|
العدالة الدولية: ضروراتها وتحدياتها
جوزيف بشارة
الحوار المتمدن-العدد: 2357 - 2008 / 7 / 29 - 10:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حدثان مهمان شهدتهما الساحة الدولية في الأسبوعين الأخيرين. الحدث الأول هو طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور في السنوات الخمس الماضية، والحدث الثاني هو تمكن القوات الصربية من إلقاء القبض على زعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كارادجيتش المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد البوسنيين خلال حرب البلقان قبل نحو خمسة عشر عاماً. أثار الحدثان من جديد قضايا تتعلق بموضوعية وكفاءة ونزاهة العدالة الدولية. فقد رفض عدد من الصرب محاكمة كارادجيتش واعتبروها ظلماً وغياباً للعدالة التي لم تطل الكثيرين من مجرمي الحرب الكروات والبوسنيين. كما رفض السودانيون والعرب والمسلمون بصفة عامة محاكمة عمر البشير واعتبروها وجهاً جديداً لسياسة الكيل بمكيالين التي يتبعها الغرب مع الدول العربية والإسلامية. وعلى الرغم من أهمية تقديم المتهمين الصربي والسوداني للمحاكمة في التهم الموجهة إليهم، إلا أن رفض البعض غير المبرر لتقديم المتهمين للمحاكمة يشكل تحدياً كبيراً للعدالة الدولية الوليدة التي تسعى المحكمة الجنائية الدولية الحديثة تطبيقها.
تعد فكرة العدالة الدولية من الأفكار الحديثة نسبياً، وهي فكرة رائعة ومهمة وضرورية تعكس مدى الرقي والتقدم الذي حققته البشرية في العقود الأخيرة الماضية في التعلم من الأخطاء التي ارتكبت في الماضي بحق الإنسانية. فقد اكتفت الدول العظمى حتى عقود قريبة خلت بتطبيق قوانينها الخاصة غير العادلة التي تناسبت مع طموحاتها الاستعمارية. ومن ثم فقد تعرضت الدول الصغيرة وشعوبها عندئذ إلى تهميش وظلم وإحجاف للحقوق وجرائم يندى لها جبين الإنسانية. لم تخرج فكرة العدالة الدولية إلى النور إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحدبد عندما أراد الحلفاء تقديم القادة الألمان واليابانيين إلى المحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم بحق الإنسانية. وبالفعل شرع المجتمع الدولي حينذاك في تأسيس محكمتي طوكيو ونورمبرج اللتين اختصتا بمحاكمة قادة اليابان وألمانيا. وقد برزت عندئذ فكرة إقامة محكمة دائمة للنظر في أية جرائم من هذا المثيل، ولكن الحرب الباردة التي دارت بين المعسكرين الغربي والشرقي أحبطت الفكرة في مهدها.
وبعد مرور نحو أربعين عاماً على محكمتي طوكيو ونورمبرج شكل المجتمع الدولي محكمة للنظر في جرائم الحرب التي شهدتها منطقة البلقان في الصراع الإثني الذي دار بين أعضاء الاتحاد اليوجوسلافي السابق والذي راح ضحيته الألوف من الأبرياء من الصرب والكروات والبوسنيين. ولم يكد المجتمع الدولي ينتهي من إنشاء المحكمة حتى كانت الجرائم التي ارتكبت في الحرب الأهلية برواندا تدفع المجتمع الدولي لإنشاء محكمة أخرى لمحاكمة المسئولين عن الجرائم التي قتل خلالها مئات الألوف من المدنيين. وقد أبرزت الأحداث في البلقان ورواندا مدى حاجة المجتمع الدولي لمحكمة دائمة لمعالجة القضايا المتعلقة بجرائم الحرب والإبادة والعدوان. وعكف المجتمع الدولي على دراسة إنشاء محكمة دائمة للنظر في الجرائم المنظمة التي ترتكب بحق الإنسانية. ومن ثم جاءت اتفاقية نظام روما لعام 1998 التي وضعت اللبنة الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية. قد بلغ عدد الدول الموقعة على اتفاقية روما نحو 106 دولة ضمت 39 دولة أوروبية، و30 دولة أفريقية، و22 دولة لاتينية، و13 جولة أسيوية وكندا وأستراليا.
وقد نص نظام روما، الذي اعتمدته الدول الموقعة عليه كميثاق للمحكمة الدولية، على أن تختص المحكمة بالنظر في أشد الجرائم خطورة التي تأخذ اهتمام المجتمع الدولي. وحدد نظام روما أربعة أصناف من الجرائم الأساسية التي يحق للمحكمة النظر فيها. الصنف الأول هو جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكاً كلياً أو جزئياً. الصنف الثاني هو الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في إطار هجوم منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وتشمل القتل العمد والإبعاد القسري والسجن والتعذيب والاغتصاب والاضطهاد الذي يشمل حرمان جماعات معينة من السكان حرماناً متعمداً من الحقوق الأساسية بسب هويتها. الصنف الثالث هو جرائم الحرب التي تخالف اتفاقيات جنيف لعام 1949 وتشمل القتل العمد والتعذيب والأذى وتدمير الممتلكات وإساءة معاملة الأسرى والإبعاد وأخذ الرهائن والاعتداء على المدنيين. أما الصنف الرابع فهو جريمة العدوان التي لم تعتمد المحكمة تعريفاً لها وإن كان رئيس المحكمة قد اقترح في يونيو الماضي تعريف العداون بأنه قيام شخص ما في وضع يتيح له التحكم في العمل السياسي أو العسكري للدولة أو توجيه بتخطيط أو إعداد أو شن أو تنفيذ عمل عدواني من شأنه أن يعد انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة.
