|
قصة الخضر بين القزويني وتشارلز لييل
عدنان عاكف
الحوار المتمدن-العدد: 2365 - 2008 / 8 / 6 - 10:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من التراث العلمي يجمع المهتمون بتاريخ علوم الأرض على أن الجيولوجيا الحديثة تبلورت كعلم قائم بذاته خلال الفترة المحصورة بين الربع الأخير من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر. ويشار إلى العالم (تشارلز لييل) بكونه مؤسس العلم الجيولوجي الحديث. ولكن قبل (لييل) كان الفكر الجيولوجي قد اجتاز دربا طويلة مليئة بالصراعات الفكرية الحادة تأرجح خلالها بين المد والجزر، بين التقدم والتقهقر، ساهم فيه العلماء والفلاسفة ورجال الدين. وذلك بسبب ارتباطه الوثيق خلال مئات السنين بالفكر الديني لدى الكثير من الشعوب، وبمعتقداتهم الأساسية حول الكون والوجود وعملية الخلق. لقد كانت الأسئلة المتعلقة بنشأة الكون والأرض وأسباب حدوث الظواهر الطبيعية المختلفة من بين الأسئلة الأولى التي حاول الإنسان القديم الإجابة عليها. وترك لنا المصريون القدامى وسكان بلاد الرافدين أولى التصورات التي كونها الإنسان عن الكوكب الذي يعيش عليه، وعن الزمن الذي خلق فيه والمادة التي تشكل منها، ألا وهي الماء. ومن بلاد الرافدين وصلتنا الروايات الأولى عن أهم وأخطر الكوارث الطبيعية التي تعرضت لها الأرض، ألا وهو الطوفان. وقد انتقلت هذه الروايات إلى البابليين والفينيقيين والعبرانيين واليونانيين القدامى، فتركت أثرها الكبير على معتقداتهم واختلطت وتفاعلت مع تصوراتهم وأساطيرهم لتشكل فيما بعد معتقداتهم العلمية عن الأرض. يعتبر أرسطو أول من أشار الى تغير معالم سطح الأرض، وكيف يمكن للحدود بين البر والبحر ان تتغير مع مرور الزمن. وقد ربط ذلك بالدرجة الأولى، بفعل الجفاف الذي تتعرض اليه مياه البحار في بعض المناطق، فتتحول الى يابسة. وقد يحصل العكس أيضا. وكتب يقول: " وإذا كان البحر ينحسر عن بعض الأماكن ويغير على الأخرى، فمن الواضح أن الأجزاء اليابسة والأجزاء المائية من الأرض لا تظل كما هي على الدوام، بل يعتريها التغير بمرور الوقت". بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية تجمد الفكر العلمي، وتم التراجع عن الكثير من المفاهيم المتعلقة بالأرض. فالطبيعة الحية والمتجددة دوما، والتي شبهت عملية تطورها بما يسري في أجسام النباتات والحيوانات، أصبحت ساكنة، جامدة، ميتة: هكذا كانت في الماضي، وهكذا ستظل دون تغير. وكانت الآراء العلمية في أحسن الأحوال استنساخا هزيلا للعلم اليوناني. وقد لعبت الكنيسة فيما بعد دورا معرقلا أمام مسيرة العلم والحضارة. وقد كتب (جورج سارتون) عن ارتداد العلم عن الأفكار التي توصل إليها (أرسطو) فقال:"وقد كان من الممكن أن تبقى هذه الآراء متداولة، لولا أن أنحت عليها، ثم نحتها التعاليم المسيحية واليهودية". في عام 1956 صدر كتاب “The Earth We Leave On" للباحثة الأمريكية (روث مور Routh Moor) والذي صدرت ترجمته العربية (الأرض التي نعيش عليها) في عام 1962. والحق أن هذا الكتاب كان من أمتع الكتب المتعلقة بتاريخ العلوم، التي قدر لي أن أطلع عليها. لقد استطاعت المؤلفة بأسلوبها الممتع الأخاذ، ولغتها المبسطة والدقيقة أن تحول المواضيع الجيولوجية الجافة المملة إلى رواية تاريخية عن رحلة الخيال الإنساني عبر الزمن وهو يحاول استكشاف أسرار الأرض وما يعتريها من ظواهر طبيعية مختلفة. بدأت (روث مور) رحلتها من تلك المروج اليونانية الخضراء التي كانت تطل على أثينا، وأين كان الشاعر هيسيود (القرن الثامن ق.