هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2354 - 2008 / 7 / 26 - 10:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ولد الاتحاد من أجل المتوسط. فلتقر هنيئا عيون شعوب الضفة الأخرى. لم يكن المخاض طويلا ولا عسيرا. فالطلق قوي. والمسالك سالكة. ولد في فرنسا, في 13 تموز/يوليو 2008, في احتفالية مثيرة. أبوته غير مشكوك فيها. كانت قمتها حضور زعماء الضفتين احتفالات 14 تموز يوليو. واعتلاء المنصة. وعليهم, أو لهم ــ بمن فيهم ساركوزي نفسه ــ تُليت (للمرة الأولى في تاريخ هذه المناسبة , على مبدأ ذكّر) مقاطع من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن.
لا شك أن رفات الثوار, وواضعي الإعلان المذكور, تململت واهتزت في قبورها. مرة أخرى كذّب التاريخ الثوار, فالثورة يدفع ثمنها الأحرار ويستثمرها الفجار. لم يكن سقوط الباستيل, كما ظنوا, هو سقوط آخر السجون, ولا انحسرت أعداد السجناء, ولا الجلادين, وبناة الزنازين. ولا سقط نفاق المنافقين, دعاة حقوق الإنسان والمواطن. حتى في, أو على الأخص في, موطن الثورة والمحتفلين بها, والمتاجرين بميراثها.
ولا شك أيضا أن الشيء الوحيد غير القابل للتململ والاهتزاز أو الصحوة هي ضمائر العديد من المنتصبين على المنصة. وبشكل خاص ــ وحتى يكون المثال من ديمقراطية تعتبرها باقي الديمقراطيات, حاضرة الاحتفال, امتدادا لها ـ "ضمير" ايهود اولمرت, صاحب الابتسامة الديمقراطية الواسعة, والمنفتحة عريضا على المنصة, والمقذوف بها تجاه الجميع, " ضمير" في رصيده وحده ( دون حساب الميراث "الضميري" الجمعي من مؤسس الكيان إلى شارون وعبره مباشرة إليه) آلاف من القتلى والمعوقين واللاجئين والمطاردين والمساجين ,من شتى الأعمار, والأديان, والطوائف, وانتهاكات طالت المقدسات, وغيرت معالم الأرض, وزورت الحقائق والتاريخ. وتحد لكل الأعراف والقوانين الطبيعية والوضعية والدولية (ديمقراطية واسعة الذمة وبلا أدنى إحساس أو ضمير !!!).
انتهى الاحتفال. وانتهى بعده العشاء. وعاد كل زعيم لشعبه بطلا مزهوا, وكأنه وحده قلب الاتحاد, أو مؤسسه, أو هو الاتحاد نفسه.و لجوقته الإعلامية الحرية المطلقة في ابتكار التصنيف.
وكأن المتوسط قد أصبح للجميع دون استثناء, دون تمييز, فقد انتهت إلى الأبد العنصرية. الحرية للضفتين. نُصُبها وراياتها على الضفتين. والإنسان, على الضفتين, محمي بحقوق المواطن و الإنسان.طبقا للإعلان المقروء جزءا منه, والمسكوت عنه كليا في تصريحات المؤتمرين, وفي جميع الوثائق والبيانات.
