في ليلة من ليالي الصيف ، وعلى وشوشة سعف النخيل ، وتحت أنسام رخية ، وبعد أن رحل القمر عن سماء المدينة القصيّة ، ونزول سجف من ظلام حندس ، دخل اللصوص بيت خضر الذي كان يرقد على حصير من قصب ، وفي أرض فضاء قرب كوخه ، لكنه سرعان ما أحس بهم ، فدخل معهم في معركة تواصلت على مدى نصف ساعة ، هم يريدون أخذ الأثافي ! وهو يريد استردادها ، هم ممسكون بها ، وهو ممسك بهم ، الى أن سالت دماؤهم ، وعلت أصواتهم، فهرع الناس وتراكضوا ، يريدون نجدة خضر جارهم ، إذ ذاك هرب اللصوص تاركين الأثافي له .
لقد قاتل خضر عن أثافيه ببسالة ، دافع عن شرفه وحرمة كوخه المنتهكة في ليل حالك السواد ، من العيب أن يسرق المرء ، حتى ولو كان المسروق حجرا . هذا هو حال خضر ، فمن أين يعطي لابن أخيه ، وزوج ابنته المقبل ، هذا القليل ؟
قلب محسن يديه ببرود ، حدّق فيهما ، قلبهما من جديد ، فكر مليا ، بعدها قرر أن يبيعهما مدة عام كامل ، وها هو دارم مستعد لشرائهما ، مستعد لدفع الثمن نقدا ، ثوب جديد ، وكوخ قصب ، وفراش ينامان عليه . تمّ العقد مشافهة دونما ورق ، ودون محكمة ، فهما ، الراهن والمرتهن ، كلاهما أميان لا يعرفان ما قيمة الورق ، والمدينة القصيّة لا تعرف المحكمة ! رغم أن حمورابي قد علق مسلته القانونية ، ومنذ آلاف السنين ، قريبا منها ، ومع ذلك فقد جاء في متن العقد الآتي : أن يعمل محسن فضل في صيد السمك ، وبزورق دارم حسين من حصاد هذه السنة، وحتى حصاد السنة القادمة .
لم يكن هو البائع الوحيد، فقد باع غيره يديه، وتحت ظلال مباركة الآخرين، وأمنياتهم له بمستقبل باهر وسعيد ، فالتجار عادة لا يشترون أيّا كان ، إذ لا بد أن يكون البائع قوي الزندين ، مفتول العضل ، صلب البناء ، لا بد أن يكون جنديا مقداما في جيش الصيادين الاسبارطي ، هناك في مياه هورالحمّار .
عاما ستقاتل يا محسن ! عاما سيمضي ثقيلا ، ستنزل الى الماء في حدة البرد ، وقسوة الشتاء ، ستصعد البلهارزيا من بين أظافرك ، وستبي لها كوخا هناك في كبدك ، أو في مثانتك قبل أن تبني أنت كوخ حبيبة ، عاما ستنهض فيه قبل أن ينهض الفجر ، وتعود فيه بعد أن يلقي الغروب شمسه في مياه الهور . فماذا ستبقي لحبيبة التي لبست لك ثوبا جميلا ، وفرشت لك فراشا جديدا؟ ستعود وقد أكل المحار قدميك ، وعضّ الشبك راحتيك ، ولوحت الشمس وجهك سوادا ، وغارت العيون منك نكدا . في الأمس مرّت حبيبة ، أخذت الحوانيت عيونها ، منت نفسها بأشياء كثيرة ، ربما حدثتك عنها . رأت مناديل معلقة ، وصابونا معطرا ، وقلائد تلمع ، وخواتم تبرق ، لكن عيونها التصقت بشيء واحد ، تسمّرت عند قنينة عطر صغيرة داكنة .
: ـ قنينة عطر يا حبيبة !
: ـ بكم ؟
: ـ بربع دينار .
