محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 2357 - 2008 / 7 / 29 - 05:57
المحور:
الادب والفن
بلا حزنٍ مات( سيد عباس النجار) .
بلا ناعيةٍ تنعيه .. بلا باكيةٍ تبكيه ، ولا حتى من رطَّب َ شفتيهِ بماء الوداع الأخير ليرحل ظمآن صادياً !..
على عجلٍ واستحياء مات( سيد عباس) .
كان المساء ذاوياً وعارياً بجلده المغبر ، ورائحة التراب تثير اليأس والقنوط ، كانت الوجوه اكثر عتمة من المساء . وحين حملوه لم يكن سوى خشب التابوت الصنوبري العتيق - بصفرته الباهته - يقطّرُ الماً وحزناً .
لا روحه المتمرمرة ، ولا عظامه المفتتةُ ، أنّما عيناه .. عيناه العجيبتان فقط هما اللتان ترويان قصته . عيناه الصغيرتان المسترخيتان ، مثل عينيّ مهرج سيرك تبحران وترسيان .. سعيدتان وحزينتان . عينان لألعاب السيرك . وحالما شَعَرَ بأنه لايجيد هذه الالعاب ، استسلم بفتورٍ واغمضهما .حين حملوه فتّشتُ جيوب سترته الداكنة ، فلم اجد سوى عملة ورقية قديمة لم تعد تصلح للتداول ، تلتفُّ فيها صورةٌ صغيرة للمطرب (محمد عبدالوهاب) ، ربما كان ذلك كلَّ مايملكه .
رأيت فيما يرى النائم ، انني كنت في بستان الفضائل . كانت المعرفة تجلس على سريرها تحت القطوف الدانية، تمسك بعنقود عنب ، تلتقط حباته حبةً حبة ، وهي تحصي حسناتها .. حسناتها التي لاتعدُّ ، رافعةً صوتها بغرور كيما تسمعها الحكمة التي جلست خلفها بوقار كعادتها . وقد ابتدأت قولها :
- انا السراج المشع المنير .. وانا الدرب الممهد للمسير .. وانا وانا ......
وحين تعَبَتْ من العدِّ اضافت قائلةً :
- وفوق كل ذلك انا شلال السعادة لمن يستحم عندي ..
إذاك رمقتها الحكمة بطرف عينها ، وردَّت بهدوء قائلة:
- ان ذلك لايعني الكثير من دوني، مثلما لايعني الورد بدون عطره ونضارته .
أحتدم النقاش بينهما وكثر اللغط ، حتى تخاصمتا . فنهضت المعرفة ومضت الى العواطف تزجي الاوقات معها . ولأن المعرفة والحكمة أختان ، لذلك مهما تخاصمتا فأنهما لاتفترقان طويلاً ..
استذكرت هذه الرؤيا لأن المسالك التربوية عندنا تجافي الحكمة احيانا ، هذا ماقرأته في زاوية من عينيّ (سيد عباس) ، ولهذا ايضاً لم يختلج أيّما شئٍ في جسد الحياة برحيله ، بل أنّ الحياة نفسها لم تلتفت اليه ، بل أنّ الحياة كانت تتجاهله، بل أنّ الحياة كانت ترفضه !؟..
بعد عمر العشرين ابحر برفقة صديقه وقائده (فوزي ابو الكعك) ..( فوزي) الذي كان أناءً يغلي بالالحان الساحرة ، عازف ناي مغمور جدا في الدنيا ، تذوب وتتمزق الجوارح وَجْداً وشوقاً لأنغامه . ابحرا معاً .. بلا زادٍ ولامَؤونةٍ .. كانا ثملين .. ثملين بلا حدود . كانا بلا زمان ولا مكان . وفي غرفتهما على ظهر السفينة كان (فوزي) يعزف الحان (عبدالوهاب) ، فيهتز الخمر سكراً ونشوةً في كأسيهما المشعشعين ..
كان بحارين فاشلين، او هكذا وُصفا . كلاهما لايُعدُّ ولا يفتَقَدُ .. وُصفا بهذا الوصف لأنهما خمّاران ، ولأنهما لايحملان معهما كيس خضارٍ او لحم عند اوبتهما من العمل . لم يمنحهم احد فرصة لالتقاط الأنفاس . بعد العشرين جرى بهم العمر سريعاً .. " آه. ما أن يبلغ الانسان عامه العشرين حتى تبدأ سنوات عمره في المضي بصورة سريعة ومتلاحقة، اليس كذلك؟"*
كانا متشابهين بصورة مدهشة ، اعتمدا على نفسيهما فقط . (فوزي) صانع كعك ماهر، وهبته مهارة صنعته كنية ( ابو الكعك) كما يفترض ، و(سيد عباس) نجار يعمل على الدوام . لم يكونا سيئين ، انما اختار كلاهما طريقا معينا في الحياة . خَلبَ لُبّهما الحسن والجمال ، وفتنهما رحيق الكأس ، وأسرتهما عذوبة الالحان، كانت وعورة الايام وقساوتها تدفع بهما الى ذلك الطريق بسرعة.