م) يغني قصيدته المشهورة عن (أصل الآلهة). ومع أن القصيدة تعنى بأصل الآلهة وأنسابهم، إلا أننا نجد فيها الكثير مما يتعلق بمنشأ الكون والأرض، وتطورها اللاحق ونشوء الجبال والأنهار والبحار والزوابع والزلازل، وغيرها من الظواهر الطبيعية. توقفت (مور) مطولا عند أرسطو وطروحاته، التي خصصت لها فصلا كاملا، وخاصة عند فكرته الجوهرية عن تغير معالم سطح الأرض عبر الزمن، وقد أوجزت تقييمها لأفكار أرسطو على النحو التالي: " بيد أن طبيعة عملية التغيير التي فهمها أرسطو فهما تاما، كان من العسير على عامة الناس أن يدركوها أو يقبلوها. ومن ثم فقد قدر لعملية التغير التي أدركها أرسطو ببصيرته الوقادة أن تظل مجهولة للغالبية العظمى من الناس، حتى تبعث من جديد في القرن التاسع عشر. عند ذلك تنبهت لها الأذهان وأقيم صرح علم الأرض الجديد". ونفهم من العرض التاريخي الذي قدمته لنا المؤلفة أن مرحلة مهمة قد سبقت إقامة "صرح علم الأرض الجديد" وامتدت من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر، شهد فيها هذا العلم صراعا فكريا حادا بين مختلف الاتجاهات والمدارس. في مطلع القرن السابع عشر بدأ العلماء يدركون أن معالم سطح الأرض ليست ثابتة، ولا بد أنها شهدت تغيرات كبيرة. وقد تطورت هذه الفكرة لتتحول في نهاية المطاف الى نظرية جيولوجية متكاملة، على أساسها نشأ قام صرح العلم الجيولوجي الحديث، حتى سبعينات القرن العشرين. ويعود الفضل الكبير الى العالم (تشارلز لييل) و كتابه (مبادئ الجيولوجيا) الذي نشر عام 1832 . كرست (روث مور) فصلا كاملا لتشارلز لييل، وقد أنهت ذلك الفصل بقولها أن (لييل) كان ينهي محاضرته عن تاريخ الأرض بحكاية كان يحبها كثيرا، عن حكيم قديم، وغالبا ما كان يرويها في جلساته ولطلبته. والرواية هي: "مررت يوما على مدينة قديمة جدا ومزدحمة بالسكان. وسألت أحد سكانها عن الزمن الذي مضى على إنشائها فأجاب حقا إنها لمدينة عظيمة، ولكننا لا نعلم كم مضى من الزمن منذ أن وجدت وكان أسلافنا يجهلون هذا الموضوع جهلنا له تماما". "وبعد خمسة قرون مررت على نفس المكان ولكنني لم أر أي أثر لتلك المدينة، وسألت مزارعا كان يجمع العشب من الأرض التي كانت تقوم عليها المدينة عن الزمن الذي مضى منذ أن دمرت، فأجاب إنه لسؤال غريب حقا! إن هذه الأرض لم تختلف عن الحالة التي تشاهدها عليها الآن، فقلت:" ألم تكن هنا في الماضي مدينة زاهرة؟" فأجاب:" لم يقع بصرنا قط على مدينة في هذا المكان ولم يكلمنا آباؤنا عن مثل هذه المدينة قط". وعند عودتي إلى ذلك المكان بعد خمسمائة عام وجدت البحر قد غمره وكان على شاطئه بعض صيادي السمك، فسألتهم عن الزمن الذي مضى منذ أن طغى البحر. فقالوا:" هل يصح أن يصدر هذا السؤال من مثلك؟ إن هذه البقعة كانت على الدوام كما هي عليه الآن". وعدت مرة أخرى بعد خمسمائة عام فوجدت أن البحر قد اختفى وسألت رجلا كان يقف وحيدا في ذلك المكان عن الزمن الذي مضى على هذا التغير فكانت إجابته مماثلة للإجابا ت التي تلقيتها من قبل. وأخيرا عندما عدت مرة أخرى وجدت مدينة جميلة مزدهرة، أكثر سكانا وأوفر غنى من المدينة التي رأيتها أول مرة. وقد أجابني سكانها أن أصلها يعود إلى الماضي السحيق، ونحن نجهل كم مضى عليها منذ أن وجدت وإن أسلافنا ليجهلون هذا الموضوع جهلنا له تماما". بقي أن نشير إلى أن (روث مور) لم تشر عبر رحلتها الممتعة إلى العرب والمسلمين، حتى ولو مرة واحدة. لقد كان عليها أن تقوم بطفرة كبرى عبر الزمن لتجتاز من خلالها نحو عشرين قرنا ـ منذ وفاة (أرسطو) حتى القرن السابع عشر. غير أنها، وقبل أن تحط رحالها في العصر الحديث وجدت من الضرورة أن تعرج على بلاد الرافدين، ليس من أجل أن تنقل لنا آراء وأساطير أهلها بشأن ماضي الأرض، بل لتحدثنا عن التنقيبات الأثرية التي قام بها الأوربيون في نهاية القرن التاسع عشر في وسط وجنوب العراق. وهي التنقيبات التي تم من خلالها الكشف عن الملاحم الشعرية السومرية والبابلية القديمة التي تحدثت عن الطوفانات المتعددة التي غمرت الأرض في العصور القديمة. ويبدو أن المؤلفة لم تكن تشعر بالحاجة للتوقف عند العشرين قرنا التي قفزتهم ما دامت تعتقد أن الفكر الجيولوجي بقي على حاله كما كان عند (أرسطو)، ولم يتغير أو لم يضف إليه أي شيء يستحق الذكر. ويبدو أنها من المؤمنين أن تلك الفترة الطويلة كانت بالفعل تشكل ما يحلو للبعض أن يصفها بعصر الظلمات. وفي الحلقة القادمة سنحاول ان نتعرف على رأي أصحاب بتلك الحضارة التي سادت في تلك العصور " المظلمة "، عسى ان ينبلج من تلك الظلمة بصيص نور يساهم في الكشف عن التطور الحقيقي للفكر الجيولوجي عبر التاريخ، وليس التطور الذي يراد له ان يسود في كتب تاريخ العلم، وفي أذهان القراء.... سأحاول أن أقوم بوقفة قصيرة عبر الزمن، لنلقي الضوء، ولو بشكل عابر، على تلك الفترة الطويلة "المظلمة"، علنا نستطيع أن نجلو عنها قليلا من الظلام الذي أسدل بظلاله عليها طويلا. لو حاول القارئ العادي، وليس المتخصص أن يرجع إلى المؤلفات العربية والإسلامية التي تحدثت عن الطبيعة والأرض فلن يجد صعوبة على الإطلاق في العثور، في الكثير منها، على معلومات وأساطير وخرافات كثيرة بشأن نشأة الأرض وعن البحار والقارات والجبال والزلازل والبراكين، وغيرها. سأختار آخر المؤلفات التي صدرت في العالم الإسلامي في العصر الوسيط، والأكثر قربا إلى العصر الذي شهدت به الجيولوجيا انبعاثها في أوربا. بين يدي كتاب "عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات" وهو ثاني أهم كتب زكريا بن محمد القزويني، الذي ولد سنة 600هـ (1203م) وشهد سقوط الخلافة العباسية سنة 656هـ. وقد وافاه الأجل بعد أن ناهز الثمانين. أطلق الباحثون على القزويني لقب الكوزموغرافي، واعتبره المستشرق كراتشكوفسكي كوزموغرافي القرن الثالث عشر بلا منازع. امتاز بقدرته على تبسيط العلوم وتقريبها إلى الناس البسطاء، واحتوت مؤلفاته على الكثير من الخرافات والأساطير، وكانت تستهويه العجائب وكل ما هو غريب عن الطبيعة، لذلك كانت مؤلفاته تضم الغث والسمين. وكان أقرب إلى فئة الناقلين وليس المبدعين، وهو ما كان يميز عصر الانحطاط الذي ينتمي إليه". يتألف كتاب "عجائب المخلوقات" من قسمين. القسم الأول خصه للعالم العلوي، أما القسم الثاني فتناول فيه الأرض وما عليها من جماد ونبات وحيوان. تناول وصف الأرض وجغرافيتها والمناخ والجبال والبحار والصخور والمعادن، وتطرق إلى بعض الظواهر الطبيعية مثل البراكين والزلازل، وغير ذلك. لقد تحدث