: ـ من أين آتيك به ؟
: ـ من أين . عجيب ! ألم يشتغل محسن ! ؟
هزت يديها بألم ، شمّت قنينة العطر ، سرت رائحتها في شراينها ، تمنت أن تسكبها على ثيابها ، وتمسح بعطرها على جيدها ، وأخرى على خديها وصدرها ، وستكون ذي الليلة أسعد زوجة ، ستنام في أحضان محسن معطرة ، وسيستاف هو من جسدها بهجة ، إذ أنه ما شمّ غير رائحة السمك الكريهة ، ونتن الشبك المبتل ، حتى لكأنه ، من دونما حب ، دونما جسد يتململ بين يديه ، يعيش في صحراء قاحلة ، رغم وفرة ماء الهور ، وكثرة نبات برديه وقصبه .
من أين يأتي الربع دينار ؟
لقد باع محسن يديه ، لم يعد يملك شيئا ، كل ما يجنيه يذهب الى جيب دارم ، ماعدا سمكة يرميها في باب الكوخ أمام حبيبة كل مساء ، هذا هو كنز الهور الذي يستل الصيادون روحه ليلا، لاشيء في الهور غير السمك ، لا توجد فيه سوق مشرعة كسوق في شارع الرشيد ، أو أخرى في حي المنصور ، ستظل – يا هور الحمّار – ملاذا لكل من باع يديه ! ؟
لدي عشرون فلسا، ساشتري حناء بعشرة منها، هذا إذا كانت مكيّة ستبيعني الحناء بها، وساحتفظ بالعشرة الأخرى ، ربما سنلجأ لها في وقت الضيق .
جرّت قدميها ، خطت خطوتين وثالثة ، تركت روحها معلقة مع قنينة العطر على الرف في دكان جبار بدر ، ذلك الرجل الذي قصرت قامته ، ودقّ عوده ، والذي نست المدينة اسم أبيه ، فعادت تسميه جبار الدويك ، إذ تخيل حنظل الدلال ذات صباح جبارا ، وهو يرتقي زوجته ، مثل ديك يرتقي دجاجة ! ومع هذا فقد كان دكانه يضوع بالعطور التي ملأت روح حبيبة ، ورحلت مع كل نبض فيها .
: ـ شيشة عطر يا خالتي مكية !
: - أين صادفتك ؟
: ـ هناك في دكان جبار الدويك !
تبسمت مكية ابتسامة خجلة ، متذكرة صورة جبار وهو يعتلي زوجته ، تلك الصورة التي رسمها حنظل الدلال ، والتي بسببها فقد جبار اسم ابيه ، مثلما أفقدها حنظل اسم أبيها، حسن ، وذلك حين عرضت بضاعتها على ذات صباح أمام بقاليته ، مما أثار حفيظته ، فصاح فيها أمام بعض المتسوقين ، يا مكيّة أم ركبة ! من أين سيأتي الذي يريد أن يشتري مني ، وها أنت قد سددت الطريق الى البقالية ؟
ومنذ ذلك الصباح عرفت المدينة القصيّة مكية بكنيتها الجديدة ، أم ركبة ، وعاد الناس متفقين مع حنظل الدلال حين قرر منحها هذه الكنية ، إذ أنه لم يكن على خطأ ابدا ، فهي امرأة طويلة القامة، طويلة الأطراف ، برزت ركبتاها بروزا جليا أوحى له بتلك الكنية . امرأة بوجه فاحم السمرة ، غارت عيناها تحت جبهة عالية ، ترتدي ثوبا اسود ، وعباءة سوداء ، غطت رأسها بغطاء أسود، وعصّبته بعصابة سوداء كذلك ، حتى عادت قطعة من ليل بهيم .
: - لم تخلق العطور لنا يا حبيبة ! خلقت للمترفات اللائي منّ الله عليهن وفاض ، لم يخلق العطر لي ولك ، نحن بشر آخر ، هنّ في جنة ، ونحن في نار ، تعطري بالحناء ! فالعطور ليست لنا ، العطور ليست لنا !
ضربت مكية أم ركبة جبينها العالي براحة يدها ، ثم وبقوة على ركبتها البارزة ، ضربتها ثانية، ثم مدت يدها الى قطعة من أوراق جرائد قديمة ، وضعتها بترتيب تحت فخذها الأيمن ، أخذت واحدة منها ، لفتها حلزونيا ، فعادت بلمح البصر هرما قاعدته الى الأعلى ، وقمته الى الأسفل ، ثم غرزت يدها في قفة صغيرة من الحناء ، ووضعته في الهرم الورقي ، عادت فأخذت من قفة أخرى قليلا من القرنفل ، ومن ثالثة بعضا من الورد أضافتهما الى الحناء ، بعدها اغلقت قاعدة الهرم .
