|
مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 2359 - 2008 / 7 / 31 - 10:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
-1-
ليس التراث في الثقافة العربية فقط، هو الإشكالية الأعمق جذوراً، والأكثر إثارة، والأغزر نقاشاً، والأبعد منالاً للنقد والمراجعة، بل إن التراث كان كذلك في معظم الثقافات الإنسانية. ولم تخلُ ثقافة إنسانية من إشكالية والمعاصرة، والتراث والتجديد، والتراث والحداثة.. الخ. فالتراث هو الماضي، والماضي يبقى أقوى أثراً على الإنسان من الحاضر والمستقبل، لأن الماضي هو الممتد سنين طوالاً وقروناً متعددة. وهو الذي يضمُّ بين حناياه أسفار الأمة ومدونات الشعوب وتاريخها ووقائعها. والماضي هو هوية الأمة، وجواز سفرها. والماضي هو الأجداد والآباء، وهؤلاء في الوعي الإنساني هم القدوة، وهم الأساس، وهم الجذور، وهم المرجع، وهم الأحياء الميتون، والميتون الأحياء. وهم الذين ينيرون لنا الطرق بأقوالهم وأفعالهم دون أن ندري أو ندري، ودون أن نطلب أو نطلب.
-2-
والتراث هو ما نفعله يومياً، وهو ما نفكر من خلاله يومياً. فرغم ضيقنا ببعض ماضينا، وخجلنا من بعض أيامنا، إلا أن حاضرنا يبقى مرتهناً لماضينا. ويبقى الماضي هو المنبع والحاضر هو المصب. وفي هذا يقول المفكر المصري حسن حنفي، أن التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو قضية موروث، وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات. ولكن المفكر المغربي محمد عابد الجابري، يقترب أكثر من مفهوم التراث، ويقبض بقوة على نقطة التقاء الماضي بالحاضر، وأن الماضي يصبُّ في الحاضر كما تصبُّ الأنهار في البحار والمحيطات. ويرى الجابري، أن التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، ماضينا نحن أم ماضي غيرنا، القريب منه أم البعيد.
-3-
وقد كان الماضي والتراث دائماً في حياة الأمم، العقبة الكبيرة في قبول الجديد. وكان التراث البوابة الحديدية المقفلة في وجه الجديد، والسد والحد الذي يحول دون دخول الجديد إلا بمقدار، مثله مثل الدواء للداء. فإحلال الجديد مكان القديم كلياً همٌ كبير، ومهمة صعبة، ولن تحدث. فالجديد لن يحلَّ محلَّ القديم، ولكنه سيكون إضافة له، وزيادة عليه، وتهذيباً له، وأقلمته للحياة الجديدة المتجددة، لكي يستطيع متابعة التطور والتغيير في الحياة. وبهذا يكون التراث اللين المطواع، خير من التراث الصلب الجامد، الذي لا ينثني فيتعرض للكسر نتيجة لجفافه وتصلبه. فإذا كان تبديل الأوطان، والهجرة، أو الانتقال من بيت قديم لبيت جديد، مهمة صعبة وقاسية على الإنسان الذي يقوم بذلك، فما بالك بالأمم والشعوب، التي تحاول أن تستبدل قديمها بجديدها، أو جزءاً من هذا القديم بجديد. ومهما حاولنا اتخاذ الجديد، فسيظل للتراث النصيب الكبير في حياتنا. ولذا، فالخير هو عدم خلعنا للتراث كلياً، ولكن إعادة تفصيله (تصميمه) وخياطته من جديد، ليلائم طقسنا وذوقنا الجديد وطقوس وأذواق الأجيال القادمة، التي عليها المهمة نفسها، من حين لآخر. وتلك هي المهمة الصعبة، والتي تبدو شبه مستحيلة عند بعض الأمم والشعوب.
-4-
كانت إشكالية التراث من أكثر الإشكاليات الثقافية التي شغلت مفكري النهضة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما زالت تشغل بال المثقفين، ووقتهم، وجهدهم وجدلهم. ومن المثقفين الذين شُغلوا بهذه الإشكالية كان جورج طرابيشي.
بين يدي اليوم كتاب "مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" لجورج طرابيشي، المفكر السوري النشط، المهاجر إلى باريس منذ زمن طويل، هرباً من بؤس الحرية في وطنه. وصدر هذا الكتاب عام 1993، وأعيد طبعه ثانيةً عام 2006. وعنوان هذا الكتاب – كما يشعر القراء، وكما يقول كاتبه – يبدو استفزازياً، وانفعالياً.
فهل حدثت هناك مذبحة حقيقية للتراث، أم أن المذبحة هنا مذبحة مجازية نظرية؟
يبدو أن المذبحة النظرية، قد حدثت فعلاً للتراث، في فترات معينة، من خلال ما رصده طرابيشي في المسلخ الثقافي العربي المعاصر.
فقد تمّت المذبحة النظرية أولاً، من قبل التيار الماركسي. وثانياً، من قبل التيارين القوميين: العلماني والإسلامي على السواء. كما تمّت المذبحة من ناحية أخرى كذلك، من قبل التيارين العلميين: البراغمائي والابستمولوجي.