القزويني كذلك عن التغيرات الكبيرة التي تطرأ على الأرض، وأفرد لها فصولا خاصة، مثل: فصل في صيرورة السهل جبلا والبر بحرا وعكسهما. وفي صيرورة الجبال سهولا، وفصل فيما يعرض للأرض من الزلزلة والخسف، وغير ذلك. لنقرأ هذه الفقرات: " فإن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها بطول الزمان تنشف رطوبتها وتزداد يبسا وجفافا وتنكسر خاصته عند الصواعق فتصير أحجارا وصخورا ورمالا ثم إن السهول يحملها إلى بطون الأنهار والأودية ثم تحملها بشدة جريانها إلى البحار فتنبسط في قعرها سافا بعد ساف بطول الزمان ويتلبد بعضها فوق بعض فيحصل في البحار جبال وتلال كما يتلبد من هبوب الرياح دعاص الرمل في البرد ولذلك قد يوجد في جوف الأحجار إذا كسرت صدفة أو عظم وذلك بسبب اختلاط طين هذا الموضع بالصدف والعظم وقد يصير البحر يبسا واليبس بحرا لأنه كلما انطمت قطعة من البحار على الوجه الذي ذكرناه فالماء يرتفع ويطلب الاتساع على سواحله ويغطي بعض البر بالماء له ولا يزال كذلك حتى تصير مواضع البر بحرا وهكذا لا تزال الجبال تنكسر وتصير حصى ورمالا تحملها سيول الأمطار مع طين ممرها إلى قعر البحار وينعقد فيها كما ذكرناه حتى يستوي مع وجه الأرض فيجف وينكشف وينبت العشب…". اختتم القزويني حديثه عن تبادل مواقع البر والبحر برواية الخضر عليه السلام الى ملك زمانه والتي كانت على النحو التالي: " كنت في اجتيازي مررت بمدينة كثيرة الأهل والعمارة سألت رجلا من أهلها متى بنيت هذه المدينة؟ فقال هذه مدينة عظيمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا ثم اجتزت بها بعد خمسمائة سنة فلم أر للمدينة أثرا ورأيت هناك رجلا يجمع العشب فسألته متى خربت هذه المدينة؟ فقال لم تزل هذه الأرض كذلك فقلت أما كانت هاهنا مدينة فقال ما رأينا هاهنا مدينة ولا سمعنا عن آبائنا ثم مررت بها بعد خمسمائة عام فوجدت بها بحرا فلقيت هناك جمعا من الصيادين فسألتهم متى صارت هذه الأرض بحرا؟ فقالوا مثلك يسأل عن هذا إنها لم تزل كذلك، قلت أما كان قبل ذلك يبسا قالوا ما رأيناه ولا سمعنا به عن آبائنا ثم اجتزت بعد خمسمائة عام وقد يبست فلقيت بها شخصا يختلي فقلت متى صارت هذه الأرض يبسا؟ فقال لم تزل كذلك فقلت له أما كان بحر قبل هذا؟ فقال ما رأيناه ولا سمعنا به قبل هذا ثم مررت بها بعد خمسمائة عام فوجدتها مدينة كثيرة الأهل والعمارة أحسن مما رأيتها أولا فسألت بعض أهلها متى بنيت هذه المدينة؟ فقال إنها عمارة قديمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا…". ما من شك أن "الحكيم القديم" الذي نقل لنا لييل قصته العجيبة هو نفسه الخضر عليه السلام الذي تحدث عنه القزويني. وهو بلا شك الخضر صاحب موسى عليه السلام صاحب الخوارق الذي حيكت عنه الروايات والأساطير الكثيرة. ليعذرني القارئ إن كان قد شعر بنوع من الملل بسبب إعادة قراءته لقصة الخضر مرتين. هل نحن هنا أمام حالة من توارد الخواطر؟ ربما، مع أن الاحتمال مستبعد جدا. ولكن المهم هنا ليس القصة بحد ذاتها فحسب، بل أسلوب توضيفها عند العالمين. لييل وكما أسلفنا حاول من خلال هذه القصة أن يرمز للتغيرات الدورية والبطيئة التي تحدث للأرض، وخاصة ما يتعلق بتبدل مواقع البر والبحر عبر مختلف العصور. ولو عدنا إلى القزويني سنجد بأنه، وبغض النظر عما إذا كان يؤمن بحقيقة ما وقع من أحداث أم لا، إلا أنه حاول أيضا أن يوظفها وبالمعنى الذي طرحه لييل بعد ألف عام. بمعنى أن تصور القزويني عن الزمن الجيولوجي وعن طبيعة التغيرات التي حدثت في العصور الماضية لم يكن ليختلف عن التصور الذي كان قد ساد في أوربا في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. ويجب علينا ألا ننسى أن القزويني لم يكن يمثل ذروة الفكر الجيولوجي في العصر الوسيط، بل عاش في عصر الانحطاط. بمعنى أن فكرة التغير بقيت سائدة في العالم الإسلامي على امتداد العصور الوسطى. هل اطلع لييل على (عجائب المخلوقات) ونقل عنه حكاية الخضر عليه السلام؟ احتمال وارد جدا، والتماثل بين الروايتين لصالح هذا الاحتمال. ومن الواضح أن التشابه لا ينحصر في وصف الأحداث التي ورد ذكرها في الروايتين، بل وفي العبارات الواردة في الكتابين، لا بل هناك تطابق حتى في الكلمات. هذا مع العلم أن الذي أمامنا ليس نص لييل الأصلي بل ترجمته العربية. أما إذا افترضنا أن لييل قد نقل قصته عن القزويني فهذا يعني أن علينا أن ندخل التغير الذي سوف يحصل عن ترجمة القزويني إلى اللغة الإنجليزية أو اللاتينية، أو ربما إلى أكثر من لغة أوربية. بقي أن نشير إلى أن (تشارلز لييل) قد اطلع على كتاب (الشفاء) أو على أقل تقدير على الجزء الذي تناول فيه الأرض، أي (المعادن والآثار العلوية). وقد توقف (لييل) عند آراء ابن سينا بشأن نشوء الجبال وناقشها في كتابه (مبادئ الجيولوجيا) كما يؤكد على ذلك مؤرخ العلم الجيولوجي البروفيسور غردييف….". كنت قد انتهيت من كتابة هذه المقالة قبل سنوات عندما كنت أقيم في مدينة حلب، لكني كنت محتارا بشأنها فعرضتها على الصديق الشاعر مهدي محمد علي، ليبدي رأييه بشأنها. بعد فترة من الزمن أعادها الي مع بعض التصحيحات اللغوية وبعض الملاحظات المهمة، والتي أخذتها بنظر الاعتبار عند إعادة كتابتها. وكنت خلال تلك الفترة أبحث كالمهووس عن أي أثر يمكن أن يقودني إلى الطريق الذي سلكه ذلك الرجل الحكيم عبر رحلته من ديار القزويني ليعبر بحر الظلمات باتجاه بريطانيا. بحثت في كتب التراث التاريخية وكتب الرحالة وفي قصص الأنبياء. ثم راودتني فكرة: ماذا اذا كانت قصة الخضر هذه قصة أممية تشترك فيها الكثير من الأقوام والأمم، كما هو الحال مع قصة الطوفان العالمي، وقصص الخلق الكثيرة، التي تتكرر في تراث الكثير من الأديان والكتب السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية. في حالة كهذه لن تكون قصة الخضر بحاجة لأن تركب البحر لتصل إلى شارلز لييل. ولكن بحثي طال بين كتب التراث الإسلامية والمسيحية، دون التوصل الى نتيجة. وفي ذات يوم جاءني الشاعر مهدي مع حقيبته المعهودة التي تتدلى من على كتفه وسيجارته بين شفتيه. وبعد ان أخذ مكانه في جانبي وشرب قدح الماء راح يربت على حقيبته وينظر الي وابتسامة ماكرة تغطي وجهه. أدركت انه يحمل لي ما يستحق أن أعده بما يريد. أخرج قصاصة صغيرة من الورق كتب عليها بخطه الجميل ما يلي: الخضر للشاعر الألماني: فريدريخ روكيرت ترجمة : طارق حيدر العاني ( بصياغة مهدي محمد علي ) وبعد مراوغة مطولة كانت بمثابة مساومة منه من أجل أن يرفع ثمن " ما يريد " سلمني القصيدة المفاجأة، التي أضعها بين يدي القارئ الكريم. صحيح ان القصيدة لم تحل لنا سر انتقال قصة الخضر من آسيا إلى أوربا، إنما بالعكس ( وكما يحدث ذلك