كانت مكية ، وهي الخبيرة فيما تبيع ، تعتقد أن الحناء وحده لا يكفي تعطير فتاة شابة مثل حبيبة، ربما كان ذلك ملائما لامرأة مضت سنوات على زواجها ، واعتاد زوجها أن يأخذها على أية كيفية كانت ، ولهذا كانت تضيف الى الحناء حبات من القرنفل ، وقليلا من الورد ، هذا إذا كانت المشترية فتاة . وحين تكون هي في عوز لمادة مما تبيع ، ويكون سالم مارا في الطريق ، تطلب منه جلبها من دكان أبيه ، الحاج عبد الرحمن ، تاجر الجملة الذي يزود باعة ، وبائعات المفرد في المدينة القصيّة بما يحتاجون ويحتجن من سلع ومواد .
لقد كن عصبة نساء مكافحات اقتحمن سوق العمل، رغم التقاليد الأجتماعية، وشعوذات المتدينين، فعلى رأس بائعات السمك وقفت صالحة ، أم طاهر ، التي اشادت بيتا كبيرا وحانوتا من طابوق ، وعلى رأس التاجرات وقفت الحاجة كريمة ، أم رحيم الخياط التي بنت سوقا من الحوانيت ، ثم قامت بتأجيره الى الحرفين من الخياطين، وحتفظت هي لنفسها بمتجر ودار كبيرة، وفي الصدارة من العطارات وقفت قسمة ، زوجة الفلاح المعدوم الشهيد الذي قتله انقلابيوC.I.A عام 1963 ، فهبت تكافح من أجل أن تعيل ابنها وابنتها ، وقد اقسمت ألاّ تتزوج بعده أبدا .
لقد عاد تجار الجملة في المدينة القصيّة يعاملونهن تماما مثلما يعاملون الباعة الآخرين من الرجال ، ولا غرابة في ذلك بمنطق السوق ، فهن يدفعن لهم ذات الدنانير التي يدفعها أقرانهن من الرجال الباعة في حال شراء بضاعة منهم،وعلى هذا صار الحاج اسماعيل او الحاج عبد الرحمن
يلقون التحية عليهن ، ويبدون استعدادهم لتلبية حاجاتهن من السلع والمواد التي يبيعونها جملة ، وبالدين في أحيان كثيرة ، بعد أن اصبن ثقة كبيرة منهم ، وإذا ما تعرض لهن أحد المشعوذين ، طارحا الحلال والحرام في مزاولة المرأة للعمل ، تصدت له أم كاظم القهوجي ، والتي كانت واحدة منهن ، متسائلة : ألم تزاول زوجة النبي ، خديجة الكبرى العمل في التجارة ؟ أكان هو قد منعها من ذلك ؟
وأكثر ما كان يؤلم مكية هو عدم معرفتها القراءة والكتابة ، ففي أحيان كثيرة كانت تتطلع في الجرائد القديمة التي تبيع بضاعتها فيها ، والتي تشتريها وزنا من الحاج عبد الرحمن الذي يجلبها من بغداد ، معبأة في صناديق كبيرة ، الى مدينة ما عرفت بعد نفع الجريدة .
أما هي فقد متعت عينيها بصور منشورة فيها ، صور رجال ونساء تمنت ، لا لسبب ، معرفة أسمائهم وأسمائهن ، وحين كان سالم يمرّ من أمام بضاعتها المعروضة في الهواء الطلق تبادره بالسؤال : من هي هذه المرأة المنشورة صورتها في الجريدة ؟
:- هذه راقصة .
:- راقصة ! ؟ ترقص ! ؟ ردّت هي بدهشة واستغراب .
:- نعم . راقصة وترقص .
:- هذا الوجه الحلو ، والشعر الحريري السرح ، والثوب المورد الجميل ، كل هذا وهي راقصة!
كنت حسبتها بنت ملك من الملوك ، أو بنت وزير . لكن قل لي هل تقرأ وتكتب هي ؟
:- يبدو عليها ذلك من القلم المعلق في جيبها .
