأميم الصناعة الضخمة. وسيكون على المعركة الانتخابية أن تخضع لضرورات نضال الجماهير في سبيل الاشتراكية وسلطة الشعب العامل.
غير أن المرشح خاريتونوف نشر مؤخرا برنامجه الانتخابي الذي لا يمكن القول أنه يستجيب لما هو مطلوب منه، أو أن خاريتونوف والحزب الشيوعي الذي رشحه قد غادرا مستنقع المساومات مع النظام الحالي، وهذا ما يجعل الشيوعيين الثوريين غير قادرين على دعم ترشحه للرئاسة.
يجب القول أولا إن حظه في الفوز في هذه الانتخابات كمرشح للمعارضة اليسارية يساوي صفراً. ولذا فإن المغزى الوحيد من المشاركة في الحملة الانتخابية إن هو إلا الإعراب عن موقف شيوعي حقاً، موقف يرفض النظام البرجوازي رفضا كليا. فمحاولة مغازلة وجذب بعض الناخبين بواسطة شعارات مبهمة لا تغني عن جوع محاولة تسلك سبيل الضلال إذ إنها تسد الطريق أمام الدعاية الشيوعية الحقة. ولقد "أكّس" المرشح خاريتونوف ببرنامجه فعلا منذ الآن على هذه المهمة. فمطالب برنامجه الأساسية مقتصرة على الأسئلة الأربعة للاستفتاء المحظور من قبل السلطة، الممكن أصلا تحقيقها في إطار الرأسمالية وغير الملامسة أسسَها. وليس عبثا أن ضمت كل الأحزاب البرجوازية التي دخلت الدوما أخيراً إلى قائمة مطالبها بهذا الشكل أو ذاك هذه المطالب إياها. فليس إذاً في برنامج خاريتونوف ما يميز شيوعيا عن مرشح برجوازي كمثل مطلب إلغاء نتائج الخصخصة ومطلب مصادرة ملكية الرأسماليين الجدد. كما ليست مطروحة مسألة السلطة. ولئن ذُكر موضوع السلطة السوفياتية فهي لم تحدد ماهيتها التحديد اللازم. أهو المقصود سوفياتات العام 1917 (المؤلفة من العمال والجنود)، أم سوفياتات العام 1987 أو العام 1993 (المتبرجزة والحاقدة على النظام السوفياتي). فالأمر المهم بالنسبة إلى الشيوعيين ليس الاسم، بل المضمون الطبقي للسوفياتات: فهي إما أن تكون هيئة لسلطة الطبقة العاملة، أو أن تكون ستاراً وقناعاً لسلطة الرأسماليين. حتى الهزيمة المنكرة للحزب الشيوعي في الانتخابات النيابية الأخيرة لم يتعلم منها الحزب الدرس المطلوب. فكما قال تاليران: "هم لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا".
برنامج خاريتونوف يرتكز على أيديولوجية النزعة الوطنية. فها هو خاريتونوف يقول: "كان لروسيا دوما طريقها الذي تلمسته من خلال عيشها وتقاليدها العريقة"، ويتحدث في الوقت نفسه عن ضرورة بعث "الدولة العظمى" وإنعاش البرجوازية الوطنية التي يسميها "رجال الأعمال الوطنيين" إلى ما هنالك. حتى أن خاريتونوف يعد بتشديد جهاز القمع الذي هو أصلا لم يترك مجالا إلا وأثبت فيه "جدارته" على طريقة بوش وبوتين، طريقة "ضرب الإرهاب". غير أن شيئا في البرنامج لا يتحدث عن الصراع الطبقي، عن النقابات وضرورة إيجاد تشريعات لتعزيز مواقع التنظيمات العمالية في حال وقوع نزاعات عمل، عن حماية العمال المهاجرين (خاصة من الجمهوريات الأخرى السوفياتية سابقا) وحقوقهم وهم يشكلون جزءا هاما من الطبقة العاملة في المدن الكبرى، عن ضرورة الكفاح في سبيل الحريات الديموقراطية التي لا يفتأ نظام بوتين ودولته يفتئتان عليها و"يخصيانها". والأهم من هذا كله أن ليس في البرنامج أي بديل عن الرأسمالية نظاماً، أي عن بوتين الذي ليس يمثل سوى المصلحة العليا والشاملة لكل الرأسماليين الروس. وهكذا يبدو برنامج خاريتونوف على الأرجح مثابة شكل من أشكال دعم بوتين من قبل الحزب الشيوعي الروسي بما أن لا فرق مبدئياً بين "برنامج بوتين" وبرنامج خاريتونوف الذي ليس يفعل سوى تعميق بعض المواقف التي يطرحها أيضا ممثلو السلطة اليوم كمثل الخطاب المناهض للأوليغارشيا والنزعة الوطنية والوعود الشعبوية الرخيصة.
ويبين تحليل برنامج المرشح خاريتونوف أن قيادة الحزب الشيوعي الروسي لم تتعظ من هزائم السنوات الماضية العجاف واستمرت على نهج محاولة الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، بل دأبت على طرح برنامج انتخابي يعجب جزءا من البرجوازية دون أن تفكر في تطوير النضال الفعلي خارج جدران البرلمان.
وبرأيي أن ليس بمقدور حزب العمال الشيوعي الروسي- حزب الشيوعيين الروسي أن يساند نيقولاي خاريتونوف في تنطحه إلى سدة الرئاسة ما دام لم ينفذ أيا من الشروط التي وضعها الحزب لتأييده. وليس يبقى سوى واحد من أمرين: إما مقاطعة الانتخابات وإما الدعوة إلى التصويت "ضد الجميع". كما باعتقادي أن الدعوة إلى المقاطعة ستكون الأفعل حالياً إذ ستعزز شعبية الحزب وتوسع رقعة النضال. وإن شعار المقاطعة لأكثر شعبية بين الجماهير (سبق لعمال بضعة مصانع كبرى أن قاطعوا الانتخابات النيابية الأخيرة)، وهو، لعمري، يثير أشد القلق والغضب لدى ممثلي السلطة (لنتذكر ارتعاب بوتين وجماعته من تهديد زوغانوف إثر الانتخابات النيابية باحتمال مقاطعة الحزب الشيوعي الانتخابات الرئاسية). وإن أية قوة سياسية منظمة تطرح اليوم شعار مقاطعة هذه "الانتخابات التي لا انتخاب فيها" ستكون في المركز من اهتمام الرأي العام. والمهم ألا نخاف من التصرف بحزم وسرعة.