كثيرا خلال البحث والتقصي ) زادت الأمر غموضا ومتعة وإثارة. ولكن قبل الانتقال إلى القصيدة لا بد من بضعة كلمات عن صاحبها: فريدريخ روكيرتFRIEDRIC ROCKERT شاعر ألماني (1788-1866 ) اشتهر بقصائده الغنائية والرومانسية، غزير الإنتاج وتنوعه. علم نفسه اللغات الشرقية وأجادها حتى أصبح أستاذ لمادة اللغات الشرقية في جامعة برلين وجامعات ألمانية أخرى. اهتم كثيرا بالفلسفة الشرقية، مثل الصينية والهندية والإسلامية وعشق الحكمة الشرقية. نشر الكثير من أعماله الشعرية الوطنية باسم مستعار، وذلك تجنبا للملاحقة من قبل السلطات المحلية أو السلطة الفرنسية التي احتلت ألمانيا بعد حروب نابليون. ويعتبر أول من أدخل الغزل وقصائد الحب إلى الشعر الألماني. أحب أعمال الصوفي جلال الدين الرومي والشاعر حافظ الشيرازي الذي يقال انه ترك أثره الكبير ليس على أعماله الأدبية فحسب، بل وعلى مجرى حياته، ويرى البعض في شعره الغزلي تقليدا لشعر حافظ، وقام بترجمة ديوانه " الغزل " إلى الألمانية. وقال عنه أحدهم : كان يتمتع بإشراقة الخيال التي جعلت الشعر الشرقي مطاوعا له..
الخضر الخضر، ذلك الشاب الأبدي تحدث قائلا: مررت بمدينة مسافرا فوجدت رجلا يقطف الثمار في حديقته سألته : منذ متى وهذه المدينة هنا ؟ فواصل الرجل قطف الثمار وهو يقول: منذ الأزل والمدينة هنا قائمة وستظل كذلك إلى الأبد
ولكن بعد خمسمئة عام أتيت مسافرا على نفس الطريق فلم أجد المدينة أثرا بل كل ما كان هناك هو راع وحيد ينفخ بالمزمار والقطيع يرع الأوراق والحشائش سألته: كم مضى على زوال المدينة ؟ فواصل النفخ بالمزمار، ثم قال : هذا ينمو عندما ذاك يجف هذا مرعى غنمي الأبدي *** ولكن بعد خمسمئة عام أتيت على نفس الطريق مسافرا فوجدت بحرا متلاطم الأمواج على شاطئه صياد يرمي شباكه
وما أن ارتاح من صيده المجهد حتى سألته: منذ متى والبحر هنا؟ فقال، وهو يضحك من كلماتي: منذ بدأت تلك الأمواج بالزبد والناس تصطاد وتصطاد في هذا الميناء
ولكن بعد خمسمئة عام أتيت مسافرا على نفس الطريق فوجدت غابة كبيرة ورجلا يحتطب فسألته: كم عمر هذه الغابة؟ فقال: منذ زمن بعيد أسكن هنا والأشجار دائما تنوا هنا
ولكن بعد خمسمئة عام أتيت على نفس الطريق مسافرا فوجدت مدينة والسوق صاخبة بصياح أهلها فسألت : متى قامت المدينة ؟ أين ذهبت الغابة؟ أين مضى البحر ؟ والمزمار ؟
واصل أهل السوق صياحهم دون أن ينصتوا إلى كلماتي هكذا هو الحال في هذا المكان دائما ودائما سيبقى هكذا
ولكن بعد خمسمئة عام سأمر مسافرا على نفس الطريق !
#عدنان_عاكف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
آينشتاين والقنبلة الذرية
-
في ذكرى مأساة هيروشيما آينشتاين مناضل من أجل السلم -2
-
في ذكرى مأساة هيروشيما آينشتاين مناضل من أجل السلم -1
-
- طب وشعر كيف يلتقيان - ؟؟
-
- الشرعية الثورية - و - الشرعية التاريخية -
-
الصراع بين الشعر والعلم - 1
-
المسلمون الأوائل وكروية الأرض - 3
-
المسلمون الأوائل وكروية الأرض – 2
-
المسلمون الأوائل وكروية الأرض - 1
-
ثورة تموز و - الديمقراطية الملكية -
-
14 تموز بين الموقف العاطفي و الموقف الطبقي
-
14 تموز: تلبية لإرادة الشعب أم تحقيق لمطامح العسكر ؟؟
-
نحن وثورة الرابع عشر من تموز 1
-
آينشتاين والاشتراكية
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|