:- كنت ألوم حظي العاثر أولا ، وألوم أبي ثانيا ، فهو الذي منعني من الذهاب الى المدرسة وقتها، وحين سألته عن سبب ذلك قال لي إنّ هناك فتوى صدرت منذ ما يزيد على ثلاثين سنة تحرم على البنات الذهاب الى المدرسة ، وكنت كلما حدثت سيد صادق الخياط عن ذلك قال لي إنّ أباك كان رجعيا، لا يؤمن بتحرر المرأة من قيود الماضي الثقيلة، ولا يريدها أن تغادر البيت إلا لجلب الماء من الهور ، ويضيف كذلك إنظري الى الحاجة كريمة ، إنها امرأة أحسن من رجال كثيرين في مدينتنا ، أنا نفسي مستأجر دكاني منها ، إنها على أية حال أحسن من ملا مرود الذي يأخذ السوق طولا وعرضا ، يتصيد هذا ، ويتصيد ذلك من أجل لقمة عيشه . لقد كان سيد صادق شديد الأعجاب بالحاجة كريمة .
:- أتدرين لماذا يا خالتي مكية ! ؟ سألت حبيبة .
:- لماذا ؟
:- لأنه تقدمي !
:- تقدمي ! ردّت مكية بدهشة ، وأضافت من أين جاءت له التقدمية ؟ فهو سيد ، وابن رسول الله، وبذات العقال والكوفية التي عليها الرجال في مدينتنا هذه ، فمن أين جاءت له هذه التقدمية التي تتحدثين عنها ؟
:- أتعرفين أنت ما هي التقدمية ؟
:- من أين تأتي لي هذه المعرفة وأنا جالسة هنا كما ترين ؟
:- التقدمية تعني أن سيد صادق يريد للبنات الذهاب الى المدارس ، والنساء الى العمل .
:- ومن أين عرفت أنت ذلك ؟ هل حدثك هو عنه ؟
:- حدثني أخي موسى الذي يعمل جابيا في مصلحة نقل الركاب في بغداد ، والذي منع أبي أن يزيد في مهري قليلا ، قائلا لي تكاتفك مع زوجك على قساوة هذه الحياة سيرفع تقديرك عنده .
تناولت حبيبة الهرم الورقي من مكيّة ، دسته برفق في جيبها المعلق على خصرها ، ثم فلّت طرف وشاحها المتدلي ، أخرجت عشرين فلسا ، أعطتها عشرة منها ، بعدها عادت فلفّت طرف الوشاح على العشرة الباقية ثانية ، ومضت منصرفة الى دارها .
كانت حبيبة على شاكلة أخيها حبيب ، كلاهما مترع بحب الجمهورية والزعيم ، ولكنه تفرد عنها بكرهه لشخصين اثنين ، هما الحاج ناصر ، أحد تجار الجملة في المدينة القصيّة ، ومحسن العاني
الموظف الصحي الدائم الغياب . وكثير ما حاول أخدانه معرفة سبب هذا الكره ، هل لأن الحاج ناصر يسكن دارا مشادة من الطابوق ، وهم يسكنون كوخا من القصب ؟ فقد كان طريقه الى هذا الكوخ يمرّ من أمام هذه الدار ، ينظر إليها كلما أخذته قدم على ذلك الطريق ، هل راكمت هذه الرؤية المتواصلة من هذا الكره عنده ؟ وإذا كان هذا الحال مع الحاج ناصر ، فما الحال كذلك مع محسن العاني ؟ هل لأنه مهذار، يكثر اللغو في شوارع المدينة، ويكيل السباب للأكراد وللتقدميين من الناس ، ويتصرف في أحيان كثيرة مثل شرطي من شرطة المفوض حياوي ، ولا يريد أن يسمع ذكرا أبدا لمأساة الأمام الحسين ؟ ربما كان حبيب يضع يده في ذلك ، ودون قصد منه، على أسباب مأساة العراق الدائمة والمستمرة ، والتي تعامى عنها الأخرون ! ؟
* مجتزأ من رواية للكاتب بذات العنوان ، صدرت في السويد قبل أيام ، وبمساعدة من وزارة الثقافة السويدية .