ولكن, أيها الوقوف على المنصة, أو حتى حولها, هل سمعت شعوب الضفة الجنوبية من المتوسط بالاتحاد؟ هل اخبرها مفوضوها الجنوبيون المنتخبون من قبلها بماهيته؟ هل ستفرح بالولادة وتستبشر خيرا بمصاهرة ومقاربة الدول الغنية وبالتالي مناظرتها؟. هل أقنعتموها ببداية جديدة للتاريخ؟ هل سيتبادل مشارقة الوطن العربي ومغاربته التهاني بالحدث السعيد ؟
ولمن لم يسمع بالاتحاد من اجل المتوسط. أو لمن لا يعرف أين يقع (لكثرة ما مر على رأسه من مشاريع وحدات واتحادات وتجمعات, و فضاءات, عربية عربية, وعربية افريقية و..) أو لمن لا يريد عن سابق عمد وتصميم السماع به , نقدم مع ذلك, وباختصار شديد ــ حتى لا ينهال علينا المديح الشعبي بخصائصه العربية, مثلما ينهال على ذاكريه من قريب أو بعيد ــ ما يلي:
يضم الاتحاد, 43 دولة عضو. بما فيها جميع بلدان الاتحاد الأوروبي ـ لم ترد المستشارة الألمانية إلا أن يضم دول الاتحاد الأوروبي كاملة, وليس المتوسطي منها فقط ــ وسيؤمن رئاسته ساركوزي, (المتردية شعبيته في بلده نفسها للحضيض), للسنتين القادمتين, بالتعاون مع الرئيس حسني مبارك, أب الرئيس المصري المنتظر ( المتكل, في حكم ال 82 مليون مصري ــ رقم صححه الرئيس نفسه لساركوزي في المؤتمر الصحفي المشترك ــ أولا وأخيرا على الطوارئ وقوانينها, وكل ما يتفرع عنها ويترتب عليها ـ والمشكوك بمقدرته على ممارسة رئاسة الاتحاد دون قوانين طوارئ, فلكل من دهره ما تعودا ..), رئاسة من الضفتين و للضفتين.
اصل مشروع تقارب الضفتين يعود لعام 1995 الذي عرف باسم Euromed مع إجراءات برشلونة, باجتماع 15 دولة أوروبية, إضافة لدول عربية وإسرائيل. وكان الهدف وضع إستراتيجية اقتصادية وأخرى أمنية, وذلك انطلاقا من قلق الأوربيين, خصوصا الاسبان والفرنسيين, مما يسمونه الهجمة الإسلامية, وهجمة الهجرة, القادمة بشكل خاص من المغرب والجزائر. وأمام الخلاف حول النزعات الإقليمية, و حقوق الإنسان, لم ير المشروع النور.
مع انتخاب ساركوزي رئيسا للجمهورية الفرنسية عام 2007, وحسب مفهومه الخاص للسياسة الخارجية, والنزعات الإقليمية, وهاجسه في إدماج إسرائيل كاملا في المنطقة, وطموحاته الشخصية, رأى استبعاد النقاط الخلافية من مشروع الاتحاد من اجل المتوسط. ومنها ,على وجه الخصوص, المطالبة بنشر الديمقراطية في الضفة الجنوبية, وحقوق الإنسان, وكل ما يمس حساسيات الأنظمة الحاكمة فيها.
بدا ساركوزي بالإعداد لمشروعه بزيارات رسمية لدول المغرب العربي لاستعادة النفوذ الفرنسي المتراجع باستمرار. وزيارة إسرائيل, والضفة الغربية, ودول عربية مشرقية , ولبنان. والوعد بزيارات لمن لم يتشرف بعد بزياراته. ناشرا الوعود يمينا وشمالا وكأنه اللاعب الوحيد, أو كأنه يعيش عهد عز وعظمة الإمبراطورية الفرنسية. ففي لحظة حماس غير مؤسس يعلن " إذا كان على فرنسا تقديم ضمانتها, وإمكانياتها, وجيوشها لخدمة السلام فإنها بكل تأكيد ستفعله". (نخوة فرنسية على الطريقة العربية).
البيان المشترك للاتحاد يؤشر ستة أهداف رئيسية: مكافحة تلوث المتوسط. الطرق البحرية والبرية. الحماية المدنية من الكوارث الطبيعية. أقامة جامعة أوربية متوسطية. الطاقة الشمسية. ومبادرة أوربية متوسطية لتنمية الأعمال.
وخُصص جزء كبير من الاهتمامات للتربية والتبادل الثقافي: أي السماح بعبور ثقافة الديمقراطية والفكر السياسي, والإنتاج الأدبي, والفلسفي, والعلمي, والخبرات في التعليم بكل درجاته وفروعه , وكل ما هو مزدهر في الضفة الجنوبية للمتوسط إلى الضفة الشمالية دون معيقات, وبالمقابل دخول السائد في هذه الأخيرة إلى الضفة الشقيقة الجنوبية المعترف بها حديثا. تبادل في الاتجاهين. واغتناء للجانبين.