-5-
فالتيار الماركسي في العالم العربي – وقد كان طرابيشي من ضمنه، قبل تطوره، وهو يعترف بذلك في كتابه هذا - تيار ينهج نهج البتر والقطع في رؤيته للعالم. وذلك منهج ابتدعه لينين نفسه، خلال مناقشته مع الشعبويين الروس، في مطلع القرن العشرين. وكان لينين يقول: "نحن أوفياء وأصدقاء للتراث، ولكن ليس لكل تراث، بل لما هو حضاري وديمقراطي ومادي وعقلاني فقط". ومن هنا، فإن المسألة التراثية، تتلخص فيما نأخذ وفيما نترك من التراث. فلينين لم يهمه من التراث إلا قابلتيه للتوظيف في الصراع الأيديولوجي، وهي قابلية جزئية بالطبع. وهذا ما سمعناه وقرأناه من قبل من عدة مفكرين ماركسيين عرب، في ندوة "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي" في عام 1984، التي نظمها "مركز دراسات الوحدة العربية"، في بيروت.
-6-
أما التيار القومي، فهو يتحرى في الانتقاء التراثي "النقاء القومي"، مقابل تحري "النقاء الطبقي" عند الماركسيين، ولكنه يشاطر الماركسيين في بحثهم عن الجوانب التقدمية والرجعية في التراث. ويظل مقياس الرجعية والتقدمية هو المقياس العسير والميزان الدقيق، التي تطغى عليه الإيديولوجيا أكثر من أي عامل آخر. وهذا ما قرأناه في أعمال المفكر السوري زكي الأرسوزي القومي العلماني، وفي أدبيات المفكر المصري محمد عمارة القومي الإسلامي. وربما ينحصر الفرق بين هذين التيارين في أن عمارة (القومي الإسلامي) على عكس الأرسوزي (القومي العلماني)، يعتبر العروبة حضارة قبل أن تكون جنساً، وفكراً قبل أن تكون لغة، وعقلاً قبل أن تكون حدساً.
-7-
أما التيار العلمي، فلم يخلُ من سيطرة الإيديولوجيا عليه، فالبراءة من الإيديولوجيا في الحقل العلمي من الأمور المستحيلة، كما يقول طرابيشي في كتابه (ص 53). وعليه فقد كانت الدراسات التراثية من قبل كافة التيارات مسكونة بالهواجس الأيديولوجية. ومن الأمثلة على ذلك، دراسة المفكر اللبناني حسين مروة "النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية" .
ويختار طرابيشي من التيار العلمي عينتين، للتدليل على المذبحة النظرية للتراث هما زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي"، ومحمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي". فكان زكي محمود، هو الابن الضال في صحبته للفكر الغربي، حيث صحا في نهاية الشوط على أهمية قراءة التراث والبحث فيه، من خلال ما قاله في كتابه "تجديد الفكر العربي"، وتساءل:
- كيف نوائم بين الفكر الوافد لكي لا يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا لكي لا نفلت من عروبتنا أو تفلت منا؟
أما الجابري فقد ذبح التراث نظرياً – حسب طرابيشي – بأن اعتبر العقل العربي عقلاً ميتاً، أو هو أشبه بالميت (بنية العقل العربي، ص 523). وهو ما تصدى له طرابيشي مؤخراً بالنقد وبالتفصيل، في كتابه "نقد نقد العقل العربي" في أجزائه الثلاثة التي صدرت بين 1996- 2002
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تخشى أمريكا من الثروة الخليجية؟
-
التركة العراقية في الإرث الأمريكي
-
كيف تقتل أمريكا إسرائيل بدم بارد؟
-
الإرهاب: طبولٌ فارغةٌ تُقرع للضجيج والإثارة
-
العفيف الأخضر المفكر العقلاني المتغيّر
-
رسالة أمريكية واضحة للشعب العراقي
-
هزيمة الإرهاب وانتصار حرية الشعب العراقي
-
العراق بين المطرقة الإيرانية والسندان الأمريكي
-
لماذا كل هذا الفزع من الاتفاقية الأمريكية - العراقية؟
-
أوباما الصهيوني: مسؤولية مَنْ؟
-
ذكرى هزيمة لم نتعلم منها شيئاً
-
ما هو الدور الأمريكي المطلوب في الشرق الأوسط؟
-
لبنان أكثر حاجة من سوريا إلى السلام مع إسرائيل
-
-المهدي المنتظر- و-الهلوسات- الإيرانية
-
كيف حكم حزب الله لبنان في -أسبوع الاجتياح-؟
-
الخاسرون والرابحون في الشرق الأوسط
-
ما الجديد في حريق لبنان؟
-
ما هي أسباب انتشار الإيديولوجيات الدينية المتطرفة؟
-
الديمقراطية العربية بين الوهم والحقيقة
-
نجود وعائشة: فعلٌ واحدٌ وردُ فعل مختلف
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|