كانت نبراتهما ساخرةً ، ممازحين يطربان للنكتة كثيراً ، تألقا في خلق الحكايات والقصص الكاذبة من اجل الضحك والمرح . كانا يعملان في الظل .. في دكاكين منزويةٍ .. وفرا لنفسيهما ذلك القدر من الظلام . ولم يكونا لينتظرا الشئ الكثير من الحياة .. فقط على ظهر السفينة وفي هدير الموج المجنون كانا هائمين في هواء البحر ، ويمدان ابصارهما بحثاً عن عرائسه .
كان الاخرون ينفرون عنهما .. الاخرون القساة ، الجفاة ، الذين يشبهون النبت الصحراوي بأشواكهم وبخلهم . ان الامر مخيبا للآمال حقا ! .
انهما يدركان بلا شك معنى صدود الناس عنهما .. يدركان ان لاشئ فيهما يختلف عمّا لدى الاخرين . فلكل منهما رأس وأطراف وصدر يسكن في ركنه الايسر قلب مترع بالحب . وحقيقة ان تلك المزاعم الجوفاء التي كان يطلقها عليهم الكثيرون جزافا حين يصفون الواحد منهما بأنه رجل بلا قلب ولا كلى ، لم تكن تعني شيئاً ، ولم تثن عزمهما في يوم من الايام من المضي في الحياة على هذا النحو .. على هذا النحو المتوهج بالفتنة والجمال . عاشا بلا رياءٍ وتدليسٍ . انهما بلا ريب ضربا عرض الحائط فرصا سانحة .. فرصا بلا حدود ، لكنها كما قدّرا فرصا ساذجةً ، وان كل مافعله الاخرون - عداهم - انهم تزوجوا وأنجبوا..
شيئاً فشيئا ، راح الاخرون يهجرونهما .. وعلى متن السفينة كان الصدود يلطمهم كالموج ، والبحر يرغي غيضاً . وفي يوم عصيب ناداهما القبطان بصرامةٍ ، وأمر بأخلاء السفينة
منهما !.. أُنزلا الى البحر في زورق صغير ، وأُ طلقا في عرض البحر وحيدين..
اطلقا لرحمة الامواج والانواء .
بعد سنين من التيه والخيبة ، شُوهد زورقهما، الخائر المترنح ، يقترب من الساحل . وكان (سيد عباس) يجلس فيه وحيداً بعد ان أتى الاسقربوط على حياة (فوزي) ، تاركاً عظامه
تتفتت ايضا .كان واقفا مستندا الى حافة الزورق ، واهنا وشاحبا، يقف بعينيه المحايدتين وانفه العثماني المهيب، وكوفيته التي يطويها فوق رأسه بطريقته المميزة . حين اقترب كثيرا من الشاطئ ، شَهَرَت المعرفة عَلَماَ احمر صغيراً ، وأومأت نحوه بغطرسة واصرار ، صارخةً بصوت عازم :
- تراجع .. تراجع ايها السيد .. هذه السواحل ليست مكانا للفاشلين .. عُد انت واسقربوطك الى البحر.
وفي لمح البصر اشرأبت اعناق المدافع الساحلية ، مهددة ومنذرةً . فيما كانت الحكمة تقف بعيدا يلجم فمها الذهول.
أدار (سيد عباس) زورقه وعاد الى البحر . كان الموج معربدا والريح عاتية . راح الزورق المعطوب يمتلئ بالماء سريعاً . وأمام هذه الشواطئ، وعلى مرأى من المعرفة نفسها ، كان الزورق يغرق على مهل ، و(سيد عباس) يقف مستنداً الى حافته .. يقف هادئاً تماما ، غير مكترث للحوادث وريب المنون .
عندما وصل ماء البحر الى مستوى وجهه ، برقت عيناه بريقا عجيبا ، وسكبتا على صفحة الماء قصته .. سكبتا قصته كاملةً ، فأضطرم البحر ، وأشتعل لهيب الموج الازرق متصاعدا عاليا ، وراحت ذؤاباته تتشضى رذاذا اثر رذاذ من الدمع ينسكب بحرقة ، فيرتعش جسد الماء مقشعراً!.. وبعد برهة ، كان الزورق يستقر في قاع البحر المظلم ، ولم يَعد يرى المرء شيئاً ، سوى اسراب فقاعات هواء .. فقاعات لؤلؤية ، انبثقت من صدر (سيد عباس) صاعدة الى سطح الماء . وكانت الاسماك تدور حولها صاعدة معها ، فقاعات تحمل صوتا ربانيا عميقا ووقورا ، يمكن لكل من اصاخ السمع اليه ان يسمع لحنا من الحان ( عبدالوهاب) .
وساعتها.. ساعتها المعتمة تلك ، وعلى طول الساحل تمددت المعرفة مضطجعة بلا همٍ ..
بلا وخز ضمير .
* الروائية الفرنسية ناتالى ساروت
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