أشار هنري كاينون Henri Guainonالمستشار الخاص لساركوزي, بشكل خاص إلى تسوية مشاكل الهجرة, ومحاربة الإرهاب "وهذه مهمة 25 دولة متوسطية". كما لخص الان لو روا Alain Le Roy , رئيس اللجنة الفرنسية للاتحاد من اجل المتوسط , ما ينتظر من الاتحاد بالقول " يقوم الاتحاد من أجل المتوسط على مبدأ: ردم الهوة بين شمال غني وحوض متوسطي فقير جدا (ردما ساركوزيا). الهدف؟ إعادة التوازن بتأمين فضاء من السلام والأمن (على الخلفيات الفكرية الساركوزية, بطل أمن الضواحي الباريسية). وباختصار بحث لتحسين الحوار بين الضفتين ( لصالح شعوب الضفتين المحكومتين بديمقراطية أثينية). مضيفا أن على الطرفين العمل معا من أجل ذلك وعلى قدم المساواة.
اندفاع ساركوزي لتحقيق الاتحاد من أجل المتوسط, لم يلق تفهما أو ترحيبا من العديد من الدول الأوربية الأخرى. فاعتبرته المستشارة الألمانية اندفاعا دون تنسيق مع الشركاء. وبأنها كانت تفضل تنشيط التعاون الحالي على " بناء طابق إضافي لصرح ضعيف ومهتز الأسس". ولم تخف خيبتها من الذرائعية الفرنسية التي تبرر ترسيخ اتحاد مع أنظمة دكتاتورية, لا تحترم مطلقا حقوق الإنسان. كما أبدت ايطاليا واسبانيا, المساندتان للاتحاد من اجل المتوسط, حذرا وتحفظا من الاندفاع الفرنسي في هذا الاتجاه.
أما تركيا فلم تكن متحمسة له لسببين : إجراءات الإيقاف النهائي للهجرة من الجنوب للشمال. وإبعادها عن المباحثات الخاصة بالانضمام للاتحاد الأوروبي.
ومن الضفة الأخرى نشير إلى ما عبر عنه العقيد القذافي بأسلوبه المعهود في 10 جوان حزيران 2008 : مشروع الاتحاد من اجل المتوسط "طعم" و"إذلال". مضيفا " نحن لسنا جياع, ولا كلاب لترمى لنا العظام. (ترجمة من الفرنسية).
كما طلب وزير الخارجية الجزائري "إيضاحات" فيما يتعلق بحضور إسرائيل ودورها في الاتحاد. مبديا خشيته بان الإطار الجديد سيستخدم ذريعة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وطمأن ساركوزي الجميع بهذا الصدد, فأكد بان حضور إسرائيل لا يخلق أية مشكلة لبلدان عربية مثل مصر, وتونس, والمغرب " ملك المغرب, صاحب الجلالة محمد السادس, ليس فقط رئيس دولة, ولكنه أيضا أمير المؤمنين, لم يشر لي بان حضور إسرائيل هو مشكلة. ما يطرح المشكلة ويخلق الصعوبات هي إجراءات السلام الإسرائيلية الفلسطينية, انابوليس, التي تبدو متعثرة".
ويبقى ان المتضرر الأساسي من الاتحاد المذكور هي الشعوب العربية في الضفة المضطهدة. شعوب ليست ضد التعاون بين ضفتي المتوسط, ولا ضد الانفتاح على الحضارات الأخرى, وليس لديها عقد في ذلك. ولكنها, وبحكم التجارب الطويلة والمريرة, تدرك أن كل شيء يجري, يجري على حسابها. وبأنها ستبقى مهمشة باتحاد أو بدونه. ومضطهدة ومقموعة, وهذه المرة بمباركة اتحادية. فقد عاد حكامها بنجاح كبير وبصلف, وصرحوا بأنهم لم ولن يسمحوا للآخرين بالتدخل في المسائل الداخلية لدولهم , أو بالتذكير بالديمقراطية, ودولة المؤسسات والقانون, وحقوق الإنسان...
شعوب تئن في الداخل, موصومة رسميا بأنها مصادر التطرف و الإرهاب, وفي وجه هجرة أبنائها أوصدت بإحكام كل الأبواب. أبواب الاتحاد العتيد من أجل المتوسط, وليس من أجل شعوبه, أو جنوبه.
عاد الموقعون الجنوبيون على ولادة الاتحاد, بصك غفران, أبرياء من دماء والآم ومآسي الشعوب, براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب. د. هايل نصر.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