ولأن العدالة لا تبقى أبداً من دون أعداء، فقد كان لا بد لها من أن تواجه تحديات ضخمة من قبل المجرمين والطغاة والظالمين. ويخطيء من يظن أن الدول الصغيرة أو غير الديمقراطية هي وحدها التي تعارض فكرة العدالة الدولية، فالولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد القوة الأعظم عالمياً منذ تفكك الاتحاد السوفيتي قبل نحو ثلاثة عقود، لم تصدق بعد على اتفاقية نظام روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. ويعود رفض الدول الصغرى، ومن بينها الدول العربية، التصديق على اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية إلى أسباب ترتبط بعدم رغبة قادة هذه الدول في الخضوع لسلطة المحكمة الدولية التي قد تتهمهم بجرائم تتعلق بغياب الديمقراطية وانعدام الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان. أما الولايات المتحدة فترفض التصديق على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية لأسباب مختلفة تتعلق بكونها قوة عظمى وحيدة في عالم اليوم. وتسوق الولايات المتحدة حججاً عديدة لرفضها الانضمام لأي من اتفاقية روما والمحكمة الجنائية الدولية. من أهم هذه الحجج خوف واشنطن من تسييس المحكمة الأمر الذي قد يسفر عن اتهامات ربما تطول مسئوليها بسبب تدخلات الأمريكية في العديد من الصراعات الدولية.
كان عدم تصديق الطغاة على نظام المحكمة الجنائية الدولية أمراً متوقعاً، إذ لا يتوقع أحد أن يدخل المجرم قفص الاتهام طواعية. ولكن رفض الولايات المتحدة الأمريكية التصديق على نظام المحكمة أمر غير مفهوم ويثير الشبهات بشأن دور للولايات المتحدة على الساحة الدولية. فغياب قوة عظمى كالولايات المتحدة التي يفخر مسئولوها برعايتها للديمقراطية وعملها الدءوب على نشر السلام العالمي يشكل طعنة ليس فقط لجهود المحكمة التي تحتاجها الإنسانية بشدة، ولكن أيضاً للمباديء الإنسانية التي يدعي السياسيون الأمريكيون تبنيها. لا شك في أن الحجج والاعتراضات التي تسوقها دول تشكل نحو نصف المجتمع الدولي في صدد اعتراضها على المحكمة ربما تعرقل في المستقبل الجهود الحثيثة التي تبذلها قوى مناصرة للعدالة الدولية. ولكن في ظل حاجة الإنسانية الملحة إلى العدالة التي تفوق اليوم بكثير حاجتها إليها من قبل، فإن الأمل يبقى معقوداً على الدول ذات الضمير اليقظ للتصدي للمحاولات التي تبذلها الدول المعادية للعدالة، وكذا لمساعدة الشعوب المظلومة التي تحكمها أنظمة دكتاتورية أو التي تتعرض للإبادة والاضطهاد والتعسف، ومن ثم للانتصار للحرية الإنسانية والسلام العالمي والعدالة الدولية.
#جوزيف_بشارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مزحة عربية سودانية
-
46664
-
انتصار حزب الله وهزيمة لبنان وإسرائيل والثمن الباهظ لصفقة ال
...
-
حول المؤتمر السعودي للحوار بين الأديان والحضارات والثقافات
-
نحو معيار دولي واحد للتعامل مع الأنظمة الدكتاتورية
-
عندما يفسد التطرف الديني المنافسات الرياضية
-
حول المطالبة بمقاطعة المسلمين لعادل إمام
-
هل يقود أوباما الولايات المتحدة إلى المجهول؟
-
مسيحيو بلاد المسلمين بين خيارين أحلاهما بطعم العلقم
-
عبد المعطي حجازي ومقارنة أنصاف المواهب بين فيروز وأم كلثوم
-
رغم سلبياته: إتفاق الدوحة خير من دولة حزب الله
-
بعد ستين سنة من الرفض والعنف: هلموا نمنح السلام فرصة
-
مرارة الهزيمة السياسية لحكومة السنيورة أمام سلاح حزب الله
-
هل ينقذ المجتمع الدولي لبنان من براثن حزب الله؟
-
الإضراب وكعكة عيد ميلاد الرئيس مبارك
-
قبو الرعب يسلط الضوء على جريمة كل العصور
-
احتكار الله في بلاد المسلمين
-
مساعي كارتر الحميدة تصطدم بمواقف حماس المتطرفة
-
بين كراهية اليهود والعداء لإسرائيل
-
الدكتاتورية أمامنا والفوضى خلفنا
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|